بصائر المعرفة

مدونة تهتم بقضايا العمران الإنساني تفضل بزيارة مدونتي الأخرى umranyat.blogspot.com

Friday, April 14, 2006

العلوم الاجتماعية بين العلمنة والأنسنة

العلوم الاجتماعية بين العلمنة والأنسنة :
مشروع للحوار والمستقبل
كثيراً ما يتساءل البعض مستنكراً:ما جدوى الاهتمام بالدراسات النظرية بينما الناس بين كثرة مشغولة بتأمين أسباب معيشتها وقلة على شئ من الوعي مدهوشة بالخطوب المتواترة على الأمة ؟ والحقيقة أن هذه التساؤلات لم تكن لتحوز أدنى اهتمام لولا أنها تعبر عن حماسة صادقة من جانب والأهم أنها تعبر عن أحد جوانب العقل المسلم من جانب آخر ، فحيث غاب فقه الأولويات عن العقل المسلم انشغل بالآني على حساب المستقبلي وبالعرضي على حساب الجوهري وبالمرحلي على حساب الاستراتيجي فليس ثمة تصور لحال الأمة بعد عقد أو عقدين من الزمان ناهيك عن وجود تخطيط واضح لمستقبلها ولو لأعوام قليلة قادمة.
وربما يعود ذلك لفقد الأمة - قادة وشعوباً ومفكرين – زمام المبادرة بطول أمد الاستبداد السياسي والاجتماعي وتعودها على وضعية المفعول به أو المفعول فيه أو في أحسن الأحوال تعودها على اتخاذ رد الفعل الذي كثيراً ما يقصر عن الارتفاع لمستوى التحدي المقابل.
وقد ظهر هذا القصور الفكري بجلاء في معالجة أزمة المسلمين الحضارية أمام التحدي الغربي فلم يبادر المسلمون لمراجعة أطرهم الفكرية ومنظومتهم المعرفية مفترضين سموها وتميزها خالطين بين الشريعة واجتهاداتهم الفكرية بل وركنوا إلى أسهل التفسيرات وأكثرها تبسيطاً واختزالاً: فما دام الغرب انتصر علينا بسلاحه وتقنياته المتقدمة فما علينا إلا أن ننقل عنه هذه التقنيات ومن هنا سادت أوهام نقل التكنولوجيا منذ تجربة محمد علي وخير الدين التونسي إلى الآن وسهل القضاء على العديد من محاولات النهضة لأنها لم تصحبها ثورة معرفية تجديدية مناظرة لما قامت به دعوة التوحيد.
حيث كان التوحيد هو المبدأ العقدي الذي رفع العقل الإنساني من وهدة الخرافة ، وحرره من أسر تسلط السلطة، سواء كانت سلطة التقليد أو سلطة الحكم أو سلطة الميول والأهواء فرؤية العالم بما تتضمنه من أبعاد وجودية ومعرفية قيم عليا (أكسيولوجي) تتكامل في تصور كلي يمثل جوهر العقيدة ترسي أساساً للحوار مع الآخر المختلف حضاريا ًوصولا لرؤية إنسانية شاملة تقوم على المشترك الإنساني العام وتستعيد للإنسان إنسانيته بعيداً عن تفتيته واختزاله في أحد أبعاده (الإنسان المستهلك/ الإنسان الاقتصادي أو الاجتماعي)
وعليه يحاول هذا المقال حفز لاهتمام بمناهج الفكر والأطر المعرفية القائمة ونقدها لاستكشاف كيف انسابت الرؤية الغربية للعالم في العلوم الاجتماعية وانعكست في نشأتها وافتراضاتها وتصنيفاتها ونظرياتها وطرح النماذج المعرفية البديلة واستكشاف إمكانيات تفعيلها في الحقول العلمية المختلفة والإمكانات التي يتيحها المنظور التوحيدي معبراً عنه بإسلامية المعرفة لدفع تقدم هذه العلوم بعيداً عن الاستقطاب والثنائيات العلمانية /الدينية ، المادية / المثالية التي أثرت على تطور هذا العلوم.
فإسلامية المعرفة دعوة لتجاوز الأزمة التي تعانيها مناهج الفكر الإنساني والتي تظهر في قراءتها المبتسرة للواقع وهي رؤية معرفية إنسانية لا تقتصر على الفكر الإسلامي وإن كانت تتخذ من تجديده أساسها ومنطلقها لتقم مشروعاً لبديل معرفي يستوعب ويتجاوز المنظور المعرفي السائد لذلك يؤثر البعض استخدام مفهوم النموذج المعرفي التوحيدي للدلالة على النظور المعرفي المنضبط بالإطار الإسلامي والذي يتخذ من عناصر التصور الإسلامي منطلقاته ومنهجيته.
وكما يتحدث "جون جرين" في كتابه "العلم والأيديولوجيا ورؤية العالم" فإن العلم في المدى القصير يتشكل وفقاً للمعرفة والأفكار القائمة فالمفاهيم العامة مثل الطبيعة والإله والمعرفة والإنسان والمجتمع تحدد أي نوع من العلم - إن وجد – سيبتغى وأي طرق وأي مناهج سيستخدم وأي موضوعات ستبحث وأي نوع من النتائج يتوقع الحصول عليها فالمعايير الاجتماعية – وفقاً لخلفية جرين الفكرية – تحدد قيمة وغاية وهدف هذه الأمور أما على المدى البعيد فقد يتبنى العالم موقفاً راديكالياً ويستخدم نتائجه كسلاح أيديولوجي محولاً العلم إلى نظرة للوجود والعالم على النحو الذي خبرته الحضارة الغربية.
واقع الأمر أن كل جماعة إنسانية لها رؤيتها الممتازة ( المتميزة ) للعالم بما تشمله من نظرتها لموقع الإنسان من الكون وعلاقته بعالم الغيب والشهادة وما يجب أن تكون عليه طريقتها في الحياة وأسلوب تحقيق هذا التصور في الحياة العملية والمواءمة بين ما يجب أن يكون وما هو كائن سعياً لتوحيدهما وما يقتضيه هذا من وسائل المعرفة واعتبار المعرفة غاية أو فضيلة في ذاتها أو استخدامها في تغيير العالم .
وإذا كانت التطورات المعاصرة في مجال التطبيقات العملية للمعارف أو التكنولوجيا التي تم اكتسابها في إطار المجتمعات الموجودة في أوربا وأمريكا قد أدت لإعلاء خبرة هذه المجتمعات سواء في نمط حياتها ونهجها في تحصيل المعرفة وحفظها ونقلها فإن مزيداً من الدراسة والبحث يكشف عن خطأ وخطورة دعوى سمو هذه الخبرة وأن القضايا التي أثارتها والخط الذي اتخذته ليسا هما الأجدر بالاستئثار بالاهتمام ولا الاقتداء .
فعلى الرغم مما اتسمت به الحضارة الغريبة من انقطاع وتباين في الخصائص بين مجتمعاتها فإنها عرفت قدرًا من الخصائص المشتركة والتواصل الذي يجيز تسميتها بهذه التسمية. وعليه فإن هذه الحضارة استمرت تتسم من حيث المبدأ المعرفي السائد أو Epistem بالتأرجح بين عدد من الأزواج المتعارضة: المعرفة كفضيلة في ذاتها والمعرفة كقوة تكفل سيطرة من يحوزها على غيره وعلى العالم، الحس وسيلة اكتساب المعرفة أم العقل هو الذي يمكن أن يولد المعرفة بالعالم أو العالم هو صورة لترتيب العقل له، الاختبارية و القياس إلى الوقائع معيار صدق المعرفة أم أنه اتساق المقولات المكونة لبنية هذه المعرفة أم قدرتها على الصمود إزاء محاولات تكذيبها أم وضوحها هو معيار صدقها.... كما استمرت هذه الحضارة يثور فيها عدد من القضايا بشكل متجدد من قبيل هل الإنسان مصدر المعرفة أم يمكن أن يكون هناك مصدر علوى أو غيبي للمعرفة، وهل تستقل دراسة الإنسان بنمط متميز من المعرفة خاصة في مسائل الطبيعة الإنسانية وسلوكه الاجتماعي أم أنه جزء من الوجود الكوني أو الطبيعة لا يمتاز عن غيره من الموجودات، هذا التأرجح وهذه القضايا يمكن تتبعها من بدايات التفلسف الغربي إلى اليوم .
وقد أدى هذا لأعراض مرضية مزمنة في المجتمعات الأوربية ونالت هذه الأغراض غيرها من المجتمعات بقدر استشراء الطروحات الفكرية الغربية فيها، وإذا كانت مكانة الغرب بين الحضارات المختلفة علواً وتقهقرًا أدت لكمون الإحساس بهذه الأعراض أحيانًا ووصولها لحد الأزمة أحيانا أخرى فإن ثمة إقرار اليوم بأن الطروحات الفلسفية لم يعد بإمكانها أن تقدم إجابات مريحة فضلاً عن أن تكون شافية لمعاناة الإنسان المعاصر، صحيح خفت الإحساس بحدة هذه الأزمة بفعل ابتكار العلم الحديث وحسم التأرجح مؤقتًا من السعي لمعرفة العالم إلى السعي لتغيير العالم وبهذا تصبح المعرفة حقة بقدر ماهي مفيدة على نحو ماتراه فلسفة الذرائع أو البراجماتية في شكلها المتطرف وأيضًا بفعل حسم العلاقة بين المقدس والدنيوي واعتبار كل منهما مجالين متمايزان إن لم يكونا منفصلين واعتماد الإنسان وحده السلطة الوحيدة والذي يملك وحده أهلية تقرير شئونه وما يصلحه وما ينفعه كفرد أو كفرد في مجتمع من الأفراد المتساويين إلا أن نجاح " العلم " كنوع متميز من المعرفة بمنهجه المتسم بالقدرة على التصحيح الذاتي والمزاوجة بقدر من النجاح بين الاستدلال العقلي والتجريب العملي وباقتصار موضوعه على الظواهر المحسوسة والتي يمكن الاستدلال عليها بشكل حسي وتحديد هدفه في حيازة القوة والسيطرة... هذا النجاح الذي بلغ منتهاه بالإيمان بقدرته على تحقيق السعادة للإنسان فتحول إلى مذهبية يدين بها البعض قد أدى للحاجة لتجاوز هذه الرؤية التي أسفرت عن نتائج مدمرة سواء من حيث امتداد العلم لمجالات غير مؤهل لها كتحديد غايات الانسان فالتبست الوسائل بالمقاصد وأصبح ما يستطيعه الإنسان هو ما يجب أن يفعله بل وأصبحت الإلهيات والغيبيات والقيم موضوعات للعلم بهذا الفهم الغربي له الأمر الذي يعد خروجاً عن روح العلم ذاته بما حدا العديد من العلماء بالعودة بالعلم إلى رحاب الفلسفة الغربية بكل قضاياها وإشكالاتها فاستحكمت الأزمة الفكرية بالغرب خاصة بعد استشراء المظالم بكافة أشكالها وإخفاق الوصفات التي قدمتها البني الفكرية المختلفة من مذهب جماعي على تنوع تمثلاته ) مادي جدلي ، اشتراكي مسيحي ، تعاوني فابي) ومذهب فردي ( ليبرالي،فوضوي ، محافظ..)
