إشكاليات القوة
القوة واحدة من الظواهر المحورية في الحياة الاجتماعية للبشر، إلا إنه حالما يأخذ المرء في التأمل في ما تعنيه القوة نفسها فإنه يواجه مشكلة جوهرية ألا وهي أنه لم يعد واضحاً ما إذا كانت القوة ملمحاً إيجابياً أم سلبياً للعلاقات الاجتماعية بين البشر. فاستخدام كلمة القوة في الخطاب العادي يعكس هذا الغموض الأساسي في طبيعة القوة: فأحياناً يجري الحديث عن القوة كشئ يعتقد الناس أنهم يمتلكونه، أو كجزء من سماتهم الطبيعية الخاصة، فعبارة مثل عبارة " القوة من أجل الشعب" توحي بأن القوة هي سمة إيجابية للحياة الاجتماعية مكانها الصحيح إنما هو في أيدي الشعب.
ومن ناحية أخرى يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى الملامح السلبية للعلاقات الاجتماعية بين البشر؛ فعندما نتحدث عن قوة الطاغية الدكتاتور على عقول أتباعه فإن المفهوم يشير ضمناً إلى الجانب السئ من الحياة الإنسانية، وهو قدرة الزعيم الكارزمي على تشويش أحكام الناس العاديين والسيطرة عليهم.
ومع غموض الخطاب العادي حول القوة قد يأمل المرء بأن تقدم التفسيرات النظرية للقوة تفسيراً محدداً لهذه الظاهرة الاجتماعية الهامة، ففي النهاية يحاول المنظرون الاجتماعيون بشكل عام أن يضفوا الدقة والوضوح على الممارسات الخطابية العادية؛ لذلك - ونتيجة لأهمية الظواهر المرتبطة بالقوة في حيوات البشر- بذل المنظرون الاجتماعيون قدراً كبيراً من الجهد في وضع مفهوم متماسك وقوي، من الناحية النظرية ، للقوة وعليه يتوقع المرء أن يجد إجماعاً أكبر بينهم على طبيعة القوة.
لكن مع هذه التوقعات سرعان ما يخيب رجاء المرء بالنظر لانقسام خطاب النظرية الاجتماعية بشكل أكثر حدة من الخطاب المعتاد حول المفهوم، بل إن التحديد الدقيق الذي يجاهدالمنظرون الاجتماعيون لإسباغه على فهمه للقوة يجعل هذا الفهم أكثر عرضة للمعارضة مما هو عليه الحال في الخطاب العادي.
وهكذا وجدنا بعض المنظرين الاجتماعيين يحاج بأن القوة ضرورية لوجود المجتمع فهي وسائل أساسية بها ينظم البشر تبادلهم المعيشي، فادعت "حنا أرنت" على سبيل المثال أن " القوة جزء هام من من العالم الاجتماعي غالباً ما يتم إهمال إسهامها في تشغيل الحياة الاجتماعية وإدائها لوظائفها " وفي تفصيل هذه الرؤية تزعم أرندت أن " كل المؤسسات السياسية هي تجليات وتجسدات مادية للقوة، فهي تتكلس وتتحلل عندما تكف القوة الحية للناس عن دفعها" ومع ذلك فإن القوة عند المفكرين الاجتماعيين الآخرين ظاهرة غاية في السوء والفساد، ووسيلة تتمكن بها مجموعة من الناس من استغلال علاقاته بالآخرين لمصلحتهم الخاصة، ويرى هؤلاء المنظرون القوة كشئ يجب - بل لابد من - استئصاله من العلاقات الإنسانية فيقول " ديفيد وست " على سبيل المثال إن ما يميز المداخل الراديكالية والنقدية لمفهوم القوة هو اعتقادها إن نظرية الأيديولوجيا لابد أن تكون محورها فالقوة ليست دائماً ظاهرة او جبرية بل كثيراً ما تعمل بشكل اكثر خفاءًا. وبشكل أكثر تحديدا ، عندما تعمل بشكل غير منظور متخذة صورة الأيديولوجيا.
واستخدم "وست" في محاولته لإظهار الوسائل الباطنة التي تعمل من خلالها القوة استخدم مفهوما للقوة يتعامل معها كملمح سلبي للعلاقات الاجتماعية.
وهكذا نجد استقطاباً ثنائياً مُشْكِلاً في الخطاب النظري والخطاب المعتاد معاً: فالقوة ملمح إيجابي في حياة كل من الفرد والمجتمع، وهي أيضاً جذر وأصل المشكلات الأخطر في المجتمع.
وليست هذه هي المشكلة الوحيدة، فالبحث المستقصي لنظريات القوة يظهر غياب نقطة اتفاق مشتركة بينها ولايقتصر الأمر على الخلاف حول ما إذا كانت القوة ملمحاً إيجابياً أم سلبياً للعلاقات الاجتماعية، بل إن كل توكيد بصددها يصبح أرضية خصبة لجدل أوسع بدءًا من مسألة من يمكنه أن يمتلك القوة إلى ما إذا كانت فكرة امتلاك القوة هي مفهوم متماسك وسليم أصلاً.
