العقيدة والسياسة بين الإسلام والغرب:
العقيدة والسياسة بين الإسلام والغرب:
أثر رؤية العالم الإسلاميــــة والغربيــــة على النظريات السياسيـــــــــــة
Ahmed Dovutaglu, Alternative paradigms: The impact of Islamic and western weltanschauungs on political theory, Maryland: University press of America 1994, 206 p.
يعد هذا الكتاب من الكتابات القليلة التى استوعبت دقائق وتنويعات واتجاهات الفكر الغربى فى رؤية كلية شاملة كتعبير عن منظور حضارى مقارنا بينه وبين المنظور الحضارى الإسلامى كمنظور يحمل إمكانيات نموذج معرفى بديل يمكن أن يدفع تطور العلوم الاجتماعية للخروج من أزمتها المعاصرة .
ونقطة انطلاق الكتاب هي أزمة الحداثة فى العالم الإسلامى فحيث عدت الحداثة مساوية للتغريب جرت محاولات علمنة النظم الاجتماعية والسياسية واستيراد المؤسسات الغربية إلا أن هذه المحاولات باءت بالاخفاق الذى بدا واضحا مع تصاعد حركات الإحياء الإسلامى منذ الثمانينات وتراكم قدر هائل من الكتابات ( الأدبيات ) حول الإحياء الإسلامى وحركاته وأسبابه إلا أن أغلبها أخفق فى فهم حركيات ( ديناميات ) المجتمعات الإسلامية المعاصرة فاتسمت بالسطحية والتبسيط المخل والتحيز نظرا لاستخدامها مفاهيم وأدوات تحليلية غير ملائمة والأهم أنها أخفقت فى فهم أن المسألة تتعلق برؤية بديلة للعالم لتلك الى خبرها الغرب.
ومن ثم يحاول الكتاب أن يدفع النقاش خطوة للأمام من خلال تطوير تحليل مقارن للنظريات والتصورات السياسية – والإسلامية والغربية من منظور خلفياتها النظرية والفلسفية والأطروحة الرئيسية للكتاب أن الصراع والتناقضات بين الفكرين السياسى والإسلامى والغربى ينبع بالأساس من خلفياتهما الفلسفية والمنهجية والنظرية لا من مجرد الاختلافات التاريخية والمؤسسية.
ويستخدم الكاتب مفهوم رؤية العالم المترجم عن الصطلح الألماني Weltanschauung ويقوم المفهوم في أساسه علي دراسة مجموعة الأفكار التي يعتنقها أحد أفراد المجتمع عن ذاته هو وعن الآخرين وعن العالم الذي يعيش فيه والتي تمثل تلك الرؤية الكلية التي تعبر عن روح شعب ما في مرحلة تاريخية معينة حيث تضم العقائد والأحكام المختلفة المتعلقة بالمشكلات أو التساؤلات النهائية ultimate questions التي تتصل بالإنسان ووجوده ومصيره وموقفه من الوجود ككل .
ويرى الكاتب أن مفهوم رؤية العالم يمكن أن يقدم أداة تحليلية ملائمة فى هذا الصدد وبالأخص كمفهوم يسمح بتجاوز مشكلة التسمية nomenculture التى تواجه البحث المقارن فى الحضارات المختلفة التسمية فمثلا لايمكن التعبير عن مفهوم الدين فى الفكر الإسلامي على نحو دقيق بكلمة Religion وعليه يقوم الكاتب بقراءة الخبرة الداخلية للفكر والنموذج الحضارى الغربى ليخلص من خلال التحليل والدراسة إلى أن هذا النموذج يتسم بدرجة كبيرة من الاستمرار والتجانس الداخلى جعلت له شخصية معينة وأضفت عليه نوعًا من الخصوصية ويتضح هذا فى استمرار سمات معينة على المستوى البنائى لهذا النموذج والتى تمثل فى الوقت نفسه مواضع المفارقة مع النموذج الإسلامى البديل .
ويحدد الكاتب هذه السمات من خلال تحليل أبعاد الرؤية الغربية للعالم الوجودية Ontology والمعرفية Epistemology والأكسيولوجية axiology
1- فعلى المستوى الوجودى
مثلت فكرة الكمون الوجودى أو القرب الوجودى لله ontological Proximity أحد الركائز الرئيسة للمنظور الغربى وتعنى أن الإله ليس كائنا فوقيا مختلفا عن سائر الكائنات بل إنه قريب من المستويات الطبيعية والإنسانية أو حال فيها.
وقد انسابت هذه الفكرة من الأساطير القديمة إلى الفلسفة القديمة لأفلاطون وأرسطو ومنها إلى أفكار اللاهوت المسيحى ثم إلى الفلسفة الحديثة ونتج عنها نظريات سياسية وكان لأرسطو بالأخص رؤية فلسفية تجعل البعد الوجودى غير مستقل عن البعد المعرفى وهذا تراث مهم للفلسفة الحديثة أثر بقوة على كل الأفكار بما فيها الأفكار السياسية فقد وضع عدم استقلال البعد الوجودى عن البعد المعرفى الأساس الفلسفى للعلمانية علمانية المعرفة ويوضح عدم استقلال هذين البعدين أزمة التأثير الأرسطى على المسيحية وعلى ثقافة عصر النهضة.
وقد أدت فكرة الكمون الوجودى إلى فكرة تعين الألوهية التى أعاقت صياغة فكرة الله المفارق المطلق ومستويات الوجود المختلفة المبنية على التراتيبة الوجود بين الله – الإنسان – الطبيعة كما هو فى الإسلام كما أدت إلى مشكلة معرفية معقدة تتصل بالتساؤل عن العلاقة بين الله والإنسان أو مدى الارتباط بينهما.
ومن ناحية ثالثة أصبحت فكرة الكمون الوجودى والمعرفى ركائز النسبية التاريخية مع أنسنة وعلمنة المعرفة فى مجالات المعرفة المختلفة وفى تطبيقات ذلك بالنسبة لثنائية الوحى – العقل.
وقد أثر ذلك كله على الفكر المسيحى فأصبحت الكنيسة جسرا بين الفلسفة القديمة والثقافة الحديثة والتوفيق بين المعتقد والفكر وبين الإيمان والعقل مما أدى لصيغة جديدة تتأسس على:
2- أن المعرفة تحدد الوجود " Epistemology Define ontology.
وقد اتخذت هذه الفكرة عدة صياغات منها صياغة برونو Boruno فالعالم لانهائى وحيث انه لايوجد لانهائيين فإن الإله اللانهائى والعالم اللانهائى لابد وأن يكون واحدا وتقترب من هذا صياغة اسبنيوزا الذى استخدم بنفس القياس التمثيلى لتفسيره الحلولى للإله فالكائنات ناتجة عن الله بنفس الأقيسة التى تنتج عن طبيعة المثلث الهندسى كتأملات مختلفة للنظام المسيحى ويؤكد سبنيوزا وجود مادة واحدة فقط ( الله ) الإله (المطلق – الموجود المطلق – العقل المطلق – الفكرة المطلقة) هو الموجود الحق، وليس هناك إلا موجود واحد، وأن عالم المادة (الطبيعة والإنسان) ليس له وجود حقيقي دائم ولا جوهر متميز، فهو مظهر من مظاهر الذات الإلهية المطلقة وليس له وجود في ذاته لأنه صادر عن الإله بالتجلي. وكل التطورات والتحولات، في عالم الطبيعة والتاريخ، إن هي إلا تجليات جزئية للفكرة المطلقة
ويرى هولباخ وديدرو وماركس يذهب إلى القول بأن العالم (المادة/ الطبيعة)، لا الإله، هو الموجود الحق وأن الإله (المطلق) ليس سوى مجموع الأشياء الموجودة في هذا العالم. ترد كافة الأشياء معرفياً وأخلاقياً إلى حالة الطبيعة والمادة وحيث تتحقق قوانين المادة تحققاً كاملاً على جميع المستويات الإنسانية وغير الإنسانية.