إن ما يبدو نجاحاً للنظم الموجودة في أوربا وأمريكا الشمالية إنما هو في رأي منظريها فقط لأنها أحسن النظم السيئة لعدم وجود بديل – برأيهم - يحقق " الحياة الطيبة " للإنسان بهذا الوصف وحده الإنسان دون أية لواحق خاصة بالدين أو الجنس أو اللون وحتى الإنسان الغربي تشير الدراسات النفسية لافتقاده معاني السعادة والطمأنينة.
واقع الأمر أن الإسلام في أصوله المنزلة قرآناً وسنة مجمع عليها قد هدى الإنسان لأصول المعرفة بإطلاق ملكاته قواه المفكرة واستحث العقل على العمل ومنع ما يعترض من طغيان وما يقيده من آفات، فآيات الأحكام في القرآن الكريم تحرم كل ما يؤدي للإخلال بقوى الإنسان وهي أيضًا لا تخلو من الإشارة للعلة أو الحكمة مما يأمر الله تعالى به عباده والقصص القرآني يشتمل على نماذج فريدة لإقامة الحجة على المخالفين باستخدام الأساليب العقلية والعديد من آياته فيها أوامر صريحة بالتفكر والتدبر في الكون وإزاحة أي تسلط يضغط على العقل من قبيل تسلط العادة والهوى أو الفكرة الشائعة بين الجماعة ثم حمى الإسلام الحرية الفكرية بحماية العقل من الخوض في غير مجالاته كالغيبيات والسمعيات.
وبهذه الهداية استطاع المسلمون التعامل البناء مع قضايا المعرفة على نحو أقام حضارة فارهة في أساسها الفكري والمدنية التي ارتبطت بها وتمثلت هذه الحضارة بشكل مبدع تراث الحضارات السالفة على نحو جدلي بالغ الثراء ففي الوقت الذي أدت فيه حركة ترجمة التراث اليوناني والفارسي لبداية تبلور علم الكلام للمنافحة عن العقيدة الإسلامية فإن خبرة هذه الفترة أرست مبادئ الحرية الفكرية اللازمة لتطور العلم وإضفاء الطابع النسقي على التفكير المنطقي systemization مع تصحيح هذا التفكير بقائه في إطار النظرة الإسلامية للوجود.
فنظرية المعرفة الإسلامية أصيلة وعريقة ، أصالة وعراقة الإسلام وحضارته فيجدر في البداية تحديد المقصود بنظرية المعرفة بشكل أولي فنظرية المعرفة مفهوم مركب من لفظين يشير أولهما (نظرية) إلى قضية أو تركيب عقلي مؤلف من تصورات متسقة، تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات ، كما أنها تطلق على ما يقابل الممارسة العملية في مجال الواقع أي على التجربة الخالية من الغرض وهي كذلك تطلق على ما يقابل المعرفة العملية تلك المعرفة التي تتقيد بالنتائج العملية وتظل بمعنى من المعاني جزئية أما المعرفة فهي إدراك الأشياء وتصورها وفي اللغة عرف الشئ أدركه وعلمه وعرفه الأمر : أعلمه إياه وعرفه بيته : أعلمه بمكانه والمعرفة بهذا المعنى تلتقي مع تعريف الجرجاني لها بأنها" إدراك الشئ على ما هو عليه" وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم ولذلك يسمى الحق تبارك وتعالى العالم دون العارف أما في اللغة الإنجليزية فإنه يمكن تحديد عدة معاني للفعل يعرف فقد تعني امتلاك صورة معينة من القدرات كما تعني المعرفة باللقاء أو الاتصال المباشر حيث يميز راسل بين المعرفة باللقاء أو الاتصال المباشر التي نحسها بحواسنا بصورة مباشرة والمعرفة بالوصف التي تبنى على تلك المعطيات الحسية وتنطوي على تركيبات عقلية ومن معاني كلمة يعرف أيضاً إدراك أن شيئاً ما يعد من المعلومات كمعرفة شخص ما أن جملة الأرض كروية صادقة فهو يدرك معلومة معينة وأن هذه الجملة صادقة أو تعد من المعلومات ويتضح مما سبق أن معاني المعرفة في اللغتين العربية والإنجليزية متشابهة حيث تدور في مجملها عن الإدراك .
أما المعرفة في الاصطلاح الفلسفي فهي ثمرة التقابل بين ذات مدركة وموضوع مدرك وتتميز من باقي مدركات الشعور من حيث أنها تقوم في آن واحد على التقابل والاتحاد الوثيق بين هذين الطرفين والمعرفة بهذا المعنى هي النتيجة التي تحصل للذات العارفة بعد اتصالها بموضوع المعرفة .
ويمكن أن تطلق المعرفة على القواعد وإدراكها وعلى المسائل وإدراكها وعلى الملكة التي تكون لدى الشخص كلون من ألوان المعرفة تحدها جملة من المبادئ والغايات والمصادر والمبادئ هي بيان لمفهوم العلم فمبادئ علم ما تعني مفهوم هذا العلم وبيان غايته وفوائده ومصادره والقضايا التي أثر فيها مما يدخل في نظرية المعرفة.
وعلى هذا فإن نظرية المعرفة هي دراسة منظمة لقضية العلم أو مسألة المعرفة من خلال دراسة ماهية المعرفة وإمكانها وتطبيقاتها وطرق الوصول إليها وطبيعتها وقيمتها وحدودها أي بحث في المشكلات الناشئة عن العلاقة بين الذات العارفة و الموضوع المعروف والبحث عن درجة التشابه بين التصور الذهني والواقع الخارجي ومدى خدمة هذا التصور لنظرية الوجود.
وكثيراً ما يرادف البعض بين نظرية المعرفة و الإبستمولوجيا Epistemology التي تتكون من مقطعين Epistem ومعناه معرفة و Logos بمعنى نظرية فهي نظرية المعرفة وفلسفة العلوم التي تدرس العلوم وفرضياتها ونتائجها دراسة نقدية توصل إلى إبراز أصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية إلا إن كثيراً من المدارس الفلسفية يفرق بين الإبستمولوجيا ونظرية المعرفة باعتبار أن الإبستمولوجيا وإن كانت مدخلاً ضرورياً لنظرية المعرفة فإنها لا تبحث في المعرفة بمنهجية مبنية على وحدة الفكر كما في نظرية المعرفة.
ويمكن تلخيص أهم مباحث نظرية المعرفة في محاولة تعريف "مادة العلم" أي تنظر فيما يلزم العلم به من الأشياء أو بعبارة أخرى تناقش الشروط التي ينبغي توافرها لكي يتم هذا العلم ويدخل في هذا الفرقة بين المحسوس وما هو خارج عن دائرة المحسوس أي بين ما يدخل في مجال التجربة وما يخرج عنها وكذلك التمييز بيم ما يدركه العقل إدراكاً بديهياً فطرياً وبين ما يتم اكتسابه عن طريق التجربة وتبحث نظرية المعرفة في التأثير بين المعلومات الذاتية والمعلومات الموضوعية وفي موضوع الوجود والتغير.
وعليه تتناول الإبستمولوجيا الموضوعات التالية:
طبيعة المعرفة أو ماهيتها
مصادر المعرفة فمن أين تأتي المعرفة ؟ هل المعرفة الحسسية ضرورية لكل أنواع المعرفة وما هو الدور الذي يقوم به العقل في المعرفة وهل توجد معرفة مستقاة من العقل فحسب وهل توجد حدسية وهل يمكن القول بأن حجج السابقين مصدر للمعرفة
وما المسلمات الكامنة وراء المعرفة مثل هل العالم موجود أم مجرد وهم وإذا كان موجوداً فهل هو مادة أم شئ آخر
مدى المعرفة هل تشمل معرفتنا كل شئ أن أنها لا تشمل سوى جانب واحد أو عدة جوانب فحسب
إمكانية المعرفة فهل المعرفة ممكنة وهل توجد معرفة مستقلة عن إدراك الفرد وإذا كانت المعرفة مرتبطة بالإدراك فكيف يمكن حسم النزاع بين إدراكين مستقلين؟
مصداقية المعرفة هل المعرفة التي تصلنا هي في واقع الأمر معرفة وليست مجرد أوهامنا عن الواقع ؟ كيف أعرف أن ما يدور في عقول الآخرين هو ذاته الذي يدور في عقلي
التعبير عن المعرفة كيف يمكن صياغة اللغة التي عن طريقها يتم التعبير عن المعرفة وتوصيلها؟ هل ثمة علاقة بين اللغة التي نستخدمها والمعرفة التي في عقل الإنسان والواقع الذي يصفه؟
مالفرق بين مفاهيم العقيدة الإيمان الرأي الظن الخيال التفكير الفكرة المعرفة الحقيقة الواقع الإمكانية اليقين؟
وقد استمر سؤال المعرفة يشغل علماء المسلمين الذين أسهموا في بحث قضايا المعرفة ومسائلها إسهامات رائدة وإن لم يفردوا لها تأليف خاصة ملتزمة بالنسق الفلسفي المعهود في الدراسات الفلسفية المعاصرة ، فمسائلها مبثوثة في أكثر مؤلفاتهم في علوم أصول الدين والفقه والمنطق . بل إن بعضهم أفرد مؤلفات لبعض مسائل هذه النظرية ، فقد ألف ابن تيمية كتابه " درء تعارض العقل والنقل " ، باحثا في العلاقة بين مصدري المعرفة : الوحي والعقل ، وميادين كل منهما ، كما أفرد القاضي عبد الجبار الهمذاني مجلدًا في كتابه " المغني " بعنوان " النظر والمعارف " بحث فيه وسائل المعرفة في سبعين بابا ، كما قدم الباقلاني لكتابه " التمهيد " بباب في العلم وأقسامه ، وطرقه ، واستن بذلك سنة سلكها علماء الكلام من بعده فأخذوا يقدمون لكتبهم بمقدمة هي أشبه ما تكون بدراسة في نظرية المعرفة والفلسفة العامة ، وأبرز مثالين على ذلك ما فعله الفخر الرازي حين وقف الركن الأول من كتابه " المحصول " على العلم والنظر ، وكذلك الإيجي في " المواقف " كما عرفت الحضارة الإسلامية معارك محتدمة بين تياراتها الفكرية والفلسفية بخصوص قضايا معرفية ، والمثال البارز على ذلك تلك المعركة الفلسفية التي نشبت بين الفيلسوف المسلم " ابن رشد " والمتصوف الإسلامي الكبير " الغزالي " والتي لم تكن في جوهرها سوى معركة تتصل بمصادر المعرفة ، الحكمة ـ الفلسفة ـ العقل من ناحية والشريعة ـ الوحي ـ النص من ناحية أخرى.
