النظرية السياسية والتغير المفاهيمي
يهدف هذا الفصل إلى تتبع مسار ما يدعوه المنعطف اللغوي أو النقلة اللغوية في النظرية السياسية، فعلى مدار النصف قرن المنصرم تحركت النظرية السياسية من التحليل اللغوي او المفاهيمي صوب تاريخ المفاهيم كأحد مداخل النظرية السياسية، ويرى الكاتب أن مراجعة هذا التطور يلقي الضوء على العديد من إشكاليات وآفاق النظرية السياسية في الألفية الثالثة.
ويقوم الفصل بذلك من خلال محاولة رسم اسكتش لتاريخ النقلة اللغوية في النظرية السياسية هذا التاريخ الذي يرى الكاتب أنه بشئ من التبسيط هو في الحقيقة قصة التحول من تحليل المفاهيم إلى تاريخ المفاهيم، ثم يعرض الخطوط العريضة لمدرستين أو مدخلين لتاريخ المفاهيم: المدخل الألماني والمدخل الأنجلو أمريكي، ساعياً لتحديد ما يعتبره الملامح المميزة للخطاب السياسي كحقل بحثي ثم يتطرق لما يدعوه " التاريخ النقدي للمفاهيم" كمدخل لبحث التجديد السياسي والتغير المفاهيمي، مبيناً أهمية دوره في النظرية السياسية المعاصرة.
فبالنسبة للمنعطف اللغوي أو النقلة اللغوية يشير الكاتب إلى أن الاهتمام باللغة قدم الفلسفة والفلسفة السياسية تحديدا،ً سواء تحت مسمى البلاغة أو غيره من المسميات، فمثلاً ربط "توسيديدز" بين الخلط المفاهيمي والفساد السياسي وأيضاً محاورات أفلاطون كما وجد هذا الاهتمام في كتابات عصر النهضة ولدى "توماس هوبز". لكن القرن العشرين شهد تطوير مداخل جديدة للغة السياسة، وكان التطور الأحدث نسبياً في هذا الصدد هو ما أطلق عليه "المنعطف اللغوي أو النقلة اللغوية" هذا التعبير الذي سكه "جوستاف برجمان" ونشره "رتشارد رورت" وأكسبه شعبية
ويتتبع الكاتب مراحل تطور النقلة اللغوية التي يرى أنها بدأت في أواخر العشرينات متخذة شكل النزعة الموضوعية، حيث يمكن تلمس المكانة المحورية التي أولتها الوضعية المنطقية للغة في عنوان ومضمون كتاب إيه جي أير " اللغة والحقيقة والمنطق"، وكان طموح "أير" في هذا الكتاب هو تنقية وإصلاح لغة الفلسفة لاستبعاد اللامعنى و الميتافيزيقيا (دبة الفلسفة الغبية) وسرعان ما وجد هذا المسعى جمهوراً متعاطفاً من منظرى السياسة الذين هدفوا لتنقية لغة السياسة والنظرية السياسة لجعلها أقل تشوشاً وأكثر تحديداً وذات معنى بشكل أكبر. لكن ذلك كان من منظور الوضعية المنطقية غاية في الصعوبة، بل أمراً غير مقدور لأن لغة النظرية السياسية هي هجين من نوع خاص، فحسب خطة التصنيف التي قدمتها الوضعية المنطقية فإن ثمة ثلاثة أنواع من الجمل : الجمل التركيبية للحقائق الإمبريقية، والثانية الجمل التحليلية عن الحقائق المعتبرة كذلك بالتقليد أو العرف، والنوع الثالث فئة عريضة تتسع لبقية الأقوال العاطفية أو الانفعالية الخلو من المعنى من الناحية المعرفية مثل : " سرقة النقود خطأ" فهي جملة لا تقول شيئاً عن السرقة، بل تشير وتعبر عن المشاعر والاتجاهات السلبية للمتكلم بصدد هذا الشكل من السرقة، أما النظرية السياسية فلها تفردها وتناقضاتها إن لم تكن تفتقر للتماسك، فهي خليط من العبارات التحليلية والتركيبية والانفعالية والقيمية، فمنذ أفلاطون إلى الآن ظلت كلاسيكيات النظرية السياسية مفعمة بهذا التداخل والتمازج بين القيم والوقائع، وتقدم التعريفات الإقناعية بشكل مضلل في صورة محايدة قيمياً ويضرب المثل على ذلك بنظرية العقد الاجتماعي.
وقد بلغت هذه الروح النقدية و"الإصلاحية" ذروتها في منتصف القرن المنصرم ففي مؤتمر "دلاليات العلوم الاجتماعية" ساد اعتقاد بان تباطؤ تقدم العلوم الاجتماعية - وعلم السياسة تحديداً- إنما هو بسبب ضعف تطور النظرية السياسية لما تتضمنه من ألفاظ معيارية وقيمية وغائية، حيث يتسم العديد من افتراضات النظرية السياسية إن لم يكن أغلبها باللاواقعية وعدم الجدوى ورأى أغلب المؤتمرون أنه طالما استمر تأثير النظرية السياسية على علم السياسة فسيظل هذا العلم متضمناً الكثير من قضايا التاريخ والقيم ف النظرية السياسية تنتمي إلى عوالم ذاتية من الخطاب غير مناسبة لقيام علم عام للمجتمع ويبقى الأمل الوحيد للنظرية السياسية هو تنقية لغتها لجعل مفاهيمها ذات معنى من الناحية المعرفية.
وقد عرض " ت والدن" هذا المدخل جيداً عام 1953 هو وعدد من أتباعه وزعم " والدن" ان النظرية السياسية من القصور بحيث أن ممارسيها سعوا لمهمة مستحيلة تتمثل في إيجاد أسس صلدة للارتكاز عليها والأسوأ أنهم سعوا لذلك باستخدام مفاهيم و كلمات مشوشة لذلك يجب أن تكون المهمة الأولى للنظرية السياسية أن تصلح هذا العوج، وأن تعدل عن سعيها بحثاً عن أسس مستقرة لتقنع بمهمة أكثر اعتدالاً وتوضعاً، وهي توضيح وتنقية وإعادة تحديبد وتعريف مفردات السياسة.
وحالما ننجز القطيعة مع غير الممكن والمشوش وماوراء الطبيعة من مفرادتنا الموروثة يمكننا أن نتناظر مناظرات ذات معنى حول القوة والسلطة والعدالة والحرية والمساواة وما شابه، ولذلك لابد على الأقل من أن نمايز بين أصناف الجمل ووأن نحفظ لها تمايزها فنقول: هذا تعريف إقناعي، وهذه جملة عن حقيقة، أو واقعة، وهذا منطوق انفعالي أو إيصائي وهكذا.
لو تم هذا لكنا إزاء عملية تشريح جافة ومروعة لكلاسيكيات النظرية السياسية! ولأصبح على لغة النظرية السياسية أن تتحول لأشكال، طموحاً إلى الوضوح الشفاف للغة العلوم الطبيعية كما فهمها - أو بالأدق أساء فهمها- منظرو الوضعية المنطقية وأضفوا عليها طابع الأنموذج والمثال، ولأصبح منظرو السياسة أشبه بالعمال المساعدين مسئولين عن مهمة تنظيف الفرشات لا بنائين عظام مثل " نيوتن " و "بويل".
فبالنسبة للنظرية السياسية يجب على المنظرين أن يشغلوا أنفسهم بمهمتين متواضعتين وإن كانت مهمتين: أن يحفظوا تراث أسلافهم كما هو بعيداً! والمهمة الثانية القيام بالعمل الروتيني الثقيل بتوضيح الكلمات التي يستخدمها علماء السياسة ذوي العقلية الإمبريقية التوجه، فالغرض الأساسي من وجهة نظر منظري الوضعية المنطقية كما صاغته " لجنة جمعية العلوم السياسية المريكية" هو : " تحديد وتعريف مفاهيم علم السياسة وتقديم تعريفات محددة للمصطلحات السياسية التي يمكن ان يستخدمها علماء السياسة " وفي أوائل الستينات حاول عدد من منظري السياسة إعادة تعريف مفاهيم " النظرية التقليدية و "المعيارية" لجعلها مفيدة للتحليل العلمي الإمبريقي وتفسير السلوك السياسي، مثلاً لم تخضع فكرة الحرية كما ذكر "فلكس أوبنهايم للتحليل السلوكي" بما أخر تطور علوم اجتماعية إمبريقية.
لكن "الروح الإصلاحية النقدية" للوضعية المنطقية أثبتت قصر عمرها بين المنظرين السياسيين وعلماء السياسة، وإن كان الأخيرون أبطأ في إقرارهم بأن الوضعية المنطقية قد تم تجاوزها بالفعل في الفلسفة وفلسفة العلم تحديدا،ً وأن العديد من الوضعيين المنطقيين تراجعوا عنها، فعندما سئل " جيه أير " عن أوجه القصور الرئيسة في الوضعية المنطقية أجاب بشجاعة تثير الإعجاب: "إن أهم نقائصها أنها كلها كانت خطأ!.