والعالم مادة واحدة (مقدسة) يمكن فهمها والتحكم فيها من خلال الحواس والمقدرات الخارقة الحسية والعقلية. وثمة قانون واحد في العالم، يسري على كل من الإنسان والطبيعة، يمكن فهمه ومعرفته والتوصل إليه.
ويرى برتراند راسل أن الثنائية الدايكارتية العقل / المادة كامتداد للفلسفة الأفلاطونية والفلسفة المسيحية تعبر عن تصور شيئين متماثلين لكنهما عالمان مستقلان : العقل والمادة وكل منهما يدرس بعيدا عن الآخر. وتطورت هذه الثنائية النظرية كخلفية وجودية للعلمانية المعرفية والقيمية فى التقاليد الفكرية الغربية .
أما لوك فقد نظم تبعية الوجودى للمعرفى التى أصبحت نقطة ارتباط بين هذا الاتجاه والمادية والامبريقية الحديثة مستندا إلى أنه لا توجد أفكار نظرية وأن المعرفة تنطلق من الخبرة الحسية وأصبحت فلسفة لوك عن المعرفة منطلقا للنظريات والمناهج المادية مثل إمبريقية هيوم وجيمس الذى حاول التوفيق بين الإمبريقية المعرفية والواقعية القيمية مع وجودية إلهية.
وقد سهلت رومانتيكية " روسو " الاتجاه الى النسبية والوعى بالاقترابات الدينية، وبالأخص بمعنى المشاعر الدينية، ومثل فهم روسو للدين الطبيعى وسماته المعرفية – كما يتضح من كتابه إميل – تفسيرا للذاتية الدينية كما كان لها تداعياتها الهامة باتجاه تهميش القانون الدينى.
كما أثرت الصلات التى أقامها كانط kant بين الوجودى والمعرفى والأكسيولوجى على كل الاتجاهات العلمية والعقائدية والفلسفية والسياسية بعده، فيرى كانط أننا لا نستطيع أن تعرف الا العالم الظاهراتى ويعد هذا الفهم أحد الأصول الميتافيريقية للعلم فى القرن التاسع عشر الذى قام على افتراض أن العالم المادي آلة كبيرة معقدة تخضع لقوانين لا تتبدل وحلت هذه القوانين محل الإله.
وقد برزت فى المجال المعرفى تعاليم الايمان والعقلانى وتقديم تفسيرات علمية للعقيدة، فالمسيح ليس كائنا إلهيا ولكنه رمز كامل للقانون الاخلاقى الذى تجب طاعته بما أدى بكانط لرفض مهمة المسيح كمخلص ( ربط الوجودى بالمعرفى بالاكسيولوجى) وشاع هذا الرفض لدى مفكرى التنوير. وكانت فكرة هيجل عن الله أنه لم يعد يدرك على أنه كائن علوى ولكن كفكرة مطلقة وروح، فى محاولة لتقديم تبرير فلسفى للمعتقدات المسيحية عن التثليث وتعد محاولة هيجل أحد أهم محاولات التوفيق بين الفلسفة واللاهوت المسيحى التى تحمل بعض سمات الكمون الوجودى وتأليه الوجود الإنسانى.
وتتلخص الاتجاهات الوجودية Ontological فى فترة ما بعد هيجل فى أربعة اتجاهات: المادية التى تعززت بأحياء الترعة الطبيعية فى العلم وإعادة تفسير ماركس لديالكتيك هيجل وانتشار نظرية التطور على كل الأصعدة الفكرية، والرد الوجودى على الأسئلة والآفاق الفلسفية الجديدة والفهم الجديد للإيمان بناء على مجموعة جديدة من الافتراضات المعرفية الوجودية المنبثقة عن محاولات اللاهوتيين -وبالأخص البروتستنت - للتكيف مع البيئة الفكرية الجديدة بتقديم دور وظيفى جديد للدين، وتفسير فيورباخ الأنثوبولوجى للدين الذى أدى لأنسنته.
فكان للفلسفة التى تقوم على مركزية الطبيعية والعقلانية وعمليات غربلة المسيحية من الداخل دور جوهرى فى التركيز على المعرفة الإنسانية وأداتها العقل والحس والخبرة وطرح الوحى جانبا مما كان له أكبر الأثر على البعد القيمى وكيفية رؤية الحياة وكيفية تقويمها وكيفية تثمين قانون معين ورفض آخرمما أصطلح على تسميته:
الوضعية القيمية ( الاكسيولوجية) وعلمنة الحياة والقانون:
تجلت الأشكال الأولية للعلمنة القديمة فى الرواقية والإبيقورية حيث افترضت الرواقية أن الانسان ينتمى لعالمين: المدينة والعالم ومن ثم فإن له قانونين: قانون المدينة وقانون العالم فى فصل مطلق للقانون الطبيعى عن قانون الأمم. أما الأبيقورية فاهتمت بالبحث عن الخير الأسمى فى سعادة الحياة ، وأصبح هذه الإسهام الأبيقورى الرواقى أحد الدعامات الأساسية فى عملية علمنة النظام القيمى للحضارة الغربية خاصة فى صورة المنفعة.
وقد تأثرت الأخلاق المسيحية بهذا الميراث اليونانى الرومانى فى تجزئة الحياة فرأى القديس أمبروزو _ امتدادا للرواقية _ أن مثالية الحياه هى السعادة وتطورت هذه الرؤية وصولا إلى منفعة بنثام كما يظهر تنافر الحياة والقانون الإلهى فى فصل أوجستين للكنيسة عن الدولة ونظرية السيفين أما هوبز فقد طور _ استنادًا على انقسام الحياة الرواقى المسيحى _ أخلاقية جديدة مبنية على الخبرة فالسلوك الإنساني هو نتيجة رد فعل للحصول على السعادة وتجنب الألم، وكان موضوع الرغبة والخير، حافزا لعقلنة الأخلاق وإلحاقها بمجال المجتمع بدلا من مجال المثال والكنيسة وبالمثل كان معيار لوك أن السرور هو الخير وهذه هى النظرة التى سيطرت على الامبويقيين خال القرنين 19 ، 20 على حين اعتبر ستيوارت مل أن سعادة مخلوقات الله هى هدفه وذهب بمذهب بنثام خطوة أبعد بتصنيفه مصادر السرور والألم لأربع مجموعات:
طبيعية ، أخلاقية ، سياسية ، عقدية وقدم تفسيره لقياس السرور والألم أساسا موضوعيا لإطلاقية الأكسيولوجى العلمانى بدلا من إطلاقية الأكسيولوجى العقدى بينما اختزل kant العقيدة إلى الأخلاقيات على أساس الإيمان بالله دون الأديان .
وهكذا كانت الثنائيات ملمحا أساسيا للنموذج الغربى فالعلمانية ليست سمة جديدة للحضارة الغربية بل ملمحا أعيدت صيغاته خلال عصور طويلة وأثر الارتباط بين الوجود والمعرفة والأكسيولوجى على النحو السابق بيانه على تطور الأفكار والنظريات والمؤسسات السياسية التداعيات السياسية للمنظور الغربى.
وتظهر هذه التداعيات فى:
· تبرير نشأة وهدف النظام السياسى: بداية من فلسفة أرسطو السياسية التى تتصل بمنهجه المعرفي فالمعرفة الامبريقية عنده تربط المجال الوجودى بالمجال السياسي فكما يرتقى أرسطو للمحرك الأول الذي لا يتحرك (الإله) بواسطة ملاحظة المواد المتحركة الفانية فانه يستخدم المنهاجية نفسها للوصول إلى أفضل دولة يمكن إقامتها بملاحظة مؤسسات وفعاليات سياسية عديدة ومن هذا المنطلق تطور التبرير الغربى للدولة كمؤسسة إلهية واستخدم العلمانية للدفاع عن استقلالها إزاء الكنيسة.