وعبر سنوات وقرون طوال تراكم الإنتاج المعرفي للعقل المسلم ليشيد بناءًا قوياً محكماً ، فأكدت المعتزلة أهمية المعرفة وضرورتها أيًا كانت ، وأن المعارف مكتسبة وهي محسوس وغير محسوس وفرق الأشاعرة بين العلم والإدراك وقسم الفارابي الحس إلى ظاهر وباطن.
ويبدو ابن رشد مهتماً بمشكلة المعرفة بشكل خاص فجهد في إثبات تقدم العقل على أية وسيلة معرفية بشكل خاص فجهد في إثبات تقدم العقل على أية وسيلة معرفية أخرى ، ورفع من شأن العقل إلى حد جعله مناط التكليف والوسيلة معرفية أخرى ، ورفع من شأن العقل إلى حد جعله مناط التكليف بين الدين والحكمة ( الفلسفة ) وأثبت أن غايتهما واحدة ، وإن اختلفا في المصدر المعرفي لكل منهما ، وكانت رسالته " فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " تهدف عند ابن رشد وحاول فيها إثبات مشروعية الحكمة الفلسفية وأنها مما طلبه الشرع . جعل ابن رشد من العقل هو الوسيلة الوحيدة لحصول الإنسان على المعرفة بالله وكذلك بمخلوقاته ، وقد حدد موضوع المعرفة بقوله : " أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم والعمل الحق ، والعلم الحق هو الله تعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه بخاصة الشريفة منها ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي ثم أطلق موضوع المعرفة فجعله " العلم الحقيقي هو معرفة الوجود على ما هو عليه " ومعرفة الوجود ليس شيئاً بعيدًا عن موضوع مشكلة المعرفة ، وذلك لان " نظرية المعرفة عند فلاسفة الإسلام " ترتبط ارتباطاً وثيقًا بنظريتهم في الكون .
بينما أشار إخون الصفا إلى أن المعقولات ومن ضمنها النفس لا تدرك إلا بالعقل ، وذلك لأن الشبيه يدرك بالشبيه . واستخدموا الاستنباط لمعرفة وجود النفس الكلية من خلال فعلها ، فإن فعلها المشتمل على تدبير الخليقة وحفظ العالم يستنبط من نتائجه ولكنها لا ترى . وأعلى الغزالي من المعرفة الصوفية مقارنة بالمعرفة العقلية الفلسفية ووضع الإلهام كمصدر من مصادر المعرفة في موضعه اللائق به .
لعله تأكد مما سبق رسوخ النظرية المعرفية الإسلامية ، وعمق جذورها ، وأنها ليست معلقة في الهواء أو مستقرة فوق رمال الوهم والخيال ، إلا أن الأمر يتطلب إيجاز ملامح وقسمات هذه النظرية وبتبسيط غير مخل يمكن القول أن للنظرية المعرفية الإسلامية سمات مميزة وهي جامعة وإن لم تكن مانعة من أن يكون ثمة أوجه تشابه بينها وبين غيرها في بعض الوجوه .
وتتمثل أهم هذه السمات في :ـ
أولاً : ترتكز النظرية ـ أساساً ـ على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وربوبيته ووحدانيته ( لذا يشار إليها بأنها نظرية توحيدية أو نموذج توحيدي ) وكذلك تؤمن أن علم الله سبحانه هو العلم المطلق ، فهو أحاط بكل شئ علماً ( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ) [ البقرة : 25 ] وأن أي علم سوى علمه نسبي بينما معارفنا نحن النبشر معارف محدودة لها مصادرها ووسائلها الخاصة ، ونسبيتها هذه تجعلها معارف يطرأ عليها التغير والتبديل .
ثانيًا : تحددت مصادر المعرفة في ظل هذه النظرية في مصدرين جامعين : أولهما الوجود وهو كتاب الكون المفتوح بكل ما فيه من حياة . والمصدر الثاني هو الوحي كتابًا وسنة ، والكتاب هو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المفتتح بالفاتحة والمختتم بالناس ، المعجز المتحدي به ، والسنة هي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته فالوجود والوحي هما مصدري المعرفة اللذين يندرج أولهما تحت مفهوم عالم الشهادة والآخر تحت مفهوم عالم الغيب .
ثالثًا : وسائل المعرفة
تتمثل الوسائل التي نتوسل بها إلى المعرفة في العقل والحس . " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " [ النحل : 78 ] فالسمع والأبصار والأفئدة تعني أن العقول والحواس هي وسائلنا للوصول إلى المعرفة فالعقل في القرآن الكريم لم يذكر كاسم ، أو كشئ مجرد أو معرف بالألف واللام ، ولكنه كان دائماً يذكر على شكل فعل مثل ( أفلا يعقلون ) وكأن الخالق ينبه غلى أن هذا الأمر تقوم عليه أمور ثلاثة : عقل مجرد ولكنه قوة يعقل بها فلا بد لها من شخص يحملها ، فكأنها عرض باصطلاح الفلاسفة والمناطقة يحتاج إلى جوهر وهو الذات وتحتاج إلى وعاء زمني فيعبر عنها بعقل ويعقل إلى غير ذلك . وهذا الأمر لا ينظر إليه على أنه غاية في ذاته بقدر ما ينظر إليه على أنه حركي حتى أن العلماء حينما ذكروا العقل كدليل من أدلة الشرع وانتقلوا إلى محاولة تفسيره اختلفت عباراتهم كما يقول إمام الحرمين ،ولم يُعن أحد من الفلاسفة بتفسيره أو محاولة بيان حقيقته إلا الحارث المحاسبي الذي له بعض العناية بمحاولة بحث ذات العقل أو ماهيته وله في ذلك كتابان " العقل وفهم القرآن " وما يهم أن هذه القوة المعروفة لدى الإنسان وهي وسيلة المعرفة وهي المكلف الأول .وفي قضية التكاليف فإن أول واجب هو المعرفة وقد وجبت المعرفة على العقل ، فأول مكلف هو العقل الإنساني الذي كلف بمعرفة الله سبحانه وتعالى ، وأصبح من الواجب عليه النظر في معجزة الأنبياء والنظر في الكون ويعتبر الحس بكل أنواعه الوسيلة الأخرى من وسائل المعرفة .وبما أن العقل والحس هما وسيلة الوصول إلى المعرفة فقد رفض الإسلام أي معرفة لا يقوم عليها برهان وسماها ظنا لا بالمعنى المنطقي أي إدراك الطرف الراجح ولكن بمعنى الوهم عند المناطقة ( إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) [ الأنعام : 148 ] ونستطيع أن نقول إذن أن الإنسان لا يملك إلا علماً نسبياً مصادره ، الوحي والوجود ، ووسائلة العقل والحواس . والوحي والوجود معلوم والقوة العاقلة مدركة كذلك والحس معلوم والمعلومة لا تقبل إطلاقاً بدون برهان فأي علم للإنسان لا بد وأن يقوم عليه برهان .
رابعاً: مجالات المعرفة :
مجالات المعرفة العوالم التي نستمد منها المعرفة وهي عالم الغيب وعالم الشهادة ، وعالم الغيب بالتعريف لا يمكن إدراكه بالحواس ، وكل شئ عن أخبار الماضي الذي لم نشهده ويستحيل أن نشهده غيب ، وكذلك عالم الآخرة وبعد الموت والقبر والحشر والجنة والنار كلها من أمور الغيب الذي لا يمكن معرفته بالحواس ولذا يعد الوحي المصدر الوحيد لمعرفته ، ووسيلة الإدراك هي العقل يوصل إليه السمع فيدرك الأمر ويقتنع به بما زوده الله سبحانه وتعالى . وأحياناً يجبر على القناعة من خلال البداهة أو الضرورة ، وأحيانًا يصل إلى القناعة من خلال التأمل والتدبر ، ولكن عالم الغيب لا مجال للوصول إلى حقيقته إلا من خلال الوحي .
خامساً : العلاقة بين الوحي والعقل
العلاقة بين الوحي والعقل كمصدرين للمعرفة شديدة التداخل ، وعلى قدر كبير من التعقيد والتشابك بحيث لا يمكن بحال وضع حدود فاصلة لعمل العقل يتوقف عندها ليبدأ عمل الوحي يقول الله تعالى ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورًا ) [ الفرقان : 40 ] فالله تعالى يشير باستغراب شديد إلى أولئك الذين أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ورأوها بأعينهم فهي أمر محسوس لديهم ، وبرغم الرؤية لم يحصل لديهم العلم ( أفلم يكونوا يرونها) نعم كأنوا يرونها لم تحصل المعرفة ولم يحصل العلم لماذا ؟ الجواب ( كانوا لا يرجون نشوراً ) إذن الحس يحول المعرفة إلى العقل ولكن العقل لسبب ما قد لا يكون مستعداً لقبول هذه المعرفة ، ليس لديه رفض لأنه لم يحاكم أصلاً ولكن الباب مغلق فلم تحصل المعرفة .
سابعاً : غايات المعرفة ووظائفها :
تسعى كل نظرية معرفية إلى تحقيق غايات ومقاصد تمثل النظام القيمي لهذه النظرية وتتمثل أول غايات النظرية المعرفية في العبادة ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] فقد جعل الله سبحانه وتعالى عبادته هي غاية الوجود كله ، فالعلم والمعرفة في خدمة العبادة ويدخل ضمن هذا المفهوم القيام بمهام الاستخلاف والإعمار ( هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها ) [ هو : 61 ] فالبشر موجودون فيها لإنشاء العمران وبناء الحضارة فالعبادة إذن ليست قاصرة على ممارسة الشعائر كما يصورها العقل المسلم ( في ظل أزمته الفكرية ) وإنما العبادة في مفهومها العام القيام بالشعائر بالنسبة لفرد والقيام بمهمة الخلافة وإعمار الكون إقامة الحضارة والعدل فيه على أساس قيم الحق التي أرساها الخالق سبحانه وتعالى ومن ثم تصبح العلوم والمعارف قسمين .مذمومة يذمها الشرع وهي العلوم الضارة أو العلوم التي تخل بمهمة الإنسان في هذا الوجود ، فأي علم يضر بالإنسان والحياة والبيئة والوجود هو علم مذموم ، وعدا ذلك علوم محمودة أو ممدوحة تقدم للإنسان نفعاً في دنياه وآخرته وتساعده على القيام بمهام الاستخلاف والعمران البشري .
أما عن وظائف نظرية المعرفة الإسلامية فيمكن الإشارة إلى :
منهجية التعرف على الواقع والتاريخ والنفس والاجتماع ، كمباحث مهمة في نظرية المعرفة الإسلامية فتقدم هذه النظرية رؤيتها الخاصة للمدخل السنني في فهم العملية الحضارية بكل مجالاتها وفي مستوياتها المتنوعة ، فنظرية المعرفة تولد مجالات معرفية على شاكلتها نلتزم بأصولها وتلزم مقاصدها .
البناء المفهومي والذي يعد أحد أهم عمليات تأسيس المعرفة العلمية ، فالمفاهيم هي اللبنات التي نبني بها صروحنا النظرية والفكرية ، الاهتمام بعالم المفاهيم ، مبحث آخر في نظرية المعرفة له دوره في الضبط وتنظيم المعارف والنظر إلى الظواهر ، ومع ذلك كانت فوضى عالم المفاهيم في عالم المسلمين لها أكبر الأثر في فوضى التعامل مع ظواهرنا ، خاصة وأن الفوضى في عالم المفاهيم طالت كل المستويات : أزمة في الوضع ( صياغة المفاهيم ووضعها إزاء المعاني ) وأزمة في الحمل والإدراك والنقل ، وأزمة في الاستعمال ويفرض ذلك تأصيل "علم للمفاهيم " تكون أحد المداخل التي يتأسس عليها هي الكشف عن المفاهيم المخذولة ، والمفاهيم الذائعة كأحد العلوم المتولد من نظرية المعرفة الإسلامية .
نظرية المعرفة الإسلامية ليست بعيدة كذلك عن البحث في معارف الآخرين والتعامل معها ، فالآخر بمعارفه السائدة والغالبة يشكل حالة معرفية من المهم لنظرية المعرفة الإسلامية أن تهتم بها وبآثارها ومناهج التعامل معها وضرب الأمثلة لنماذج منها بما يؤصل مناهج ذات صيغة عملية وعلمية للتعامل مع عالم المعرفة عند الآخر ومفاهيمه .
كما تتيح نظرية المعرفة لنا أيضا بناء المواقف حيال كثير من المفاهيم والقضايا والتي نتجت في سياقات معرفية مختلفة ومنها السياق المعرفي الغربي ، فمن خلال التواصل المعرفي والنقدي مع قضايا مثل النظرية النسوية الغربية يمكن تقديم مراجعات لها تتواصل وتؤصل في ذات الوقت هذه القضايا ضمن تربة المعرفة الإسلامية ونظرياتها فتنفي عنها افتعالاً أو إغفالا . وتحدد " نقاط نظام " منهجية تعطي لهذه القضية أحجامها المعرفية الحقيقية ، وتحدد طرائق التواصل المعرفي معها.
سبقت الإشارة إلى أن نظرية المعرفة الإسلامية أصيلة وعريقة أصالة وعراقة الإسلام وحضارته وإن كان بعض فلاسفة الغرب يرون أنه لم توجد معالجة متكاملة لنظرية المعرفة قبل صدور كتاب جون لوك مقالة في الذهن البشري عام 1860 فقد تعرف الغرب على الحضارة الإسلامية ومنجزاتها بل وعلى تراثه من خلال التخوم الحضارية مع المسلمين في الأندلس والشرق الإسلامي واستثمرها لدفع إنمائه في الوقت الذي تقهقر فيه العالم الإسلامي لضعف التزامه بالأصول التي حفظت نظامه السياسي والاجتماعي ومن أسف أن الإنسان الغربي عندما واجه التحدي الإسلامي كان أول ما صنعه مراجعة فكره في حين أن الإنسان المسلم عند مواحهته التحدي الغربي راجع ماله وإمكانته المادية وتوهم أن فكره معصوم ففشلت عملية النقل الحضاري واستحكمت الأزمة الفكرية والحضارية في عالم المسلمين.
ومن وقتها لم يزل الفكر العربي الإسلامي مسكوناً بهم السقوط والنهوض الحضاري الذي عبرت عنه صياغات عديدة أشهرها التساؤل الذي ذاع منذ عصر النهضة "لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم"؟ ، وتحول الاهتمام لبحث أصول هذا التردي في العقيدة والفكر فقد تباينت الاجتهادات المطروحة للإجابة على هذا السؤال وإقامة أسس نهضة جديدة بدءاً من الاجتهادات الأولى للكواكبي – خاصة في كتابه أم القرى – والأفغاني ورشيد رضا وصولاً إلى الاجتهادات المعاصرة وعلى الرغم من ان هذه الاجتهادات ترى الأزمة الحضارية الحالية متعددة الجوانب ومن ثم متعددة الأسباب ، إلا أن القاسم المشترك بينها أنها ترى هذه الأزمة هي بالأساس أزمة في مناهج التفكير ، وتخلف العقل المسلم عن تطوير طرائق جديدة للتعامل مع الواقع والاستجابة المبدعة للتحديات المعاصرة.
كان الوعي بهذه الحالة دافعاً للسعي للعودة للوسطية الإسلامية كمنهج إنساني – بالمعنى الشامل للمنهج في معرفة الإنسان والعالم وتأسيس العلم الخالص من آفات الجزئية والتشتت " يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا " والانحياز لطبقة أو للمادة وتحقيق أسلوب الحياة الطيبة المرتبط بهذا العلم النافع ومن مساعي هذه العودة هذه الجهود التي رفعت لواءً لها إسلامية المعرفة.
فإسلامية المعرفة كمشروع فكري يستهدف نهضة الأمة من كبوتها يمكن الرجوع به إلى جهود الأستاذ رشيد رضا والأستاذ الإمام محمد عبده في العمل على توطين العقلية العلمية في العالم الإسلامي والقضاء على الفصام النكد بين العلوم الشرعية والعلوم الحديثة على النحو الذي سعى إليه أيضًا محمد فريد وجدي لكنها لم تعالج بشكل نظامي مؤسسة إلا مع قيام عدد من المؤسسات الإسلامية بالانشغال بها حيث أصبح هذا المصطلح شائعًا ومعروفاً في مؤتمرات جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين في الولايات المتحدة ثم وجه إليها المعهد العالمي للفكر الإسلامي جهوده حتى أصبح علماً عليها إلى جانب جهود التأصيل الإسلامي للمعرفة التي تضطلع بها مؤسسات و أفراد منها جامعة العلوم الاجتماعية والإسلامية والجامعة الإسلامية بماليزيا تنوع التكوين الفكري للقائمين بهذه الجهود بين التخصص الشرعي والإحاطة بالثقافة الإسلامية مع نظرة متفتحة على الواقع والتطورات المعاصرة في المعارف الإنسانية والتخصص في مختلف العلوم الحديثة مع خلفية عن الفكر والحضارة الإسلامية فتميزت جهودهم عمليًا بوحدة المعرفة.
إن المفاهيم وسيلة الإنسان في إدراك الحياة من حوله وتنظيمها ومن ثم في سعيه لتيسير سبل وجوده فيها لذلك كان تجريد المفاهيم أحد العمليات العقلية التي اختص الله بها الإنسان وبهذه الأهمية كان من الواجب البحث في مفهوم إسلامية المعرفة الذي يعد المكون والمحور الذي تننظم حوله جهود تكوين مدرسة فكرية تستمد روافدها من تيارات مختلفة بهدف التحاور مع الاتجاهات القائمة في فلسفة العلم - والتي أصبحت مركز اهتمام التفكير الفلسفي أو التفلسف الحديث بها- لإصلاح مناهج المعرفة.
ونقطة البدء في التعامل مع مفهوم مركب كهذا المفهوم تتمثل في تحليله بمعنى رده إلى عناصره الأولية ثم النظر في كيفية تكونه وتطوره وهل يمكن أن يحقق الأهداف التي صيغ من أجلها وما الثمار الناتجة عن تبنيه وتمثله في العلوم المختلفة، فمفهوم إسلامية المعرفة مفهوم مركب بإضافة المعرفة إلى الإسلام فالإسلامية هي النسبة إلى الإسلام وعليه فإن إسلامية المعرفة تعني العلاقة بين الإسلام والمعرفة أي الصلة بين الوحي القرآني وبيانه النبوي ومعارف الإنسان في علوم الوجود الإنسانية منها والطبيعية
والإسلام هو كما ورد في القرآن الكريم هو الدين الذي رضى الله تعالى للناس ليدلهم على سعادتهم في حياتهم الدنيا بعد مماتهم في الآخرة فهو وضع إلهي يدعو أصحاب العقول بختيارهم المحمود إلى قبول ما هو من عند الرسول (ص) من البلاغ الإلهي والبيان النبوي وفي اللغة الإسلام هو الانقياد لهذا الوضع الإلهي أي الانقياد لله تعالى ولما أنزله من شرائع وأحكام تلقيناها عن رسول الله (ص) وبهذا المعنى هو شريعة وعقيدة يقدم إجابته على الأسئلة الكلية أو الأسئلة النهائية في حياة الإنسان التي تشكل الإجابة عليها رؤية الإنسان للعالم التي تشكل بدورها منظوره العام الذي يطل به على العالم ليفسره فيسعى لفهم الوجود والسمات الأساسية للوجود في ذاته منفصلاً عن دراسة الموجودات كل على حدة ومن خلال رؤية الإنسان لمسائل الوجود يبدأ في تفسير الواقع ككل متسق بما في هذا فحص مصادر معرفته للوجود وما وراءه فهذه الأسئلة تتمحور حول فكرتنا عن الله والإنسان والكون والعلاقات القائمة بينهم وتحديد العلاقة بين المطلق والنسبي منها
فيثير الإنسان أسئلة حول الخالق مثل هل هو متجاوز أم حال وهل هو واحد أم كثير وعن العالم : مم يتكون وما مصدر تمسكه وهل تمسكه يوجد داخله أم متجاوز له وما هي درجة تمسكه وهل العالم عضوي أم آلي منفتح أم منغلقوكذلك عن الإسان ما طبيعته وما علاقته بالطبيعة وما هويته هل للإنسان هوية خاصة به أم لا وهل هو جزء من الطبيعة أم منفصل عنها وماذا عن مكان الإنسان في الكون هل في مركزه أم في هامشه وما الهدف من وجود الإنسان وما علاقة الإنسان بالمجتمع أما في مجال المعرفة فيطرح الإنسان أسئلة عن غمكتنية المعرفة وطبيعة عقل الإنسان مادي أم غير مادي وهل هو محدود أم لا وما منهج التوصل للمعرفة وما نوع المعرفة التي يتوصل إليها هل هي يقينة أم احتمالية وما الهدف من هذه المعرفة هل فهم الكون والتواصل معه أم التحكم فيه والسيطرة عليه وهل ثمة منهج واحد لدراسة الإنسان والطبيعة أم هناك عدة مناهج مختلفة؟
ويشتمل الإسلام على رؤية واضحة ومتكاملة للعالم وفيجيب على الأسئلة الكلية المتعلقة بالإله والغيب والإنسان والكون والحياة التي احتوتها قضايا علم العقيدة والتي على أساسها تتحدد طبيعة " النظام المعرفي الإسلامي " بالإجابة على الأسئلة حول إمكانية معرفة هذا العالم ووسائل اكتساب هذه المعرفة وأهدافها وغاياتها وكيفية التحقق من صدق هذه وأساليب تصنيفها إلى غير ذلك من أسئلة هي عناصر تتعلق بمفهوم المعرفة .
فمثلا سؤال دور الإله في الكون وعلى علاقته به تأتي الإجابة عليه بالإيمان بالكتب والرسل وتمثل جزءًا محورياً منها تأتي الإجابة عليه بالإيمان بالكتب والرسل كوسائل لتنظيم الحياة الإنسانية وفق منهج إلهي تأكيداً لوجود مصادر معرفية تشكل معرفة الإنسان وتمثل جزءًا محوريا منها هذه المصادر منزلة من عند الله سبحانه وتعالى ومن ثم تجاوز الكون والإنسان والطبيعة كمصادر للمعرفة إلى مصدر آخر متمثل في الوحي الإلهي من خلال الكتب وعبر الرسل .
وعليه يمكن فهم إسلامية المعرفة بمعنى المعرفة ونتاج وثمرة إعمال العقل المسلم في مجالات المعرفة المختلفة والبحث في هذه الإنجازات وارتباطها بالنسق الكلي الذي تنبثق عنه " الإسلام " أو بمعنى تميز المنهج الإسلامي في الإجابة على الأسئلة المشار إليها آنفًا وغيرها والذي ينهض بنظرية متكاملة للمعرفة وبكلا المعنيين إسلامية المعرفة مفهوم قديم كما يرى بعض العديد ممن تصدوا لدراسة هذا المفهوم فهو وإن لم يرد بلفظه في كتابات العلماء المسلمين فإنه كان حاضرًا في ثناياها وكامناً خلف منجزاتهم ويمكن تبين هذا من أنموذجين هما منجزات العلامة الرازي العلمية وكتابات العالمين الجليلين الغزالي والسيوطي وحديثا استهدفت مدرسة إسلامية المعرفة بناء منهجية إسلامية قويمة شاملة تلتزم توجيه الوحي وتتمثل قيمه وغاياته ومقاصده في دراسة موضوع اهتمام الوحي وإرشاده وهو الفرد والمجتمع والإنسان والكون وما بينهم من علاقات زما أودعه الله تعالى فيها من طبائع لتسير وفق توجيه الإسلام وغايالته ومن خلال هذه المنهجية يمكن الوصول إلى معرفة علمية ربانية القيم والغايات من حيث مصدرها وعقلية في فهمها وبحثها ودرسها في قضايا النفس والمجتمع والحياة كما سعت إلى التحاور على المنظور المعرفي السائد بهدف تصحيحه انطلاقاً من تجديد الذات المسلمة على عدة جوانب :ـ
· إعادة تأكيد القيم الإنسانية الإسلامية في مختلف مراحل الإبداع المعرفي سواء في العمل العلمي ( التجرد- الأمانة العلمية حرية الفكر ) أو في التوظيف الاجتماعي للعلم بالالتزام بأولويات ترتبط بالاحتياجات الحقيقية للناس.
· استعادة الاتساق بين مصادر المعرفة ومجالات المعرفة باعتبار التوحيد مبدأ معرفياً ناظماً لهذه المعارف .
· إعادة تشكيل المنهجية الإسلامية بالاستفادة من كل الخبرات المتاحة بعيداً عن التمركز حول الذات في فترة معينة أو منطقة معينة ( التراث العربي ) أو تقليد الفكر الغربي أو التلفيق بالجمع غير المنضبط بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي .
إن هذا المشروع يقتضى جهوداً مكافئة لتقدير الموقف الراهن له في إطار الحوار مع طروحات الإصلاح الفكري والرؤي البديلة له من التيارات الفكرية الأخرى من ناحية وتقدير الموقف الراهن فيما يتعلق بما تم التوصل إليه سواء من ناحية مفهوم إسلامية المعرفة ذاته أو منهجية إسلامية المعرفة في العلوم الحديثة والعلوم الشرعية أو في البحوث التخصصية التي أجريت حتى الآن في كل تخصص حسبما يسمح به الجهد من ناحية أخرى .
ويمكن الإشارة إلى هذه القضايا في عدد من العناوين منها:
· الخلط بين اسلامية كمشروع للتحديد الفكري ومشروع الإسلاميين للإصلاح المجتمعي
· عمومية الطرح المنهجي
· التواصل بين العلوم الاجتماعية والشرعية .
· منظور توحيدي للعلوم الاجتماعية أم منظور لدراسات العالم الإسلامي؟
· إسلامية المعرفة والعلوم الطبيعية .
1- الخلط بين إسلامية كمشروع للتحديد الفكري ومشروع الإسلاميين للإصلاح المجتمعي
تقوم إسلامية المعرفة على أن أزمة الأمة في جوهرها هي أزمة فكرية ناجمة عما أصاب الفكر الإسلامي من تشوهات شوهت الرؤية الإسلامية وقضت على وحدة المعرفة فيه وأحالت المعرفة الإسلامية إلى معرفة لاهوتية كما همشت المعرفة الإنسانية في تكوين الفكر الإسلامي وأدائة ووأدت بذور العلوم الإنسانية التي نلمح برعمها في مفاهيم ومبادئ أصول فكر الفقه الإسلامي الأمر الذي انتهى إلى تدهور مؤسسات الأمة وافتقادها الطاقة الحضارية الإسلامية حيث أدى عزل العلماء عن ميدان الحياة العامة في عزلة مدرسية التي تشويه الرؤية العقدية الحضارية الكلية وتحطيم مستقبل الثقافة والتعليم في الأمة وأورثت هذه العزلة المدرسية التي حوصر بها رجال العلم والمعرفة أحادية في المعرفة توارت معها التجربة والمعرفة الإنسانية والمتغيرات الاجتماعية بعيداً لتنحصر المعرفة في الإحاطة النصية واللغوية ولبسود التقليد والاستظهار على حين اعتمدت جهود التجهيزات المادية والترتيبات الإدارية والتراكيب الأكاديمية في مخططاتها على الاستيراد والمحاكاة للنظم الغربية .
وهكذا تفاقمت ازدواجية النظام التعليمي بين قوى التغريب والعلمنة التي تفرض نفسها باسم الحداثة والتقدم وتعمل على إبعاد التعليم الإسلامي عن الاحتكاك بالواقع وبالتطورات الحديثة بما أدى لانعدام الرؤية الإسلامية الكلية أو تشوهها على الأقل واستنساخ صورة مهزوزة من النموذج الغربي لأن النموذج الغربي في التربية يقوم أساسًا على رؤية محددة ومن طبيعة الرؤية أنها لا يمكن أن تقلد أو تستنسخ فكانت المحصلة انخفاض المستوى التعليمي فلم ينجح النظام التعليمي في نشر الثقافة وتوليد المعارف المبنية على مبادئ التوحيد والاستخلاف و لا توفير الكوادر المتقنة المبدعة.
وعليه كان لا بد من تجاوز هذه الازدواجية التعليمية بين الاتجاهين الإسلامي والعلماني وتجاوز غياب الرؤية الواضحة لوجهة العمل الإسلامي من خلال تحقيق تكامل معرفي بين الدراسات الشرعية والإنسانية لإنهاء الازدواجية التعليمية . فإسلامية المعرفة تسعى لإعادة صياغة فكر الأمة على أساس ثوابت الإسلام ومنطلقاته الإنسانية العالمية الحضارية المبنية على أساس التوحيد والاستخلاف وتعمل على إصلاح المنهج المعرفي حتى يبني على مفهوم شمولي تحليلي منضبط وعلى وحدة المعرفة الإلهية والإنسانية لتحقق مقاصد الشريعة في الإصلاح والخير وتلتزم مبادئ العقل والسنن الإلهية في الكون.
فإسلامية المعرفة في إطارها العام هي إقامة العلاقة الصحيحة بين الالهي والإنساني في العلوم والمعارف وفق منهجية إسلامية رشيدة تلتزم تعاليم الوحي وتتمثل مقاصده وقيمة وغاياته دون أن تعطل عمل العقل أو تعوق حرية البحث والتفكير وتتميز إسلامية المعرفة كمذهب في المعرفة بالجمع بين القراء بين قراءة كتاب الوحي وكتاب الكون مصدراً لإدراك الحقائق في كل منهما.
وإسلامية المعرفة بذلك قضية معرفية منهجية يقوم عليها الجامعيون والعلميون و الباحثون في مختلف التخصصات أي المجتمع الأكاديمي ضمن الجماعة العلمية القائمة دون ارتباط مباشر بهذه القوة أو هذا التيار من قوى تروم الإصلاح المجتمعي الشامل ممن اصطلح على تسميتهم بالإسلاميين.
إلا أن الانتقادات تنوعت لهذا المشروع فمنها ما تأسس على اعتباره استجابة ساذجة لتحدى العلم الغربيفهو نوع من " الانتكاس داخل الدائرة التراثية" وابتداع منهج مغاير للبحث يخضع العلم للعوامل الذاتية والقيود التي تفرضها المعرفة الدينية الغيبية المطلقة بما يخرج هذا المنهج من دائرة العلمية حيث إن منهج العلم واحد لا يتعدد والعلم – وفق هذا الرأي – يحصر اهتماماته فيما تقدمه التجربة والحس لكشف قوانين الواقع والخروج بنتائج نسبية تخضع دائماً للنقد والتشكيك لكنها بتراكمها تساهم في عملية التقدم والتطور في حين أن المعرفة الدينية يقينية ومن هذه الانتقادات ما رأى إسلامية المعرفة محاولة سلبية للتكيف مع الواقع والحفاظ على هوية جريحة بفعل حضور الحداثة الطاغي عبر وسائط العولمة أو أن إسلامية المعرفة محاولة لتيار سياسي لاحتكار الحقيقة في مجال المعرفة تمهيداً لإقصاء التيارات الأخرى في الصراع السياسي فيرى بعض العلمانيين أن " الجهود التي تبذل من أجل تحقيق ما يسمى بأسلامية المعرفة تعد سعياً واعياً لدى الحركة الإسلامية السياسية للسيطرة على المجتمع المدتي بمفهوم جرامشي أي تسييد توجه ثقافي معين تسييداً مجتمعيًا مما يسهم في تكوين كتلة تاريخية في المجتمع المدني وتقوية حركتها السياسية ولعل الخوف من إضفاء صفة الإسلامية أو صبغة الإسلامية على المعرفة كجزء من الخوف من عملية الأسلمة هو سبب هذه المخاوف.
على أن العديد من الكتابات التي صنفت كجزء من مشروع إسلامية المعرفة ساهم في هذا الالتباس بتركيزها على دراسة حركات الإصلاح والتجديد لا في بعدها العلمي والمعرفي البحت بل كحركة إصلاح مجتمعي شامل كما في دراسات عن "المهدي بن تومرت" وجمال الدين الأفغاني وواكب هذا تأكيد على أن إسلامية المعرفة هي المدحل والسبيل لبلورة الطور المعاصر للمشروع الحضاري الإسلامي
لذلك كان لا بد من التأكيد على أن إسلامية المعرفة مشرع للدارسين والأكاديميين لإصلاح مناهج المعرفة والفكر لا ترتبط بهذا التيار أو ذاك من تيارات الحركة الإسلامية بالتركيز على القضايا المعرفية ذات الطابع العلمي وأن إسلامية المعرفة تملك استقلاها الذاتي إزاء جهود الإحياء الإسلامي في المجالات المجتمعية المختلفة الأخرى .
صحيح أن إسلامية المعرفة تستهدف إصلاح الفكر كأحد الحلقات التي يجب أن تتكامل مع بقية حلقات الإصلاح الشامل لكن اهتمامها الأول أن تكون الإطار الأشمل الذي يجري فيه العلماء المسلمون بحوثهم ودراساتهم.
2- عمومية الطرح المنهجي
استهلت إسلامية المعرفة الدعوة لصياغة المعرفة الإسلامية (من خلال إعادة توجيه وتشكيل منهجي لمجالات البحث العلمي وفق مجموعة من الضوابط والمعايير المستمدة من الرؤية الإسلامية) بخطة عامة تقوم على القيام بدراسة مسحية للعلوم الحديثة لاتقانها وإتقان العلوم التراثية والقيام بدراسة مسحية لها تمهيداً لتحديد التناسب بين الإسلام والعلوم الحديثة من خلال التقويم النقدي للتراث الإسلامي وللعلوم الحديثة في ضوء دراسة مسحية أيضاً لمشكلات الأمة الرئيسة ومن خلال هذه الدراسات المزدوجة يتم التركيب الابتكاري والخلاق للمعارف الإسلامية التي يفترض لأن يكون أول ثمارها إنتاج كتب جامعية في المساقات الدراسية المختلفة وهكذا فإن المشروع برغم أنه في بدايته أكد على ضرورة تطوير منهجية وسطية تتجاوز النزعة العلموية الغربية وفي الوقت نفسه تجاوز تقليص مختلف المشكلات التي واجهها المسلم إلى مسائل فقهية يتم الاجتهاد فيا بالقياس الفقهي فإن أدبياته لم تتطرق إلى دراسة طرائق البحث العلمي ولم يتناول العديد من الاجتهادات العلمية المنهجية التي اعتمدتها في التعامل مع الأصول المنزلة والتراث والفكر الغربي للوصول إلى طريقتها في البحث التي أدت بها إلى هذه النتائج كما توضح دراسة قام بها د. لؤي صافي أوضح فيها - على سبيل المثال – كيف اعتمد د.محمد عارف مقاربة مثالية إلى جانب مقاربة تجريبية هي المقارنة الهرمية المستمدة من توصيف "أينشتين" للمنظومة العلمية ليصل إلى خمسة معايير لتقويم الممارسة الاقتصادية من منظور إسلامي داعياً لفهم التوافق بين القيم الإسلامية والوضعية المنطقية في حين اعتمد د.عبد الرشيد موتن على حديث نبوي يتضمن إشارات إلى التضامن الإسلامي لإضفاء الصبغة العضوية على التنظيم السياسي دون اعتماد قواعد استباطية محددة وواضحة للانتقال من المبدأ الإيماني إلى تطبيقاته العملية وبالمثل تضعنا دراسة د.محمد أمزيان عن " منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية" أمام السؤال: ما القواعد التي تحكم عملية الاستدلال في قضايا العلوم الاجتماعية؟ أم أن الانتقال من النص إلى المفهوم الاجتماعي يعتمد كليا على عملية الحدس والإيحاء على ما النحو الذي قام به د.أمزيان في صياغته لمفهوم التباين الاجتماعي.
ويقدم مدخل السنن مثالاً آخر لعمومية الطرح المنهجي في إطار أسلمة المعرفة برغم أن الحديث عن السنن الإلهية هو حديث عن فحوى إسلامية المعرفة باعتبارها دعوة للجمع بين قراءة كتاب الوحي المسطور وقراءة كتاب الكون المنظور فالسنن هي برأي البعض القوانين الإلهية الحاكمة في الواقع ومن ثم لابد من الاجتهاد لفهم هذه السنن كما أن دراسة الواقع ضرورة لفهم السنن الإلهية فالواقع والسنن وجهان لعملة واحدة وبإدراكهما معاً تكتمل القراءتان المشار إليهما.
ومع ذلك فإن إسلامية المعرفة كنهج يؤالف بين مصادر المعرفة المختلفة من وحي وعقل وحدس يثير ( في معرض تناول موضوع السنن) إشكالية التعامل مع هذه المصادر من ناحية ، والجمع بينها من ناحية أخرى فالموقف من أحاديث الآحاد والقراءة التكاملية للكتبا والسنة والاهتمام بصحة المتن إلى جانب صحة السند والضوابط التي ترد على هذه الصحة وطرق حل التعارض بين المعارف الناتجة عن هذه المصادر كلها قضايا تعطي مثالاُ للإشكالات التي يطرحها هذا النهج
فلغوياً السنة جمعها سنن والسنن ـ بفتح السين وتشديدها ـ تعني نهج الطريق وسنة الكتاب منهجه وطريقته التي كتب بها . والسنن ـ بفتح السين دون تشديدها ـ هي ظهر الخيل وتقول العرب تنحى الرجل عن سنن الخيل أي نزل عن ظهرها . والسنن ـ بكسر السين وتشديدها ـ تعني السكة التي يحرث بها في الأرض ، كما تعني السنن ـ بكسر السين دون تشديدها ـ الغفلة والنعاس كما في قوله تعالى : " .. لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات والأرض " . والسنن بضم السين و
تشديدها لها معانِ منها السنة بمعنى الفهدة والدبة ودائرة الوجه . وللكلمة أصل صحيح بهذه المعاني كلها وغيرها في كلام العرب والقرآن الكريم ومن ذلك الدوام والثبات على الأمر كما في قولهم " سن الماء إذا داوم على صبه " ، وسن الإبل بمعنى داوم على رعيها والإحسان إليها . وسن النصل إذا صقلها وحدها . والسنة في لسان العرب هي الطريقة المحمودة والمستقيمة وجاء لفظ سنة بحرفيه الأصلين دون اشتقاقه في القرآن سبع عشرة مرة .
وقد تعدد ذكر السنن في القرآن الكريم ويخلص ابن تيمية وقد أدرك طرفًا من السنن الإلهية في القرآن الكريم ، إلى القول: " لقد بين الله سبحانه وتعالى أن السنة لا تتبدل ولا تتحول في غير موضع . و ( السنة ) هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول ، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بالاعتبار فقال : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب " والاعتبار أن يقرن الشئ بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه ، وأن من عمل مثل أعمالهم ـ أي الأمم السابقة ـ جوزي مثل جزائهم . فإذا قال " فاعتبروا يا أولي الأبصار " ، وقال " لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب " ، أفاد أن من عمل مثل أعمال الكفار وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء ، فقال تعالى : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " والمقصود أن الله أخبر أن سنته لن تتبدل ولن تتحول وسنته عادته التي يساوي فيها بين الشئ وبين نظيره الماضي . ويقتضي هذا أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ، ولهذا قال سبحانه : " أكفاركم خير من أولئكم " . وقال أيضًا : " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " أي أشباههم ونظائرهم .
وقد وردت لفظة "سنة" بحرفيتها دون اشتقاقات في القرآن الكريم سبع عشرة مرة وحاول بعض الباحثين المحدثين تحديد معناها من القرآن الكريم مبيناً أن كلمة السنن جاءت في القرآن الكريم عادة بمعنى ما بين الله للإنسانية من طرق واتجاهات الأمم السابقة التي جعلها الله قوانين ثابتة في البشر و الوجود كله ، دون أن تتغير هذه القوانين أو تتبدل كما قال تعالى : " فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " أي لم يتغير .وهكذا أفادت جل استعمالات كلمة سنة في القرآن معنى واحداً وهو الطريقة والقانون وإن تشعبت تصريفاتها من حيث الإفراد والجمع ، والإسناد إلى ضمير المتكلم وهو لفظ الجلالة حينا ، والإضافة إليه سبحانه وإلى الأمم الخالية من الأولين أحيانا أخرى .
أما عن تعريف السنة والسنن لدى علماء المسلمين ، فإن ابن منظور يعرف السنة على أنها السيرة حسنة كانت أم قبيحة ، أما ابن الأثير فيقول في لانهاية في غريب الحديث : " الأصل في هذا اللفظ ( السنة ) .. الطريقة والسيرة " ويستدل على ذلك بحديث المجوس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( سنوا فيهم سنة أهل الكتاب ) أي خذوهم على طريقتهم وأجروهم في قبول الجزية منهم أجرهم .وإذا رجعنا إلى الأصفهاني في مفردات غريب القرآن نجده يقول : " السنن جمع سنة وسنة الوجه طريقته . وسنة الله قد تقال لطريق حكمته وطريق طاعته ، وذلك على نحو قوله تعالى : " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " وقوله أيضا " ولن تجد لسنة الله تحويلا " ومن هذا تنبيه إلى أن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها فإن الغرض منها لا يختلف ولا يتبدل وهو تطهير النفس للوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى جواره .