ثم يعرض الكاتب لتطور آخر في النقلة اللغوية تمثل في فلسفة اللغة العادية التي انتقدت بشدة سابقتها الوضعية المنطقية وكانت أقل نقداً للنظرية السياسية في ماضيها وحاضرها، فلم تعد لغة العلوم الطبيعية تمثل معيار التحديد والمعنى، فنحن نستخدم اللغة لفعل الأشياء: للوصف والشرح والتفسير والاعتذار والإعجاب والتحذير والمئات غيرها من " أفعال الكلام" ونحن نحلل المفاهيم والكلمات حتى أكثرها إمبريقية لا بالنظر لمعناها في ذاتها، بل في استخدامها فهي كلمات ذات معنى في سياق الاستخدامات التي توضع لها وحتى أكثر المفاهيم إمبريقية وتستخدم في الكلام العادي لا تخضع لتعريف بالغ الدقة والتحديد، فهي نفاذة ومسامية، وما دامت نفاذيتها طبيعية ولا تعوق التواصل فلا حاجة لإعادة تشكيل المفاهيم ولإعادة تعريفها أو جعلها أكثر دقة بأكثر ما يقتضيه التواصل، فنحن نحقق ما نحتاجه من وضوح بملاحظة ما نقوله ( نحن المتحدثين العاديين) في مواقف وسياقات محددة.
اتخذ فلاسفة اللغة العادية موقفاً أكثر تسامحاً وتعاطفاً مع النظرية السياسية من أسلافهم الوضعيين فقالوا بروح أرسطية: إن المرء يسعى لقدر من الوضوح يتطلبه الموضوع، فإذا كانت لغة السياسة تتسم بقدر غير هين من الغموض وعدم التحديد فإنها يجب أن تبقى كذلك، فهذا ملمح مميز للخطاب السياسي. فقال "فتشجنشتين" : "لندع كل الأمور على ماهي" وعكس فلاسفة اللغة العادية أطروحة ماركس فرأوا أن هدفهم فهم العالم وليس تغييره وأدى هذا لاتهام فلسفة اللغة العادية - خاصة عندما تطبق على المفاهيم السياسية- بعدم الحياد المعياري، بل وبالمحافظة، إذ تستخدم اللغة اعتيادياً لوصف وشرعنة الترتيبات والمؤسسات السياسية الظالمة، فكل لغة تعمل كقناع أيديولوجي لإخفاء هذه المظالم وحظرالنقد الجذري لها، والتحليل اللغوي من هذا النوع يسهم في حصر الفكر في دائرة العالم المشوه للغة العادية، هذا الاتهام بالمحافظة يراه الكاتب صحيحاً جزئياً وخطأ جزئيا في الوقت نفسه، إذ إن تحليل اللغة العادية في ذاته لا يقدم أية وصفة سياسية أو التزامات معنوية تؤدي لنزول مؤيديها إلى الشارع السياسي فضلاً عن أي إنسان آخر، فالاهتمام بمفهوم العدل لا يتطابق والاهتمام بتعرية الظلم والعمل على سيادة العدل، حيث يهدف منظرو السياسية فقط لتوضيح ما يعنيه الناس عندما يستخدمون المفهوم لنقد وإدانة الترتيبات المدنية والاجتماعية. صحيح أنه ليس عملا طموحاً لكنه مهمة متواضعة، على الأقل لإزالة بعض الخلط الذي يعمق الانقسامات السياسية، فإذا ما اتفقنا على ما نعنيه بالعدل سنتحرك ونحن أكثر ثقة لتنقية وتصحيح الأعمال والممارسات التي ندعوها نحن جميعاً ظالمة، وإن كان "ديفيد ميلر" قد أوضح خطل هذا الطموح.
يمكن وصف تحليل اللغة العادية بأن أميل للنزعة التحسينية من كونه محافظاً وأحياناً ينتقد بالفجاجة والسطحية واللاتاريخية، فبتأكيدها على التحليل اللحظي وتحليل معنى واستخدامات مفاهيم معينة فإن فلسفة اللغة العادية - أو التحليل المفاهيمي كما جرت ممارسته سابقاً في بريطانيا والولايات المتحدة- يميل إلى التركيز على لغة عصر وثقافة معينة هو عصرنا وثقافتنا، هذا التضييق لم يعم منظري السياسة عن حقيقة أن المعاني والاستخدامات تتغير من عصر لآخر ومن جيل لآخر وحسب، بل وأدى بهم للاعتقاد بأن مشروعهم الفكري محايد سياسياً، فالمهمة هنا هي توضيح وتحليل ما نقوله (نحن) كما لو كان ال(نحن) المتكلم واحد لا ينقسم بفعل التشيعات واختلاف المنظورات من قبيل العرق والإثنية والطبقة الاجتماعية والنوع الاجتماعي إلخ، وأن المتكلمون يستخدمون مفاهيم لا تتغير عبر الزمن، فبافتراض وجود (نحن) موحد لا يوجد بها تباينات بأي درجة تجاهلت فلسفة اللغة العادية التواؤم بين قضايا الصراع السياسي والتنازع المفاهيمي، بل ويمكن القول بشئ من المبالغة أن التحليل اللغوي يتجاهل أو يتغاضى عن ولا يبالي بالسياسة نفسها.
ويشير الكاتب أن فلاسفة السياسة السابقين لم يأخذوا ما نقوله على أنه كاف أو مرض لتسوية العراك المفاهيمي، وإن كانوا وضعوا القضايا في سياق قضايا اللغة العادية في أيامهم، وحاولوا إبدال أو إصلاح مفردات السياسة بنقد الرؤى الشائعة عن القوة والملكية والحرية وما شابه، مثل محاولة "لوك" بصدد مفهوم الأبوية،ونقده مفهوم "فلمر" في كتابة " البطريركية" فنقد ومحاولة إصلاح اللغة العادية بقى شائعاً لدى منظري وفلاسفة الساسة.
ويلفت الكاتب الانتباه إلى أن الوضعيين وفلاسفة اللغة العادية برغم اختلافهم يتفقان على أن الخلاف والتنازع على المفاهيم يمكن تسويته سواء بتنقية المفاهيم من التشوش وإعادة تعريفها بشكل دقيق (الوضعية) أو بالحضور عن قرب مما نقوله فيمكن - من حيث المبدأ- إنهاء التنازع المفاهيمي والوصول لاتفاق، ولكن مع تحدي هذا الرؤية دخلت النقلة اللغوية مرحلة جديدة ويحدد الكاتب بدايتها بنشر "جالي" ورقته البحثية عن المفاهيم المتنازعة بطبيعتها عام 1956 والتي حاج "جالي" فيها بأن بعض المفاهيم متنازَعة بطبيعتها خاصة في الخطاب الجمالي والسياسي. أي أن الاختلاف المستمر حول معناها وتطبيقها هو ملمح جوهري لايمكن استبعاده لعملها في الخطاب السياسي والجمالي، ويعد المفهوم متننازعاً إذا لم يكن له معنى واحد أو نطاق مرجعي أو معيار للتطبيق يتفق عليه كل المتكلمين، ففي حقل الجماليات والسياسة وفي الخطاب السياسي لا يوجد - بل ولا يمكن من حيث المبدأ أن يوجد- اتفاق على معيار يمكن وفقا له أن نصنف ونضع فئات ونتناظر حول مجموعة معينة من القضايا. مثلاً ما مفهوم الفن؟ وما الذي يميز العمل الفني عن غيره؟ فقد يوجد اتفاق على أن لوحة "العشاء الأخير" ل"دافنشي" عمل فني، لكن ماذا عن غيرها من الأعمال؟ فلا يوجد اتفاق عن السمات المؤهلة للعمل الفني لاعتباره كذلك. الأمر نفسه في الموسيقى والسياسة: فالمفاهيم غير المتنازعة نادرة - إن وجدت أصلاً- فإمعان النظر في مفاهيم مثل الحقوق والديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة والملكية والالتزام والسلطة وغيرها يظهر أن جميعها كانت ولا زالت متنازعة، فمعناها موضع نزاع لا ينتهي وخلاف مستمر .
ويرى الكاتب أن اكتشاف منظري السياسة لأطروحة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها أتت مرحلة أخرى في النقلة اللغوية في النظرية السياسية حيث بدت أطروحة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها تصف الملمح المحوري للحياة السياسية المتمثل في الخلاف والتنازع المستمر وأقر "جالي" هذا الصراع بصورة تجعله يفض يده منه ولا يتبنى أحكاماً، فلا توجد بلورة صحيحة لمفهوم القوة ولا لأي مفهوم سياسي آخر، بل عدم اتفاق واختلافات لا يمكن المحاجة بشأنها وليس بالإمكان حلها عقلانياً ولن يتم حلها .