وأثرت هذه العلاقة على صياغة مفهوم الدولة القومية الذى يتعارض جذريا مع فكرة الدولة الإسلامية وتأتى النظريات التى تنطلق من حالة الطبيعة الأولى لتبرير وجود الدولة فى إطار المعرفة والمنهجية عن الوحى فيشترك سبينوزا مع هوبز فى رؤية لحالة الحرب لكنه يرى أن هذا إعمال لقونين الطبيعة الأولى كحل للخطيئة الأصلية ويبارك الدولة الناتجة عن حالة الحرب لأن القوانين الطبيعية تعمل فى "حكمة" دون تدخل الإنسان وفى هذا السياق تأتى ادعاءات الرواقية حول العقل الإنساني كمكتشف للقوانين التى لايمكن اعتبار أي قانون يتناقض معها قانونا ليصبح العقل والطبيعة أساس قيام الدولة فى المنظور الغربى هذه الدولة تفصل بين قوانين الله وقوانين الطبيعة أو بين الدين والدولة.
فحالة الطبيعة واستخدامها لتبرير الدولة والأنظمة السياسية والاجتماعية هي تداعيات سياسية لمركزية الطبيعة فى المعرفة الإمبريقية وأنسنة وعلمنة المعرفة بالتماثل مع طبيعة العلم والوجود.
ويجد التفسير العلمانى للسعادة الفردية لتبرير الأنظمة السياسة العملية أصوله فى مزيج من الفهم الأبيقورى للحياة والأخلاق المسيحية الرواقية ويمكن متابعة هذه الرؤية عند جروثيوس والليبرالية المبنية على فكرة الحقوق الطبيعية إلى فردية هوبز ومنفعة بنثام إلي مل فى فهمه للأخلاق المؤسسة على السعادة إلى جيمس ووضعيته التى تفترض أن الفكرة تكون حقيقة عندما تحمل قدرا من المنفعة فهدف الدولة فى المنظور الغربى طلب السعادة والمنفعة للفرد قبل الجماعة وهذا انعكاس لتبعية مطلب الوجودى للمعرفى والاكسيولوجى الذى لا يستند لمصادر تتجاوز الانسان.
*النموذج التوحيدى البديل ومصادره:
يقدم المنظور التوحيدى رؤية شاملة للكون يتسم هذا النموذج بسماته المستمدة من المصادر الاسلامية القرآن والسنة وأهم هذه السمات :
الوحدة الوجودية الكونية cosmology والمفارقة :
فالأصل فى الصيغة الوجودية كما عرفها تاريخ الفكر الاسلامى تحديد العلاقة بين الله والإنسان والطبيعة من القرآن الكريم ويعتمد هذا التصور على هرمية وجودية واضحة مبينة على الوحدة الوجودية والمفارقة بين الله والكون مقابل الحلولية الوجودية والقرب ويأتى التعرف على الله تعالى من خلال أسمائه فى القرآن الكريم فهو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وترتبط ماهيته تعالى بأنه " ليس كمثله شيء " وقد استخدمت المفاهيم والالفاظ القرآنية الدلالة والصياغة بما أدى إلى ثورة فكرية شاملة أسست قواعد جديدة للربط بين اللغة والتصورات الذهنية .
وتتحدد العلاقة بين الوجود والمعرفة والقيمة فى ثلاثة مفاهيم مفتاحية فى القرآن الكريم "الإيمان " بالله الواحد الأحد والعلم ( البعد المعرفى من الوحى والعقل والخبرة والحدس ......... الخ ) والعمل الصالح ( البعد الأكسيولجى والأخلاقى ) وتمثل الطبيعة البيئة المادية التى تتطور فيها علاقة الانسان بالله فهدف الطبيعة متسق مع هدف الإنسان والإنسان يشارك الطبيعة المجال الوجودى نفسه ولكنه متفوق على الطبيعة لأنه وكيل وخليفة عن الله تعالى فثمة هرمية وجودية بين الله \الانسان \ الطبيعية تدور حول مبدأالتوحيد.
وهذا الأساس هو القاسم المشترك بين كافة مدارس الفكر الإسلامي سواء في إطار علم الكلام أو فالمعتزلة والأشاعرة برغم اختلافهم فى مسألة الذات والصفات فقد أجمعوا على تنريه الله تعالى ومفارقته للوجود وحتى المتأخرين من علماء الكلام مثل الجوينى والصابونى قاوموا أى صياغة توفيقية فى العلاقة بين الله \ الانسان \ العالم يمكن أن تؤدى الى القول بالحلولية .
أما مدارس الفلسفة الاسلامية فلم تكن اختلافاتها تتعلق بمسألة الوجود بل كانت اختلافات منهجية فيؤكد الكندى أن الوحى والفلسفة حققا نتائج وحقائق متماثلة بطرق مختلفة وبرغم أنه أخذ من الأرسطية والأفلاطونية الجديدة بعض الأدوات التنظيرية والمنهجية فإنه رفض ما وراء الطبيعة.
الأمر نفسه بالنسبة للفارابى ففى أعماله المشهورة كآراء أهل المدينة الفاضلة دلالة كافية على تبعية المعرفى والقيمى والسياسى للبعد الوجودى كما تعتمد فلسفة بن رشد على الوحدانية المطلقة الله تعالى– ولذلك رفض المثنوية الزرادشتية- وعلى التراتب الوجودى بين مخلوقات الكون وعلى المفارقة الوجودية لإيمانه بالنبوة
وترى النظرية الصوفية أن الله تعالى ليس هو العالم ولكن العالم لن يكون حقا بدون الله، فالتصوف يختلف عن الحلولية التى تعتمد على المماثلة بين الله والكون.
وقد أقام الغزالى توازنا جديدا بين علم الكلام والفلسفة والتصوف مبنى على التوحيد المطلق لله والتراتبية المشار إليها آنفا إلا إن أوزان هذه الفروع الثلاثة تفاوتت فى الصياغات المذهبية والفكرية الاسلامية وتداعيتها الاجتماعية والسياسية كما يتضح فى افكار الرازى وابن العربى وابن تيمية وحديثا الأفغانى ومحمد عبده وإقبال وينقلنا ذلك إلى الخصيصة الثانية للنموذج الاسلامى:
2-الوحدة المعرفية وتناسق مصادر المعرفة:
فمن الملامح الرئيسة للمعرفة الاسلامية تبعية المعرفى للوجودى بما يعنى أن الوجودى يحدد التراتبية المعرفية واختلاف المستويات المعرفية.
ويكمن أصل فكرة أن الوجودى يحدد المعرفى فى النظام القرآنى للدلالات اللفظية، فيمدنا تكرار الكلمات الشائعة فى القرآن الكريم بإشارات جوهرية لهذا الربط المحدد بين التصورات الوجودية والمعرفية مثل القرابة اللفظية بين العلم (المعرفى ) والعلم (علامة) والعالم الذى يعرفه الزمخشرى بأنه كل الأجسام والحوادث التى يعلمها الخالق بينما يشير الجوينى إلى الرابطة الدلالية بين العلم والعالم فى إشارة لوجود صاحب العالم وهو الله تعالى وأحد أسمائه العليم وأنه لا يمكن وضع المعرفة من الله تعالى على المستوى المعرفي نفسه لمعرفة الانسان وأنه يجب ألا تتعارض المعرفة الإنسانية مع المعرفة الإلهية (المعرفة الحقة) وأن الطريق الوحيد لمعرفة إرادة الله تعالى هو النبوة التى حملت كتب الله للناس فالفهم بأن النبى ( ص) ناقل رسالة وليس نصف إله أو تجسد للإله عزز الاتجاه للأخذ باختلاف المستويات المعرفية مع التوازن بين الوحى كمصدر مطلق للحقيقة والعقل كوسيلة لتفسير الوحى وهو التوازن الذى أكد عليه بن رشد وغيره من الفلاسفة وعلماء الكلام كالأشعرى وينبنى على ذلك:
المعيارية القيمية: وحدة الحياة والقانون:
فالسمة الجوهرية للمعيارية الإسلامية هى تفسيرها مسئولية الإنسان على الأرض التى تعبر عن وحده الحياة والقانون ونفى أى صيغة لتقسيم الحياة لأجزاء منفصلة ويعد العمل الصالح (المفهوم المفتاحى فى النظام القرآنى القيمى) والعلم (المعرفى ) تعبيرًا عن الوحدة التى لا تتجزأ بين المفاهيم الأخرى الإيمان ( الوجود ) والعلم ( المعرفة ) وتتحدد مكانة الإنسـان فى الكون بأنه المتحمل للمسئولية الإلهية " وما خلقت الجن والإنـس إلا ليعبدون " وهى الأمانة التى يقدر الانسان على تحملها لأن الله "لا يكلف نفسًا إلا وسعها" ولا يحمل هذه الأمانة أحدًا غيره ويرتبط بذلك وحدة الحياة الدنيا والآخرة .
وتقوم المعيارية القيمية فى الإسلام بدور الواصلة بين المسلمات المعرفية والوجودية والآليـات الاقتصـادية والاجتماعية والسياسية وتعزز مقاومة المسلمين لعملية العلمنة ويرتبط القانون بشكل مباشر بالنظام القيمى فهدف الحياة هو بث هذه القيم فى كافة جوانبها ومن ثم كانت الأشكال السياسية والاجتماعية المأخوذة من القرآن والسنة تداعيات قيمية للنظام السياسى الإسلامى الذى يحقق السعادة والعدالة وعليه أتت مفاهيم الفقه و الشريعة كتعبير عن القانون الشـامـل فالتعريف الحنفى للفقه " معرفه الحقوق والواجبات التى يتمكن بها الانسان من الالتزام بالسلوك القويم فى هذه الحياة والاستعداد للآخرة ".
التداعيات السياسيه للنموذج التوحيدى :
تعد عمليه تبرير نشأة الدولة والهدف منها فى إطار التنظير السيـاســي الاسلامـي انعكاسـأ للنموذج التوحيدى بخصائصه السابقة حيث يرتبط تبرير الدولة كمؤسسة سياسية اجتماعية فى الفكر الإسلامي بالمصطلح القرآنى عهد - عقد - ميثـاق - أمـة - خليفة - أمـانـة فتشكـل هذه المفاهيم قاعدة دلالية فكرية وتنظيرية للربط بين المجالات الإنسانية الوجودية والسياسية.
فثمة ميثاق بين النبى وأتباعه وعهد بين الله تعالى والإنسان يجب أن يمتد للحياة الاجتماعية كميثاق بين الإنسان والإنسان والدولة كمؤسسة للعلاقة بين الإنسان والإنسان فالله تعالى فقط هو الذى يجب أن يطاع وطاعة السلطة ترتبط بهذا الأصل ومصطلح الخليفة له دور هام في تبرير النظام السياسى مع التأكيد على أن المقصود بالإنسان كل الإنسانية وليس آدم عليه السلام فقط فيستخدم القرآن كلمة خليفة فى سياق خلق آدم لتوضيح الموقف الوجودى للإنسان على الأرض وفى الخطاب مع داوود عليه السلام ليربطه بمسئولية سياسية واجتماعية هى الحكم بين الناس كما استخدمه القرآن للتدليل على مهمة الإمام والخلافة " نيابة عن النبى ( ص) لإرشاد الناس لما فيه صلاحهم فى الدنيا والطريق المنجى في الآخرة ".
وقد بحث الفلاسفة المسلمون أصل النظام السياسى من خلال التحليل المنطقى فيذكر الفارابى حاجة الإنسان للتعاون والعون الجماعى لإنجاز الأهداف المختلفة كما ركزوا على غايه المحبة مما يعنى تبعية السياسة للأخلاق بينما استخدم المتكلمون والفقهاء حججا عقلانية وعقدية لتبرير نشأه النظام السياسي تحت سلطة الإمام باعتباره واجبا دينيا وضرورة اجتماعية.
ويرتبط تبرير هدف النظام السياسى بالإطار الوجودى المعرفى القيمى وهدف الحياة الإنسانيه وخلافة الله فى الاسلام من خلال اتجاهين :
الأول: النظرة الإسلامية لوحدة الحياة فى اتصالها بالمسئولية العقدية عن طريق ادراك الوقت والعبادات اليومية والأسبوعية والسنوية بما يؤدى للشعور بمعنى الحياة كوحدة مرتبطة بالبعد الأخروى.
الاتجاه الثانى: أن جوهر الاجتماع السياسى الإسلامى تحقيق الأمانة والخلافة على الأرض التى تقوم على إدراك وحدة الحياة ( المعرفة الإسلامية ) والمركزية الإنسانية ( الكون مسخر للانسان ) بدلا من مركزية الطبيعة، والإرادة الحرة هي فى إطار للارادة والحرية الإنسانية لعقد ميثاق سياسى لإنجاز الأمانة الإلهية ( عباده الله - إبراز صبغة الله تعالى فى السياسة والاجتماع والثقافة والعلم ).
ويحدد ابن رشد هدف الدوله فى بلوغ الكمال الأعلى والسعادة المطلقة كهدف لوجود الإنسان داخل مجتمع ويربط بن سينا وبن باجه كمال الفرد بوجود الدوله المثالية التى تحقق مقاصد الله تعالى هى العدالة وتركز بعض التحليلات على وظائف الدولة فيرى التفتازانى أنه لا بد للمسلمين من إمام ينفذ قراراتهم ويحافظ على شريعتهم ويحمى حدودهم ويجهز جيوشهم ويقيم شعائرهم بما يوضح أن النظم السياسية والاجتماعية هي تداع مباشر للمعيارية الإسلامية التى تقوم على التكامل المعرفى الناتج عن التوحيد ( مفارقة وعلو الله تعالى عن الكون) ففى هذا الإطار يمتنع الفصل بين الدينى والدنيوى وبين السياسى والأخلاقى .
وعلى الرغم من أن هذا النمظ من التبرير يفترض صورة الدولة المثالية إلا أنها دولة مثالية تحققت تاريخياً في عهد الرسالة والعهد الراشدي مقابل مثالية أفلاطون الخيالية كما أنها دولة قابلة للتحقق بما يحفز المسلمين على العمل على إقامة هذه الدولة مرة أخرى كما أن وتقدم الشريعة الإسلامية معايير أبدية وثابتة يمكن إليها اختبار شرعية السلطة السياسية فالغزالي أكد على العدل والقانو هما شرطا الشرعية السياسية في حين ربط ابن رشد نظريته السياسية بفكرة سمو الشريعة باعتبارها قانون الدولة الإسلامية الذي يهدف إلى تحقيق سعادة كل أفرادها ويستند سمو الشريعة إلى طبيعتها العلوية كما حدد ابن تيمية وظيفة الولاية في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسيود العجل والخير بين الناس.
وتعد الشورى شرطاً أجرائياً أساسيًا لشرعية السلطة السياسية التي تستهدف توفير البيئة المناسبة لأداء أمانة الله تعالى فهي أداة لمنع الطغيان في الحياة السياسية والاجتماعية لكنها تختلف باستنادها إلى أسس معرفية وقيمية تتصل بالعقيدة عن الديمقراطية الغربية.
إن طريقة تبرير النظام الاجتماعي والسياسي اعتمادًا على أسس وجودية وشرعنة السلطة السياسة وتفسير طبيعة القوة السياسية هي نظريات وثقافات سياسية هامة مهمة الدلالة لأن التحدي الغربي للحضارة الإسلامية ليس مجرد تحد لكيان ومؤسسات بديلة ولا لتشكل تاريخي معين وإنما هو تحد لنظرة شاملة للعالم إذ أن الاتساق الداخلي للإطار النظري الإسلامي يتيح دائماً إمكانية إنتاج ثقافة سياسية بديلة طالما استمرت الصلة بين الوجودي والسياسي وطالما ظل التناول الوجودي للحياة القائم على عقيدة التوحيد موجوداً في الثقافة والتصورات الاجتماعية والسياسية.
أثر رؤية العالم الإسلاميــــة والغربيــــة على النظريات السياسيـــــــــــة
Ahmed Dovutaglu, Alternative paradigms: The impact of Islamic and western weltanschauungs on political theory, Maryland: University press of America 1994, 206 p.
يعد هذا الكتاب من الكتابات القليلة التى استوعبت دقائق وتنويعات واتجاهات الفكر الغربى فى رؤية كلية شاملة كتعبير عن منظور حضارى مقارنا بينه وبين المنظور الحضارى الإسلامى كمنظور يحمل إمكانيات نموذج معرفى بديل يمكن أن يدفع تطور العلوم الاجتماعية للخروج من أزمتها المعاصرة .
ونقطة انطلاق الكتاب هي أزمة الحداثة فى العالم الإسلامى فحيث عدت الحداثة مساوية للتغريب جرت محاولات علمنة النظم الاجتماعية والسياسية واستيراد المؤسسات الغربية إلا أن هذه المحاولات باءت بالاخفاق الذى بدا واضحا مع تصاعد حركات الإحياء الإسلامى منذ الثمانينات وتراكم قدر هائل من الكتابات ( الأدبيات ) حول الإحياء الإسلامى وحركاته وأسبابه إلا أن أغلبها أخفق فى فهم حركيات ( ديناميات ) المجتمعات الإسلامية المعاصرة فاتسمت بالسطحية والتبسيط المخل والتحيز نظرا لاستخدامها مفاهيم وأدوات تحليلية غير ملائمة والأهم أنها أخفقت فى فهم أن المسألة تتعلق برؤية بديلة للعالم لتلك الى خبرها الغرب.
ومن ثم يحاول الكتاب أن يدفع النقاش خطوة للأمام من خلال تطوير تحليل مقارن للنظريات والتصورات السياسية – والإسلامية والغربية من منظور خلفياتها النظرية والفلسفية والأطروحة الرئيسية للكتاب أن الصراع والتناقضات بين الفكرين السياسى والإسلامى والغربى ينبع بالأساس من خلفياتهما الفلسفية والمنهجية والنظرية لا من مجرد الاختلافات التاريخية والمؤسسية.
ويستخدم الكاتب مفهوم رؤية العالم المترجم عن الصطلح الألماني Weltanschauung ويقوم المفهوم في أساسه علي دراسة مجموعة الأفكار التي يعتنقها أحد أفراد المجتمع عن ذاته هو وعن الآخرين وعن العالم الذي يعيش فيه والتي تمثل تلك الرؤية الكلية التي تعبر عن روح شعب ما في مرحلة تاريخية معينة حيث تضم العقائد والأحكام المختلفة المتعلقة بالمشكلات أو التساؤلات النهائية ultimate questions التي تتصل بالإنسان ووجوده ومصيره وموقفه من الوجود ككل .
ويرى الكاتب أن مفهوم رؤية العالم يمكن أن يقدم أداة تحليلية ملائمة فى هذا الصدد وبالأخص كمفهوم يسمح بتجاوز مشكلة التسمية nomenculture التى تواجه البحث المقارن فى الحضارات المختلفة التسمية فمثلا لايمكن التعبير عن مفهوم الدين فى الفكر الإسلامي على نحو دقيق بكلمة Religion وعليه يقوم الكاتب بقراءة الخبرة الداخلية للفكر والنموذج الحضارى الغربى ليخلص من خلال التحليل والدراسة إلى أن هذا النموذج يتسم بدرجة كبيرة من الاستمرار والتجانس الداخلى جعلت له شخصية معينة وأضفت عليه نوعًا من الخصوصية ويتضح هذا فى استمرار سمات معينة على المستوى البنائى لهذا النموذج والتى تمثل فى الوقت نفسه مواضع المفارقة مع النموذج الإسلامى البديل .
ويحدد الكاتب هذه السمات من خلال تحليل أبعاد الرؤية الغربية للعالم الوجودية Ontology والمعرفية Epistemology والأكسيولوجية axiology
1- فعلى المستوى الوجودى
مثلت فكرة الكمون الوجودى أو القرب الوجودى لله ontological Proximity أحد الركائز الرئيسة للمنظور الغربى وتعنى أن الإله ليس كائنا فوقيا مختلفا عن سائر الكائنات بل إنه قريب من المستويات الطبيعية والإنسانية أو حال فيها.
وقد انسابت هذه الفكرة من الأساطير القديمة إلى الفلسفة القديمة لأفلاطون وأرسطو ومنها إلى أفكار اللاهوت المسيحى ثم إلى الفلسفة الحديثة ونتج عنها نظريات سياسية وكان لأرسطو بالأخص رؤية فلسفية تجعل البعد الوجودى غير مستقل عن البعد المعرفى وهذا تراث مهم للفلسفة الحديثة أثر بقوة على كل الأفكار بما فيها الأفكار السياسية فقد وضع عدم استقلال البعد الوجودى عن البعد المعرفى الأساس الفلسفى للعلمانية علمانية المعرفة ويوضح عدم استقلال هذين البعدين أزمة التأثير الأرسطى على المسيحية وعلى ثقافة عصر النهضة.
وقد أدت فكرة الكمون الوجودى إلى فكرة تعين الألوهية التى أعاقت صياغة فكرة الله المفارق المطلق ومستويات الوجود المختلفة المبنية على التراتيبة الوجود بين الله – الإنسان – الطبيعة كما هو فى الإسلام كما أدت إلى مشكلة معرفية معقدة تتصل بالتساؤل عن العلاقة بين الله والإنسان أو مدى الارتباط بينهما.
ومن ناحية ثالثة أصبحت فكرة الكمون الوجودى والمعرفى ركائز النسبية التاريخية مع أنسنة وعلمنة المعرفة فى مجالات المعرفة المختلفة وفى تطبيقات ذلك بالنسبة لثنائية الوحى – العقل.
وقد أثر ذلك كله على الفكر المسيحى فأصبحت الكنيسة جسرا بين الفلسفة القديمة والثقافة الحديثة والتوفيق بين المعتقد والفكر وبين الإيمان والعقل مما أدى لصيغة جديدة تتأسس على:
2- أن المعرفة تحدد الوجود " Epistemology Define ontology.
وقد اتخذت هذه الفكرة عدة صياغات منها صياغة برونو Boruno فالعالم لانهائى وحيث انه لايوجد لانهائيين فإن الإله اللانهائى والعالم اللانهائى لابد وأن يكون واحدا وتقترب من هذا صياغة اسبنيوزا الذى استخدم بنفس القياس التمثيلى لتفسيره الحلولى للإله فالكائنات ناتجة عن الله بنفس الأقيسة التى تنتج عن طبيعة المثلث الهندسى كتأملات مختلفة للنظام المسيحى ويؤكد سبنيوزا وجود مادة واحدة فقط ( الله ) الإله (المطلق – الموجود المطلق – العقل المطلق – الفكرة المطلقة) هو الموجود الحق، وليس هناك إلا موجود واحد، وأن عالم المادة (الطبيعة والإنسان) ليس له وجود حقيقي دائم ولا جوهر متميز، فهو مظهر من مظاهر الذات الإلهية المطلقة وليس له وجود في ذاته لأنه صادر عن الإله بالتجلي. وكل التطورات والتحولات، في عالم الطبيعة والتاريخ، إن هي إلا تجليات جزئية للفكرة المطلقة
ويرى هولباخ وديدرو وماركس يذهب إلى القول بأن العالم (المادة/ الطبيعة)، لا الإله، هو الموجود الحق وأن الإله (المطلق) ليس سوى مجموع الأشياء الموجودة في هذا العالم. ترد كافة الأشياء معرفياً وأخلاقياً إلى حالة الطبيعة والمادة وحيث تتحقق قوانين المادة تحققاً كاملاً على جميع المستويات الإنسانية وغير الإنسانية.
والعالم مادة واحدة (مقدسة) يمكن فهمها والتحكم فيها من خلال الحواس والمقدرات الخارقة الحسية والعقلية. وثمة قانون واحد في العالم، يسري على كل من الإنسان والطبيعة، يمكن فهمه ومعرفته والتوصل إليه.
ويرى برتراند راسل أن الثنائية الدايكارتية العقل / المادة كامتداد للفلسفة الأفلاطونية والفلسفة المسيحية تعبر عن تصور شيئين متماثلين لكنهما عالمان مستقلان : العقل والمادة وكل منهما يدرس بعيدا عن الآخر. وتطورت هذه الثنائية النظرية كخلفية وجودية للعلمانية المعرفية والقيمية فى التقاليد الفكرية الغربية .
أما لوك فقد نظم تبعية الوجودى للمعرفى التى أصبحت نقطة ارتباط بين هذا الاتجاه والمادية والامبريقية الحديثة مستندا إلى أنه لا توجد أفكار نظرية وأن المعرفة تنطلق من الخبرة الحسية وأصبحت فلسفة لوك عن المعرفة منطلقا للنظريات والمناهج المادية مثل إمبريقية هيوم وجيمس الذى حاول التوفيق بين الإمبريقية المعرفية والواقعية القيمية مع وجودية إلهية.
وقد سهلت رومانتيكية " روسو " الاتجاه الى النسبية والوعى بالاقترابات الدينية، وبالأخص بمعنى المشاعر الدينية، ومثل فهم روسو للدين الطبيعى وسماته المعرفية – كما يتضح من كتابه إميل – تفسيرا للذاتية الدينية كما كان لها تداعياتها الهامة باتجاه تهميش القانون الدينى.
كما أثرت الصلات التى أقامها كانط kant بين الوجودى والمعرفى والأكسيولوجى على كل الاتجاهات العلمية والعقائدية والفلسفية والسياسية بعده، فيرى كانط أننا لا نستطيع أن تعرف الا العالم الظاهراتى ويعد هذا الفهم أحد الأصول الميتافيريقية للعلم فى القرن التاسع عشر الذى قام على افتراض أن العالم المادي آلة كبيرة معقدة تخضع لقوانين لا تتبدل وحلت هذه القوانين محل الإله.
وقد برزت فى المجال المعرفى تعاليم الايمان والعقلانى وتقديم تفسيرات علمية للعقيدة، فالمسيح ليس كائنا إلهيا ولكنه رمز كامل للقانون الاخلاقى الذى تجب طاعته بما أدى بكانط لرفض مهمة المسيح كمخلص ( ربط الوجودى بالمعرفى بالاكسيولوجى) وشاع هذا الرفض لدى مفكرى التنوير. وكانت فكرة هيجل عن الله أنه لم يعد يدرك على أنه كائن علوى ولكن كفكرة مطلقة وروح، فى محاولة لتقديم تبرير فلسفى للمعتقدات المسيحية عن التثليث وتعد محاولة هيجل أحد أهم محاولات التوفيق بين الفلسفة واللاهوت المسيحى التى تحمل بعض سمات الكمون الوجودى وتأليه الوجود الإنسانى.
وتتلخص الاتجاهات الوجودية Ontological فى فترة ما بعد هيجل فى أربعة اتجاهات: المادية التى تعززت بأحياء الترعة الطبيعية فى العلم وإعادة تفسير ماركس لديالكتيك هيجل وانتشار نظرية التطور على كل الأصعدة الفكرية، والرد الوجودى على الأسئلة والآفاق الفلسفية الجديدة والفهم الجديد للإيمان بناء على مجموعة جديدة من الافتراضات المعرفية الوجودية المنبثقة عن محاولات اللاهوتيين -وبالأخص البروتستنت - للتكيف مع البيئة الفكرية الجديدة بتقديم دور وظيفى جديد للدين، وتفسير فيورباخ الأنثوبولوجى للدين الذى أدى لأنسنته.
فكان للفلسفة التى تقوم على مركزية الطبيعية والعقلانية وعمليات غربلة المسيحية من الداخل دور جوهرى فى التركيز على المعرفة الإنسانية وأداتها العقل والحس والخبرة وطرح الوحى جانبا مما كان له أكبر الأثر على البعد القيمى وكيفية رؤية الحياة وكيفية تقويمها وكيفية تثمين قانون معين ورفض آخرمما أصطلح على تسميته:
الوضعية القيمية ( الاكسيولوجية) وعلمنة الحياة والقانون:
تجلت الأشكال الأولية للعلمنة القديمة فى الرواقية والإبيقورية حيث افترضت الرواقية أن الانسان ينتمى لعالمين: المدينة والعالم ومن ثم فإن له قانونين: قانون المدينة وقانون العالم فى فصل مطلق للقانون الطبيعى عن قانون الأمم. أما الأبيقورية فاهتمت بالبحث عن الخير الأسمى فى سعادة الحياة ، وأصبح هذه الإسهام الأبيقورى الرواقى أحد الدعامات الأساسية فى عملية علمنة النظام القيمى للحضارة الغربية خاصة فى صورة المنفعة.
وقد تأثرت الأخلاق المسيحية بهذا الميراث اليونانى الرومانى فى تجزئة الحياة فرأى القديس أمبروزو _ امتدادا للرواقية _ أن مثالية الحياه هى السعادة وتطورت هذه الرؤية وصولا إلى منفعة بنثام كما يظهر تنافر الحياة والقانون الإلهى فى فصل أوجستين للكنيسة عن الدولة ونظرية السيفين أما هوبز فقد طور _ استنادًا على انقسام الحياة الرواقى المسيحى _ أخلاقية جديدة مبنية على الخبرة فالسلوك الإنساني هو نتيجة رد فعل للحصول على السعادة وتجنب الألم، وكان موضوع الرغبة والخير، حافزا لعقلنة الأخلاق وإلحاقها بمجال المجتمع بدلا من مجال المثال والكنيسة وبالمثل كان معيار لوك أن السرور هو الخير وهذه هى النظرة التى سيطرت على الامبويقيين خال القرنين 19 ، 20 على حين اعتبر ستيوارت مل أن سعادة مخلوقات الله هى هدفه وذهب بمذهب بنثام خطوة أبعد بتصنيفه مصادر السرور والألم لأربع مجموعات:
طبيعية ، أخلاقية ، سياسية ، عقدية وقدم تفسيره لقياس السرور والألم أساسا موضوعيا لإطلاقية الأكسيولوجى العلمانى بدلا من إطلاقية الأكسيولوجى العقدى بينما اختزل kant العقيدة إلى الأخلاقيات على أساس الإيمان بالله دون الأديان .
وهكذا كانت الثنائيات ملمحا أساسيا للنموذج الغربى فالعلمانية ليست سمة جديدة للحضارة الغربية بل ملمحا أعيدت صيغاته خلال عصور طويلة وأثر الارتباط بين الوجود والمعرفة والأكسيولوجى على النحو السابق بيانه على تطور الأفكار والنظريات والمؤسسات السياسية التداعيات السياسية للمنظور الغربى.
وتظهر هذه التداعيات فى:
· تبرير نشأة وهدف النظام السياسى: بداية من فلسفة أرسطو السياسية التى تتصل بمنهجه المعرفي فالمعرفة الامبريقية عنده تربط المجال الوجودى بالمجال السياسي فكما يرتقى أرسطو للمحرك الأول الذي لا يتحرك (الإله) بواسطة ملاحظة المواد المتحركة الفانية فانه يستخدم المنهاجية نفسها للوصول إلى أفضل دولة يمكن إقامتها بملاحظة مؤسسات وفعاليات سياسية عديدة ومن هذا المنطلق تطور التبرير الغربى للدولة كمؤسسة إلهية واستخدم العلمانية للدفاع عن استقلالها إزاء الكنيسة.
وأثرت هذه العلاقة على صياغة مفهوم الدولة القومية الذى يتعارض جذريا مع فكرة الدولة الإسلامية وتأتى النظريات التى تنطلق من حالة الطبيعة الأولى لتبرير وجود الدولة فى إطار المعرفة والمنهجية عن الوحى فيشترك سبينوزا مع هوبز فى رؤية لحالة الحرب لكنه يرى أن هذا إعمال لقونين الطبيعة الأولى كحل للخطيئة الأصلية ويبارك الدولة الناتجة عن حالة الحرب لأن القوانين الطبيعية تعمل فى "حكمة" دون تدخل الإنسان وفى هذا السياق تأتى ادعاءات الرواقية حول العقل الإنساني كمكتشف للقوانين التى لايمكن اعتبار أي قانون يتناقض معها قانونا ليصبح العقل والطبيعة أساس قيام الدولة فى المنظور الغربى هذه الدولة تفصل بين قوانين الله وقوانين الطبيعة أو بين الدين والدولة.
فحالة الطبيعة واستخدامها لتبرير الدولة والأنظمة السياسية والاجتماعية هي تداعيات سياسية لمركزية الطبيعة فى المعرفة الإمبريقية وأنسنة وعلمنة المعرفة بالتماثل مع طبيعة العلم والوجود.
ويجد التفسير العلمانى للسعادة الفردية لتبرير الأنظمة السياسة العملية أصوله فى مزيج من الفهم الأبيقورى للحياة والأخلاق المسيحية الرواقية ويمكن متابعة هذه الرؤية عند جروثيوس والليبرالية المبنية على فكرة الحقوق الطبيعية إلى فردية هوبز ومنفعة بنثام إلي مل فى فهمه للأخلاق المؤسسة على السعادة إلى جيمس ووضعيته التى تفترض أن الفكرة تكون حقيقة عندما تحمل قدرا من المنفعة فهدف الدولة فى المنظور الغربى طلب السعادة والمنفعة للفرد قبل الجماعة وهذا انعكاس لتبعية مطلب الوجودى للمعرفى والاكسيولوجى الذى لا يستند لمصادر تتجاوز الانسان.
*النموذج التوحيدى البديل ومصادره:
يقدم المنظور التوحيدى رؤية شاملة للكون يتسم هذا النموذج بسماته المستمدة من المصادر الاسلامية القرآن والسنة وأهم هذه السمات :
الوحدة الوجودية الكونية cosmology والمفارقة :
فالأصل فى الصيغة الوجودية كما عرفها تاريخ الفكر الاسلامى تحديد العلاقة بين الله والإنسان والطبيعة من القرآن الكريم ويعتمد هذا التصور على هرمية وجودية واضحة مبينة على الوحدة الوجودية والمفارقة بين الله والكون مقابل الحلولية الوجودية والقرب ويأتى التعرف على الله تعالى من خلال أسمائه فى القرآن الكريم فهو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وترتبط ماهيته تعالى بأنه " ليس كمثله شيء " وقد استخدمت المفاهيم والالفاظ القرآنية الدلالة والصياغة بما أدى إلى ثورة فكرية شاملة أسست قواعد جديدة للربط بين اللغة والتصورات الذهنية .
وتتحدد العلاقة بين الوجود والمعرفة والقيمة فى ثلاثة مفاهيم مفتاحية فى القرآن الكريم "الإيمان " بالله الواحد الأحد والعلم ( البعد المعرفى من الوحى والعقل والخبرة والحدس ......... الخ ) والعمل الصالح ( البعد الأكسيولجى والأخلاقى ) وتمثل الطبيعة البيئة المادية التى تتطور فيها علاقة الانسان بالله فهدف الطبيعة متسق مع هدف الإنسان والإنسان يشارك الطبيعة المجال الوجودى نفسه ولكنه متفوق على الطبيعة لأنه وكيل وخليفة عن الله تعالى فثمة هرمية وجودية بين الله \الانسان \ الطبيعية تدور حول مبدأالتوحيد.
وهذا الأساس هو القاسم المشترك بين كافة مدارس الفكر الإسلامي سواء في إطار علم الكلام أو فالمعتزلة والأشاعرة برغم اختلافهم فى مسألة الذات والصفات فقد أجمعوا على تنريه الله تعالى ومفارقته للوجود وحتى المتأخرين من علماء الكلام مثل الجوينى والصابونى قاوموا أى صياغة توفيقية فى العلاقة بين الله \ الانسان \ العالم يمكن أن تؤدى الى القول بالحلولية .
أما مدارس الفلسفة الاسلامية فلم تكن اختلافاتها تتعلق بمسألة الوجود بل كانت اختلافات منهجية فيؤكد الكندى أن الوحى والفلسفة حققا نتائج وحقائق متماثلة بطرق مختلفة وبرغم أنه أخذ من الأرسطية والأفلاطونية الجديدة بعض الأدوات التنظيرية والمنهجية فإنه رفض ما وراء الطبيعة.
الأمر نفسه بالنسبة للفارابى ففى أعماله المشهورة كآراء أهل المدينة الفاضلة دلالة كافية على تبعية المعرفى والقيمى والسياسى للبعد الوجودى كما تعتمد فلسفة بن رشد على الوحدانية المطلقة الله تعالى– ولذلك رفض المثنوية الزرادشتية- وعلى التراتب الوجودى بين مخلوقات الكون وعلى المفارقة الوجودية لإيمانه بالنبوة
وترى النظرية الصوفية أن الله تعالى ليس هو العالم ولكن العالم لن يكون حقا بدون الله، فالتصوف يختلف عن الحلولية التى تعتمد على المماثلة بين الله والكون.
وقد أقام الغزالى توازنا جديدا بين علم الكلام والفلسفة والتصوف مبنى على التوحيد المطلق لله والتراتبية المشار إليها آنفا إلا إن أوزان هذه الفروع الثلاثة تفاوتت فى الصياغات المذهبية والفكرية الاسلامية وتداعيتها الاجتماعية والسياسية كما يتضح فى افكار الرازى وابن العربى وابن تيمية وحديثا الأفغانى ومحمد عبده وإقبال وينقلنا ذلك إلى الخصيصة الثانية للنموذج الاسلامى:
2-الوحدة المعرفية وتناسق مصادر المعرفة:
فمن الملامح الرئيسة للمعرفة الاسلامية تبعية المعرفى للوجودى بما يعنى أن الوجودى يحدد التراتبية المعرفية واختلاف المستويات المعرفية.
ويكمن أصل فكرة أن الوجودى يحدد المعرفى فى النظام القرآنى للدلالات اللفظية، فيمدنا تكرار الكلمات الشائعة فى القرآن الكريم بإشارات جوهرية لهذا الربط المحدد بين التصورات الوجودية والمعرفية مثل القرابة اللفظية بين العلم (المعرفى ) والعلم (علامة) والعالم الذى يعرفه الزمخشرى بأنه كل الأجسام والحوادث التى يعلمها الخالق بينما يشير الجوينى إلى الرابطة الدلالية بين العلم والعالم فى إشارة لوجود صاحب العالم وهو الله تعالى وأحد أسمائه العليم وأنه لا يمكن وضع المعرفة من الله تعالى على المستوى المعرفي نفسه لمعرفة الانسان وأنه يجب ألا تتعارض المعرفة الإنسانية مع المعرفة الإلهية (المعرفة الحقة) وأن الطريق الوحيد لمعرفة إرادة الله تعالى هو النبوة التى حملت كتب الله للناس فالفهم بأن النبى ( ص) ناقل رسالة وليس نصف إله أو تجسد للإله عزز الاتجاه للأخذ باختلاف المستويات المعرفية مع التوازن بين الوحى كمصدر مطلق للحقيقة والعقل كوسيلة لتفسير الوحى وهو التوازن الذى أكد عليه بن رشد وغيره من الفلاسفة وعلماء الكلام كالأشعرى وينبنى على ذلك:
المعيارية القيمية: وحدة الحياة والقانون:
فالسمة الجوهرية للمعيارية الإسلامية هى تفسيرها مسئولية الإنسان على الأرض التى تعبر عن وحده الحياة والقانون ونفى أى صيغة لتقسيم الحياة لأجزاء منفصلة ويعد العمل الصالح (المفهوم المفتاحى فى النظام القرآنى القيمى) والعلم (المعرفى ) تعبيرًا عن الوحدة التى لا تتجزأ بين المفاهيم الأخرى الإيمان ( الوجود ) والعلم ( المعرفة ) وتتحدد مكانة الإنسـان فى الكون بأنه المتحمل للمسئولية الإلهية " وما خلقت الجن والإنـس إلا ليعبدون " وهى الأمانة التى يقدر الانسان على تحملها لأن الله "لا يكلف نفسًا إلا وسعها" ولا يحمل هذه الأمانة أحدًا غيره ويرتبط بذلك وحدة الحياة الدنيا والآخرة .