والاهتمام بعلم السنن قديم فقد عرض له ابن خلدون وصرح بضرورة دراسته الشيخ محمد عبده فقال في تفسير قوله تعالى (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين) إن إرشادنا الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علماً من العلوم المدونة لنستمد ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وبينها العلماء بالتفصيل عملاً بإرشاده كالتوحيد والأصول و الفقه وقال في موضع آخر إن العلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة وتدلنا عليه أحوال الأمم وأمرنا القرآن أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها ... وبرغم هذا الاهتمام بالسنن فليس ثمة تحديد دقيق لمعنى السنة الأمر الذي يبدو من تعدد تعريفاتها ليس بحكم تباين مقصد التعريف بقدر ما هو نتيجة تباين الرؤية والفهم فهناك من عرف السنة بأنها القاعدة الحاكمة لشكل العلاقة بين الفعل الإنساني وبين العاقبة المترتبة عليه في حين عرفت باحثة أخرى السنن بأنها القوانين الكلية العامة التي تحكم الفعل الحضاري في ضوء اعتبارات الواقع وخصوص الحال سواء على الإنسان أو غيره والبعض يرى السنن مناظراً للقانون العلمي باعتبار أن مفهوم القانون يعني أنه يفعل في الأول مثل ما يفعل الثاني فهل السنن مناظر للقانون العلمي أم أن القانون العلمي بلورة للسنة التي تأتي في صورة مجملة أم أنها هي نفسها القانون العلمي أم أن السنن هي الإطار الأشمل فتمثل القوانين العلمية وقائعها أم أن السنن هي ما وراء النظريات أو الإطار النظري التفسيري الذي يجري فيه الباحثون المسلمون عملهم ؟
ومن ناحية أخرى فإن التعامل مع السنن يقتضي تمييز دائرة الثبات والإطلاق ودائرة التحول في الرؤية الإسلامية ونمط التفاعل بينهما ومنهجه وكذلك ضوابط فهم السنن بما يخول تقرير أن هذه هي السنة و هذه مقتضياتها فيجب أن يحقق منهج التعمل مع السنن اعتبار الاحتفاظ للسنن بثباتها وإطلاقها وصيانتها من التعسف في التفسير وفي الوقت نفسه الاستفادة منها وتشغيلها وتحقيق مقصدها في الحث على إعمال العقل المسلم فيها والحركة بمقتضاها.
صحيح أن البعض سعى لتحديد خصائص السنن وتمييزها عما قد يلتبس بها من مفاهيم الحقائق الإيمانية والصفات الإلهية والوعد والوعيد والقيم والمقاصد والأحكام الشرعية والمبادئ العامة إلا أن هذا لا يفي بضرورات التعامل المنهجي مع هذه السنن وفق إطار متسق يبدأ بوضع تعريف دقيق للسنة بما يحقق ماهيتها وبالتالي يفرق بينها وبين ما عداها من مفاهيم قريبة ويلي هذا وضع الضوابط والأسس التي من خلالها تستنبط السنن ثم التمييز بين أنواع السنن المختلفة (سنن كونية ونفسية واجتماعية وتاريخية) وأخيراً وضع تصور عام يشمل السنن الكلية وما يندرج تحتها من سنن جزئية أو خاصة توطئة لتحديد شبكة العلاقات المتداخلة بين السنن المختلفة بما يظهرها في خريطة متكاملة ذات فاعلية وتشغيل لكثير من المناحي الإنسانية ولتكون المنطلق للعلوم الاجتماعية وتأصيلها.
ولم يتم التوصل لمثل هذا الإطار الأمر الذي جعل كثيرًا من الباحثين يرون أن دراسة السنن كمدخل علمي تتسم بدرجة عالية من عدم الوضوح فهي بعيدة عن تطوير مقولات و إجراءات محددة يمكن التعامل معها فمدخل السنن ما زال يدور في إطار الكليات وعلى أحسن الفروض فإن تطبيقه يقف أمامه العديد من الصعوبات والعقبات التي ينبغي تجاوزها أولاً.
إن غياب مثل هذا الإطار لم يكن لأن المسألة لا زالت في بدايتها وتحتاج إلى مزيد من الجهد والتفاعل العقلي الجماعي وحسب بل لأن العديد من كتابات البحثين المنتمين لمدرسة إسلامية المعرفة لا يزالون يراوحون في المكان ولم يتجاوزا الجهود الرائدة للشهيد إسماعيل الفاروقي فالكتابات الأولى للشهيد الفاروقي – كأي جهد رائد - كانت بياناً للفكرة وتحديداً لمعالم النموذج المعرفي الإسلامي ومخططاً أولياً يشير لإمكانات تنفيذها لكنها لم تجب ولم يكن مطلوباً منها أن تجيب على الأسئلة التي تثيرها الشبكة الواسعة من المشاكل المنهجية التي تواجه الباحثين المسلمين.
ولعل أهم هذه المشكلات تلك التي تتعلق بكيفية بناء النماذج المعرفية وتشغيلها على الأرض و هذا البناء والتشغيل يقتضي إدراك أن النموذج المعرفي أو paradigm ينشأ دائماً عن نظام اجتماعي وأن النظام الاجتماعى ينشأ عادة نتيجة نظام اعتقادي ولا يمكن تجاوز هذه الحلقات فالأمر هنا يتعلق أيضاً بعلم اجتماع المعرفة ومن ناحية أخرى فإن تطوير النموذج المعرفي التوحيدي ضرورة لاستعادة قدرة الأمة على توليد العلوم ففي عصور الحضارة الإسلامية الزاهرة عمل العلماء المسلمون في إطار نموذج معرفي وسلوكي واضح ومن ثم استطاعوا إعادة تركيب علوم الحضارات الأخرى وفق نموذجهم المعرفي فتحولت إلى مادة جديدة أما الآن فإن الباحثين المسلمين في ظل تطور العلوم الاجتماعية في إطار نموذج معرفي مسيطر لا يمكنهم تركيب علومهم مع علوم الباحثين الاجتماعيين الغربيين دون الوقوع في درجة أو أخرى من درجات الانتقائية والتلفيق.
لا ينفي ما سبق ضرورة الحوار مع النموذج المعرفي السائد وبالأخص مع الاتجاهات المهمشة فيه في ظل الإحساس بأزمته المعرفية فهذا الحوار هو حوار إنساني يرتهن به مستقبل المعرفة الإنسانية كما أنه أحد مداخل إعادة اكتشاف الذات وتجديدها.


التواصل بين العلوم الاجتماعية والشرعية
تمتاز الحضارة الإسلامية بأنها حضارة مدارها النص فاستمر النص طيلة سبعة قرون هي قرون إيناع هذه الحضارة منشئاً للعلوم والآداب ومحركاً لها من منطلق معرفي يعبر عن معرفة الله تعالى وفقاً لنظرة الإسلام في تصنيف العلوم إلى العلم الممدوح الذي ينفع الناس في دنياهم وأخراهم والعلم المذموم الذي لا يفيد منه الناس ويضرهم ومن هنا كانت الجهود الرائعة التي بذلها العلماء المسلمون مثل ابن حيان والخوارزمي لتصنيف العلوم تصنيفاً يعكس روح الحضارة الإسلامية وينفتح في الوقت نفسه علىتراث الحضارات الأخرى فنجدهم في تصنيفهم للعلوم الرئيسة والفرعية للفلسفة ويدرجون بعض العلوم التي ذكرها أرسطو لكنهم يغفلون القسم الثالث من أقسام الفلسفة عنده وهو قسم الفلسفة الإنتاجية إلا أن هذا لم يمنع تسرب تصورات الفكر اليوناني بما وراءها من فلسفات وعقائد إلى مجال تصنيف العلوم على يد النتأثرين بهذا الفكر مثل الكندي والفارابي وأيما كان سبب تأثرهم بتصنيفات العلوم اليونانية فإن الخطير أنهم صنفوا العلوم إلى علوم إلهية وعلوم نقلية لا مدخل للعقل فيها وهذا أمر خطير فلا مشكلة في القول بأن هذه العلوم منقولة لآنها فعلاً كذلك لكن أن يقال أنه لا مدخل للعقل فيها فهنا مكمن الخطورة لأن هذا يعني دق إسفين ووضع فاصل لا وجود له في الحقيقة بين العقل وهذه العلوم وهذه رؤية منقولة من التراث اليوناني الذي كان يصنف الإلهيات في مجال اللامعقول وربما كان هذا التصنيف أحد العوامل التي أدت في مرحلة لاحقة لضمور عقل المسلمين في مجال الاجتهاد العلمي.
يضاف إلى هذا أن تقسيم الأحكام باعتبار المنشأ والسبب إلى أحكام حسية وأحكام عقلية وأحكام شرعية وإن لم يقصد به فصل الدين عن الحس والعقل فإنه قد أدى إلى نوع من الفصام المنهجي بين العلوم تأكد مع تصنيف العلوم إلى علوم شرعية وعلوم غير شرعية من رياضيات وطبيعيات.. و جرى تقسيم العلوم الشرعية إلى علوم المقاصد من علوم القرآن الكريم والحديث والفقه وأصول الفقه وعلوم الوسائل مما يتوسل به من علوم اللغة والمنطق لمعرفة قضايا علوم المقاصد.
ثم وفدت العلوم الاجتماعية الغربية إلى العالم الإسلامي وقد تسلحت بوفرة محصولها العملي على ما يعتور مناهجها من قصور ونقص في وقت تعرض فيه الدين لمحاولات حصره في حيز ظيق بعيداً عن مناحي الحياة الاجتماعية فكان هذا الانقطاع بين الوحي والواقع في كثير من المجتمعات الإسلامية.
ومن هنا كانت إسلامية المعرفة لوصل ما انقطع بين معارف الوحي وعارف الواقع وتجسير الفجزة بينها كعلوم عمران هي علوم إنسانية باتساع نظرتها العالمية في الزمان والمكان دون تمركز حول خبرة إنسانية معينة أخذت المنحى المادي الوضعي وهي علوم عمران إنسانية لأنها غير مصابة بداء الإعراض عن الوحي والدين والدوران في حلقة الذاتية والحسية وتستجيب لمقتضيات النظرة التكاملية للمعرفة العلمية التي تستفيد من بصائر الوحي.
ويتحقق هذا الوصل من خلال الاستعارة والإفادة المتبادلة في المفاهيم والمنهجيات والأدوات بين العلوم الاجتماعية وما اصطلح عليه بأنه العلوم الشرعية مع الوعي بضرورة المراجعة الدائبة والتجديد في كل من هذه العلوم كمقدمة لازمة لوصل هذه العلوم.
ولعل أول مقدمات هذا الوصل كسر الحاجز الإدراكي بين المشتغلين بالعلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية والتراث الإسلامي بوجه عام وفهم الرؤية الكلية للعقل المسلم الذي أنتج هذه العلوم وتصور في ضوئها العالم والأنساق الكونية فبنى نسقه على الإيمان بالمطلق وما يستتبعه من المزج والوصل بين مصدري المعرفة : الوحي والوجود.
ومن أهم دعائم هذا الحاجز الإدراكي تصور العلوم الشرعية ضمن التراث عموماً كانقطاع عن الحاضر فهي ليست حاضرة فينا بل هي في أفضل الأحوال أحد الروافد التي يمكن أن نبحث فيها لبناء شخصيتنا الفكرية شأنه شان التراث الغربي ومن هذا الفهم كانت الثنائيات الغريبة عن التراث والمعاصرة أو التراث في مقابل الحضارة الغربية.
يضاف لهذا أن ازدواجية النظام التعليمي بين ديني ومدني قدأدت لصعوبة إحاطة الكثيرين بمعالم هذه العلوم خاصة مع تطور التأليف في العلوم الشرعية وتطور أسليب الكتابة فيها بما تضمنته من مصطلحات خاصة في تدوينها فلم يتعرف الكثيرون على الثروة العلمية في هذه العلوم بل وانقطعت صلتهم بتراث الحضارة الإسلامية ككل ولم يتعرفوا عليه إلا من خلال جهود نشر التراث التي قام عليها المستشرقون والقراءات المشوهة التي قدموها للتراث فقد اهتم المستشرقون وأشياعهم في جانب كبير من أعمالهم بالمذاهب الشاذة وتيارات الغلو وبالشخصيات القلقة في التاريخ الإسلامي لغرس الإحساس بعدم وجود وحدة للعقيدة أو الحضارة ومن ثم تعاملوا بشكل انتقائي مع التراث.
وفي المقابل فإن ثمة نظرة شك للعوم الاجتماعية كعلوم وافدة يقوم أكثر تصوراتها على القيم الغربية وعلى التراث اليوناني المسيحي ذي الأصول الوثنية
ومن ثم تحركت جهود مدرسة إسلامية المعرفة على جانبين أولهما تأصيل العلوم الاجتماعية في البيئة الإسلامية والآخر بيان المجالات المتعددة التي يمكن أن تسهم فيها مناهج العلوم الاجتماعية فيمكن أن يستفيد عالم الأصول على سبيل المثال من مناهج العلوم الاجتماعية وأدواتها في معرفة العرف ومعرفة العادة ومعرفة الضرر ومعرفة المحاجة وكل هذه القضايا قواعد اصولية وجزء من قضايا هذا المنهج كما يمكن الاستفادة من الدراسات اللغوية الحديثة مثل علم الدلالة semantics وما يشتمل عليه من تحليل للكلمات ومردودها وعلاقة هذا بالحقيقة والمجاز ودرجات هذا المجاز بما يؤدي إلى فتح أبواب لفهم المصادر الشرعية فهماً يتيح توصيف الواقع وإيقاع الحكم عليه بطريقة أدق مما هي عليه الآن الأمر الذي يحقق المعادلة الدقيقة بين دقة الحفاظ على مناهج السلف الصالح وعدم الوقوف في الوقت نفسه عند المسائل المثارة عندهم كما أن إعمال العقل – كمنهج وليس كمصدر – للأحكام يفسح مجالاص للاستفادة من مناهج العلوم الاجتماعية أما عند إيقاع الحكم الشرعي على الواقع فإن هذا التطبيق يدخل فيه كثير من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعد مجالاً خصباً للعلوم الاجتماعية ويجب أن يراعيها الفقيه حتى يكون اجتهاده مصيباً للحقيقة ويرتبط بذلك ترجمة المبادئ والقيم الإسلامية مثل الشورى او فريضة الزكاة إلى مؤسسات اعتماداً على ما تقدمه العلوم الاجتماعية من دراسة للخبرات الإنسانية المختلفة.
أما على جانب العلوم الاجتماعية فإنها يمكن أن تستفيد استفادة محققة من علم المنهجية الأول وهو علم أصول الفقه إلا أن هذه الاستفادة ستكون أكبر - كما يرى العديد من الباحثين – بتجديد النظر في علم أصول الفقه سواء من حيث أسلوب عرضه وتقريبه بعمل القوائم الببليوجرافية وإعداد مكانز وفهارس ومعاجم لعلم الأصول أو من حيث إعادة هيكلة هذا العلم لوصله بواقع الحياة فقضايا الأصول في ادبيات الفقه أصبحت برأي بعض الباحثين تؤخذ تجريداً
ويندرج في إطار إعادة الهيكلة هذه تقديم تقسيمات فقهية جديدة تتيح التوسع في الموضوع محل البحث ويمكن أن يتولد منها فهم أعمق واستعمال لأداة الأصول أفضل مما يؤدي في النهاية إلى فقه متجدد خادم للموضوعات المثارة في عصرنا الحاضر
وقد سعى بعض علماء الصول لربط المباحث الأساسية لعلم الأصول بمنهج العلم الحديث باعتبار أن علم أصول الفقه يشمل معرفة الدلائل الاجمالية وكيفية الاستفادة منها ومعرفة حال المستفيد والمجتهد وهي أمور تناظر محددات المنهج العلمي من تحديد مصادر المعلومة وكيفية التعامل معها بطرق البحث وأدواته والشروط التي يجب أن تتوافر في الباحث ويحاول طرح نظريات أصول الفقه الأساسية كأساس للاستفادة المتبادلة بين علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية حيث يقصد بالنظرية مقولة جامعة تنتظم حولها المسائل الفرعية وتتعلق بتحديد مفهوم الأمر وأركانه وأقسامه وشروطه ومن أهم هذه النظريات:
نظرية الحكم سواء الحكم التكليفي أو الوضعي فقد وضع علم أصول الفقه أصلاً لضبط التكاليف (افعل ولا تفعل ) واستنباط الأحكام المتعلقة بهذه التكاليف من النصوص وتعتبر هذه الأحكام مصدراً للتوجيه بل ومصدر تأسسيسس في الشق القيمي والمعياري من العلوم الاجتماعية فإلى جانب الشق الموضوعي من العلم الذي يتعلق بالسنن الحاكمة لعالم المادة والإنسان ثمة شق معياري ينبع من فلسفة العالم والمجتمع ويصبغ العلم بصبغته الخاصة فنجد تطبيق القواعد العلمية الثابتة – كقانتون العرض والطلب مثلاً - في بيئات فكرية مختلفة يؤدي لنتائج مختلفة وفقاص لاختلاف المعايير السائدة في المجتمع ويتمثل الجانب المعياري إسلامياً في هذه الأحكام التكليفية التي تعنى بها نظرية الحكم
أما الأحكام الوضعية فتتعلق بوضع الأشياء (العلاقات) إزاء بعضها بعضاً ومن مباحثها العلية والأمارة والمانع والشرط ويمكن أن تعد من الأدوات الضابطة لعملية صياغة الفروض والقوانين العلمية المختلفة.
وهناك نظرية الدلالة التي تهتم بمسألة العلاقة بين اللفظ والمعنى بغرض معرفة مراد المتكلم من كلامه وفي إطار هذه النظرية طور العلماء علم الوضع (أي وضع الألفاظ إزاء المعاني) فميزوا فيه أنواع اللفظ وبحثوا دلالة الحمل ودلالة الاستعمال ومن مسائل هذه النظرية دلالات المنطوق والمفهوم والمجمل والمبين والمنطلق والمقيد والخاص وكلها مسائل يمكن أن تساعد في ضبط لغة العلوم الاجتماعية.
ومن نظريات علم الأصول نظرية الإفتاء التي تشتمل على معرفة مقاصد الشرع والترجيح بين الأدلة ومن مباحثها فك التعارض بين الأدلة ومن العلوم التي تتصل بها علم اختلاف الفقهاء والمحدثين الذي يقوم على البحث في أسباب هذا الاختلاف وتتبع أصول العلماء المختلفين للكشف عن السبب الذي أدى بكل منهم إلى النتيجة التي انتهى إليها وهو علم يمكن أن يفيد في عملية التحليل المقارن التي تمثل واحدة من العمليات التي تمر بها المناهج العلمية كما أن مباحث مثل مبحث حق الله تعالى (الذي أشار إليه الفقهاء باعتباره حق المجتمع) ومبحث حق الله تعالى وتصنيفات الفقهاء المختلفة لهذه الحقوق من المباحث التي يمكن أن تفيد منها العلوم الاجتماعية في تبين النزعة الإسلامية بين النزعتين الفردية والجماعية أما مقاصد الشريعة فتقدم الخطوط الإرشادية والمظلة العامة للعلوم الاجتماعية والإطار العام لأخلاقيات العلم.
ولعل في هذه العناوين إشارة إلى الإمكانات التي يحملها هذا المشروع العلمي لتصحيح مسار حركة العلم ووضعها ضمن إطار يستعيد للإنسان اعتباره وحريته.
المصادر والمراجع :
1- موسوعات:
الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية
2- كتب
- إبراهيم العبادي، جداليات الفكر الإسلامي المعاصر ،(بيروت: دار الهادي للطبع والنشر والتوزيع 2001)
ـ جورج جوروفيتش ، الأطر الاجتماعية للمعرفة ، ترجمة : د . خليل أحمد خليل ، ( بيروت :المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1981 ) .
ـ راجع عبد الحميد الكردي ، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة ، ( القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1993 ) .
ـ نصر محمد عارف ( محرر ) ، قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي( القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1997 ) .
ـ نصر محمد عارف ( محرر ) ، قضايا المنهجية في العلوم الاجتماعية والإسلامية ( القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1997 ) .
ـ عبد الرحمن بن زيد الزبيدي ، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي : دراسة نقدية في ضوء الإسلام ، القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1993 ) .
- علي جمعة ، الطريق للتراث افسلامي:مقدمات معرفية ومداخل منهجية (القاهرة:دار نهضة مصر ،2004)
ـ محمد عمارة ، تيارات الفكر الإسلامي ، ( القاهرة : دار الشروق ، 1991 ) .
- محمد فتحي الشنيطي، المعرفة ( القاهرة : مكتبة القاهرة الحديثة )
- محمد هيشور، سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، ( القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1997) .
نادية مصطفى، سيف الدين عبدالفتاح (مشرفان) دورة المنهاجية في العلوم الاجتماعية حقل العلوم السياسية نموذجاً(القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومركز الحضارة للدراسات السياسية،2000
3- رسائل علمية
ـ مجدي محمد شفيق ، فيصل بدير عون ( مشرف ) ، مشكلة المعرفة عند ابن تيمية والمدرسة الأصولية ، أطروحة دكتوراه ( جامعة القاهرة : كلية الآداب ن 1993 ) .
4- دوريات
- إبراهيم عبدالرحمن رجب ، المعرفة والعلم ، المسلم المعاصر العدد 92 السنة 23
ـ عرفان عبد الحميد فتاح ، الإطار الفكري العام لنظرية المعرفة في القرآن الكريم ، مجلة إسلامية المعرفة العدد الخامس عشر ، شتاء 1999.
محمد عبده صيام ، حطط التصنيف للفلاسفة والعلماء المسلمين ، ، المسلم المعاصر العدد 67و 68 السنة 17 1993
محمد عمارة، إسلامية المعرفة كبيل فكري للمعرفة المادية، المسلم المعاصر العدد 63 السنة 16 فبراير 1992 .

0 Comments:

Post a Comment

<< Home