وفي السبعينات استخدم عدد من علماء النظرية السياسية مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها ومن بينهم " وليام كونولي" في كتابه " مفردات الخطاب السياسي" وستيفن ليوك" في كتابه" القوة : رؤية راديكالية" وكلاهما قبل بمقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها وقاما بتطبيقها بشكل تنويري على المفاهيم الساسية في علم السياسة والنظرية السياسية وكلاهما قدم بشكل واضح أهدافا سياسية و أجندة سياسية راديكالية، فقد كتب ليوك " إن الدخول في مثل هذا النزاع المفاهيمي هو نفسه انشغال بالسياسة" فالكلام المهذب عما نتحدثه حل محله صراع مفاهيمي مفتوح للتشيع وحل محل الحوار المهذب الموةاجهات المفتوحة وغياب المحاجة العقلانية ومحاولة اجتذاب الآخرين وتحويلهم لتبني رؤيتك.
ويرى الكاتب أن الهجوم المفتوح الذي تعرضت له مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها كانت بداية ارتقاء النقلة اللغوية درجة أخرى، حيث حاج بعض النقاد بأن هذه المقولة غير متماسكة ويعوزها الاتساق الداخلي فأي نظريه لديها ما تقوله عن القوة وتتبنى مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها هي نظرية منقسمة على نفسها فمن ناحية قال "كونولي" و "ليوك" إن القوة وكافة المفاهيم السياسية بصورة أولية ومن حيث المبدأ هي في نزاع مستمر و لا يمكنالقرار على معانيها أو الوصول لتسوية بشأنها لكنهما من ناحية أخرى قدما نقداً للتصورات المنافسه عن القوة وبنيا حججاص عقلانية واستخدموا الشوهد الاجتماعية وغيرها لدعم مفهومهم للقوة وادعى ليوك أن مفهومه للقوة يفوق ما عداه وأن المفاهيم الأخرى أقل قيمة من مفهومه وما كان ذلك إلا بياناً لعدم إمكانية الدفاع عن مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها وعدم تماسكها فضلاً عن كونها ضارة سياسياً، فالسياسة ليست عن النزاع والصراع والاختلاف وحسب بل وبنفس الأهمية عن الاتفاق المرتقب في اللغة والحياة.
إذ تقوم السياسة والنظرية السياسية على أمل قائم وإن كان نادراً ما تحقق بأن القلم أقوى من السيف وأن قوة الحجة ستنتصر على قوة السلاح فالخطاب السياسي في هدفه وطموحه يتوقع الاتفاق والتوافق حتى لو كان المتكلمون مختلفين ةفيما بينهم هذا المثال الخطابي قديم قدم محاورات أفلاطون وحديث حداثة الموقف الخطابي المثالي ل"هابرماس" فمقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها تستثير حساسيتنا لاستمرار الخلاف المفاهيمي وتضعف حساسيتنا لإمكانية وأهمية الاتفاق المتوقع.
ويسوق الكاتب نقداً آخر لمقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها مستمد من تاريخ النظرية السياسية وممارساتها فالمقولة صحيحة بالنسبة للنزاع المفاهيمي كملمح متجدد ومستمر للخطاب السياسي بل هو ملمح محدد له لكن القول بذلك بصدد مفاهيم بعينها يعني تبني رؤية لا تاريخية تهمل الزمن لسمات و طريقة عمل المفاهيم السياسية فلم تبق المفاهيم السياسية و لا كان بالإمكان أن تكون المفاهيم متنازعة طيلة الوقت إذ يظل النزاع المفاهيمي إمكانية دائمة لكنه في الواقع والممارسة يتحقق بشكل عرضي ومؤقت فالنزاع حول معاني الديمقراطية حديث نسبياً في حين أن الحجاج الذي كان مستعراً حول الجمهورية برد منذ اواخر القرن الثامن عشر و لا يتناوله مؤرخي الفكر السياسي وليس الفاعلون السياسيون.
فمن وجهة نظر الكاتب مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها صحيحية لا كمقولة حول مفاهيم مفردة بل كتعميم سليم بصدد اللغة السياسية كنوع متميز من الخطاب، فمسألة أي المفاهيم يعتقد أنها تستحق النزاع حولها ومراجعتها هي غالباً مسألة سياسية وليست فلسفية، ففي بعض المواقف يصبح مهماً للفاعلين السياسيين أن يطروحوا لمعارضيهم ومؤيدهم فهمهم لماهية الحزب أو القوة أو السلطة أو ...
وقد أصبحت مقولة المنازعة الوقتية أو العارضة حول المفاهيم معلماً للمرحلة التالية التالية من النقلة اللغوية وفتحت الباب أمام مدخل آخر لدراسة الفكر السياسي أو التاريخ المفاهيمي وهي مرحلة اخرى مضللة فيما لو جرى تصور تاريخ للمفاهيم معزول كلية عن تاريخ الاختلاف والجدل السياسي وتاريخ النظرية السياسة ففي سياق التنازع المفاهيمي يجري تحدي المعاني القديمة وتطوير الحجج الجديدة لصالح الفهم الجديد للمفاهيم فالتجديد واللابتكار السياسي والتغير المفاهيمني وجهين لنفس العملة القديمة.
ويرسم الكاتب بإيجاز ملامح مدخلين من أهم مداخل دراسة تاريخ المفاهيم وهما المدخل الألماني ومن اهم رواده "رينهارت" و "كوزلك" و المدخل الأنجلو أمريكي او ما يسميه الكاتب التاريخ النقدي للمفاهيم فثمة رغبة عن المشروع السكوني اللاتاريخي لتحليل المفاهيم ونزوعاً إلى التأكيد ذي التوجه الأكثر حركية وتاريخية على تاريخ المفاهيم أي الاهتمام بالتغير المفاهيمي وبناء تواريخ للمفاهيم ومن منظور المدخل الألماني لا يمكن أن يوجد مجتمع و لا حقل سياسي يجري العمل فيه بدون مفاهيم لكن تحديد أي المفاهيم سيكون العملة المتداولة والمشتركة في الخطاب في ظرف تاريخي معين وماذا تعنيه هذه المفاهيم هو ميدان معركة حقيقة فيصبح النضال حول المفاهيم الصحيحية متفجراً سياسياً واجتماعياً ويحاول مؤرخوا المفاهيم أن يرسموا خريطة لحقل الألغام هذا كما هو عليه بختبار وتمحيص نقاط التحول التاريخية تكون الروافد في تاريخ المفاهيم التي تشكل الخطاب السياسي الحديث وينطوي هذا على ملاحظة متى و لأي غرض جرى سك الكلمات الجديدة التي أصبحت معتادة الآن مثل الأيديولوجية والليبرالية وأيضاً تعقب التغيرات الهامة في معنى المصطلحات الحديثة مثل الثورة والدستور هذه هي أهم مهام المدخل او المدرسة الأمانية
وقد حاول مؤرخو المفاهيم الألمان اختبار عدد من الفرضيات منها أن القرن الثامن عشر كان فترة تحولات مفاهيمية غير مسبوقة وانها لم تتضمن سك وإعادة سك المصطلحات وحسب بل ونزوع متزايد نحو التجريد الأيديولوجي كما أصبح الصراع السياسي أكثر انشغالاً بالمبادئ بل وبالأوليات وأصبحت المفاهيم التي كانت لها تصنيفات مستقرة ومرجعيات جغرافية ثابتة تجريدات عائمة يجري الحديث عنها بشكل عالمي شامل مثل مفهوم الحقوق .
أما المدرسة الأمريكية فتختلف عن الألمانية لا في تركيزها على الخطاب الأنجلوفوني وحسب بل في أنهم على خلاف نظرائهم الأمان الذين استخدموا منهجاً موحداً وتعاونوا معاً وكانوا موسوعيين في نطاق دراستهم ومجالهم فقد عمل الأمريكيون والإنجليز بشكل فردي وانتقائي في تحديدهم لأهدافهم واختيارهم لمفاهيميهم دون أن يعني ذلك أن جهودهم كانت متتامة أو أن اهتماماتهم كانت متقاطعة. ونظراً لسعي الكاتب لتطوير وتفضيل مدخل معين لدراسة المفاهيم فإنه يحاول تحديد السمات الخاصة للخطاب السياسي كحقل للبحث والدراسة ويقصد الكاتب باللغة في هذا السياق اللغة المعنوية أو السياسية أي تلك اللغة التي تشمل التصورات المشتركة عن العالم والقيم وأخلاقيات السلوك المشتركة والمصادر والتوقعات والإجراءات المشتركة للكلام والفكر والتي من خلالها تتحدد المجتمعات وتتشكل وفي الوقت نفسه يرى الكاتب أن هذا التحديد يتعقد بفعل كون لغة المجتمع ليست شبكة محكمة أو كل موحد البنية بل تتكون من مجموعة من اللغات الفرعية أو التعبيرات الاصطلاحية التي يطلق الكاتب عليها الخطاب.