وأحد النتائج المحتملة لبحث هذا الصراع بين النظريات هو الشك في إمكانية بيان مفاصل وأبعاد نظرية عامة للقوة الاجتماعية، فعلى سبيل المثال لاحظ " نُكلاس لوهمان" أن هناك العديد من المحاولات لجعل مفهوم القوة مفهوماً ناجحاً من الناحية النظرية ومن ناحية الاستدلال الواقعي (الإمبريقي) وفي ضوء هذا الموقف لا يمكن أن توجد نظرية مرضية للقوة لأنها تختلط فيها الافتراضات بالنتائج"
وعلى الرغم من أن لوهمان استخدم هذه الملاحظة لتسويغ مدخله النظري الخاص لتحليل مفهوم القوة فإن هذه الملاحظة تعكس الإحساس بالإحباط الذي يحسه العديد من المنظرين الاجتماعيين الذين يواجهون هذا القدر الواسع من الخلاف بين نظريات القوة .
وقد حاج بعض المنظرين الاجتماعيين بأنه لا يجب إطلاقاً أن يكون وضع نظرية عامة للقوة هدفاً للنظرية الاجتماعية وهناك إشارات عديدة لذلك في أعمال فوكو، فيرى فوكو أن معالجة الموضوع يجب أن تتم من خلال اعتبار ودراسة مجال معين تكون فيه القوة حاضرة لإظهار كيف تعطي القوة هذا المجال بنيته.
ومع ذلك يرى الكاتب (وارتنبرج) أن هذا الهدف هدف مشروع برغم الطابع الإشكالي لمفهوم القوة وأنه سيحاول الإسهام في وضع هذه النظرية العامة للقوة، ويحاول الكاتب إيضاح أهمية هذا المشروع الفكري من خلال مناقشة عدد من الافتراضات المقدمة لتفسير هذا الخلاف بين المنظرين الاجتماعيين لبيان أن هذا الخلاف ليس عائقاً أمام بناء نظرية عامة للقوة الاجتماعية.
فبالنسبة لمسألة هل القوة إيجابية أم سلبية مثلاً يرى "وارتنبرج" أن المرء قد يحس بضرورة أخذ جانب إحدى الرؤيتين برغم أنه يمكن تجاوز هذه الإشكالية؛ إذ يظهر بحث طبيعة القوة أنها يمكن ان تكون سلبية أو إيجابية اعتماداً على طبيعة استخدامها. ويعني هذا أنه فقط من خلال بحث استخدام معين ومحدد للقوة يمكن تحديد ما إذا كانت القوة مفيدة أو مؤذية وسيئة.
ويرى " وارتنبرج" أن إخفاق المنظرين الاجتماعيين يعود إلى إخفاقهم في العمل على مستوى تحليلي أكثر عمومية بشكل كاف، فهم قاموا بالتحليل على مستوى خاطئ من التعميم، ومن ثم فإنه لا يمكن حل إشكالية إيجابية القوة وسلبيتها ببحث القوة كظاهرة اجتماعية بشكل عام، فهذه القضية لا تحل إلا بالنظر للشكل الخاص الذي تتخذه علاقة القوة في موقف معين. فالقوة وفق هذا التحليل تتضمن الإيجابية والسلبية معاً وبهذا النهج في التحليل يرى "وارتنبرج" أنه طور نظرية للقوة تحل العديد من إشكالات دراستها.
المفاهيم المتُنازَعة بطبيعتها
أثارت طبيعة الافتراضات المتصارعة حول القوة اهتمام المنظرين فهي تتعلق بالأصول والأسس وقد خشي المنظرون أنه دون فهم هذه الاختلافات الإمبريقية فإن الشك في إمكانية تطوير نظرية عامة للقوة الاجتماعية سيؤدي لإضافة نظريات جديدة في تعدد لا نهائي للنظريات .
وحاول المنظرون التوافق مع هذا الوضع بالادعاء بان مفهوم القوة هو أحد "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" وهو تعبير يعني أن ثمة طائفة من المفاهيم في النظرية الاجتماعية لا يمكن محاكمتها إلى معيار نظري فقط، ولا حل الخلاف حولها باعتبار الوسائل الخطابية وحدها، لكن الواقع (وفق رؤية وارتنبرج) أنه لايوجد معيار نظري محض لتحديد أن مفهوماً ما هو من "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" فمثلاً أكد "ستيفن لوك" في مستهل عرضه لمؤلفه " تحليل مفاهيمي للقوة " بالادعاء بأن رؤيته هي رؤية تقويمية و "متنازع عليها بطبيعتها" وهو ما أكده أيضاً "وليام كونولي".
وحسب هذه الرؤية قدم هذان المنظران عدداً من السمات الخاصة للنزاع حول مفهوم القوة بما انتهى بهما للقول بأنه لايوجد سبب مقنع لتوقع نوع من الاتفاق حول كيفية استعمال مفهوم القوة؛ لذلك التزما ببيان مفاصل "رؤية داخلية الاتساق لمفهوم القوة" مع تسليمهم بأن هذه الرؤية لن تكون مرضية لأولئك الذي يشتغلون على معنى آخر لمفهوم القوة، وعلى الرغم من أن هذين المنظرين ادعيا إمكانية تقديم دفاع رشيد عن مركزهما الفكري الذي أصلاه، فإن أطروحاتهم عن "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" أسفرت عن فهم محدود لما يمكن ان ينتجه هذا الدفاع الرشيد.
وفي الوقت نفسه بدلاً من أن يستخدم " كونولي و لوك" أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" لفهم ثراء الأفهام المتنافسة للقوة فإنهم استخدموها للدفاع عن مفهومهم الخاص للقوة الذي رأوه الأكثر تأصيلاً وتنويراً ومن ثم فتح هذا الاستخدام لأطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" الباب لاستمرار النزاع حول أي مفاهيم ونظريات القوة أكثر صحة بما يترتب على ذلك من محاولة المنظرين الاجتماعيين التأثير على الآخرين ليقبلوا رؤيتهم للقوة التي يعتبرونها الأكثر ثراءً .
ويعتقد "وارتنبرج " أن أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" أخذت على محمل خطأ، وأنها برغم جاذبيتها البادية لأول وهلة تقصر عن تفسير هذا التنوع في نظريات القوة ويرى "وارتنبرج" ضرورة نبذ هذه الأطروحة معللاً هذا من خلال شرح الشروط التي وضعها "جاللي" لاعتبار مفهوم ما من "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" ف" جاللي" هو أول من أدخل هذا المفهوم إلى الفلسفة والنظرية الاجتماعية لشرح اختلاف الفلاسفة ويشرح وارتنبرج هذه الشروط بالتطبيق على مفاهيم الديمقراطية ويرى "وارتنبرج " أن أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" لا تفسر انتشار نظريات عديدة للقوة لأن المنظرين لا يختلفون على مستوى النموذج المعرفي القياسي أو الباراديم" بل حول ما إذا كانت القوة حاضرة في موقف معين أوحول مد مفهوم للقوة إلى حالات غير نماذجية .
ويشرح "وارتنبرج" هذا من خلال عرضه مفهوم "فتجنشتاين" عن وجود مبدأ معرفي Epistemological" للتصنيف مقبول ضمناً في حالة العديد من المفاهيم ومنها مفهوم اللعب الذي طوره ليستخدم بعد ذلك في النظرية التداولية للغة.
ولا يقبل الكثير من المنظرين الاجتماعيين أطروحة أن القوة من "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" فقد فند "جيدنز" هذه الأطروحة فالمنظرون لا يختلفون حول حدود حالات تصنيفية معينة للقوة بل يدور خلافهم حول الجوهر الأساس لنظرية القوة فالنزاع بين المنظرين الاجتماعيين حول صياغة مفهوم للقوة خلاف أكثر جوهرية وعمقاً مما تشرحه أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" .
معاني القوة
لا يعني ما سبق أن نظل عند نقطة البداية، فهذا الخلاف بين منظري القوة لابد أن يطرح ضرورة أن يكون أي مشروع لتطوير نظرية جديدة للقوة لن يكون صوتاً جديداً في هذا الصخب الموجود. ولما كان "وارتنبرج" يرى أنه سيطور نظرية للقوة تتجاوز سابقاتها فإنه يحاول بيان عدم شرعية افتراضات هذه النظريات السابقة، ومن خلال بيان كيف أدت هذه الافتراضات لبناء نظريات غير ملائمة للقوة يظهر " وارتنبرج " على أي نحو تتجاوز نظريته وتسمو على رؤى النظريات السابقة للقوة.
والخطوة الأولى في محاجة "وارتنبرج" هي بيان كيف أن الخطاب النظري في سعيه لمزيد من الضبط ولتحديد معنى وحيد صحيح للقوة تجاوز الخطاب العادي الذي يستخدم مفهوم القوة بشكل مزدوج، وأدى إهمال هذا الطابع المزدوج للمفهوم لاختلاف أساسي بين نظريات القوة لأن منظري القوة أصبحوا يتكلمون عن وجوه مختلفة للواقع الاجتماعي.
ويرى "وارتنبرج" أن مفهوم القوة مفهوم غير عادي نظراً لطبيعته المزدوجة والمتناقضة هذه في الخطاب العادي، وهو ما يظهر من فحص المعاني المعجمية التي ترى القوة "قدرة على فعل أمر ما" فهي خصيصة لكائن معين ووفق هذا المعنى فإن الإنسان ليس الموجود الوحيد الذي يمكن نسبة القوة إليه فكل الموجودات لها نوع أو آخر من القوة، وعليه برز التصنيف في النظرية الاجتماعية بين الاتجاهين " القوة لـ " و القوة على"
من المعاني المعجمية الأخرى للقوة انها "امتلاك قياد وتحكم في الآخرين: سيطرة ،حكم ،حكومة أمر ضبط نفوذ سلطة " وأحد الأمثلة على هذا الاستعمال للمفهوم ما رأه "جون ستيوارت مل " من أن قوة الرجل هي في استعداد الآخرين لطاعته" الفكرة الرئيسية في هذا الاستخدام للمفهوم تتضمن نمطًا معيناً للعلاقة بين البشرنمط تدرجي نظرا لقدرة شخص ما على التاثير على الأخرين دون قدرتهم على تبادل هذا التأثير.
وفق هذا المفهوم فإن القوة هي " قوة على ... " فهي تتم في إطار علاقات ومن ثم تصبح مقصورة على الكائن الاجتماعي أي نوع خاص من الكائنات يمكن القول بأنه قد يتحكم أو يأمر الاخرينولعل هنا بكتين كانت من المنظرين الاجتماعيين القلائل الذي عنوا ببيان اختلاف هذين المفهومين للقوة وهذا التممييز مهم جداً لبناء مفهوم جرد للقوة فمفهوم القوة لـ لا يتضمن جانب العلاقات بل مجرد إنجازالمرء لشئ ما بنفسه وإن كان أحيانا يتضمن جانب العلاقات إذا كانت القوة لإنجاز عمل ما هي لإنجاز عمل اجتماعي او سياسي لكن جانب العلاقات ليس عنصراً جوهرياً في المفهوم بل لا ضرورة له.
وعلى الرغم من اهتمام "بتكين" بهذا التمييز فإنها أخفقت في رؤية الصلة بينهما فعندما نقرر أن لفاعل اجتماعي قوة على ... فإننا نكون قد عزونا له قوة لـ...
ومن ناحية أخرى اهتم المنظرون الاجتماعيون بصقل احد مفاهيم القوة في الخطاب العادي وشحذها وصولاً لمفهوم نظري أكثر تحديدا مهملين هذا الطابع المزدوج لمفهوم القوة فمثلاً أخفق تالكوت بارسونز في ملاحظة ان التداخل في مفاهيم القوة في الخطاب العادي ليس أثراً لافتقاده التحديد والوضوح بقدر ما هو أثر لاستخدام مفهوم القوة في سياقين متمايزين لصياغة نمطين متمايزين من الدعاوى وأن هذه الازدواجية في المفهوم هي التي أنتجت عدم الوضح البادي في المفهوم نفسه.
لكن استخلاص وتنقية ثم اصطفاء أحد مفاهيم القوة كمفهوم وحيد ملائم للاستخدام في إطار الظرية الاجتماعية لن يكون مجدياً نظراً لتجاهله السياقات الأخرى التي يستعمل مفهوم القوة فيها وكثيراً ما حاج العديد من المنظرين بأن منطلقهم وصياغتهم لمفهوم القوة هي الوحيدة لفهم أي استخدام للمفهوم بشكل عام فكان هذا الإخفاق في الإقرار بالطبيعة المزدوجة لمفهوم القوة هو ما انتج الغياب الظاهر لأي أرضية مشتركة يمكن انطلاقاً منها الفصل في النزاع القائم في النظرية الاجتماعية حول طبيعة القوة .
ولبيان هذا يعرض وارتنبرجر كيف فهم الفلاسفة وأدركوا مفهوم القوة هذا الفهم الذي تبناه خلفهم من المنظرين الاجتماعين والطريف أنهم عانوا من نفس القصور ويمكن تصنيف هؤلاء الفرسفة في نفس الاتجاهين السابقين "القوة لـ" والقوة على [راجع المحاضرات] فأفلاطون يقع ضمن الاتجاه الأول وجعل مفهوم القوة أساس رؤيته لعالم الغيب او ما وراء الطبيعة " الميتافيزيقا" لكن ما يميز أفلاطون أنه رأى القوة قدرة على التأثير والتأثر في آن واحد فأحد علامات الكينونة هي القدرة على التفاعل مع الآخرين والقوة عنده هي الصفة الأساسية لـ "واجب الوجود " أو الموجود الأول.
وامتد استخدام المفهوم في التراث الفلسفي فاستخدمه "لوك " في مؤلفه " مقالة في الفهم الإنساني" فرأى أنه أحد المفاهيم البسيطة المستقاة من الحس والانطباع فبملاحظة ذواتنا نجد أننا يمكننا تحريك أبعاضنا وبالمثل يمكن لأحد أجزاء الهيئة الاجتماعية أن يحرك بقية الجسد الطبيعي وبهذه الكيفية يمكن فهم القوة"
وعلى الرغم من أن لوك كان اهتمامه ببيان كيفية تجريد الفكرة من الخبرة الحسية فإنه عبر بشكل صريح عن مفهومه للقوة عندما ميز بين القوة السلبية والقوة الإيجابية فالأولى هي قدرة على إنتاج التغيرات والثانتية قدرة على تلقيها فالشمس لها قوة إيجابية (تذيب الجليد) والجليد له قوة سلبية بالانفعال بحرارة الشمس.
واضح ان هذا الاستعمال لكلمة القوة يحمل معنى الطبع أي أنه يقرر أن ثمة قدرة لشئ على إحداث تغييرات في شئ آخر وبهذا الوصف يمكن التمييز بين حياز القدرة و خروجها لحيز الفعل فالقوة ليست متحققة دوماً بل تشير لقدرة استقلالاً عن تحقق هذه القدرة
يختلف لوك عن أفلاطون في تمييزه الصريح بين أنماط مختلفة من القوة تمتلكها الموجودات في حين أن أفلاطون تحدث عن القوة بصيغة المفرد كعلامة على وجود الكائنات دون ان يتحدث عن قوى متمايزة وأهمية هذا الاختلاف في أنه يفتح المجال للحديث عن قوى متمايزة ومختلفة للفاعل الاجتماعي ويرتبط ذلك بالتفرقة الميتافيزيقية بين الأعراض والجوهر فالقوة كقدرة على التأثير والانفعال هي أعراض للجوهر لكن كلاهما يتفقان في رؤيتهما للقوة كقدرة حيوية نشطة على التأثير والتأثر لكن أغلب المنظرين يرون أن استخدام القوة كقدرة فعالة هو أقل إثارة للخلط لذلك يميل المنظرون المحدثون المصنفين في هذا الاتجاه إلى قصر القوة على القدرة على إحداث تغيرات في الآخرين.
المدخل الاخر لدراسة القوة يقصرها على الكائن الاجتماعي أو الإنسان ومن ثم يعرفها على أنه قدرة افنسان على إحداث نتائج لصالحه وكان هوبز هو من أدخل هذا المفهوم للقوة إلى الخطاب الفلسفي والسياسي عندما قال " إن قوة إنسان - إذا أخذناه بصورة شاملة هي وسائله الحاضرة للحصول على خير مستقبلي " وواضح أنه يقصر القوة على الكائنات البشرية.
ومن ناحية أخرى يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى الملامح السلبية للعلاقات الاجتماعية بين البشر؛ فعندما نتحدث عن قوة الطاغية الدكتاتور على عقول أتباعه فإن المفهوم يشير ضمناً إلى الجانب السئ من الحياة الإنسانية، وهو قدرة الزعيم الكارزمي على تشويش أحكام الناس العاديين والسيطرة عليهم.
ومع غموض الخطاب العادي حول القوة قد يأمل المرء بأن تقدم التفسيرات النظرية للقوة تفسيراً محدداً لهذه الظاهرة الاجتماعية الهامة، ففي النهاية يحاول المنظرون الاجتماعيون بشكل عام أن يضفوا الدقة والوضوح على الممارسات الخطابية العادية؛ لذلك - ونتيجة لأهمية الظواهر المرتبطة بالقوة في حيوات البشر- بذل المنظرون الاجتماعيون قدراً كبيراً من الجهد في وضع مفهوم متماسك وقوي، من الناحية النظرية ، للقوة وعليه يتوقع المرء أن يجد إجماعاً أكبر بينهم على طبيعة القوة.
لكن مع هذه التوقعات سرعان ما يخيب رجاء المرء بالنظر لانقسام خطاب النظرية الاجتماعية بشكل أكثر حدة من الخطاب المعتاد حول المفهوم، بل إن التحديد الدقيق الذي يجاهدالمنظرون الاجتماعيون لإسباغه على فهمه للقوة يجعل هذا الفهم أكثر عرضة للمعارضة مما هو عليه الحال في الخطاب العادي.
وهكذا وجدنا بعض المنظرين الاجتماعيين يحاج بأن القوة ضرورية لوجود المجتمع فهي وسائل أساسية بها ينظم البشر تبادلهم المعيشي، فادعت "حنا أرنت" على سبيل المثال أن " القوة جزء هام من من العالم الاجتماعي غالباً ما يتم إهمال إسهامها في تشغيل الحياة الاجتماعية وإدائها لوظائفها " وفي تفصيل هذه الرؤية تزعم أرندت أن " كل المؤسسات السياسية هي تجليات وتجسدات مادية للقوة، فهي تتكلس وتتحلل عندما تكف القوة الحية للناس عن دفعها" ومع ذلك فإن القوة عند المفكرين الاجتماعيين الآخرين ظاهرة غاية في السوء والفساد، ووسيلة تتمكن بها مجموعة من الناس من استغلال علاقاته بالآخرين لمصلحتهم الخاصة، ويرى هؤلاء المنظرون القوة كشئ يجب - بل لابد من - استئصاله من العلاقات الإنسانية فيقول " ديفيد وست " على سبيل المثال إن ما يميز المداخل الراديكالية والنقدية لمفهوم القوة هو اعتقادها إن نظرية الأيديولوجيا لابد أن تكون محورها فالقوة ليست دائماً ظاهرة او جبرية بل كثيراً ما تعمل بشكل اكثر خفاءًا. وبشكل أكثر تحديدا ، عندما تعمل بشكل غير منظور متخذة صورة الأيديولوجيا.
واستخدم "وست" في محاولته لإظهار الوسائل الباطنة التي تعمل من خلالها القوة استخدم مفهوما للقوة يتعامل معها كملمح سلبي للعلاقات الاجتماعية.
وهكذا نجد استقطاباً ثنائياً مُشْكِلاً في الخطاب النظري والخطاب المعتاد معاً: فالقوة ملمح إيجابي في حياة كل من الفرد والمجتمع، وهي أيضاً جذر وأصل المشكلات الأخطر في المجتمع.
وليست هذه هي المشكلة الوحيدة، فالبحث المستقصي لنظريات القوة يظهر غياب نقطة اتفاق مشتركة بينها ولايقتصر الأمر على الخلاف حول ما إذا كانت القوة ملمحاً إيجابياً أم سلبياً للعلاقات الاجتماعية، بل إن كل توكيد بصددها يصبح أرضية خصبة لجدل أوسع بدءًا من مسألة من يمكنه أن يمتلك القوة إلى ما إذا كانت فكرة امتلاك القوة هي مفهوم متماسك وسليم أصلاً.
وأحد النتائج المحتملة لبحث هذا الصراع بين النظريات هو الشك في إمكانية بيان مفاصل وأبعاد نظرية عامة للقوة الاجتماعية، فعلى سبيل المثال لاحظ " نُكلاس لوهمان" أن هناك العديد من المحاولات لجعل مفهوم القوة مفهوماً ناجحاً من الناحية النظرية ومن ناحية الاستدلال الواقعي (الإمبريقي) وفي ضوء هذا الموقف لا يمكن أن توجد نظرية مرضية للقوة لأنها تختلط فيها الافتراضات بالنتائج"
وعلى الرغم من أن لوهمان استخدم هذه الملاحظة لتسويغ مدخله النظري الخاص لتحليل مفهوم القوة فإن هذه الملاحظة تعكس الإحساس بالإحباط الذي يحسه العديد من المنظرين الاجتماعيين الذين يواجهون هذا القدر الواسع من الخلاف بين نظريات القوة .
وقد حاج بعض المنظرين الاجتماعيين بأنه لا يجب إطلاقاً أن يكون وضع نظرية عامة للقوة هدفاً للنظرية الاجتماعية وهناك إشارات عديدة لذلك في أعمال فوكو، فيرى فوكو أن معالجة الموضوع يجب أن تتم من خلال اعتبار ودراسة مجال معين تكون فيه القوة حاضرة لإظهار كيف تعطي القوة هذا المجال بنيته.
ومع ذلك يرى الكاتب (وارتنبرج) أن هذا الهدف هدف مشروع برغم الطابع الإشكالي لمفهوم القوة وأنه سيحاول الإسهام في وضع هذه النظرية العامة للقوة، ويحاول الكاتب إيضاح أهمية هذا المشروع الفكري من خلال مناقشة عدد من الافتراضات المقدمة لتفسير هذا الخلاف بين المنظرين الاجتماعيين لبيان أن هذا الخلاف ليس عائقاً أمام بناء نظرية عامة للقوة الاجتماعية.
فبالنسبة لمسألة هل القوة إيجابية أم سلبية مثلاً يرى "وارتنبرج" أن المرء قد يحس بضرورة أخذ جانب إحدى الرؤيتين برغم أنه يمكن تجاوز هذه الإشكالية؛ إذ يظهر بحث طبيعة القوة أنها يمكن ان تكون سلبية أو إيجابية اعتماداً على طبيعة استخدامها. ويعني هذا أنه فقط من خلال بحث استخدام معين ومحدد للقوة يمكن تحديد ما إذا كانت القوة مفيدة أو مؤذية وسيئة.
ويرى " وارتنبرج" أن إخفاق المنظرين الاجتماعيين يعود إلى إخفاقهم في العمل على مستوى تحليلي أكثر عمومية بشكل كاف، فهم قاموا بالتحليل على مستوى خاطئ من التعميم، ومن ثم فإنه لا يمكن حل إشكالية إيجابية القوة وسلبيتها ببحث القوة كظاهرة اجتماعية بشكل عام، فهذه القضية لا تحل إلا بالنظر للشكل الخاص الذي تتخذه علاقة القوة في موقف معين. فالقوة وفق هذا التحليل تتضمن الإيجابية والسلبية معاً وبهذا النهج في التحليل يرى "وارتنبرج" أنه طور نظرية للقوة تحل العديد من إشكالات دراستها.
المفاهيم المتُنازَعة بطبيعتها
أثارت طبيعة الافتراضات المتصارعة حول القوة اهتمام المنظرين فهي تتعلق بالأصول والأسس وقد خشي المنظرون أنه دون فهم هذه الاختلافات الإمبريقية فإن الشك في إمكانية تطوير نظرية عامة للقوة الاجتماعية سيؤدي لإضافة نظريات جديدة في تعدد لا نهائي للنظريات .
وحاول المنظرون التوافق مع هذا الوضع بالادعاء بان مفهوم القوة هو أحد "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" وهو تعبير يعني أن ثمة طائفة من المفاهيم في النظرية الاجتماعية لا يمكن محاكمتها إلى معيار نظري فقط، ولا حل الخلاف حولها باعتبار الوسائل الخطابية وحدها، لكن الواقع (وفق رؤية وارتنبرج) أنه لايوجد معيار نظري محض لتحديد أن مفهوماً ما هو من "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" فمثلاً أكد "ستيفن لوك" في مستهل عرضه لمؤلفه " تحليل مفاهيمي للقوة " بالادعاء بأن رؤيته هي رؤية تقويمية و "متنازع عليها بطبيعتها" وهو ما أكده أيضاً "وليام كونولي".
وحسب هذه الرؤية قدم هذان المنظران عدداً من السمات الخاصة للنزاع حول مفهوم القوة بما انتهى بهما للقول بأنه لايوجد سبب مقنع لتوقع نوع من الاتفاق حول كيفية استعمال مفهوم القوة؛ لذلك التزما ببيان مفاصل "رؤية داخلية الاتساق لمفهوم القوة" مع تسليمهم بأن هذه الرؤية لن تكون مرضية لأولئك الذي يشتغلون على معنى آخر لمفهوم القوة، وعلى الرغم من أن هذين المنظرين ادعيا إمكانية تقديم دفاع رشيد عن مركزهما الفكري الذي أصلاه، فإن أطروحاتهم عن "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" أسفرت عن فهم محدود لما يمكن ان ينتجه هذا الدفاع الرشيد.
وفي الوقت نفسه بدلاً من أن يستخدم " كونولي و لوك" أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" لفهم ثراء الأفهام المتنافسة للقوة فإنهم استخدموها للدفاع عن مفهومهم الخاص للقوة الذي رأوه الأكثر تأصيلاً وتنويراً ومن ثم فتح هذا الاستخدام لأطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" الباب لاستمرار النزاع حول أي مفاهيم ونظريات القوة أكثر صحة بما يترتب على ذلك من محاولة المنظرين الاجتماعيين التأثير على الآخرين ليقبلوا رؤيتهم للقوة التي يعتبرونها الأكثر ثراءً .
ويعتقد "وارتنبرج " أن أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" أخذت على محمل خطأ، وأنها برغم جاذبيتها البادية لأول وهلة تقصر عن تفسير هذا التنوع في نظريات القوة ويرى "وارتنبرج" ضرورة نبذ هذه الأطروحة معللاً هذا من خلال شرح الشروط التي وضعها "جاللي" لاعتبار مفهوم ما من "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" ف" جاللي" هو أول من أدخل هذا المفهوم إلى الفلسفة والنظرية الاجتماعية لشرح اختلاف الفلاسفة ويشرح وارتنبرج هذه الشروط بالتطبيق على مفاهيم الديمقراطية ويرى "وارتنبرج " أن أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" لا تفسر انتشار نظريات عديدة للقوة لأن المنظرين لا يختلفون على مستوى النموذج المعرفي القياسي أو الباراديم" بل حول ما إذا كانت القوة حاضرة في موقف معين أوحول مد مفهوم للقوة إلى حالات غير نماذجية .
ويشرح "وارتنبرج" هذا من خلال عرضه مفهوم "فتجنشتاين" عن وجود مبدأ معرفي Epistemological" للتصنيف مقبول ضمناً في حالة العديد من المفاهيم ومنها مفهوم اللعب الذي طوره ليستخدم بعد ذلك في النظرية التداولية للغة.
ولا يقبل الكثير من المنظرين الاجتماعيين أطروحة أن القوة من "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" فقد فند "جيدنز" هذه الأطروحة فالمنظرون لا يختلفون حول حدود حالات تصنيفية معينة للقوة بل يدور خلافهم حول الجوهر الأساس لنظرية القوة فالنزاع بين المنظرين الاجتماعيين حول صياغة مفهوم للقوة خلاف أكثر جوهرية وعمقاً مما تشرحه أطروحة "المفاهيم المتنازع عليها بطبيعتها" .
معاني القوة
لا يعني ما سبق أن نظل عند نقطة البداية، فهذا الخلاف بين منظري القوة لابد أن يطرح ضرورة أن يكون أي مشروع لتطوير نظرية جديدة للقوة لن يكون صوتاً جديداً في هذا الصخب الموجود. ولما كان "وارتنبرج" يرى أنه سيطور نظرية للقوة تتجاوز سابقاتها فإنه يحاول بيان عدم شرعية افتراضات هذه النظريات السابقة، ومن خلال بيان كيف أدت هذه الافتراضات لبناء نظريات غير ملائمة للقوة يظهر " وارتنبرج " على أي نحو تتجاوز نظريته وتسمو على رؤى النظريات السابقة للقوة.
والخطوة الأولى في محاجة "وارتنبرج" هي بيان كيف أن الخطاب النظري في سعيه لمزيد من الضبط ولتحديد معنى وحيد صحيح للقوة تجاوز الخطاب العادي الذي يستخدم مفهوم القوة بشكل مزدوج، وأدى إهمال هذا الطابع المزدوج للمفهوم لاختلاف أساسي بين نظريات القوة لأن منظري القوة أصبحوا يتكلمون عن وجوه مختلفة للواقع الاجتماعي.
ويرى "وارتنبرج" أن مفهوم القوة مفهوم غير عادي نظراً لطبيعته المزدوجة والمتناقضة هذه في الخطاب العادي، وهو ما يظهر من فحص المعاني المعجمية التي ترى القوة "قدرة على فعل أمر ما" فهي خصيصة لكائن معين ووفق هذا المعنى فإن الإنسان ليس الموجود الوحيد الذي يمكن نسبة القوة إليه فكل الموجودات لها نوع أو آخر من القوة، وعليه برز التصنيف في النظرية الاجتماعية بين الاتجاهين " القوة لـ " و القوة على"
من المعاني المعجمية الأخرى للقوة انها "امتلاك قياد وتحكم في الآخرين: سيطرة ،حكم ،حكومة أمر ضبط نفوذ سلطة " وأحد الأمثلة على هذا الاستعمال للمفهوم ما رأه "جون ستيوارت مل " من أن قوة الرجل هي في استعداد الآخرين لطاعته" الفكرة الرئيسية في هذا الاستخدام للمفهوم تتضمن نمطًا معيناً للعلاقة بين البشرنمط تدرجي نظرا لقدرة شخص ما على التاثير على الأخرين دون قدرتهم على تبادل هذا التأثير.
وفق هذا المفهوم فإن القوة هي " قوة على ... " فهي تتم في إطار علاقات ومن ثم تصبح مقصورة على الكائن الاجتماعي أي نوع خاص من الكائنات يمكن القول بأنه قد يتحكم أو يأمر الاخرينولعل هنا بكتين كانت من المنظرين الاجتماعيين القلائل الذي عنوا ببيان اختلاف هذين المفهومين للقوة وهذا التممييز مهم جداً لبناء مفهوم جرد للقوة فمفهوم القوة لـ لا يتضمن جانب العلاقات بل مجرد إنجازالمرء لشئ ما بنفسه وإن كان أحيانا يتضمن جانب العلاقات إذا كانت القوة لإنجاز عمل ما هي لإنجاز عمل اجتماعي او سياسي لكن جانب العلاقات ليس عنصراً جوهرياً في المفهوم بل لا ضرورة له.
وعلى الرغم من اهتمام "بتكين" بهذا التمييز فإنها أخفقت في رؤية الصلة بينهما فعندما نقرر أن لفاعل اجتماعي قوة على ... فإننا نكون قد عزونا له قوة لـ...
ومن ناحية أخرى اهتم المنظرون الاجتماعيون بصقل احد مفاهيم القوة في الخطاب العادي وشحذها وصولاً لمفهوم نظري أكثر تحديدا مهملين هذا الطابع المزدوج لمفهوم القوة فمثلاً أخفق تالكوت بارسونز في ملاحظة ان التداخل في مفاهيم القوة في الخطاب العادي ليس أثراً لافتقاده التحديد والوضوح بقدر ما هو أثر لاستخدام مفهوم القوة في سياقين متمايزين لصياغة نمطين متمايزين من الدعاوى وأن هذه الازدواجية في المفهوم هي التي أنتجت عدم الوضح البادي في المفهوم نفسه.
لكن استخلاص وتنقية ثم اصطفاء أحد مفاهيم القوة كمفهوم وحيد ملائم للاستخدام في إطار الظرية الاجتماعية لن يكون مجدياً نظراً لتجاهله السياقات الأخرى التي يستعمل مفهوم القوة فيها وكثيراً ما حاج العديد من المنظرين بأن منطلقهم وصياغتهم لمفهوم القوة هي الوحيدة لفهم أي استخدام للمفهوم بشكل عام فكان هذا الإخفاق في الإقرار بالطبيعة المزدوجة لمفهوم القوة هو ما انتج الغياب الظاهر لأي أرضية مشتركة يمكن انطلاقاً منها الفصل في النزاع القائم في النظرية الاجتماعية حول طبيعة القوة .
ولبيان هذا يعرض وارتنبرجر كيف فهم الفلاسفة وأدركوا مفهوم القوة هذا الفهم الذي تبناه خلفهم من المنظرين الاجتماعين والطريف أنهم عانوا من نفس القصور ويمكن تصنيف هؤلاء الفرسفة في نفس الاتجاهين السابقين "القوة لـ" والقوة على [راجع المحاضرات] فأفلاطون يقع ضمن الاتجاه الأول وجعل مفهوم القوة أساس رؤيته لعالم الغيب او ما وراء الطبيعة " الميتافيزيقا" لكن ما يميز أفلاطون أنه رأى القوة قدرة على التأثير والتأثر في آن واحد فأحد علامات الكينونة هي القدرة على التفاعل مع الآخرين والقوة عنده هي الصفة الأساسية لـ "واجب الوجود " أو الموجود الأول.
وامتد استخدام المفهوم في التراث الفلسفي فاستخدمه "لوك " في مؤلفه " مقالة في الفهم الإنساني" فرأى أنه أحد المفاهيم البسيطة المستقاة من الحس والانطباع فبملاحظة ذواتنا نجد أننا يمكننا تحريك أبعاضنا وبالمثل يمكن لأحد أجزاء الهيئة الاجتماعية أن يحرك بقية الجسد الطبيعي وبهذه الكيفية يمكن فهم القوة"
وعلى الرغم من أن لوك كان اهتمامه ببيان كيفية تجريد الفكرة من الخبرة الحسية فإنه عبر بشكل صريح عن مفهومه للقوة عندما ميز بين القوة السلبية والقوة الإيجابية فالأولى هي قدرة على إنتاج التغيرات والثانتية قدرة على تلقيها فالشمس لها قوة إيجابية (تذيب الجليد) والجليد له قوة سلبية بالانفعال بحرارة الشمس.
واضح ان هذا الاستعمال لكلمة القوة يحمل معنى الطبع أي أنه يقرر أن ثمة قدرة لشئ على إحداث تغييرات في شئ آخر وبهذا الوصف يمكن التمييز بين حياز القدرة و خروجها لحيز الفعل فالقوة ليست متحققة دوماً بل تشير لقدرة استقلالاً عن تحقق هذه القدرة
يختلف لوك عن أفلاطون في تمييزه الصريح بين أنماط مختلفة من القوة تمتلكها الموجودات في حين أن أفلاطون تحدث عن القوة بصيغة المفرد كعلامة على وجود الكائنات دون ان يتحدث عن قوى متمايزة وأهمية هذا الاختلاف في أنه يفتح المجال للحديث عن قوى متمايزة ومختلفة للفاعل الاجتماعي ويرتبط ذلك بالتفرقة الميتافيزيقية بين الأعراض والجوهر فالقوة كقدرة على التأثير والانفعال هي أعراض للجوهر لكن كلاهما يتفقان في رