الأزهر بين الحكومة و الإسلاميين
الأزهر بين الحكومة والإسلاميين
ستيفن باراكلوف
لقد نقلت الحكومة المصرية منذ تولى حسنى مبارك الرئاسة سنة 1981 مسؤوليات إدارية هامة للأزهر لإظهار طابعها الإسلامى .و قد استخدمت هذه المؤسسة العتيقة للتعليم العالى هذه السلطات من جانبها لدفع جدول أعمالها الخاص للمقدمة و تصعيد دورها فى صنع القرار فظهر الأزهر كقوة تعمل لصالحها هى لتأخذ مكانها الدقيق بين الحكومة و الإسلاميين.
ففى الوقت الذى زادت فيه جاذبية النزعة الإسلامية فى مصر حاول نظام حسنى مبارك بشكل نشط أن يظهر نفسه كحكومة شرعية إسلامياً وكما يصف المفكر و السياسى العلمانى المصرى البارز رفعت السعيد الوضع فيقول " إنها [ أى الحكومة] تقوم من ناحية بمحاربة الإسلاميين الذين يعلنون أو يدعون من ناحية أخرى أنهم أشد إسلاماً من الآخرين "
قامت الحكومة لتكتسب هوية إسلامية بنقل مسؤوليات إدارية للأزهر المؤسسة العتيقة للتعليم العالى التى تملك الآن بتلقيها لهذا الرأسمال السياسى الكبير قوة كافية للتصرف كقوة ثالثة فى المجال الواقع بين الحكومة و المعارضة الإسلامية.
يعنى هذا المقال بقضايا الإدارة و التحكم مبتدئاً بالضم التاريخ للأزهر تحت حكم عبد الناصر (1954- 1970) و ما تلا ذلك من توظيفه كوكالة حكومية ثم تنتقل بؤرة الاهتمام إلى العلاقة بين الأزهر و الحكومة من 1982 – 1996 التى تزامنت مع تولى مبارك الرئاسة سنة 1981 و تنصيب جاد الحق على جاد الحق شيخاً للأزهر من 1982 حتى وفاته 1996فهذه الفترة هى التى نقلت الحكومة خلالها وظائف إدارية هامة للأزهر الذى أصبح تحت قيادة جاد الحق راغباً بشكل متزايد فى متابعة قائمة أعماله الخاصة.
يظهر التناقض بين فترتى عبد الناصر و مبارك التحول الهام فى علاقات القوة الذى اخذ مجراه فى العقود الأربعة الماضية و تنعم خاتمة المقال النظر فى الاتجاهات المستقبلية المحتملة فى المشهد السياسى المصرى الناشئة عن هذا التغير .
الأزهر أسيراً للدولة
منذ 1952 و الدولة تعبئ الرموز الإسلامية عندما تستدعى الظروف السياسية ذلك فمثل غيرها من النظم الأخرى فى العالم العربى تطلبت الحكومة درجة معينة من الشرعية الدينية إلى أن تطور شرعية بنيوية اكبر فمنذ انقلاب الضباط الأحرار 1952أصبحت القومية العربية الموضوع الخطابى الأساسى للدولة المصرية و مع ذلك ضمنت الحكومة فى شعاراتها فى مراحل سياسية حساسة أفكاراً دينية أيضاً.
فبعد انقلاب 1952 مباشرة أخذ بعض الضباط لأنفسهم الامتياز التاريخى للحكام المسلمين الذى يخولهم إلقاء خطبة الجمعة كما قام عبد الناصر بالحج إلى مكة خلال الصراع المحتدم مع الإخوان المسلمين و على اثر الهزيمة العسكرية 1967 اتخذت الحكومة الدين ملاذاً لها و حضر قادة النظام الصلاة فى المساجد بعد الهزيمة مباشرة و استخدم ناصر وسائل دينية ليضع عن نفسه بعض اللوم محتجاً بأن " الله أراد أن يعلم مصر درساً " و أنه "كان على الأمة أن تقبل هذا الامتحان باعتباره قدرها "
لقد كان الأزهر - مؤسسة التعليم العالى و الشريعة- الجزء المحورى فى استراتيجية الحكومة فى تعبئة الرموز الإسلامية فكما لاحظ المفكر المصرى كريم الراوى" احتاجت الحكومة الأزهر ليخلع عليها مظهر الشرعية الإسلامية"
إن مسح علاقة الحكومة بالأزهر بنظرة عامة تكشف عن أن الأزهر عمل تحت حكم عبد الناصر و خلفه السادات (1970-1981 ) كأحد أجهزة الدولة و أن دور الأزهر لم يتغير بشكل له دلالاته إلا تحت حكم مبارك حيث دعت الحكومة بشكل متكرر خلال نضالها الممتد ضد جماعات الإسلاميين و على وجه الخصوص الإخوان المسلمين الأزهر إلى إصدار البيانات التى تبرر الحملات ضد الإسلاميين و تؤيد إدخال التشريعات التى كانت – بدون هذا التأييد – ستثير مزيداً من المعارضة الدينية .لقد ضمت حكومة ناصر الأزهر بشكل فعال بعد استحواذها على السلطة مباشرة و أخضعت الدولة العلماء للضغوط حتى يؤيدوا سياستها بما أدى للمقاومة السلبية أو حتى استقالة بعض هؤلاء العلماء و إتاحة الفرصة لتعيين المتعاطفين مع الحكومة و منذ الانقلاب العسكرى ظهرت بشكل متكرر سيطرة سلطة الدولة على العلماء ففقد الأزهر سيطرته على قانون الأسرة الذى أدمج فى القانون المدنى و فى سنة 1961 أخذت الحكومة على عاتقها مهمة الإصلاح الكامل للأزهر بإضافة كليات علمانية إليه و قوبل هذا التدخل الصارخ فى حينه بإطراء العلماء الممتنين له و وصل الأزهر أدنى أوضاعه خلال محاكمة مجموعة الإسلاميين التى تعمل تحت الأرض متبنية خطاً متشدداً "جماعة المسلمين" فى محكمة عسكرية سنة 1978 فقد وضع بعض علماء الأزهر فى قفص الاتهام و تم توبيخهم على عدم فعاليتهم فى نشر رؤيتهم المؤيدة لرؤية الحكومة للإسلام و على عدم إدانتهم هذه الجماعة الراديكالية قبلها فى وقت مبكر .
و للحكومة ، حتى الآن ، سلطة تعيين شيخ الأزهر و هو الحق الذى مارسته مؤخراً فى مايو 1996 عندما رقت الشيخ محمد السيد طنطاوى بعد وفاة جاد الحق .
يتمثل دور الأزهر الأساسى – و أهم ما تهتم به الحكومة – فى إقرار سياسات النظام و شجب معارضتها . و لما كان الإسلاميون المصدر الرئيسى لمعارضة الحكومة فى مصر فإن إلقاء الأزهر اللوم على الإسلاميين يلقى بالشك على شرعية و مصداقية الانتقادات الدينية للحكومة فقد انحاز الأزهر بلا تحفظ إلى جانب الحكومة فى الصراع المحتدم بينها و بين الإخوان المسلمين عامى 1953-1954 فوصف الأزهر كتاب "معالم على الطريق" الذى ألفه الكاتب الإسلامى الراديكالى الشهير سيد قطب بأنه كتاب مقيت و أدين مؤلفه باعتباره منحرفاً من الخوارج و عندما ثارت مشاكل أكبر بين الحكومة و الإخوان فى منتصف الستينات أصدر الأزهر – من تلقاء نفسه – بياناً عاماً يؤيد النظام و يشجب المعارضة بل و أمد الأزهر الرئيس السادات بتبرير إسلامى للتوصل لمعاهدات كامب ديفيد سنة 1978-1979 كدليل بين على مناصرة الأزهر لسياسة الحكومة حيث كان الأزهر قد أصدر فتوى سنة 1956 تعارض السلام مع دولة إسرائيل كما جادل شيخ الأزهر الأخير جاد الحق بأن أولئك الذين يستخدمون العنف ضد الدولة ليسوا مسلمين لأنهم يهاجمون المجتمع الإسلامى و ذهب فى تصريح لصالح الحكومة لتلقيبهم بالخوارج و وصى بتطبيق العقوبات القرآنية مثل بتر أطرافهم عليهم .
و كانت هذه التصريحات تشير إلى جماعات الإسلاميين التى تشن حملة قتالية لتقويض الحكومة أى الجماعة الإسلامية و الجهاد الإسلامى و طلائع الفتح و مما له دلالاته أن جماعة الإخوان المسلمين برغم حظرها لا تتسامح مع التغيير العنيف و من ثم لم تشملها إدانة الأزهر .
إن ثمة خطوات قريبة العهد لتمديد دور الأزهر فى الوقت الذى يشتد فيه النضال ضد الإسلاميين فتخطط الحكومة لتعزيز سلطة الأزهر بجعله يتحكم فى كل المساجد الخاصة التى يقدر عددها بحوالى خمسين ألف مسجد بحلول عام 2002 و تنبع أهمية و دلالة هذا التحرك من حقيقة أن المساجد الخاصة المعروفة بالأهلية حيوية لتجنيد و تنظيم الإسلاميين و بشكل مماثل لفتت صحيفة مصرية الانتباه إلى "تقرير امنى أصدره طرف مستقل عالى المستوى " يدعو لتحذير الدولة من الحركة السلفية و هى حركة دينية محافظة يزعم أن لها روابط مع الإسلاميين المناضلين و ذهب التقرير إلى التوصية بتجنب الحكومة المواجهة مع الحركة مفضلاً " مواجهة علماء الأزهر و وعاظه أفكار الحركة السلفية بشكل فعال و مناقشة الكتب التى يقرأها و يدرسها أعضاؤها " .
لقد تم ضم الأزهر فى عهدى ناصر و السادات فى سياق سياسى كان للدولة فيه دعاواها المتميزة بالشرعية اعنى دعمها للاشتراكية و القومية العربية و وقت تولى مبارك الرئاسة كانت هاتين القضيتين قد ضعفتا إلى حد كبير فسياسة الانفتاح الساداتى مثلت علامة بارزة على التحول لاقتصاديات السوق الحر على حين بدأ التقارب بين مصر و إسرائيل مع اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1979 و استمرت الانقسامات الرئيسية فى العالم العربى .
و عندما نتحول لدراسة نمو قوة الأزهر فى السنوات الأخيرة يجب أخذ السياق الأوسع – أى الخواء الأيديولوجى لسلطة الدولة- فى الاعتبار .
الأزهر كفاعل مستقل
قد يبدو مما سبق أن الأزهر استمر يعمل كتابع مدين بالفضل للحكومة إلا أن الحال لم يكن كذلك إذ كان ثمة تغير دقيق فى كلمات الأزهر ففى موضوع المتطرفين على سبيل المثال أوجز شيخ الأزهر فى أكتوبر 1994 أسباب صعود الحركات الإسلامية موضحاً كيف ظهرت كرد فعل لسوء تناول الدولة للأمور الدينية و استهدف بحديثه الإعلام الذى تسيطر عليه الدولة قائلاً:"تسيطر الجماعات الأخرى على الإعلام و بدأت فى العمل على تغيير التفكير الاجتماعى و التقاليد المصرية الإسلامية بطريقة لا تتفق مع عقيدة هذا المجتمع و هو ما أثار معضلة أمام المواطنين بين معتقداتهم الخاصة و المبادئ الأخرى المفروضة عليهم "و أتبع الشيخ هذا التصريح بنقد قوى لسعى الدولة للتحكم فى الدين ملمحاً لاستراتيجيتها فى ضم الأزهر قائلاً :"لقد حاولت هذه الجماعات أن تغير المبادئ الإسلامية معطية نفسها سلطة تفسيرها بما يوافق أهواءها و الحديث بجهل فى الأمور الدينية و وقعت أحداث أخرى مكنت هذه الجماعات من إحكام سيطرتها و حيازتها لفرص أكبر لتخريب البنية الاجتماعية و توجيه الاتهامات العشوائية للمسلمين و تقويض وضع العلماء "
لقد كان الشيخ دبلوماسياً بحيث أنه لم يحدد من الذين يعنيهم بقوله "هم" إلا أن الرسالة كانت واضحة للقارئ المطلع فعلى الحكومة ان تطلق يد الأزهر فى الحديث عن الأمور الدينية إذا ما أرادت حججاً إسلامية لها مصداقيتها ضد المناضلين الإسلاميين و ذهب شيخ الأزهر إلى أبعد من ذلك ليحاجج بأن هؤلاء المناضلين ظهروا كرد فعل على هجمات المثقفين و الإعلام على الدين و بسبب الآثار الاجتماعية للظروف الاقتصادية المتغيرة و سوء تناول هيئات الدولة للدين فكانت توصيته بإعطاء الأزهر كلمة أكبر فى المجالات الهامة فى السياسة الاجتماعية فمن خلال تحديد الزهر للتفسير الصحيح للتدين "ستتجنب الأمة مخاطر وجهى التطرف : انحلال العلمانيين الأخلاقى والمناضلين الإسلاميين بتفسيرهم الخاطئ للدين " و خلص الشيخ إلى قائمة بعدد من الخطوات التى يجب على الحكومة اتخاذها و التى إذا ما طبقت ستعزز من قوة الأزهر السياسية إلى حد بعيد.
إن هذه الدفعة من الأزهر أكثر من طلب عادى يقدمه البيروقراط لمزيد من التمويل أو دور أكبر لإدارتهم فهى تشير لعملية يحاول الأزهر فيها تحرير نفسه من وصاية الحكومة و ان يصبح قوة تعمل لحسابها الخاص .
إن تمحيصاً دقيقاً لمساعى الأزهر فى مجالات النزاع بين الحكومة و الإسلاميين يكشف عن أن الأزهر يسعى لاستخلاص أقصى ما يمكنه من سلطة من الدولة فى الوقت الذى يحاول فيه الحفاظ على مسافة بينه و بين كل من الحكومة و الإسلاميين فظهر نمط خاص من هذا النضال الثلاثى الجوانب فأولاً هناك جماعات الإسلاميين التى تشيع الانتقادات ضد الحكومة – برغم أنها غير مشروعة قانوناً- لإخفاقها فى تدعيم الأخلاقيات فى مجال معين فتستجيب الحكومة لهذا النقد بالدفاع عن تصرفاتها و تقوم – تأكيداً لصوابها إسلامياً- بنقل سلطات إدارية هامة إلى الأزهر فى هذا المجال و ثالثاً – و فى أكثر المراحل دقة – يستخدم الأزهر بعدها هذه السلطات الجديدة إما للضغط لمزيد من رفع شأنه فى شؤون الدولة أو وصولاً لمركز من غير المعتاد أن يتوافق مع ما تريده الحكومة له.
و على الرغم من أن بيانات الأزهر أقل حدة من تلك التى تصدرها جماعات الإسلاميين الخارجة عن القانون فإنها - مع ذلك – تظهر نوعاً من الاستقلال عن الدولة و فى بعض الأحيان كانت الدولة تمتن بالاستجابة لبيانات الأزهر و لما كانت الحكومة قد وضعت أغلب مصداقيتها فى هذه المؤسسة لم يعد بمقدور الحكومة معارضتها علاوة على ذلك فبقدر محاولة الحكومة تأسيس مظهرها الإسلامى بقدر ما لم يعد هناك مكان للتحول و التراجع و تظهر الحالات الدراسية التالية لمجالات متنوعة من الصراع السياسى تخلى الدولة تحت ضغط الإسلاميين أكثر فأكثر عن سلطات للأزهر.
هجمات الأزهر على المثقفين
يعرض التحرك مؤخراً ضد المثقفين هذا التوجه بشكل جيد فالمثقفون هدف مفضل للإسلاميين نظراً لاتجاهاتهم الشكية و تحطيمهم الصورة المقدسة للمناضلين الإسلاميين و تأثير الغرب المريب على تفكيرهم و تباع شرائط مسجلة أمام المساجد تحمل عناوين مثل "الفن بذاءة" و "بذاءة المجتمع الفنى" و ظل المثقفون ضحايا العنف المباشر فقد تعرض نجيب محفوظ الروائى الحائز على جائزة نوبل للطعن خارج بيته لأن إشارته بطريق المجاز للأنبياء فى كتاباته عدت تجديفاً فى حقهم أما القضية الأكثر خطورة فكانت مقتل المثقف فرج فودة سنة 1992 بعد أسبوعين من إعلان الشيخ الغزالى –أحد علماء الأزهر البارزين- ردته حيث أضافت الجماعة الإسلامية التى تعمل تحت الأرض لدى ادعائها المسؤولية عن قتله أنها بذلك كانت تنفذ حكم الأزهر . لقد كان فودة ناقداً عالى الصوت لإدخال الدين فى السياسة و كان نقده الحاد للحكومة والأزهر و الإسلاميين على نفس الدرجة من الحدة و أدى مقتله لحركة قوية بين الطبقة المثقفة ( الانتلجنسيا) المصرية و تكوين الجمعية المصرية للتنوير و لما لم يبد الشيخ الغزالى أى ندم على إصداره البيان الذى أدى لمصرع فودة نجح المجتمع الثقافى فى الضغط على الحكومة لمنع الغزالى من التلفزيون الذى كان يلقى منه العظات الدينية و لكن حتى فى جرأتهم و تحديهم كان العلمانيون يظهرون وعياً واضحا برجحان الجانب الآخر الذي يقف ضدهم " بمصرعه [فودة ] اغتنت الأرض بدمائه و ظهرت الزهور متفتحةً فى مجتمعه و بين أنداده و وصل شذاها إلى سماء الأمة برغم رياح الاتهام القاسية بالردة "
ادعى المثقفون أن الأزهر اتصل هاتفياً بدور النشر لتحذيرها من طباعة المطبوعات التى تعتبر عدائية و اختارت الحكومة فى مواجهة هذا الضغط انسحاباً استراتيجياً منضمةً إلى الفريق الذي يدين المثقفين و تخلت عن سلطة أكبر للأزهر و كما أشار الراوى :"لم يعد المناضلين الإسلاميين وحدهم فهناك أعضاء البرلمان الذين عرفوا كيف يختطفون العناوين الرئيسية و لا شئ يضمن لهم الحضور على الصفحة الأولى الصحف من هجوم جيد على كاتب أو فنان".
و قد فتح هذا التهميش للمجتمع الثقافى الطريق أمام الأزهر لغزو المجالات الأوسع من الخطاب العام .
الأزهر و الإعلام
و إزاء خلفية تعاظم نشاط الإسلاميين فى مصر فى أوائل التسعينات طلب الأزهر من الدولة توضيح سلطته بجلاء فيما يخص تقديم بعد إسلامى فى الإعلام المطبوع و الإلكترونى و قامت الحكومة فى سنة 1994 بشكل له دلالاته بتبديل قوانين الرقابة على المطبوعات و خولت الأزهر سلطات جديدة و منح حكم مجلس الدولة رقم 58/1/63 الأزهر سلطة رقابة الإعلام الإلكترونى و خول مجلس البحوث الإسلامية داخله هذا الدور على أن يكون للشيخ جاد الحق الكلمة الأخيرة فى مشاورات المجلس و أصبح ما يتوصل إليه الأزهر ملزماً لوزارة الثقافة و أضيفت فقرة تشترط أن أحكام الأزهر محدودة بالقضايا الإسلامية على أن يكون للأزهر وحده تحديد ما يعد "قضايا إسلامية" و يمكن التقاط بعض مؤشرات دور الأزهر البارز فى تصريح وزير الثقافة فاروق حسنى نفسه عندما أعلن أن "الأزهر سلطة عليا و عندما يتكلم الأزهر يلتزم الجميع بالصمت"
و بإمكان الأزهر قانوناً أن يقوم فقط بدور فى الإعلام المطبوع عند تقديم شكوى له بخصوص مواد معينة إلا أن الحكومة كانت تواقة إلى إشغال الأزهر أو على الأقل أن ينظر إليه على أنه منهمك فى أمور النشر فقد هوجم وزير الثقافة فى البرلمان - فى سلسلة من الأحداث تظهر تراجع الدولة – لسماحه بمطبوعات فنية تصور موضوعات جنسية و أكد الوزير فى دفاعه قاعدة مراجعة الأزهر و تنقيته لكل المطبوعات الحكومية و دفع الأزهر بقوة لحيازة سلطات أوسع على رقابة المطبوعات و ربط شيخ الأزهر بشكل له دلالاته فى أحد بياناته فى فبراير 1995 بين النزعة الإسلامية النضالية و كتابات المثقفين حيث قال: " تهين بعض المجلات و الجرائد الدين و علماءه و يفسر كتابها و محرروها و كاتبوا أعمدتها الدين بشكل خاطئ فهم يقولون أموراً خاطئة عن الدين و يسيئون تفسير التعاليم الدينية ... و إذا قبلنا بأن تصرفات هذه المجلات مجرد تطرف و ليس تدميراً لمجتمع متدين ألا نتوقع ردود فعل عليها و أن هذه الأفعال ستعد تطرفاً".
و إذا واجه المثقفون اللوم لتحفيزهم المناضلين فإن على الأزهر مسئولية دعم الواجهة الإسلامية للحكومة فحاجج الشيخ جاد الحق فى تصريح منفصل بأنه يجب على الأزهر أن يتمتع بحق رقابة المطبوعات التى تعتبر ضد الدين : "تشوه هذه الكتب الدين و تستخف بمفاهيم الإسلام و أبنيته و تثير الخلط وسط الرأى العام و تقسم الناس ، إننا واعون بأشئلة الجيل الشاب فيما يتصل بالعديد من الأمور و كلها يدور حول الآراء السيئة التى تنشر فيما يخص البلد و الدين و الرأى العام و السلام بين الناس و أؤكد مرة أخرى أن الوقاية خير من العلاج و لو علم أولئك الذين يبثون السم ليجعلوا الناس يشكون فى ديانتهم و أفكارهم خطورة ما يقومون به لكفوا عنه و لما عاداهم أحد .إننا نواجه الجريمة قبل وقوعها فالإسلام دين وقائى."
استمرت شكاوى الإسلاميين من الإعلام الإلكترونى أمراً ثابتاً و لكنها تكثفت مؤخراً مع شن حملة قضائية ضد إعلانات الأفلام و الرسوم الكاريكاتورية للإسلاميين أما الحكومة فقد شعرت من جانبها بعدم الارتياح لاتجاه الممثلات الجديد لاعتزال مهنتهن و ارتداء الحجاب و تفاقمت التوترات بانتشار التلفزيونات الفضائية التى تقدم مجموعة واسعة النطاق من البرامج الدولية التى يصدم بعضها قطاعات محافظة من المجتمع المصرى .و كانت استجابة الحكومة – فى محاولة لتسكين الإسلاميين مرة أخرى – بإعطاء الأزهر دوراً فى هذه القضية و كان التحرك الأهم فى هذا الصدد حكم مجلس الدولة السالف الذكر الذى كفل – كما نشرته مجلة روز اليوسف – إرسال مخطوطات برامج التلفزيون كنوع من الروتين إلى الأزهر للموافقة عليها و أقرت مصادر حكومية بالبعد السياسى لهذه الاستراتيجية فكما وصفت ألفت حسن أغا رئيسة وحدة الإعلام فى مركز الدراسات السياسية و الاستراتيجية بالأهرام " كان إعطاء وقت أكبر لنجوم الأزهر فى التلفزيون جزءً من فكرة أن [الحكومة] تحتاج مواجهة الإسلاميين بمنظور دينى معتدل " و وصف محمود محى نائب رئيس القناة الفضائية المصرية هذه الاستراتيجية نفسها قائلاً: "إننا نحاول جعل المتطرفين [الدينيين] أكثر مصرية و أكثر علمية و ديمقراطية لذا نحاول جذبهم للمشاركة فى الفكر الوطنى"
و قد ناضلت الحكومة فى الجوانب الأخرى من الإعلام لينظر إليها على أنها تنجز مسؤولياتها الإسلامية ففى عام 1994 حظرت محافظتا دمياط و الدقهلية فى شمال مصر التلفزيونات الفضائية فى الأماكن العامة كالمقاهى و فى عام 1995 وضعت قيود على استيراد أدوات التلفزيون الفضائى فى تحرك عزاه صفوت الشريف وزير الإعلام للحاجة إلى حماية قيم المجتمع المصرى و أخلاقياته و تقاليده
و أظهرت جهود العلاقات العامة الحكومية التى صاحبت إطلاق القمر الصناعى المصرى الثانى في سنة 1995 وعى الحكومة الحاد بمجادلات الإسلاميين و عكس مقال منشور فى مجلة المصور المؤيدة للحكومة أصداء مقولات الإسلاميين مبرراً إطلاق النيل سات كجزء " من استراتيجية الحكومة الإعلامية " لمواجهة " الغزو الإعلامى الهمجى المتعدد الجوانب" و يشمل هذا الغزو –وفقاً لهذه المقالة – برامج العرى و الإباحية الجنسية " التى تكمل الهجمات الشريرة للمخدرات و الإرهاب التى تشجع و تمول من الخارج " و يستمر المقال قائلاً " إن البرامج المصرية ستواجه الهجوم لأنه من المنطقى القول بأن الفكر الصحيح هو الطريق الوحيد لإبعاد الفكر المدمر " و يذكرنا الخطاب هنا بخطاب المرشد العام للإخوان المسلمين محمد حامد أبو النصر – المقتطف عاليه - مع الإشارة إلى التأثير الأجنبى المفسد الذى يقوض أخلاقياً الكيان المحلى الخالص و يختتم المقال بالثناء على أولئك الذين أسهمت خدماتهم فى إطلاق النيل سات بما فيهم العلماء المباركين .
إلا أن الأزهر استمر فى السعى لمزيد من القوة ففى مقال منشور فى أوائل سنة 1995 يأسف جاد الحق لأن " العديد من الأشياء السيئة فى التلفزيون تغطى على الأشياء الطيبة و تبدد عوائدها فالأمور التجارية تقدم بشكل يهين الأخلاق و الفضائل و الذوق العام و كما نعلم فإن لكل فعل رد فعل مضاد و مساو له "و يتوسع الشيخ جاد الحق فى مقولته عن الحاجة لضبط الإعلام لتفادى التطرف داعياً الأجهزة الإعلامية للتوقف عن " نشر الانقسامات و التشهير و الكراهية لأن قلوب الشباب رقيقة و تتأثر بالاتهامات التى يقرؤونها أو يسمعونها"
و هكذا مدت شكاوى الأزهر القديمة قوته و دوره المستقل فى المجتمع المصرى .
الأزهر و المؤتمر الدولى للسكان و التنمية
يقدم الجدال الذى أحاط بالمؤتمر الدولى للسكان و التنمية المنعقد فى القاهرة سنة 1994 رؤى أخرى متعمقة للمناورات الأيديولوجية الفطنة للأزهر بين الحكومة و الإسلاميين و فتح الإخوان النقاش بإدانة جلية للمؤتمر باعتباره مؤتمراً شيطانياً و دعت فى تحد الأزهر ليقوم بالأمر نفسه : " أيها العلماء المسلمون ..يارجال الأزهر ..هذا يومكم الذى يجب أن تقولوا فيه الحقيقة و تفصلون الخير عن الشر و ترشدون الناس لما يرضى الله فى شؤون دينهم و دنياهم .تجمعوا فى مؤتمر عام للعلماء المسلمين و ليس مؤتمراً تفتتحه و نموله وتلهمه الولايات المتحدة أو أى من اعداء الإسلام الآخرين ثم أخبروا الناس أين الحق و أين الضلال و لا تخافوا حاكماً باطشاً و لا اضطهاد مضطهد "
و بعد اقل من شهر و فى 17أغسطس 1994 استجاب الأزهر وفقاً لذلك فشجب الأزهر المؤتمر على أساس ما توصل إليه مجلسه للبحوث الإسلامية لافتراض المؤتمر أن زيادة السكان تجلب الفقر و لمبدئه بقبول شرعية العلاقات الجنسية خارج الزواج و اجتذب موقف الأزهر مديح الإخوان المسلمين : "صان الله مصر من الشرور التى تستهدفها و حمى الأزهر و هدى علماء الإسلام لتعليم الناس و قاد المتولين لأمور الشعوب الإسلامية للعمل بكتاب الله و الالتزام بالشريعة منهاجاً و فى سلوكهم و نبذ كل ما لا يتفق أو يتعارض معها "
و بكل الحماس أعلم الرئيس مبارك أنه " لا تستطيع أى قوة أن تجبرنا على أية ممارسات ترد عليها التحفظات من الناحية الدينية " و كان هذا التصريح غامضاً فى مضمونه لكنه دفاعى بشكل لا لبس فيه فى طبيعته و تحول المؤتمر من نصر للدولة و مسعاها لتخفيض معدلات المواليد إلى استعراض قوى لقوة الوجدان الدينى المحافظ فقضى رد الفعل على المبادرة و تحرك الأزهر ببراعة ملقياً بثقله وراء الإخوان المسلمين و بالتالى ضمن أنه لم يعد هنالك خيار أمام الدولة إلا أن توافق على قائمة أعماله و لكن الأزهر وسط انتصاره على الحكومة تعامل بدبلوماسية متيحاً لنفسه فرصة امتداح الرئيس :
" فى الوقت نفسه تقدر الجبهة [جبهة علماء الأزهر]ما قاله رئيس الأزهر فى هذا الخصوص و ستحسب ملاحظة الرئيس – إن شاء الله – بين حسناته"
التربية : ميدان المعركة بين النزعات العلمانية و الدينية
شهد الصراع فى مجال التربية عملية مماثلة لتلك التى–جرت فى مؤتمر السكان حيث أثارت مبادرة الحكومة رد فقل وضعها فى مركز دفاعى بصورة أكبر من ذى قبل ففى سنة 1993 سعى حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم إلى مقاومة انتشار النزعة الإسلامية فى المدارس بنقل أو تخفيض درجة المدرسين ذوى الميول الإسلامية و تنقيح المناهج و وضع قيود على ارتداء الحجاب و رفضت المحاكم وضع قيود على ارتداء الحجاب فى الجامعات و بقدوم عام 1994 لقيت محاولات تقييد ارتداء الحجاب فى المدارس و حصره على الطالبات اللاتى يوافق آباؤهن على ارتدائهن الحجاب نقداً عنيفاً و وصف أحمد الملط أحد المتحدثين باسم الإخوان الاستجابة المتشددة لهذه التحركات المضادة للإسلاميين بقوله " لما كان لكل فعل رد فعل مساو له فى القوة و مضاد له فى الاتجاه وفق النظرية الرياضية المعروفة فإن رد فعل كل المسلمين على هذا الهجوم كان مساوياً له فى القوة فقد اتسعت دائرة الالتزام و فرض الحجاب نفسه فى الشارع
و المتجر و المكتب و زاد ارتداؤه بين طالبات الجامعة و أصبح العديد ممن اعتزلن التمثيل كمهنة تتطلب سفورهن اكثر التزاماً بالإسلام و حجابه من الأخريات"
و حدث تراجع بسبب رد الفعل على هذا القرار مع تسليم بهاء الدين بأن بإمكان فتيات المدارس ارتداء الحجاب حتى بدون موافقة آبائهن و كانت مقابلة بهاء الدين مع جريدة الأهرام اليومية المؤيدة للحكومة ذات طابع دفاعى واضح فناقض بهاء الدين نفسه بالتأكيد على أن أحد أسباب قرار الحجاب كان " منع المتطرفين من التسلل إلى المدارس و فرض الزى المزعوم أنه إسلامى على الطالبات و الذى يعكس فى الواقع هوية سياسية و ليست دينية " و بعدها بعدة فقرات أجاب على سؤال عما إذا كانت القرارات الخاصة بالتعليم تنبع من مواجهة الحكومة لجماعات الإسلاميين رد الوزير بقوله "لا ليس هذا صحيحاً" و رد بهاء الدين على النقد الموجه لمنهج الدين بالإشارة إلى أن الأزهر كانت له يد فى صياغته و عندما سئل الرد على تهمة قيام خبراء تعليم أمريكيين بالعبث بالجوانب الثقافية و الدينية فى المناهج أجاب الوزير بصورة أكثر درامية بأن مثل هذا الكلام " مجرد إدعاء يهدف لإرهابى إنها محاولة لاغتيال الوزير سواء جسدياً أو سياسياً " و أصر الوزير على أن عمل الخبراء الأمريكيين كان فنياً فقط و بموافقة الأزهر و فى فبراير 1995 و بعد قرابة خمسة أشهر من مقابلة الوزير ادعى شيخ الأزهر أن التطرف سيقل إذا ما وجه مزيد من العناية إلى التعليم الدينى مع إعطاء الأزهر دوراً أكثر بروزاً فيه .
الأزهر و مشكلة مصر القانونية
إن أكثر مناطق النزاع بين الزهر والحكومة و الإسلاميين أهمية و دلالة هى تفسير القانون ففى سنة 1980 قام السادات لتهدئة المشاعر الدينية باستبدال الدستور المصرى بتغيير الشريعة (القانون الإسلامى ) من مصدر رئيسى إلى المصدر الرئيسى للنظام التشريعى المصرى و كان هذا العبير غامضاً عن عمد ربما لأن السادات كان يأمل بان يكون له قيمة نفسية و يحسن من مظهر الحكومة الإسلامى لا أن يكون له نتائج عملية تذكر فى صياغة و تطبيق القوانين.
و مع ضغوط الإسلاميين المتزايدة على الحكومة فى الآونة الأخيرة تركز مزيد من الاهتمام على هذه الفقرة من الدستور و لما كانت هذه الفقرة غامضة فقد كانت مفتوحة للتفسير اعتماداً على المناخ السياسى فى هذه الآونة و كما لاحظ المحامى العلمانى أحمد سيف الإسلام " ثمة جو ثقافى فى المجتمع المصرى يميل إلى استخدام الشريعة لمراجعة القضايا و الضغط على القضاء لإصدار قرارات خارج إطار النظم القانونية القائمة " و يوصف الموقف "كصراع بين نظامين قانونين قائمين " و تتمثل الحجة القانونية الرئيسية لسيف الإسلام فى أن "التغيير فى الدستور يشير لسن التشريعات لا الإجراءات القضائية " و هو ما صادقت عليه المحكمة الدستورية و محكمة النقض و مع ذلك هناك فيض من القرارات أبرزها قضية طلاق نصر أبو زيد التى أمرت فيها المحكمة بطلاق زوجة أستاذ جامعى منه على أساس ردته مما يظهر أن القضاة أخذوا على أنفسهم الفصل فى القضايا وفق الشريعة.
لقد وجدت إشارة كل الأطراف إلى الشريعة كقاعدة لصناعة القانون طريقها إلى الجدال السياسى فعلى سبيل المثال ذكر قائد الإخوان المسلمين الرئيس مبارك بأن " تطبيق شريعة الله واجب وأمانة فى أيديكم وسيحاسب كل فرد عنها أمام الله القدير " كما دافع بهاء الدين عن سياسات وزارة التعليم الجديدة باعتبارها تقع ضمن نطاق الشريعة و أكد للجمهور أنه يحترم الدستور .
أكثر من ذلك ، ثمة تأكيد متجدد على كيفية تفسير الشريعة و من يستطيع تفسيرها فكما يوضح أحمد سيف الإسلام :
" عادة عندما يسأل القاضى متخصصاً يأخذ رأى المتخصص فى الاعتبار فقط و فى مصر للأزهر سلطة تشريعية بحكم الواقع De facto و هذا - إلى جانب حقيقة أن بعض القوى السياسية تريد استخدام الأزهر لتقديم تفسيراتها إلى المحاكم - تطور خطير".
إن قضية زيادة نفوذ الأزهر تقع فى المجال السياسى بصورة اكبر من المجال القانونى نفسه ففى الشؤون القانونية كما فى المجالات الأخرى يتمتع الأزهر بمزية الجو السياسى ليتولى "دوراً عظيما" أوسع مما له قانوناً .و يتوق الأزهر بالتأكيد لرؤية امتداد تأثير الشريعة ففى موجز عن طرق إيقاف المتطرفين دعى جاد الحق القادة لقبول " رغبة الأمة بتشريع ينبثق من الشريعة الإسلامية التى تؤمن بها لأن المناعة و الكفاءة فى هذه الشريعة و اتخاذ إجراءات لتمرير التشريعات الوشيكة "
و فى يونيو 1997 حكمت محكمة مصرية ضد قرار وزارة الصحة بمنع ختان الإناث فى المستشفيات الخاصة و العامة و تأسس عمل المحكمة على النصوص الدينية الخاصة بهذه الممارسة و فى عهد الشيخ جاد الحق تقدم الزهر بقوة لصالح ختان الإناث و مثلت القضية نقطة تحول فى انسحاب الدولة و عقب هذا العام عكست الدولة اتجاهها (جزئياً بسبب الضغط الدولى ) و حظرت هذه الممارسة.
خاتمة
تثير زيادة قوة الأزهر الشكوك حول القواعد الأيديولوجية للدولة المصرية و يبرز فى محاولة تقويم الموقف مجالان حيويان أكثرهما أهمية تعيين و قيادة شيخ الأزهر فلا تزال الحكومة تحافظ على حقها فى التعيين لهذا المنصب و عندما توفى جاد الحق سنة 1996 عينت الحكومة بسرعة خلفاً أكثر اعتدالاً له محمد السيد طنطاوى فكان طنطاوى يتبع كمفتى مصر الأكبر خط الدولة و كان معداً تماما لإصدار فتاوى تختلف عن تلك التى يصدرها الأزهر و مع ذلك كان على طنطاوى باعتباره شيخ الأزهر الآن أن يضع نفسه بمهارة بين بيانات الحكومة و تلك التى أصدرها سلفه كما ناقض وجهات النظر التى كان الأزهر قد أعلنها بإدانته ختان الإناث و موافقته على التبرع بالأعضاء و لكنه منذ أصبح شيخاً للأزهر أظهر طنطاوى رغبة متزايدة للتمايز عن الحكومة فى عدد من القضايا فقد غير رؤيته عن الحجاب معلناً فرضيته حيث وصفه فى السابق بأنه اختيار و عندما طلب منه وزير الأوقاف محمد على محجوب إصدار فتوى تعلن قبول توبة المؤلف البريطانى سلمان رشدى رفض ذلك كما أعلن رأيه ضد معامل تقطير الكحول الحكومية و ضريبة التركات.
تلقى قيادة طنطاوى الضوء على ما عليه العلاقة بين الأزهر و الحكومة من حساسية و إذا ما نظر إلى طنطاوى على أنه خاضع جداً للحكومة فإن موافقاته ستنتقص الشرعية التى يريدها النظام كثيراً و على طنطاوى أيضاً أن يناضل شبكات السلطة المستقرة داخل الأزهر نفسه فعلى حين أنه بطبيعة منصبه الوجه الأكثر بروزاً فى المؤسسة فإن ثمة آخرين لهم أوزانهم ينافسونه داخل الأزهر مثل الشيخ يحى إسماعيل حلبوش أمين و محمد عبد المنعم البارى .
و بقدر ما يهم الحكومة أثبت طنطاوى أنه شخصية أكثر توافقاً و تكيفاً من جاد الحق إن حق الحكومة فى تعيين شيخ الأزهر مع ذلك ليس طريقاً مؤكداً للتحكم فى المؤسسة فإذا قام طنطاوى أو أحد خلفاؤه باتخاذ موقف ضد الحكومة لدى تعيينه فإن أية تحركات من جانب الحكومة لاستبدال هذا الشيخ ستكون مدمرة لشرعية الدولة و حتى لو برهن الشيخ على مطاوعته فإن ثمة خطر (على الدولة ) تقارب الأزهر و الإخوان المسلمين أيديولوجياً و حتى على مستوى الأفراد حيث يجرى اجتذاب الطلاب الأزهر إلى المنظمة الإسلامية المحظورة .
لقد أدان الأزهر و الإخوان المسلمون العنف و ظلا يصران على أنهما لا يسعيان للسلطة و لكن يرغبان فقط فى تشجيع تطبيق القانون الإسلامى فكما أوضح شيخ الأزهر جاد الحق فإن " الأزهر يمكنه فقط الإدلاء برأيه فدور الأزهر تعليمى فقط فهو يقدم الإرشاد و يبقى التطبيق فى أيدى الآخرين و حكومات الأقطار الإسلامية هى الجهات التى يجب مخاطبتها فى هذا الخصوص " و يشبه هذا بشكل لافت للنظر موقف الإخوان المسلمين كما تم إيجازه فى كتاب "دعاة لا قضاة " الذى ألفه المرشد السابق حسن الهضيبى و تمثلت العقبة الأيديولوجية الكبرى الوحيدة بين الإخوان و الأزهر فى هذه المرحلة فى رفض الأزهر شجب اتفاقيات كامب ديفيد .
و قد التف الإخوان حول حظر الحكومة لأنشطتهم بالعمل من خلال عدد من الواجهات بما فى ذلك الصحف كصحيفة "الشعب" و النقابات المهنية (المحامين و المهندسين) و التنظيمات الخيرية و من المتوقع تواجد الإخوان بين آلاف الطلاب و هيئات التدريس و خبراء التعليم العالى فى الأزهر و فى الحملة الجماعية على الإخوان المسلمين قبل الانتخابات العامة سنة 1995كان أحد الأربعة عشر المقبوض عليهم مدرساً فى الأزهر .
و إذا تعززت الاتجاهات الحالية فإن الأزهر سيتحكم خلال سنوات قليلة فى كل مسجد فى مصر و سيقوم بدور رئيسى فى التشريع القانونى و ستكون له الكلمة الأخيرة فى الرقابة على الإعلام و إذا ما ظهر تحالف كأمر واقع De facto بين الأزهر و الإخوان المسلمين فإنه سيصبح قوة هائلة فى المشهد السياسى المصرى .
و أيما كان ما سيحدث أو ما لن يحدث تبقى حقيقة أن الحكومة تخلت عن قدر هام له دلالته من القوة السياسية للأزهر و المسألة الآن ما إذا كانت هذه العملية ستستمر ليصبح لها زخمها الخاص إلى النقطة التى تصبح فيها المبادئ الدينية لا العلمانية عماد الحياة العامة المصرية .
ستيفن باراكلوف
لقد نقلت الحكومة المصرية منذ تولى حسنى مبارك الرئاسة سنة 1981 مسؤوليات إدارية هامة للأزهر لإظهار طابعها الإسلامى .و قد استخدمت هذه المؤسسة العتيقة للتعليم العالى هذه السلطات من جانبها لدفع جدول أعمالها الخاص للمقدمة و تصعيد دورها فى صنع القرار فظهر الأزهر كقوة تعمل لصالحها هى لتأخذ مكانها الدقيق بين الحكومة و الإسلاميين.
ففى الوقت الذى زادت فيه جاذبية النزعة الإسلامية فى مصر حاول نظام حسنى مبارك بشكل نشط أن يظهر نفسه كحكومة شرعية إسلامياً وكما يصف المفكر و السياسى العلمانى المصرى البارز رفعت السعيد الوضع فيقول " إنها [ أى الحكومة] تقوم من ناحية بمحاربة الإسلاميين الذين يعلنون أو يدعون من ناحية أخرى أنهم أشد إسلاماً من الآخرين "
قامت الحكومة لتكتسب هوية إسلامية بنقل مسؤوليات إدارية للأزهر المؤسسة العتيقة للتعليم العالى التى تملك الآن بتلقيها لهذا الرأسمال السياسى الكبير قوة كافية للتصرف كقوة ثالثة فى المجال الواقع بين الحكومة و المعارضة الإسلامية.
يعنى هذا المقال بقضايا الإدارة و التحكم مبتدئاً بالضم التاريخ للأزهر تحت حكم عبد الناصر (1954- 1970) و ما تلا ذلك من توظيفه كوكالة حكومية ثم تنتقل بؤرة الاهتمام إلى العلاقة بين الأزهر و الحكومة من 1982 – 1996 التى تزامنت مع تولى مبارك الرئاسة سنة 1981 و تنصيب جاد الحق على جاد الحق شيخاً للأزهر من 1982 حتى وفاته 1996فهذه الفترة هى التى نقلت الحكومة خلالها وظائف إدارية هامة للأزهر الذى أصبح تحت قيادة جاد الحق راغباً بشكل متزايد فى متابعة قائمة أعماله الخاصة.
يظهر التناقض بين فترتى عبد الناصر و مبارك التحول الهام فى علاقات القوة الذى اخذ مجراه فى العقود الأربعة الماضية و تنعم خاتمة المقال النظر فى الاتجاهات المستقبلية المحتملة فى المشهد السياسى المصرى الناشئة عن هذا التغير .
الأزهر أسيراً للدولة
منذ 1952 و الدولة تعبئ الرموز الإسلامية عندما تستدعى الظروف السياسية ذلك فمثل غيرها من النظم الأخرى فى العالم العربى تطلبت الحكومة درجة معينة من الشرعية الدينية إلى أن تطور شرعية بنيوية اكبر فمنذ انقلاب الضباط الأحرار 1952أصبحت القومية العربية الموضوع الخطابى الأساسى للدولة المصرية و مع ذلك ضمنت الحكومة فى شعاراتها فى مراحل سياسية حساسة أفكاراً دينية أيضاً.
فبعد انقلاب 1952 مباشرة أخذ بعض الضباط لأنفسهم الامتياز التاريخى للحكام المسلمين الذى يخولهم إلقاء خطبة الجمعة كما قام عبد الناصر بالحج إلى مكة خلال الصراع المحتدم مع الإخوان المسلمين و على اثر الهزيمة العسكرية 1967 اتخذت الحكومة الدين ملاذاً لها و حضر قادة النظام الصلاة فى المساجد بعد الهزيمة مباشرة و استخدم ناصر وسائل دينية ليضع عن نفسه بعض اللوم محتجاً بأن " الله أراد أن يعلم مصر درساً " و أنه "كان على الأمة أن تقبل هذا الامتحان باعتباره قدرها "
لقد كان الأزهر - مؤسسة التعليم العالى و الشريعة- الجزء المحورى فى استراتيجية الحكومة فى تعبئة الرموز الإسلامية فكما لاحظ المفكر المصرى كريم الراوى" احتاجت الحكومة الأزهر ليخلع عليها مظهر الشرعية الإسلامية"
إن مسح علاقة الحكومة بالأزهر بنظرة عامة تكشف عن أن الأزهر عمل تحت حكم عبد الناصر و خلفه السادات (1970-1981 ) كأحد أجهزة الدولة و أن دور الأزهر لم يتغير بشكل له دلالاته إلا تحت حكم مبارك حيث دعت الحكومة بشكل متكرر خلال نضالها الممتد ضد جماعات الإسلاميين و على وجه الخصوص الإخوان المسلمين الأزهر إلى إصدار البيانات التى تبرر الحملات ضد الإسلاميين و تؤيد إدخال التشريعات التى كانت – بدون هذا التأييد – ستثير مزيداً من المعارضة الدينية .لقد ضمت حكومة ناصر الأزهر بشكل فعال بعد استحواذها على السلطة مباشرة و أخضعت الدولة العلماء للضغوط حتى يؤيدوا سياستها بما أدى للمقاومة السلبية أو حتى استقالة بعض هؤلاء العلماء و إتاحة الفرصة لتعيين المتعاطفين مع الحكومة و منذ الانقلاب العسكرى ظهرت بشكل متكرر سيطرة سلطة الدولة على العلماء ففقد الأزهر سيطرته على قانون الأسرة الذى أدمج فى القانون المدنى و فى سنة 1961 أخذت الحكومة على عاتقها مهمة الإصلاح الكامل للأزهر بإضافة كليات علمانية إليه و قوبل هذا التدخل الصارخ فى حينه بإطراء العلماء الممتنين له و وصل الأزهر أدنى أوضاعه خلال محاكمة مجموعة الإسلاميين التى تعمل تحت الأرض متبنية خطاً متشدداً "جماعة المسلمين" فى محكمة عسكرية سنة 1978 فقد وضع بعض علماء الأزهر فى قفص الاتهام و تم توبيخهم على عدم فعاليتهم فى نشر رؤيتهم المؤيدة لرؤية الحكومة للإسلام و على عدم إدانتهم هذه الجماعة الراديكالية قبلها فى وقت مبكر .
و للحكومة ، حتى الآن ، سلطة تعيين شيخ الأزهر و هو الحق الذى مارسته مؤخراً فى مايو 1996 عندما رقت الشيخ محمد السيد طنطاوى بعد وفاة جاد الحق .
يتمثل دور الأزهر الأساسى – و أهم ما تهتم به الحكومة – فى إقرار سياسات النظام و شجب معارضتها . و لما كان الإسلاميون المصدر الرئيسى لمعارضة الحكومة فى مصر فإن إلقاء الأزهر اللوم على الإسلاميين يلقى بالشك على شرعية و مصداقية الانتقادات الدينية للحكومة فقد انحاز الأزهر بلا تحفظ إلى جانب الحكومة فى الصراع المحتدم بينها و بين الإخوان المسلمين عامى 1953-1954 فوصف الأزهر كتاب "معالم على الطريق" الذى ألفه الكاتب الإسلامى الراديكالى الشهير سيد قطب بأنه كتاب مقيت و أدين مؤلفه باعتباره منحرفاً من الخوارج و عندما ثارت مشاكل أكبر بين الحكومة و الإخوان فى منتصف الستينات أصدر الأزهر – من تلقاء نفسه – بياناً عاماً يؤيد النظام و يشجب المعارضة بل و أمد الأزهر الرئيس السادات بتبرير إسلامى للتوصل لمعاهدات كامب ديفيد سنة 1978-1979 كدليل بين على مناصرة الأزهر لسياسة الحكومة حيث كان الأزهر قد أصدر فتوى سنة 1956 تعارض السلام مع دولة إسرائيل كما جادل شيخ الأزهر الأخير جاد الحق بأن أولئك الذين يستخدمون العنف ضد الدولة ليسوا مسلمين لأنهم يهاجمون المجتمع الإسلامى و ذهب فى تصريح لصالح الحكومة لتلقيبهم بالخوارج و وصى بتطبيق العقوبات القرآنية مثل بتر أطرافهم عليهم .
و كانت هذه التصريحات تشير إلى جماعات الإسلاميين التى تشن حملة قتالية لتقويض الحكومة أى الجماعة الإسلامية و الجهاد الإسلامى و طلائع الفتح و مما له دلالاته أن جماعة الإخوان المسلمين برغم حظرها لا تتسامح مع التغيير العنيف و من ثم لم تشملها إدانة الأزهر .
إن ثمة خطوات قريبة العهد لتمديد دور الأزهر فى الوقت الذى يشتد فيه النضال ضد الإسلاميين فتخطط الحكومة لتعزيز سلطة الأزهر بجعله يتحكم فى كل المساجد الخاصة التى يقدر عددها بحوالى خمسين ألف مسجد بحلول عام 2002 و تنبع أهمية و دلالة هذا التحرك من حقيقة أن المساجد الخاصة المعروفة بالأهلية حيوية لتجنيد و تنظيم الإسلاميين و بشكل مماثل لفتت صحيفة مصرية الانتباه إلى "تقرير امنى أصدره طرف مستقل عالى المستوى " يدعو لتحذير الدولة من الحركة السلفية و هى حركة دينية محافظة يزعم أن لها روابط مع الإسلاميين المناضلين و ذهب التقرير إلى التوصية بتجنب الحكومة المواجهة مع الحركة مفضلاً " مواجهة علماء الأزهر و وعاظه أفكار الحركة السلفية بشكل فعال و مناقشة الكتب التى يقرأها و يدرسها أعضاؤها " .
لقد تم ضم الأزهر فى عهدى ناصر و السادات فى سياق سياسى كان للدولة فيه دعاواها المتميزة بالشرعية اعنى دعمها للاشتراكية و القومية العربية و وقت تولى مبارك الرئاسة كانت هاتين القضيتين قد ضعفتا إلى حد كبير فسياسة الانفتاح الساداتى مثلت علامة بارزة على التحول لاقتصاديات السوق الحر على حين بدأ التقارب بين مصر و إسرائيل مع اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1979 و استمرت الانقسامات الرئيسية فى العالم العربى .
و عندما نتحول لدراسة نمو قوة الأزهر فى السنوات الأخيرة يجب أخذ السياق الأوسع – أى الخواء الأيديولوجى لسلطة الدولة- فى الاعتبار .
الأزهر كفاعل مستقل
قد يبدو مما سبق أن الأزهر استمر يعمل كتابع مدين بالفضل للحكومة إلا أن الحال لم يكن كذلك إذ كان ثمة تغير دقيق فى كلمات الأزهر ففى موضوع المتطرفين على سبيل المثال أوجز شيخ الأزهر فى أكتوبر 1994 أسباب صعود الحركات الإسلامية موضحاً كيف ظهرت كرد فعل لسوء تناول الدولة للأمور الدينية و استهدف بحديثه الإعلام الذى تسيطر عليه الدولة قائلاً:"تسيطر الجماعات الأخرى على الإعلام و بدأت فى العمل على تغيير التفكير الاجتماعى و التقاليد المصرية الإسلامية بطريقة لا تتفق مع عقيدة هذا المجتمع و هو ما أثار معضلة أمام المواطنين بين معتقداتهم الخاصة و المبادئ الأخرى المفروضة عليهم "و أتبع الشيخ هذا التصريح بنقد قوى لسعى الدولة للتحكم فى الدين ملمحاً لاستراتيجيتها فى ضم الأزهر قائلاً :"لقد حاولت هذه الجماعات أن تغير المبادئ الإسلامية معطية نفسها سلطة تفسيرها بما يوافق أهواءها و الحديث بجهل فى الأمور الدينية و وقعت أحداث أخرى مكنت هذه الجماعات من إحكام سيطرتها و حيازتها لفرص أكبر لتخريب البنية الاجتماعية و توجيه الاتهامات العشوائية للمسلمين و تقويض وضع العلماء "
لقد كان الشيخ دبلوماسياً بحيث أنه لم يحدد من الذين يعنيهم بقوله "هم" إلا أن الرسالة كانت واضحة للقارئ المطلع فعلى الحكومة ان تطلق يد الأزهر فى الحديث عن الأمور الدينية إذا ما أرادت حججاً إسلامية لها مصداقيتها ضد المناضلين الإسلاميين و ذهب شيخ الأزهر إلى أبعد من ذلك ليحاجج بأن هؤلاء المناضلين ظهروا كرد فعل على هجمات المثقفين و الإعلام على الدين و بسبب الآثار الاجتماعية للظروف الاقتصادية المتغيرة و سوء تناول هيئات الدولة للدين فكانت توصيته بإعطاء الأزهر كلمة أكبر فى المجالات الهامة فى السياسة الاجتماعية فمن خلال تحديد الزهر للتفسير الصحيح للتدين "ستتجنب الأمة مخاطر وجهى التطرف : انحلال العلمانيين الأخلاقى والمناضلين الإسلاميين بتفسيرهم الخاطئ للدين " و خلص الشيخ إلى قائمة بعدد من الخطوات التى يجب على الحكومة اتخاذها و التى إذا ما طبقت ستعزز من قوة الأزهر السياسية إلى حد بعيد.
إن هذه الدفعة من الأزهر أكثر من طلب عادى يقدمه البيروقراط لمزيد من التمويل أو دور أكبر لإدارتهم فهى تشير لعملية يحاول الأزهر فيها تحرير نفسه من وصاية الحكومة و ان يصبح قوة تعمل لحسابها الخاص .
إن تمحيصاً دقيقاً لمساعى الأزهر فى مجالات النزاع بين الحكومة و الإسلاميين يكشف عن أن الأزهر يسعى لاستخلاص أقصى ما يمكنه من سلطة من الدولة فى الوقت الذى يحاول فيه الحفاظ على مسافة بينه و بين كل من الحكومة و الإسلاميين فظهر نمط خاص من هذا النضال الثلاثى الجوانب فأولاً هناك جماعات الإسلاميين التى تشيع الانتقادات ضد الحكومة – برغم أنها غير مشروعة قانوناً- لإخفاقها فى تدعيم الأخلاقيات فى مجال معين فتستجيب الحكومة لهذا النقد بالدفاع عن تصرفاتها و تقوم – تأكيداً لصوابها إسلامياً- بنقل سلطات إدارية هامة إلى الأزهر فى هذا المجال و ثالثاً – و فى أكثر المراحل دقة – يستخدم الأزهر بعدها هذه السلطات الجديدة إما للضغط لمزيد من رفع شأنه فى شؤون الدولة أو وصولاً لمركز من غير المعتاد أن يتوافق مع ما تريده الحكومة له.
و على الرغم من أن بيانات الأزهر أقل حدة من تلك التى تصدرها جماعات الإسلاميين الخارجة عن القانون فإنها - مع ذلك – تظهر نوعاً من الاستقلال عن الدولة و فى بعض الأحيان كانت الدولة تمتن بالاستجابة لبيانات الأزهر و لما كانت الحكومة قد وضعت أغلب مصداقيتها فى هذه المؤسسة لم يعد بمقدور الحكومة معارضتها علاوة على ذلك فبقدر محاولة الحكومة تأسيس مظهرها الإسلامى بقدر ما لم يعد هناك مكان للتحول و التراجع و تظهر الحالات الدراسية التالية لمجالات متنوعة من الصراع السياسى تخلى الدولة تحت ضغط الإسلاميين أكثر فأكثر عن سلطات للأزهر.
هجمات الأزهر على المثقفين
يعرض التحرك مؤخراً ضد المثقفين هذا التوجه بشكل جيد فالمثقفون هدف مفضل للإسلاميين نظراً لاتجاهاتهم الشكية و تحطيمهم الصورة المقدسة للمناضلين الإسلاميين و تأثير الغرب المريب على تفكيرهم و تباع شرائط مسجلة أمام المساجد تحمل عناوين مثل "الفن بذاءة" و "بذاءة المجتمع الفنى" و ظل المثقفون ضحايا العنف المباشر فقد تعرض نجيب محفوظ الروائى الحائز على جائزة نوبل للطعن خارج بيته لأن إشارته بطريق المجاز للأنبياء فى كتاباته عدت تجديفاً فى حقهم أما القضية الأكثر خطورة فكانت مقتل المثقف فرج فودة سنة 1992 بعد أسبوعين من إعلان الشيخ الغزالى –أحد علماء الأزهر البارزين- ردته حيث أضافت الجماعة الإسلامية التى تعمل تحت الأرض لدى ادعائها المسؤولية عن قتله أنها بذلك كانت تنفذ حكم الأزهر . لقد كان فودة ناقداً عالى الصوت لإدخال الدين فى السياسة و كان نقده الحاد للحكومة والأزهر و الإسلاميين على نفس الدرجة من الحدة و أدى مقتله لحركة قوية بين الطبقة المثقفة ( الانتلجنسيا) المصرية و تكوين الجمعية المصرية للتنوير و لما لم يبد الشيخ الغزالى أى ندم على إصداره البيان الذى أدى لمصرع فودة نجح المجتمع الثقافى فى الضغط على الحكومة لمنع الغزالى من التلفزيون الذى كان يلقى منه العظات الدينية و لكن حتى فى جرأتهم و تحديهم كان العلمانيون يظهرون وعياً واضحا برجحان الجانب الآخر الذي يقف ضدهم " بمصرعه [فودة ] اغتنت الأرض بدمائه و ظهرت الزهور متفتحةً فى مجتمعه و بين أنداده و وصل شذاها إلى سماء الأمة برغم رياح الاتهام القاسية بالردة "
ادعى المثقفون أن الأزهر اتصل هاتفياً بدور النشر لتحذيرها من طباعة المطبوعات التى تعتبر عدائية و اختارت الحكومة فى مواجهة هذا الضغط انسحاباً استراتيجياً منضمةً إلى الفريق الذي يدين المثقفين و تخلت عن سلطة أكبر للأزهر و كما أشار الراوى :"لم يعد المناضلين الإسلاميين وحدهم فهناك أعضاء البرلمان الذين عرفوا كيف يختطفون العناوين الرئيسية و لا شئ يضمن لهم الحضور على الصفحة الأولى الصحف من هجوم جيد على كاتب أو فنان".
و قد فتح هذا التهميش للمجتمع الثقافى الطريق أمام الأزهر لغزو المجالات الأوسع من الخطاب العام .
الأزهر و الإعلام
و إزاء خلفية تعاظم نشاط الإسلاميين فى مصر فى أوائل التسعينات طلب الأزهر من الدولة توضيح سلطته بجلاء فيما يخص تقديم بعد إسلامى فى الإعلام المطبوع و الإلكترونى و قامت الحكومة فى سنة 1994 بشكل له دلالاته بتبديل قوانين الرقابة على المطبوعات و خولت الأزهر سلطات جديدة و منح حكم مجلس الدولة رقم 58/1/63 الأزهر سلطة رقابة الإعلام الإلكترونى و خول مجلس البحوث الإسلامية داخله هذا الدور على أن يكون للشيخ جاد الحق الكلمة الأخيرة فى مشاورات المجلس و أصبح ما يتوصل إليه الأزهر ملزماً لوزارة الثقافة و أضيفت فقرة تشترط أن أحكام الأزهر محدودة بالقضايا الإسلامية على أن يكون للأزهر وحده تحديد ما يعد "قضايا إسلامية" و يمكن التقاط بعض مؤشرات دور الأزهر البارز فى تصريح وزير الثقافة فاروق حسنى نفسه عندما أعلن أن "الأزهر سلطة عليا و عندما يتكلم الأزهر يلتزم الجميع بالصمت"
و بإمكان الأزهر قانوناً أن يقوم فقط بدور فى الإعلام المطبوع عند تقديم شكوى له بخصوص مواد معينة إلا أن الحكومة كانت تواقة إلى إشغال الأزهر أو على الأقل أن ينظر إليه على أنه منهمك فى أمور النشر فقد هوجم وزير الثقافة فى البرلمان - فى سلسلة من الأحداث تظهر تراجع الدولة – لسماحه بمطبوعات فنية تصور موضوعات جنسية و أكد الوزير فى دفاعه قاعدة مراجعة الأزهر و تنقيته لكل المطبوعات الحكومية و دفع الأزهر بقوة لحيازة سلطات أوسع على رقابة المطبوعات و ربط شيخ الأزهر بشكل له دلالاته فى أحد بياناته فى فبراير 1995 بين النزعة الإسلامية النضالية و كتابات المثقفين حيث قال: " تهين بعض المجلات و الجرائد الدين و علماءه و يفسر كتابها و محرروها و كاتبوا أعمدتها الدين بشكل خاطئ فهم يقولون أموراً خاطئة عن الدين و يسيئون تفسير التعاليم الدينية ... و إذا قبلنا بأن تصرفات هذه المجلات مجرد تطرف و ليس تدميراً لمجتمع متدين ألا نتوقع ردود فعل عليها و أن هذه الأفعال ستعد تطرفاً".
و إذا واجه المثقفون اللوم لتحفيزهم المناضلين فإن على الأزهر مسئولية دعم الواجهة الإسلامية للحكومة فحاجج الشيخ جاد الحق فى تصريح منفصل بأنه يجب على الأزهر أن يتمتع بحق رقابة المطبوعات التى تعتبر ضد الدين : "تشوه هذه الكتب الدين و تستخف بمفاهيم الإسلام و أبنيته و تثير الخلط وسط الرأى العام و تقسم الناس ، إننا واعون بأشئلة الجيل الشاب فيما يتصل بالعديد من الأمور و كلها يدور حول الآراء السيئة التى تنشر فيما يخص البلد و الدين و الرأى العام و السلام بين الناس و أؤكد مرة أخرى أن الوقاية خير من العلاج و لو علم أولئك الذين يبثون السم ليجعلوا الناس يشكون فى ديانتهم و أفكارهم خطورة ما يقومون به لكفوا عنه و لما عاداهم أحد .إننا نواجه الجريمة قبل وقوعها فالإسلام دين وقائى."
استمرت شكاوى الإسلاميين من الإعلام الإلكترونى أمراً ثابتاً و لكنها تكثفت مؤخراً مع شن حملة قضائية ضد إعلانات الأفلام و الرسوم الكاريكاتورية للإسلاميين أما الحكومة فقد شعرت من جانبها بعدم الارتياح لاتجاه الممثلات الجديد لاعتزال مهنتهن و ارتداء الحجاب و تفاقمت التوترات بانتشار التلفزيونات الفضائية التى تقدم مجموعة واسعة النطاق من البرامج الدولية التى يصدم بعضها قطاعات محافظة من المجتمع المصرى .و كانت استجابة الحكومة – فى محاولة لتسكين الإسلاميين مرة أخرى – بإعطاء الأزهر دوراً فى هذه القضية و كان التحرك الأهم فى هذا الصدد حكم مجلس الدولة السالف الذكر الذى كفل – كما نشرته مجلة روز اليوسف – إرسال مخطوطات برامج التلفزيون كنوع من الروتين إلى الأزهر للموافقة عليها و أقرت مصادر حكومية بالبعد السياسى لهذه الاستراتيجية فكما وصفت ألفت حسن أغا رئيسة وحدة الإعلام فى مركز الدراسات السياسية و الاستراتيجية بالأهرام " كان إعطاء وقت أكبر لنجوم الأزهر فى التلفزيون جزءً من فكرة أن [الحكومة] تحتاج مواجهة الإسلاميين بمنظور دينى معتدل " و وصف محمود محى نائب رئيس القناة الفضائية المصرية هذه الاستراتيجية نفسها قائلاً: "إننا نحاول جعل المتطرفين [الدينيين] أكثر مصرية و أكثر علمية و ديمقراطية لذا نحاول جذبهم للمشاركة فى الفكر الوطنى"
و قد ناضلت الحكومة فى الجوانب الأخرى من الإعلام لينظر إليها على أنها تنجز مسؤولياتها الإسلامية ففى عام 1994 حظرت محافظتا دمياط و الدقهلية فى شمال مصر التلفزيونات الفضائية فى الأماكن العامة كالمقاهى و فى عام 1995 وضعت قيود على استيراد أدوات التلفزيون الفضائى فى تحرك عزاه صفوت الشريف وزير الإعلام للحاجة إلى حماية قيم المجتمع المصرى و أخلاقياته و تقاليده
و أظهرت جهود العلاقات العامة الحكومية التى صاحبت إطلاق القمر الصناعى المصرى الثانى في سنة 1995 وعى الحكومة الحاد بمجادلات الإسلاميين و عكس مقال منشور فى مجلة المصور المؤيدة للحكومة أصداء مقولات الإسلاميين مبرراً إطلاق النيل سات كجزء " من استراتيجية الحكومة الإعلامية " لمواجهة " الغزو الإعلامى الهمجى المتعدد الجوانب" و يشمل هذا الغزو –وفقاً لهذه المقالة – برامج العرى و الإباحية الجنسية " التى تكمل الهجمات الشريرة للمخدرات و الإرهاب التى تشجع و تمول من الخارج " و يستمر المقال قائلاً " إن البرامج المصرية ستواجه الهجوم لأنه من المنطقى القول بأن الفكر الصحيح هو الطريق الوحيد لإبعاد الفكر المدمر " و يذكرنا الخطاب هنا بخطاب المرشد العام للإخوان المسلمين محمد حامد أبو النصر – المقتطف عاليه - مع الإشارة إلى التأثير الأجنبى المفسد الذى يقوض أخلاقياً الكيان المحلى الخالص و يختتم المقال بالثناء على أولئك الذين أسهمت خدماتهم فى إطلاق النيل سات بما فيهم العلماء المباركين .
إلا أن الأزهر استمر فى السعى لمزيد من القوة ففى مقال منشور فى أوائل سنة 1995 يأسف جاد الحق لأن " العديد من الأشياء السيئة فى التلفزيون تغطى على الأشياء الطيبة و تبدد عوائدها فالأمور التجارية تقدم بشكل يهين الأخلاق و الفضائل و الذوق العام و كما نعلم فإن لكل فعل رد فعل مضاد و مساو له "و يتوسع الشيخ جاد الحق فى مقولته عن الحاجة لضبط الإعلام لتفادى التطرف داعياً الأجهزة الإعلامية للتوقف عن " نشر الانقسامات و التشهير و الكراهية لأن قلوب الشباب رقيقة و تتأثر بالاتهامات التى يقرؤونها أو يسمعونها"
و هكذا مدت شكاوى الأزهر القديمة قوته و دوره المستقل فى المجتمع المصرى .
الأزهر و المؤتمر الدولى للسكان و التنمية
يقدم الجدال الذى أحاط بالمؤتمر الدولى للسكان و التنمية المنعقد فى القاهرة سنة 1994 رؤى أخرى متعمقة للمناورات الأيديولوجية الفطنة للأزهر بين الحكومة و الإسلاميين و فتح الإخوان النقاش بإدانة جلية للمؤتمر باعتباره مؤتمراً شيطانياً و دعت فى تحد الأزهر ليقوم بالأمر نفسه : " أيها العلماء المسلمون ..يارجال الأزهر ..هذا يومكم الذى يجب أن تقولوا فيه الحقيقة و تفصلون الخير عن الشر و ترشدون الناس لما يرضى الله فى شؤون دينهم و دنياهم .تجمعوا فى مؤتمر عام للعلماء المسلمين و ليس مؤتمراً تفتتحه و نموله وتلهمه الولايات المتحدة أو أى من اعداء الإسلام الآخرين ثم أخبروا الناس أين الحق و أين الضلال و لا تخافوا حاكماً باطشاً و لا اضطهاد مضطهد "
و بعد اقل من شهر و فى 17أغسطس 1994 استجاب الأزهر وفقاً لذلك فشجب الأزهر المؤتمر على أساس ما توصل إليه مجلسه للبحوث الإسلامية لافتراض المؤتمر أن زيادة السكان تجلب الفقر و لمبدئه بقبول شرعية العلاقات الجنسية خارج الزواج و اجتذب موقف الأزهر مديح الإخوان المسلمين : "صان الله مصر من الشرور التى تستهدفها و حمى الأزهر و هدى علماء الإسلام لتعليم الناس و قاد المتولين لأمور الشعوب الإسلامية للعمل بكتاب الله و الالتزام بالشريعة منهاجاً و فى سلوكهم و نبذ كل ما لا يتفق أو يتعارض معها "
و بكل الحماس أعلم الرئيس مبارك أنه " لا تستطيع أى قوة أن تجبرنا على أية ممارسات ترد عليها التحفظات من الناحية الدينية " و كان هذا التصريح غامضاً فى مضمونه لكنه دفاعى بشكل لا لبس فيه فى طبيعته و تحول المؤتمر من نصر للدولة و مسعاها لتخفيض معدلات المواليد إلى استعراض قوى لقوة الوجدان الدينى المحافظ فقضى رد الفعل على المبادرة و تحرك الأزهر ببراعة ملقياً بثقله وراء الإخوان المسلمين و بالتالى ضمن أنه لم يعد هنالك خيار أمام الدولة إلا أن توافق على قائمة أعماله و لكن الأزهر وسط انتصاره على الحكومة تعامل بدبلوماسية متيحاً لنفسه فرصة امتداح الرئيس :
" فى الوقت نفسه تقدر الجبهة [جبهة علماء الأزهر]ما قاله رئيس الأزهر فى هذا الخصوص و ستحسب ملاحظة الرئيس – إن شاء الله – بين حسناته"
التربية : ميدان المعركة بين النزعات العلمانية و الدينية
شهد الصراع فى مجال التربية عملية مماثلة لتلك التى–جرت فى مؤتمر السكان حيث أثارت مبادرة الحكومة رد فقل وضعها فى مركز دفاعى بصورة أكبر من ذى قبل ففى سنة 1993 سعى حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم إلى مقاومة انتشار النزعة الإسلامية فى المدارس بنقل أو تخفيض درجة المدرسين ذوى الميول الإسلامية و تنقيح المناهج و وضع قيود على ارتداء الحجاب و رفضت المحاكم وضع قيود على ارتداء الحجاب فى الجامعات و بقدوم عام 1994 لقيت محاولات تقييد ارتداء الحجاب فى المدارس و حصره على الطالبات اللاتى يوافق آباؤهن على ارتدائهن الحجاب نقداً عنيفاً و وصف أحمد الملط أحد المتحدثين باسم الإخوان الاستجابة المتشددة لهذه التحركات المضادة للإسلاميين بقوله " لما كان لكل فعل رد فعل مساو له فى القوة و مضاد له فى الاتجاه وفق النظرية الرياضية المعروفة فإن رد فعل كل المسلمين على هذا الهجوم كان مساوياً له فى القوة فقد اتسعت دائرة الالتزام و فرض الحجاب نفسه فى الشارع
و المتجر و المكتب و زاد ارتداؤه بين طالبات الجامعة و أصبح العديد ممن اعتزلن التمثيل كمهنة تتطلب سفورهن اكثر التزاماً بالإسلام و حجابه من الأخريات"
و حدث تراجع بسبب رد الفعل على هذا القرار مع تسليم بهاء الدين بأن بإمكان فتيات المدارس ارتداء الحجاب حتى بدون موافقة آبائهن و كانت مقابلة بهاء الدين مع جريدة الأهرام اليومية المؤيدة للحكومة ذات طابع دفاعى واضح فناقض بهاء الدين نفسه بالتأكيد على أن أحد أسباب قرار الحجاب كان " منع المتطرفين من التسلل إلى المدارس و فرض الزى المزعوم أنه إسلامى على الطالبات و الذى يعكس فى الواقع هوية سياسية و ليست دينية " و بعدها بعدة فقرات أجاب على سؤال عما إذا كانت القرارات الخاصة بالتعليم تنبع من مواجهة الحكومة لجماعات الإسلاميين رد الوزير بقوله "لا ليس هذا صحيحاً" و رد بهاء الدين على النقد الموجه لمنهج الدين بالإشارة إلى أن الأزهر كانت له يد فى صياغته و عندما سئل الرد على تهمة قيام خبراء تعليم أمريكيين بالعبث بالجوانب الثقافية و الدينية فى المناهج أجاب الوزير بصورة أكثر درامية بأن مثل هذا الكلام " مجرد إدعاء يهدف لإرهابى إنها محاولة لاغتيال الوزير سواء جسدياً أو سياسياً " و أصر الوزير على أن عمل الخبراء الأمريكيين كان فنياً فقط و بموافقة الأزهر و فى فبراير 1995 و بعد قرابة خمسة أشهر من مقابلة الوزير ادعى شيخ الأزهر أن التطرف سيقل إذا ما وجه مزيد من العناية إلى التعليم الدينى مع إعطاء الأزهر دوراً أكثر بروزاً فيه .
الأزهر و مشكلة مصر القانونية
إن أكثر مناطق النزاع بين الزهر والحكومة و الإسلاميين أهمية و دلالة هى تفسير القانون ففى سنة 1980 قام السادات لتهدئة المشاعر الدينية باستبدال الدستور المصرى بتغيير الشريعة (القانون الإسلامى ) من مصدر رئيسى إلى المصدر الرئيسى للنظام التشريعى المصرى و كان هذا العبير غامضاً عن عمد ربما لأن السادات كان يأمل بان يكون له قيمة نفسية و يحسن من مظهر الحكومة الإسلامى لا أن يكون له نتائج عملية تذكر فى صياغة و تطبيق القوانين.
و مع ضغوط الإسلاميين المتزايدة على الحكومة فى الآونة الأخيرة تركز مزيد من الاهتمام على هذه الفقرة من الدستور و لما كانت هذه الفقرة غامضة فقد كانت مفتوحة للتفسير اعتماداً على المناخ السياسى فى هذه الآونة و كما لاحظ المحامى العلمانى أحمد سيف الإسلام " ثمة جو ثقافى فى المجتمع المصرى يميل إلى استخدام الشريعة لمراجعة القضايا و الضغط على القضاء لإصدار قرارات خارج إطار النظم القانونية القائمة " و يوصف الموقف "كصراع بين نظامين قانونين قائمين " و تتمثل الحجة القانونية الرئيسية لسيف الإسلام فى أن "التغيير فى الدستور يشير لسن التشريعات لا الإجراءات القضائية " و هو ما صادقت عليه المحكمة الدستورية و محكمة النقض و مع ذلك هناك فيض من القرارات أبرزها قضية طلاق نصر أبو زيد التى أمرت فيها المحكمة بطلاق زوجة أستاذ جامعى منه على أساس ردته مما يظهر أن القضاة أخذوا على أنفسهم الفصل فى القضايا وفق الشريعة.
لقد وجدت إشارة كل الأطراف إلى الشريعة كقاعدة لصناعة القانون طريقها إلى الجدال السياسى فعلى سبيل المثال ذكر قائد الإخوان المسلمين الرئيس مبارك بأن " تطبيق شريعة الله واجب وأمانة فى أيديكم وسيحاسب كل فرد عنها أمام الله القدير " كما دافع بهاء الدين عن سياسات وزارة التعليم الجديدة باعتبارها تقع ضمن نطاق الشريعة و أكد للجمهور أنه يحترم الدستور .
أكثر من ذلك ، ثمة تأكيد متجدد على كيفية تفسير الشريعة و من يستطيع تفسيرها فكما يوضح أحمد سيف الإسلام :
" عادة عندما يسأل القاضى متخصصاً يأخذ رأى المتخصص فى الاعتبار فقط و فى مصر للأزهر سلطة تشريعية بحكم الواقع De facto و هذا - إلى جانب حقيقة أن بعض القوى السياسية تريد استخدام الأزهر لتقديم تفسيراتها إلى المحاكم - تطور خطير".
إن قضية زيادة نفوذ الأزهر تقع فى المجال السياسى بصورة اكبر من المجال القانونى نفسه ففى الشؤون القانونية كما فى المجالات الأخرى يتمتع الأزهر بمزية الجو السياسى ليتولى "دوراً عظيما" أوسع مما له قانوناً .و يتوق الأزهر بالتأكيد لرؤية امتداد تأثير الشريعة ففى موجز عن طرق إيقاف المتطرفين دعى جاد الحق القادة لقبول " رغبة الأمة بتشريع ينبثق من الشريعة الإسلامية التى تؤمن بها لأن المناعة و الكفاءة فى هذه الشريعة و اتخاذ إجراءات لتمرير التشريعات الوشيكة "
و فى يونيو 1997 حكمت محكمة مصرية ضد قرار وزارة الصحة بمنع ختان الإناث فى المستشفيات الخاصة و العامة و تأسس عمل المحكمة على النصوص الدينية الخاصة بهذه الممارسة و فى عهد الشيخ جاد الحق تقدم الزهر بقوة لصالح ختان الإناث و مثلت القضية نقطة تحول فى انسحاب الدولة و عقب هذا العام عكست الدولة اتجاهها (جزئياً بسبب الضغط الدولى ) و حظرت هذه الممارسة.
خاتمة
تثير زيادة قوة الأزهر الشكوك حول القواعد الأيديولوجية للدولة المصرية و يبرز فى محاولة تقويم الموقف مجالان حيويان أكثرهما أهمية تعيين و قيادة شيخ الأزهر فلا تزال الحكومة تحافظ على حقها فى التعيين لهذا المنصب و عندما توفى جاد الحق سنة 1996 عينت الحكومة بسرعة خلفاً أكثر اعتدالاً له محمد السيد طنطاوى فكان طنطاوى يتبع كمفتى مصر الأكبر خط الدولة و كان معداً تماما لإصدار فتاوى تختلف عن تلك التى يصدرها الأزهر و مع ذلك كان على طنطاوى باعتباره شيخ الأزهر الآن أن يضع نفسه بمهارة بين بيانات الحكومة و تلك التى أصدرها سلفه كما ناقض وجهات النظر التى كان الأزهر قد أعلنها بإدانته ختان الإناث و موافقته على التبرع بالأعضاء و لكنه منذ أصبح شيخاً للأزهر أظهر طنطاوى رغبة متزايدة للتمايز عن الحكومة فى عدد من القضايا فقد غير رؤيته عن الحجاب معلناً فرضيته حيث وصفه فى السابق بأنه اختيار و عندما طلب منه وزير الأوقاف محمد على محجوب إصدار فتوى تعلن قبول توبة المؤلف البريطانى سلمان رشدى رفض ذلك كما أعلن رأيه ضد معامل تقطير الكحول الحكومية و ضريبة التركات.
تلقى قيادة طنطاوى الضوء على ما عليه العلاقة بين الأزهر و الحكومة من حساسية و إذا ما نظر إلى طنطاوى على أنه خاضع جداً للحكومة فإن موافقاته ستنتقص الشرعية التى يريدها النظام كثيراً و على طنطاوى أيضاً أن يناضل شبكات السلطة المستقرة داخل الأزهر نفسه فعلى حين أنه بطبيعة منصبه الوجه الأكثر بروزاً فى المؤسسة فإن ثمة آخرين لهم أوزانهم ينافسونه داخل الأزهر مثل الشيخ يحى إسماعيل حلبوش أمين و محمد عبد المنعم البارى .
و بقدر ما يهم الحكومة أثبت طنطاوى أنه شخصية أكثر توافقاً و تكيفاً من جاد الحق إن حق الحكومة فى تعيين شيخ الأزهر مع ذلك ليس طريقاً مؤكداً للتحكم فى المؤسسة فإذا قام طنطاوى أو أحد خلفاؤه باتخاذ موقف ضد الحكومة لدى تعيينه فإن أية تحركات من جانب الحكومة لاستبدال هذا الشيخ ستكون مدمرة لشرعية الدولة و حتى لو برهن الشيخ على مطاوعته فإن ثمة خطر (على الدولة ) تقارب الأزهر و الإخوان المسلمين أيديولوجياً و حتى على مستوى الأفراد حيث يجرى اجتذاب الطلاب الأزهر إلى المنظمة الإسلامية المحظورة .
لقد أدان الأزهر و الإخوان المسلمون العنف و ظلا يصران على أنهما لا يسعيان للسلطة و لكن يرغبان فقط فى تشجيع تطبيق القانون الإسلامى فكما أوضح شيخ الأزهر جاد الحق فإن " الأزهر يمكنه فقط الإدلاء برأيه فدور الأزهر تعليمى فقط فهو يقدم الإرشاد و يبقى التطبيق فى أيدى الآخرين و حكومات الأقطار الإسلامية هى الجهات التى يجب مخاطبتها فى هذا الخصوص " و يشبه هذا بشكل لافت للنظر موقف الإخوان المسلمين كما تم إيجازه فى كتاب "دعاة لا قضاة " الذى ألفه المرشد السابق حسن الهضيبى و تمثلت العقبة الأيديولوجية الكبرى الوحيدة بين الإخوان و الأزهر فى هذه المرحلة فى رفض الأزهر شجب اتفاقيات كامب ديفيد .
و قد التف الإخوان حول حظر الحكومة لأنشطتهم بالعمل من خلال عدد من الواجهات بما فى ذلك الصحف كصحيفة "الشعب" و النقابات المهنية (المحامين و المهندسين) و التنظيمات الخيرية و من المتوقع تواجد الإخوان بين آلاف الطلاب و هيئات التدريس و خبراء التعليم العالى فى الأزهر و فى الحملة الجماعية على الإخوان المسلمين قبل الانتخابات العامة سنة 1995كان أحد الأربعة عشر المقبوض عليهم مدرساً فى الأزهر .
و إذا تعززت الاتجاهات الحالية فإن الأزهر سيتحكم خلال سنوات قليلة فى كل مسجد فى مصر و سيقوم بدور رئيسى فى التشريع القانونى و ستكون له الكلمة الأخيرة فى الرقابة على الإعلام و إذا ما ظهر تحالف كأمر واقع De facto بين الأزهر و الإخوان المسلمين فإنه سيصبح قوة هائلة فى المشهد السياسى المصرى .
و أيما كان ما سيحدث أو ما لن يحدث تبقى حقيقة أن الحكومة تخلت عن قدر هام له دلالته من القوة السياسية للأزهر و المسألة الآن ما إذا كانت هذه العملية ستستمر ليصبح لها زخمها الخاص إلى النقطة التى تصبح فيها المبادئ الدينية لا العلمانية عماد الحياة العامة المصرية .
0 Comments:
Post a Comment
<< Home