فالخطاب عنده هو لغة فرعية يتم الحديث بها وتمثل عنصراً مشكلاً لحقل معين أو مجال معين أو جماعة فرعية معينة مثلاً خطاب الاقتصاد أو القانون أو الطب . لكن الخطاب السياسي له ملامحه الفريدة ومنها هذا التوتر الذي يمكن إيضاحه على النحو التالي: إن الخطاب السياسي يستخدم اللغة التي نتشاركها لا كمتكلمين للغة فرعية متخصصة بل باعتبار قدرتنا وأهليتنا كمواطنين. هذه هي الصورة المثالية لكن هذه الصورة تتقوض من خلال : كون الخطاب السياسي يقوم على ويستعير من خطابات أكثر تخصصاً وعندما تتم استعارة المفاهيم من القانون او الدين مثلاً وتدخل حقل المعاني السياسية فإنها تبدل شكل وبنية الحقل الخطابي بإبدال كلمات المتكلم أو القائم بالخطاب.إن عملية تعدية المفاهيم والانسياب عبر التخوم الخطابية هي مصدر أساسي للتغير المفاهيمي الأمر الثاني أن الخطاب السياسي بطبيعته يتكون من مفاهيم لم يتم الاتفاق على معناها بل وعادة ما يتنازعها بشكل حاد المواطنون القائمون بالخطاب فإمكانية انقطاع الاتصال هي ملمح حاضر دوماً في الخطاب دوماً في الخطاب السياسي لإن لم يكن الملمح المحدد له كما أشار "جوفينيل" : "العملية السياسية هي عمل عقل على آخر من خلال الكلام ويعتمد الاتصال من خلال الكلام على وجود مذخور من الكلمات التي يعزي لها المشاركون في الخطاب نفس المعاني في ذاكرتهم وكما ينتمي الناس لنفس الثقافة باستخدامهم نفس اللغة فإنهم ينتمون إلى نفس المجتمع بفهمهم لنفس اللغة المعيارية وكما يمكن أن تمتد هذه اللغة يمكن أن تنهار والأمر نفسه بالنسبة للمجتمع" وبالمثل يمكن القول بان العملية السياسية هي عمل متكلم على آخر عن مسائل عامة أو مشتركة لكن ما يعد عاماً وسياسياً هو نفسه موضوع للخلاف السياسي والمناظرة والمحاجة فالخلافات حول نطاق ومجال السياسي هي نفسها ملمح مكون للخطاب السياسي.
ثم يرسم الكاتب الملامح العامة للتاريخ النقدي للمفاهيم كأحد أهم مداخل دراسة النظرية السياسية فمهمة المؤرخ النقدي للمفاهيم هي رسم خريطة للتغيرات للتغيرات في المفاهيم المشكلة لخطابات الفاعلين السياسيين أحياءً وامواتاً وتتضمن الأسئلة عن التحولات في الخطاب السياسي:
- كيف يمكن للمرء تحديد أو وصف هذه الخطابات والتغيرات المحددة التي تعرضت لها ؟
- أي المفاهيم – تحديداً – تم غبدال معانيها وكيف جرى هذا الإبدال ولماذا ومن قام به؟ وما الاستراتيجيات البلاغية التي استخدمها ؟ وما الاختلافات التي حدثت وتحدث الآن؟
وكثيراً -وليس دائما- يتم ذلك بالإحالة لتراث سياسي معين أو تراث خطابي معين مثل الليبرالية أو الجمهوية .
ويرى الكاتب أن للخطاب السياسي والمفاهيم التي تشكله تواريخ يمكن إعادة بنائها حكايةً بأشكال عديدة وتظهر مثل هذه التواريخ كيف تعمل هذه الخطابات وكيف تتغير، بل ويمكن تعقب هذه التغيرات إلى المشكلات التي كان يدركها فاعلون تاريخيون أو فئة معينة من الفاعلين في مواقف سياسية معينة، ويجري التغير المفاهيمي على يد فاعلين سياسيين يشغلون مواقع معينة، ويعملون تحت قيود لغوية يمكن تحديدها يفرضها تراث معين كما هو موجود في زمن معين. والمفردات التي يعمل عليها وضمنها هؤلاء الفاعلون مرنة إلى حد بعيد وإن كانت غير قابلة للتشكل بشكل كامل، فهم يستطيعون إلى حد بعيد تحويل لغتهم لكن لغتهم – بشكل عكسي – وبطريقة تدق على الملاحظة تحولهم وتساعد في جعلهم هذا النوع من البشر الذي هم عليه، فالطرق التي يشكل بها المتكلمون لغتهم وتشكلهم هي بها هي موضوع التاريخ النقدي للمفاهيم.
ويجيب الكاتب على التساؤلات التي يمكن أن تطرح في هذا السياق مثل: لماذا الاهتمام بالمفاهيم وليس الكلمات والألفاظ ولماذا التغير المفاهيمي وليس اللغوي وما النقدي في التاريخ النقدي للمفاهيم فبالنسبة لجعل المفاهيم وحدة التحليل فإن المفردات السياسية تتكون من مفاهيم لا من كلمات فيمكن أن يوجد عند المرء مفهوم معين دون أن يصوغ الكلمة المعبرة عنه فمثلا كان ل"ميلتون" مفهومه للأصالة لكن الكلمة المعبرة عن المفهوم لم تدخل الإنجليزية إلا بعد وفاته بقرن، ومثل الطفل الذي يقول أحب وطني دون أن يعرف الكلمة المعبرة عن مفهوم الوطنية، وبالمثل فإن الكلمات قد تشير لمفاهيم مختلفة في فترات مختلفة مثل مفهوم الحق في عصر التنوير هو غيره الآن، والثورة التي كانت تتضمن عند "لوك" معاني الإبقاء على القديم الصالح والتجديد ومعاني الدورية وما أصبحت تعنيه الآن من التخلص من كامل النظام القديم فالكلمات لا تتغير بل المفاهيم والمعاني هي التي تتغير.
ولا يمكن حكاية تاريخ المفاهيم السياسية والمفاهيم المستخدمة في الخطاب السياسي تحديداً بمعزل عن الصراع السياسي فالمفاهيم أسلحة حرب وأدوات إقناع وشرعنة وأداة ضامة لتحقيق الهوية والتضامن فدراسة تاريخ المفاهيم السياسية هي مراجعة لميدان المعركة وإعادة بناء المواقع والاستراتيجيات للقوى المتعادية.
فندرس هنا المفاهيم المتاحة للاستخدام في هذه المناسبة؟ ولأية أغراض استخدمت؟ وبأي قدر من التاثير وكيف تبدلت معانيها في سياق نشرها؟ فما الذي يميز دراسة التاريخ النقدي للمفاهيم عن علم دراسة أصول الكلمات وبنيتها اللغوية هو الاهتمام بالمحاجات التي تظهر فيها المفاهيم لأداء أنواع معينة من الأعمال في أوقات معينة ومواقع سياسية معينة. فتواريخ المفاهيم السياسية هي تواريخ للمحاجات السياسية والنزاعات والخلافات المفاهيمية التي تدفعها أو تزيحها.
ما النقدي في التاريخ النقدي للمفاهيم ؟ ثلاثة نقاط: أن هذا التاريخ مكتوب بقصد نقدي لإظهار أن التغير المفاهيمي ليس ممكناً فقط بل وملمح محدد للخطاب السياسي، وأن مثل هذه التواريخ تظهر كيف يصبح فاعل سياسي معين واعياً بالكيفيات الدقيقة التي قد لا يعترف بها لكن بها غيرتهم خطاباتهم هم ومعاصريهم قبل البدء في مهمة تحويل الخطاب السياسي.النقطة الثانية أن التاريخ النقدي للمفاهيم يظهر بقدر من التفصيل المناسب كيف حول هؤلاء الفاعلون الخطاب السياسي السائد في أيامهم ويقتضي هذا من المؤرخين تحديد العمليات والاليات التي بها و من خلالها قام فاعل سياسي بتغييرات معينة ويتضمن هذا اكتشاف وعرض ونقد التناقضات وعدم التماسك في الخطابات المسيطرة والسائدة والمحاجات والخدع الحربية البلاغية المستخدمة لهذا الغرض وربما بهدف اكثر موضوعية هو بناء خطاب بديل .
وهذا أمر ابعد من كونه شقشقة فلاسفة لتزجية الوقت فهذا النوع من النشاط النقدي يراه الكاتب يؤثر على الطرق التي يفكر بها الفاعلون السياسيون ويتصرفون، فتواريخ المفاهيم ليست محايدة سياسياً،َ ولا يعني هذا أن يصبح مؤرخو المفاهيم حركيين سياسيين في أحزاب أو حركات معينة، بل إنهم نقديون بقدر ما ينبهون جمهورهم للطرق التي بها والأدوات التي من خلالها يحولهم عالمهم الذي يتشكل من خلال الاتصال وكيف أنهم بدورهم يحولونه .
فتاريخ المفاهيم كما يراه الكاتب من المداخل المهمة لدراسة النظرية السياسة من خلال تنبيهه للدراسين لملامح عالمنا الذي يغيم علينا إدراكه بفعل التعود والألفة فهو يمدنا بمرآة بعيدة المسافة لممارسات الماضي ومعتقداته التي تبدو غريبة ومغتربة عن أعيننا الحداثية وما بعد الحداثية، وتقتضي معالجة ومحاولة فهم الممارسات والأفكار بكل غرابتها مد وتوسيع مفاهيمنا وفئات تصنيفنا لمواجهة حس الغرابة والاختلاف هذا، لا لجعله أقل غرابة، بل لجعله مفهوماً. فالهدف هو إلقاء الضوء على الأفكار والمعتقدات والممارسات الماضية، ولدى القيام بذلك نمد حدودنا اللغوية لخطابنا السياسي القائم.
ويقوم الفصل بذلك من خلال محاولة رسم اسكتش لتاريخ النقلة اللغوية في النظرية السياسية هذا التاريخ الذي يرى الكاتب أنه بشئ من التبسيط هو في الحقيقة قصة التحول من تحليل المفاهيم إلى تاريخ المفاهيم، ثم يعرض الخطوط العريضة لمدرستين أو مدخلين لتاريخ المفاهيم: المدخل الألماني والمدخل الأنجلو أمريكي، ساعياً لتحديد ما يعتبره الملامح المميزة للخطاب السياسي كحقل بحثي ثم يتطرق لما يدعوه " التاريخ النقدي للمفاهيم" كمدخل لبحث التجديد السياسي والتغير المفاهيمي، مبيناً أهمية دوره في النظرية السياسية المعاصرة.
فبالنسبة للمنعطف اللغوي أو النقلة اللغوية يشير الكاتب إلى أن الاهتمام باللغة قدم الفلسفة والفلسفة السياسية تحديدا،ً سواء تحت مسمى البلاغة أو غيره من المسميات، فمثلاً ربط "توسيديدز" بين الخلط المفاهيمي والفساد السياسي وأيضاً محاورات أفلاطون كما وجد هذا الاهتمام في كتابات عصر النهضة ولدى "توماس هوبز". لكن القرن العشرين شهد تطوير مداخل جديدة للغة السياسة، وكان التطور الأحدث نسبياً في هذا الصدد هو ما أطلق عليه "المنعطف اللغوي أو النقلة اللغوية" هذا التعبير الذي سكه "جوستاف برجمان" ونشره "رتشارد رورت" وأكسبه شعبية
ويتتبع الكاتب مراحل تطور النقلة اللغوية التي يرى أنها بدأت في أواخر العشرينات متخذة شكل النزعة الموضوعية، حيث يمكن تلمس المكانة المحورية التي أولتها الوضعية المنطقية للغة في عنوان ومضمون كتاب إيه جي أير " اللغة والحقيقة والمنطق"، وكان طموح "أير" في هذا الكتاب هو تنقية وإصلاح لغة الفلسفة لاستبعاد اللامعنى و الميتافيزيقيا (دبة الفلسفة الغبية) وسرعان ما وجد هذا المسعى جمهوراً متعاطفاً من منظرى السياسة الذين هدفوا لتنقية لغة السياسة والنظرية السياسة لجعلها أقل تشوشاً وأكثر تحديداً وذات معنى بشكل أكبر. لكن ذلك كان من منظور الوضعية المنطقية غاية في الصعوبة، بل أمراً غير مقدور لأن لغة النظرية السياسية هي هجين من نوع خاص، فحسب خطة التصنيف التي قدمتها الوضعية المنطقية فإن ثمة ثلاثة أنواع من الجمل : الجمل التركيبية للحقائق الإمبريقية، والثانية الجمل التحليلية عن الحقائق المعتبرة كذلك بالتقليد أو العرف، والنوع الثالث فئة عريضة تتسع لبقية الأقوال العاطفية أو الانفعالية الخلو من المعنى من الناحية المعرفية مثل : " سرقة النقود خطأ" فهي جملة لا تقول شيئاً عن السرقة، بل تشير وتعبر عن المشاعر والاتجاهات السلبية للمتكلم بصدد هذا الشكل من السرقة، أما النظرية السياسية فلها تفردها وتناقضاتها إن لم تكن تفتقر للتماسك، فهي خليط من العبارات التحليلية والتركيبية والانفعالية والقيمية، فمنذ أفلاطون إلى الآن ظلت كلاسيكيات النظرية السياسية مفعمة بهذا التداخل والتمازج بين القيم والوقائع، وتقدم التعريفات الإقناعية بشكل مضلل في صورة محايدة قيمياً ويضرب المثل على ذلك بنظرية العقد الاجتماعي.
وقد بلغت هذه الروح النقدية و"الإصلاحية" ذروتها في منتصف القرن المنصرم ففي مؤتمر "دلاليات العلوم الاجتماعية" ساد اعتقاد بان تباطؤ تقدم العلوم الاجتماعية - وعلم السياسة تحديداً- إنما هو بسبب ضعف تطور النظرية السياسية لما تتضمنه من ألفاظ معيارية وقيمية وغائية، حيث يتسم العديد من افتراضات النظرية السياسية إن لم يكن أغلبها باللاواقعية وعدم الجدوى ورأى أغلب المؤتمرون أنه طالما استمر تأثير النظرية السياسية على علم السياسة فسيظل هذا العلم متضمناً الكثير من قضايا التاريخ والقيم ف النظرية السياسية تنتمي إلى عوالم ذاتية من الخطاب غير مناسبة لقيام علم عام للمجتمع ويبقى الأمل الوحيد للنظرية السياسية هو تنقية لغتها لجعل مفاهيمها ذات معنى من الناحية المعرفية.
وقد عرض " ت والدن" هذا المدخل جيداً عام 1953 هو وعدد من أتباعه وزعم " والدن" ان النظرية السياسية من القصور بحيث أن ممارسيها سعوا لمهمة مستحيلة تتمثل في إيجاد أسس صلدة للارتكاز عليها والأسوأ أنهم سعوا لذلك باستخدام مفاهيم و كلمات مشوشة لذلك يجب أن تكون المهمة الأولى للنظرية السياسية أن تصلح هذا العوج، وأن تعدل عن سعيها بحثاً عن أسس مستقرة لتقنع بمهمة أكثر اعتدالاً وتوضعاً، وهي توضيح وتنقية وإعادة تحديبد وتعريف مفردات السياسة.
وحالما ننجز القطيعة مع غير الممكن والمشوش وماوراء الطبيعة من مفرادتنا الموروثة يمكننا أن نتناظر مناظرات ذات معنى حول القوة والسلطة والعدالة والحرية والمساواة وما شابه، ولذلك لابد على الأقل من أن نمايز بين أصناف الجمل ووأن نحفظ لها تمايزها فنقول: هذا تعريف إقناعي، وهذه جملة عن حقيقة، أو واقعة، وهذا منطوق انفعالي أو إيصائي وهكذا.
لو تم هذا لكنا إزاء عملية تشريح جافة ومروعة لكلاسيكيات النظرية السياسية! ولأصبح على لغة النظرية السياسية أن تتحول لأشكال، طموحاً إلى الوضوح الشفاف للغة العلوم الطبيعية كما فهمها - أو بالأدق أساء فهمها- منظرو الوضعية المنطقية وأضفوا عليها طابع الأنموذج والمثال، ولأصبح منظرو السياسة أشبه بالعمال المساعدين مسئولين عن مهمة تنظيف الفرشات لا بنائين عظام مثل " نيوتن " و "بويل".
فبالنسبة للنظرية السياسية يجب على المنظرين أن يشغلوا أنفسهم بمهمتين متواضعتين وإن كانت مهمتين: أن يحفظوا تراث أسلافهم كما هو بعيداً! والمهمة الثانية القيام بالعمل الروتيني الثقيل بتوضيح الكلمات التي يستخدمها علماء السياسة ذوي العقلية الإمبريقية التوجه، فالغرض الأساسي من وجهة نظر منظري الوضعية المنطقية كما صاغته " لجنة جمعية العلوم السياسية المريكية" هو : " تحديد وتعريف مفاهيم علم السياسة وتقديم تعريفات محددة للمصطلحات السياسية التي يمكن ان يستخدمها علماء السياسة " وفي أوائل الستينات حاول عدد من منظري السياسة إعادة تعريف مفاهيم " النظرية التقليدية و "المعيارية" لجعلها مفيدة للتحليل العلمي الإمبريقي وتفسير السلوك السياسي، مثلاً لم تخضع فكرة الحرية كما ذكر "فلكس أوبنهايم للتحليل السلوكي" بما أخر تطور علوم اجتماعية إمبريقية.
لكن "الروح الإصلاحية النقدية" للوضعية المنطقية أثبتت قصر عمرها بين المنظرين السياسيين وعلماء السياسة، وإن كان الأخيرون أبطأ في إقرارهم بأن الوضعية المنطقية قد تم تجاوزها بالفعل في الفلسفة وفلسفة العلم تحديدا،ً وأن العديد من الوضعيين المنطقيين تراجعوا عنها، فعندما سئل " جيه أير " عن أوجه القصور الرئيسة في الوضعية المنطقية أجاب بشجاعة تثير الإعجاب: "إن أهم نقائصها أنها كلها كانت خطأ!.
ثم يعرض الكاتب لتطور آخر في النقلة اللغوية تمثل في فلسفة اللغة العادية التي انتقدت بشدة سابقتها الوضعية المنطقية وكانت أقل نقداً للنظرية السياسية في ماضيها وحاضرها، فلم تعد لغة العلوم الطبيعية تمثل معيار التحديد والمعنى، فنحن نستخدم اللغة لفعل الأشياء: للوصف والشرح والتفسير والاعتذار والإعجاب والتحذير والمئات غيرها من " أفعال الكلام" ونحن نحلل المفاهيم والكلمات حتى أكثرها إمبريقية لا بالنظر لمعناها في ذاتها، بل في استخدامها فهي كلمات ذات معنى في سياق الاستخدامات التي توضع لها وحتى أكثر المفاهيم إمبريقية وتستخدم في الكلام العادي لا تخضع لتعريف بالغ الدقة والتحديد، فهي نفاذة ومسامية، وما دامت نفاذيتها طبيعية ولا تعوق التواصل فلا حاجة لإعادة تشكيل المفاهيم ولإعادة تعريفها أو جعلها أكثر دقة بأكثر ما يقتضيه التواصل، فنحن نحقق ما نحتاجه من وضوح بملاحظة ما نقوله ( نحن المتحدثين العاديين) في مواقف وسياقات محددة.
اتخذ فلاسفة اللغة العادية موقفاً أكثر تسامحاً وتعاطفاً مع النظرية السياسية من أسلافهم الوضعيين فقالوا بروح أرسطية: إن المرء يسعى لقدر من الوضوح يتطلبه الموضوع، فإذا كانت لغة السياسة تتسم بقدر غير هين من الغموض وعدم التحديد فإنها يجب أن تبقى كذلك، فهذا ملمح مميز للخطاب السياسي. فقال "فتشجنشتين" : "لندع كل الأمور على ماهي" وعكس فلاسفة اللغة العادية أطروحة ماركس فرأوا أن هدفهم فهم العالم وليس تغييره وأدى هذا لاتهام فلسفة اللغة العادية - خاصة عندما تطبق على المفاهيم السياسية- بعدم الحياد المعياري، بل وبالمحافظة، إذ تستخدم اللغة اعتيادياً لوصف وشرعنة الترتيبات والمؤسسات السياسية الظالمة، فكل لغة تعمل كقناع أيديولوجي لإخفاء هذه المظالم وحظرالنقد الجذري لها، والتحليل اللغوي من هذا النوع يسهم في حصر الفكر في دائرة العالم المشوه للغة العادية، هذا الاتهام بالمحافظة يراه الكاتب صحيحاً جزئياً وخطأ جزئيا في الوقت نفسه، إذ إن تحليل اللغة العادية في ذاته لا يقدم أية وصفة سياسية أو التزامات معنوية تؤدي لنزول مؤيديها إلى الشارع السياسي فضلاً عن أي إنسان آخر، فالاهتمام بمفهوم العدل لا يتطابق والاهتمام بتعرية الظلم والعمل على سيادة العدل، حيث يهدف منظرو السياسية فقط لتوضيح ما يعنيه الناس عندما يستخدمون المفهوم لنقد وإدانة الترتيبات المدنية والاجتماعية. صحيح أنه ليس عملا طموحاً لكنه مهمة متواضعة، على الأقل لإزالة بعض الخلط الذي يعمق الانقسامات السياسية، فإذا ما اتفقنا على ما نعنيه بالعدل سنتحرك ونحن أكثر ثقة لتنقية وتصحيح الأعمال والممارسات التي ندعوها نحن جميعاً ظالمة، وإن كان "ديفيد ميلر" قد أوضح خطل هذا الطموح.
يمكن وصف تحليل اللغة العادية بأن أميل للنزعة التحسينية من كونه محافظاً وأحياناً ينتقد بالفجاجة والسطحية واللاتاريخية، فبتأكيدها على التحليل اللحظي وتحليل معنى واستخدامات مفاهيم معينة فإن فلسفة اللغة العادية - أو التحليل المفاهيمي كما جرت ممارسته سابقاً في بريطانيا والولايات المتحدة- يميل إلى التركيز على لغة عصر وثقافة معينة هو عصرنا وثقافتنا، هذا التضييق لم يعم منظري السياسة عن حقيقة أن المعاني والاستخدامات تتغير من عصر لآخر ومن جيل لآخر وحسب، بل وأدى بهم للاعتقاد بأن مشروعهم الفكري محايد سياسياً، فالمهمة هنا هي توضيح وتحليل ما نقوله (نحن) كما لو كان ال(نحن) المتكلم واحد لا ينقسم بفعل التشيعات واختلاف المنظورات من قبيل العرق والإثنية والطبقة الاجتماعية والنوع الاجتماعي إلخ، وأن المتكلمون يستخدمون مفاهيم لا تتغير عبر الزمن، فبافتراض وجود (نحن) موحد لا يوجد بها تباينات بأي درجة تجاهلت فلسفة اللغة العادية التواؤم بين قضايا الصراع السياسي والتنازع المفاهيمي، بل ويمكن القول بشئ من المبالغة أن التحليل اللغوي يتجاهل أو يتغاضى عن ولا يبالي بالسياسة نفسها.
ويشير الكاتب أن فلاسفة السياسة السابقين لم يأخذوا ما نقوله على أنه كاف أو مرض لتسوية العراك المفاهيمي، وإن كانوا وضعوا القضايا في سياق قضايا اللغة العادية في أيامهم، وحاولوا إبدال أو إصلاح مفردات السياسة بنقد الرؤى الشائعة عن القوة والملكية والحرية وما شابه، مثل محاولة "لوك" بصدد مفهوم الأبوية،ونقده مفهوم "فلمر" في كتابة " البطريركية" فنقد ومحاولة إصلاح اللغة العادية بقى شائعاً لدى منظري وفلاسفة الساسة.
ويلفت الكاتب الانتباه إلى أن الوضعيين وفلاسفة اللغة العادية برغم اختلافهم يتفقان على أن الخلاف والتنازع على المفاهيم يمكن تسويته سواء بتنقية المفاهيم من التشوش وإعادة تعريفها بشكل دقيق (الوضعية) أو بالحضور عن قرب مما نقوله فيمكن - من حيث المبدأ- إنهاء التنازع المفاهيمي والوصول لاتفاق، ولكن مع تحدي هذا الرؤية دخلت النقلة اللغوية مرحلة جديدة ويحدد الكاتب بدايتها بنشر "جالي" ورقته البحثية عن المفاهيم المتنازعة بطبيعتها عام 1956 والتي حاج "جالي" فيها بأن بعض المفاهيم متنازَعة بطبيعتها خاصة في الخطاب الجمالي والسياسي. أي أن الاختلاف المستمر حول معناها وتطبيقها هو ملمح جوهري لايمكن استبعاده لعملها في الخطاب السياسي والجمالي، ويعد المفهوم متننازعاً إذا لم يكن له معنى واحد أو نطاق مرجعي أو معيار للتطبيق يتفق عليه كل المتكلمين، ففي حقل الجماليات والسياسة وفي الخطاب السياسي لا يوجد - بل ولا يمكن من حيث المبدأ أن يوجد- اتفاق على معيار يمكن وفقا له أن نصنف ونضع فئات ونتناظر حول مجموعة معينة من القضايا. مثلاً ما مفهوم الفن؟ وما الذي يميز العمل الفني عن غيره؟ فقد يوجد اتفاق على أن لوحة "العشاء الأخير" ل"دافنشي" عمل فني، لكن ماذا عن غيرها من الأعمال؟ فلا يوجد اتفاق عن السمات المؤهلة للعمل الفني لاعتباره كذلك. الأمر نفسه في الموسيقى والسياسة: فالمفاهيم غير المتنازعة نادرة - إن وجدت أصلاً- فإمعان النظر في مفاهيم مثل الحقوق والديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة والملكية والالتزام والسلطة وغيرها يظهر أن جميعها كانت ولا زالت متنازعة، فمعناها موضع نزاع لا ينتهي وخلاف مستمر .
ويرى الكاتب أن اكتشاف منظري السياسة لأطروحة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها أتت مرحلة أخرى في النقلة اللغوية في النظرية السياسية حيث بدت أطروحة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها تصف الملمح المحوري للحياة السياسية المتمثل في الخلاف والتنازع المستمر وأقر "جالي" هذا الصراع بصورة تجعله يفض يده منه ولا يتبنى أحكاماً، فلا توجد بلورة صحيحة لمفهوم القوة ولا لأي مفهوم سياسي آخر، بل عدم اتفاق واختلافات لا يمكن المحاجة بشأنها وليس بالإمكان حلها عقلانياً ولن يتم حلها .
وفي السبعينات استخدم عدد من علماء النظرية السياسية مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها ومن بينهم " وليام كونولي" في كتابه " مفردات الخطاب السياسي" وستيفن ليوك" في كتابه" القوة : رؤية راديكالية" وكلاهما قبل بمقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها وقاما بتطبيقها بشكل تنويري على المفاهيم الساسية في علم السياسة والنظرية السياسية وكلاهما قدم بشكل واضح أهدافا سياسية و أجندة سياسية راديكالية، فقد كتب ليوك " إن الدخول في مثل هذا النزاع المفاهيمي هو نفسه انشغال بالسياسة" فالكلام المهذب عما نتحدثه حل محله صراع مفاهيمي مفتوح للتشيع وحل محل الحوار المهذب الموةاجهات المفتوحة وغياب المحاجة العقلانية ومحاولة اجتذاب الآخرين وتحويلهم لتبني رؤيتك.
ويرى الكاتب أن الهجوم المفتوح الذي تعرضت له مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها كانت بداية ارتقاء النقلة اللغوية درجة أخرى، حيث حاج بعض النقاد بأن هذه المقولة غير متماسكة ويعوزها الاتساق الداخلي فأي نظريه لديها ما تقوله عن القوة وتتبنى مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها هي نظرية منقسمة على نفسها فمن ناحية قال "كونولي" و "ليوك" إن القوة وكافة المفاهيم السياسية بصورة أولية ومن حيث المبدأ هي في نزاع مستمر و لا يمكنالقرار على معانيها أو الوصول لتسوية بشأنها لكنهما من ناحية أخرى قدما نقداً للتصورات المنافسه عن القوة وبنيا حججاص عقلانية واستخدموا الشوهد الاجتماعية وغيرها لدعم مفهومهم للقوة وادعى ليوك أن مفهومه للقوة يفوق ما عداه وأن المفاهيم الأخرى أقل قيمة من مفهومه وما كان ذلك إلا بياناً لعدم إمكانية الدفاع عن مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها وعدم تماسكها فضلاً عن كونها ضارة سياسياً، فالسياسة ليست عن النزاع والصراع والاختلاف وحسب بل وبنفس الأهمية عن الاتفاق المرتقب في اللغة والحياة.
إذ تقوم السياسة والنظرية السياسية على أمل قائم وإن كان نادراً ما تحقق بأن القلم أقوى من السيف وأن قوة الحجة ستنتصر على قوة السلاح فالخطاب السياسي في هدفه وطموحه يتوقع الاتفاق والتوافق حتى لو كان المتكلمون مختلفين ةفيما بينهم هذا المثال الخطابي قديم قدم محاورات أفلاطون وحديث حداثة الموقف الخطابي المثالي ل"هابرماس" فمقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها تستثير حساسيتنا لاستمرار الخلاف المفاهيمي وتضعف حساسيتنا لإمكانية وأهمية الاتفاق المتوقع.
ويسوق الكاتب نقداً آخر لمقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها مستمد من تاريخ النظرية السياسية وممارساتها فالمقولة صحيحة بالنسبة للنزاع المفاهيمي كملمح متجدد ومستمر للخطاب السياسي بل هو ملمح محدد له لكن القول بذلك بصدد مفاهيم بعينها يعني تبني رؤية لا تاريخية تهمل الزمن لسمات و طريقة عمل المفاهيم السياسية فلم تبق المفاهيم السياسية و لا كان بالإمكان أن تكون المفاهيم متنازعة طيلة الوقت إذ يظل النزاع المفاهيمي إمكانية دائمة لكنه في الواقع والممارسة يتحقق بشكل عرضي ومؤقت فالنزاع حول معاني الديمقراطية حديث نسبياً في حين أن الحجاج الذي كان مستعراً حول الجمهورية برد منذ اواخر القرن الثامن عشر و لا يتناوله مؤرخي الفكر السياسي وليس الفاعلون السياسيون.
فمن وجهة نظر الكاتب مقولة المفاهيم المتنازعة بطبيعتها صحيحية لا كمقولة حول مفاهيم مفردة بل كتعميم سليم بصدد اللغة السياسية كنوع متميز من الخطاب، فمسألة أي المفاهيم يعتقد أنها تستحق النزاع حولها ومراجعتها هي غالباً مسألة سياسية وليست فلسفية، ففي بعض المواقف يصبح مهماً للفاعلين السياسيين أن يطروحوا لمعارضيهم ومؤيدهم فهمهم لماهية الحزب أو القوة أو السلطة أو ...
وقد أصبحت مقولة المنازعة الوقتية أو العارضة حول المفاهيم معلماً للمرحلة التالية التالية من النقلة اللغوية وفتحت الباب أمام مدخل آخر لدراسة الفكر السياسي أو التاريخ المفاهيمي وهي مرحلة اخرى مضللة فيما لو جرى تصور تاريخ للمفاهيم معزول كلية عن تاريخ الاختلاف والجدل السياسي وتاريخ النظرية السياسة ففي سياق التنازع المفاهيمي يجري تحدي المعاني القديمة وتطوير الحجج الجديدة لصالح الفهم الجديد للمفاهيم فالتجديد واللابتكار السياسي والتغير المفاهيمني وجهين لنفس العملة القديمة.
ويرسم الكاتب بإيجاز ملامح مدخلين من أهم مداخل دراسة تاريخ المفاهيم وهما المدخل الألماني ومن اهم رواده "رينهارت" و "كوزلك" و المدخل الأنجلو أمريكي او ما يسميه الكاتب التاريخ النقدي للمفاهيم فثمة رغبة عن المشروع السكوني اللاتاريخي لتحليل المفاهيم ونزوعاً إلى التأكيد ذي التوجه الأكثر حركية وتاريخية على تاريخ المفاهيم أي الاهتمام بالتغير المفاهيمي وبناء تواريخ للمفاهيم ومن منظور المدخل الألماني لا يمكن أن يوجد مجتمع و لا حقل سياسي يجري العمل فيه بدون مفاهيم لكن تحديد أي المفاهيم سيكون العملة المتداولة والمشتركة في الخطاب في ظرف تاريخي معين وماذا تعنيه هذه المفاهيم هو ميدان معركة حقيقة فيصبح النضال حول المفاهيم الصحيحية متفجراً سياسياً واجتماعياً ويحاول مؤرخوا المفاهيم أن يرسموا خريطة لحقل الألغام هذا كما هو عليه بختبار وتمحيص نقاط التحول التاريخية تكون الروافد في تاريخ المفاهيم التي تشكل الخطاب السياسي الحديث وينطوي هذا على ملاحظة متى و لأي غرض جرى سك الكلمات الجديدة التي أصبحت معتادة الآن مثل الأيديولوجية والليبرالية وأيضاً تعقب التغيرات الهامة في معنى المصطلحات الحديثة مثل الثورة والدستور هذه هي أهم مهام المدخل او المدرسة الأمانية
وقد حاول مؤرخو المفاهيم الألمان اختبار عدد من الفرضيات منها أن القرن الثامن عشر كان فترة تحولات مفاهيمية غير مسبوقة وانها لم تتضمن سك وإعادة سك المصطلحات وحسب بل ونزوع متزايد نحو التجريد الأيديولوجي كما أصبح الصراع السياسي أكثر انشغالاً بالمبادئ بل وبالأوليات وأصبحت المفاهيم التي كانت لها تصنيفات مستقرة ومرجعيات جغرافية ثابتة تجريدات عائمة يجري الحديث عنها بشكل عالمي شامل مثل مفهوم الحقوق .
أما المدرسة الأمريكية فتختلف عن الألمانية لا في تركيزها على الخطاب الأنجلوفوني وحسب بل في أنهم على خلاف نظرائهم الأمان الذين استخدموا منهجاً موحداً وتعاونوا معاً وكانوا موسوعيين في نطاق دراستهم ومجالهم فقد عمل الأمريكيون والإنجليز بشكل فردي وانتقائي في تحديدهم لأهدافهم واختيارهم لمفاهيميهم دون أن يعني ذلك أن جهودهم كانت متتامة أو أن اهتماماتهم كانت متقاطعة. ونظراً لسعي الكاتب لتطوير وتفضيل مدخل معين لدراسة المفاهيم فإنه يحاول تحديد السمات الخاصة للخطاب السياسي كحقل للبحث والدراسة ويقصد الكاتب باللغة في هذا السياق اللغة المعنوية أو السياسية أي تلك اللغة التي تشمل التصورات المشتركة عن العالم والقيم وأخلاقيات السلوك المشتركة والمصادر والتوقعات والإجراءات المشتركة للكلام والفكر والتي من خلالها تتحدد المجتمعات وتتشكل وفي الوقت نفسه يرى الكاتب أن هذا التحديد يتعقد بفعل كون لغة المجتمع ليست شبكة محكمة أو كل موحد البنية بل تتكون من مجموعة من اللغات الفرعية أو التعبيرات الاصطلاحية التي يطلق الكاتب عليها الخطاب.
فالخطاب عنده هو لغة فرعية يتم الحديث بها وتمثل عنصراً مشكلاً لحقل معين أو مجال معين أو جماعة فرعية معينة مثلاً خطاب الاقتصاد أو القانون أو الطب . لكن الخطاب السياسي له ملامحه الفريدة ومنها هذا التوتر الذي يمكن إيضاحه على النحو التالي: إن الخطاب السياسي يستخدم اللغة التي نتشاركها لا كمتكلمين للغة فرعية متخصصة بل باعتبار قدرتنا وأهليتنا كمواطنين. هذه هي الصورة المثالية لكن هذه الصورة تتقوض من خلال : كون الخطاب السياسي يقوم على ويستعير من خطابات أكثر تخصصاً وعندما تتم استعارة المفاهيم من القانون او الدين مثلاً وتدخل حقل المعاني السياسية فإنها تبدل شكل وبنية الحقل الخطابي بإبدال كلمات المتكلم أو القائم بالخطاب.إن عملية تعدية المفاهيم والانسياب عبر التخوم الخطابية هي مصدر أساسي للتغير المفاهيمي الأمر الثاني أن الخطاب السياسي بطبيعته يتكون من مفاهيم لم يتم الاتفاق على معناها بل وعادة ما يتنازعها بشكل حاد المواطنون القائمون بالخطاب فإمكانية انقطاع الاتصال هي ملمح حاضر دوماً في الخطاب دوماً في الخطاب السياسي لإن لم يكن الملمح المحدد له كما أشار "جوفينيل" : "العملية السياسية هي عمل عقل على آخر من خلال الكلام ويعتمد الاتصال من خلال الكلام على وجود مذخور من الكلمات التي يعزي لها المشاركون في الخطاب نفس المعاني في ذاكرتهم وكما ينتمي الناس لنفس الثقافة باستخدامهم نفس اللغة فإنهم ينتمون إلى نفس المجتمع بفهمهم لنفس اللغة المعيارية وكما يمكن أن تمتد هذه اللغة يمكن أن تنهار والأمر نفسه بالنسبة للمجتمع" وبالمثل يمكن القول بان العملية السياسية هي عمل متكلم على آخر عن مسائل عامة أو مشتركة لكن ما يعد عاماً وسياسياً هو نفسه موضوع للخلاف السياسي والمناظرة والمحاجة فالخلافات حول نطاق ومجال السياسي هي نفسها ملمح مكون للخطاب السياسي.
ثم يرسم الكاتب الملامح العامة للتاريخ النقدي للمفاهيم كأحد أهم مداخل دراسة النظرية السياسية فمهمة المؤرخ النقدي للمفاهيم هي رسم خريطة للتغيرات للتغيرات في المفاهيم المشكلة لخطابات الفاعلين السياسيين أحياءً وامواتاً وتتضمن الأسئلة عن التحولات في الخطاب السياسي:
- كيف يمكن للمرء تحديد أو وصف هذه الخطابات والتغيرات المحددة التي تعرضت لها ؟
- أي المفاهيم – تحديداً – تم غبدال معانيها وكيف جرى هذا الإبدال ولماذا ومن قام به؟ وما الاستراتيجيات البلاغية التي استخدمها ؟ وما الاختلافات التي حدثت وتحدث الآن؟
وكثيراً -وليس دائما- يتم ذلك بالإحالة لتراث سياسي معين أو تراث خطابي معين مثل الليبرالية أو الجمهوية .
ويرى الكاتب أن للخطاب السياسي والمفاهيم التي تشكله تواريخ يمكن إعادة بنائها حكايةً بأشكال عديدة وتظهر مثل هذه التواريخ كيف تعمل هذه الخطابات وكيف تتغير، بل ويمكن تعقب هذه التغيرات إلى المشكلات التي كان يدركها فاعلون تاريخيون أو فئة معينة من الفاعلين في مواقف سياسية معينة، ويجري التغير المفاهيمي على يد فاعلين سياسيين يشغلون مواقع معينة، ويعملون تحت قيود لغوية يمكن تحديدها يفرضها تراث معين كما هو موجود في زمن معين. والمفردات التي يعمل عليها وضمنها هؤلاء الفاعلون مرنة إلى حد بعيد وإن كانت غير قابلة للتشكل بشكل كامل، فهم يستطيعون إلى حد بعيد تحويل لغتهم لكن لغتهم – بشكل عكسي – وبطريقة تدق على الملاحظة تحولهم وتساعد في جعلهم هذا النوع من البشر الذي هم عليه، فالطرق التي يشكل بها المتكلمون لغتهم وتشكلهم هي بها هي موضوع التاريخ النقدي للمفاهيم.
ويجيب الكاتب على التساؤلات التي يمكن أن تطرح في هذا السياق مثل: لماذا الاهتمام بالمفاهيم وليس الكلمات والألفاظ ولماذا التغير المفاهيمي وليس اللغوي وما النقدي في التاريخ النقدي للمفاهيم فبالنسبة لجعل المفاهيم وحدة التحليل فإن المفردات السياسية تتكون من مفاهيم لا من كلمات فيمكن أن يوجد عند المرء مفهوم معين دون أن يصوغ الكلمة المعبرة عنه فمثلا كان ل"ميلتون" مفهومه للأصالة لكن الكلمة المعبرة عن المفهوم لم تدخل الإنجليزية إلا بعد وفاته بقرن، ومثل الطفل الذي يقول أحب وطني دون أن يعرف الكلمة المعبرة عن مفهوم الوطنية، وبالمثل فإن الكلمات قد تشير لمفاهيم مختلفة في فترات مختلفة مثل مفهوم الحق في عصر التنوير هو غيره الآن، والثورة التي كانت تتضمن عند "لوك" معاني الإبقاء على القديم الصالح والتجديد ومعاني الدورية وما أصبحت تعنيه الآن من التخلص من كامل النظام القديم فالكلمات لا تتغير بل المفاهيم والمعاني هي التي تتغير.
ولا يمكن حكاية تاريخ المفاهيم السياسية والمفاهيم المستخدمة في الخطاب السياسي تحديداً بمعزل عن الصراع السياسي فالمفاهيم أسلحة حرب وأدوات إقناع وشرعنة وأداة ضامة لتحقيق الهوية والتضامن فدراسة تاريخ المفاهيم السياسية هي مراجعة لميدان المعركة وإعادة بناء المواقع والاستراتيجيات للقوى المتعادية.
فندرس هنا المفاهيم المتاحة للاستخدام في هذه المناسبة؟ ولأية أغراض استخدمت؟ وبأي قدر من التاثير وكيف تبدلت معانيها في سياق نشرها؟ فما الذي يميز دراسة التاريخ النقدي للمفاهيم عن علم دراسة أصول الكلمات وبنيتها اللغوية هو الاهتمام بالمحاجات التي تظهر فيها المفاهيم لأداء أنواع معينة من الأعمال في أوقات معينة ومواقع سياسية معينة. فتواريخ المفاهيم السياسية هي تواريخ للمحاجات السياسية والنزاعات والخلافات المفاهيمية التي تدفعها أو تزيحها.
ما النقدي في التاريخ النقدي للمفاهيم ؟ ثلاثة نقاط: أن هذا التاريخ مكتوب بقصد نقدي لإظهار أن التغير المفاهيمي ليس ممكناً فقط بل وملمح محدد للخطاب السياسي، وأن مثل هذه التواريخ تظهر كيف يصبح فاعل سياسي معين واعياً بالكيفيات الدقيقة التي قد لا يعترف بها لكن بها غيرتهم خطاباتهم هم ومعاصريهم قبل البدء في مهمة تحويل الخطاب السياسي.النقطة الثانية أن التاريخ النقدي للمفاهيم يظهر بقدر من التفصيل المناسب كيف حول هؤلاء الفاعلون الخطاب السياسي السائد في أيامهم ويقتضي هذا من المؤرخين تحديد العمليات والاليات التي بها و من خلالها قام فاعل سياسي بتغييرات معينة ويتضمن هذا اكتشاف وعرض ونقد التناقضات وعدم التماسك في الخطابات المسيطرة والسائدة والمحاجات والخدع الحربية البلاغية المستخدمة لهذا الغرض وربما بهدف اكثر موضوعية هو بناء خطاب بديل .
وهذا أمر ابعد من كونه شقشقة فلاسفة لتزجية الوقت فهذا النوع من النشاط النقدي يراه الكاتب يؤثر على الطرق التي يفكر بها الفاعلون السياسيون ويتصرفون، فتواريخ المفاهيم ليست محايدة سياسياً،َ ولا يعني هذا أن يصبح مؤرخو المفاهيم حركيين سياسيين في أحزاب أو حركات معينة، بل إنهم نقديون بقدر ما ينبهون جمهورهم للطرق التي بها والأدوات التي من خلالها يحولهم عالمهم الذي يتشكل من خلال الاتصال وكيف أنهم بدورهم يحولونه .
فتاريخ المفاهيم كما يراه الكاتب من المداخل المهمة لدراسة النظرية السياسة من خلال تنبيهه للدراسين لملامح عالمنا الذي يغيم علينا إدراكه بفعل التعود والألفة فهو يمدنا بمرآة بعيدة المسافة لممارسات الماضي ومعتقداته التي تبدو غريبة ومغتربة عن أعيننا الحداثية وما بعد الحداثية، وتقتضي معالجة ومحاولة فهم الممارسات والأفكار بكل غرابتها مد وتوسيع مفاهيمنا وفئات تصنيفنا لمواجهة حس الغرابة والاختلاف هذا، لا لجعله أقل غرابة، بل لجعله مفهوماً. فالهدف هو إلقاء الضوء على الأفكار والمعتقدات والممارسات الماضية، ولدى القيام بذلك نمد حدودنا اللغوية لخطابنا السياسي القائم.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home