وتقوم المعيارية القيمية فى الإسلام بدور الواصلة بين المسلمات المعرفية والوجودية والآليـات الاقتصـادية والاجتماعية والسياسية وتعزز مقاومة المسلمين لعملية العلمنة ويرتبط القانون بشكل مباشر بالنظام القيمى فهدف الحياة هو بث هذه القيم فى كافة جوانبها ومن ثم كانت الأشكال السياسية والاجتماعية المأخوذة من القرآن والسنة تداعيات قيمية للنظام السياسى الإسلامى الذى يحقق السعادة والعدالة وعليه أتت مفاهيم الفقه و الشريعة كتعبير عن القانون الشـامـل فالتعريف الحنفى للفقه " معرفه الحقوق والواجبات التى يتمكن بها الانسان من الالتزام بالسلوك القويم فى هذه الحياة والاستعداد للآخرة ".
التداعيات السياسيه للنموذج التوحيدى :
تعد عمليه تبرير نشأة الدولة والهدف منها فى إطار التنظير السيـاســي الاسلامـي انعكاسـأ للنموذج التوحيدى بخصائصه السابقة حيث يرتبط تبرير الدولة كمؤسسة سياسية اجتماعية فى الفكر الإسلامي بالمصطلح القرآنى عهد - عقد - ميثـاق - أمـة - خليفة - أمـانـة فتشكـل هذه المفاهيم قاعدة دلالية فكرية وتنظيرية للربط بين المجالات الإنسانية الوجودية والسياسية.
فثمة ميثاق بين النبى وأتباعه وعهد بين الله تعالى والإنسان يجب أن يمتد للحياة الاجتماعية كميثاق بين الإنسان والإنسان والدولة كمؤسسة للعلاقة بين الإنسان والإنسان فالله تعالى فقط هو الذى يجب أن يطاع وطاعة السلطة ترتبط بهذا الأصل ومصطلح الخليفة له دور هام في تبرير النظام السياسى مع التأكيد على أن المقصود بالإنسان كل الإنسانية وليس آدم عليه السلام فقط فيستخدم القرآن كلمة خليفة فى سياق خلق آدم لتوضيح الموقف الوجودى للإنسان على الأرض وفى الخطاب مع داوود عليه السلام ليربطه بمسئولية سياسية واجتماعية هى الحكم بين الناس كما استخدمه القرآن للتدليل على مهمة الإمام والخلافة " نيابة عن النبى ( ص) لإرشاد الناس لما فيه صلاحهم فى الدنيا والطريق المنجى في الآخرة ".
وقد بحث الفلاسفة المسلمون أصل النظام السياسى من خلال التحليل المنطقى فيذكر الفارابى حاجة الإنسان للتعاون والعون الجماعى لإنجاز الأهداف المختلفة كما ركزوا على غايه المحبة مما يعنى تبعية السياسة للأخلاق بينما استخدم المتكلمون والفقهاء حججا عقلانية وعقدية لتبرير نشأه النظام السياسي تحت سلطة الإمام باعتباره واجبا دينيا وضرورة اجتماعية.
ويرتبط تبرير هدف النظام السياسى بالإطار الوجودى المعرفى القيمى وهدف الحياة الإنسانيه وخلافة الله فى الاسلام من خلال اتجاهين :
الأول: النظرة الإسلامية لوحدة الحياة فى اتصالها بالمسئولية العقدية عن طريق ادراك الوقت والعبادات اليومية والأسبوعية والسنوية بما يؤدى للشعور بمعنى الحياة كوحدة مرتبطة بالبعد الأخروى.
الاتجاه الثانى: أن جوهر الاجتماع السياسى الإسلامى تحقيق الأمانة والخلافة على الأرض التى تقوم على إدراك وحدة الحياة ( المعرفة الإسلامية ) والمركزية الإنسانية ( الكون مسخر للانسان ) بدلا من مركزية الطبيعة، والإرادة الحرة هي فى إطار للارادة والحرية الإنسانية لعقد ميثاق سياسى لإنجاز الأمانة الإلهية ( عباده الله - إبراز صبغة الله تعالى فى السياسة والاجتماع والثقافة والعلم ).
ويحدد ابن رشد هدف الدوله فى بلوغ الكمال الأعلى والسعادة المطلقة كهدف لوجود الإنسان داخل مجتمع ويربط بن سينا وبن باجه كمال الفرد بوجود الدوله المثالية التى تحقق مقاصد الله تعالى هى العدالة وتركز بعض التحليلات على وظائف الدولة فيرى التفتازانى أنه لا بد للمسلمين من إمام ينفذ قراراتهم ويحافظ على شريعتهم ويحمى حدودهم ويجهز جيوشهم ويقيم شعائرهم بما يوضح أن النظم السياسية والاجتماعية هي تداع مباشر للمعيارية الإسلامية التى تقوم على التكامل المعرفى الناتج عن التوحيد ( مفارقة وعلو الله تعالى عن الكون) ففى هذا الإطار يمتنع الفصل بين الدينى والدنيوى وبين السياسى والأخلاقى .
وعلى الرغم من أن هذا النمظ من التبرير يفترض صورة الدولة المثالية إلا أنها دولة مثالية تحققت تاريخياً في عهد الرسالة والعهد الراشدي مقابل مثالية أفلاطون الخيالية كما أنها دولة قابلة للتحقق بما يحفز المسلمين على العمل على إقامة هذه الدولة مرة أخرى كما أن وتقدم الشريعة الإسلامية معايير أبدية وثابتة يمكن إليها اختبار شرعية السلطة السياسية فالغزالي أكد على العدل والقانو هما شرطا الشرعية السياسية في حين ربط ابن رشد نظريته السياسية بفكرة سمو الشريعة باعتبارها قانون الدولة الإسلامية الذي يهدف إلى تحقيق سعادة كل أفرادها ويستند سمو الشريعة إلى طبيعتها العلوية كما حدد ابن تيمية وظيفة الولاية في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسيود العجل والخير بين الناس.
وتعد الشورى شرطاً أجرائياً أساسيًا لشرعية السلطة السياسية التي تستهدف توفير البيئة المناسبة لأداء أمانة الله تعالى فهي أداة لمنع الطغيان في الحياة السياسية والاجتماعية لكنها تختلف باستنادها إلى أسس معرفية وقيمية تتصل بالعقيدة عن الديمقراطية الغربية.
إن طريقة تبرير النظام الاجتماعي والسياسي اعتمادًا على أسس وجودية وشرعنة السلطة السياسة وتفسير طبيعة القوة السياسية هي نظريات وثقافات سياسية هامة مهمة الدلالة لأن التحدي الغربي للحضارة الإسلامية ليس مجرد تحد لكيان ومؤسسات بديلة ولا لتشكل تاريخي معين وإنما هو تحد لنظرة شاملة للعالم إذ أن الاتساق الداخلي للإطار النظري الإسلامي يتيح دائماً إمكانية إنتاج ثقافة سياسية بديلة طالما استمرت الصلة بين الوجودي والسياسي وطالما ظل التناول الوجودي للحياة القائم على عقيدة التوحيد موجوداً في الثقافة والتصورات الاجتماعية والسياسية.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home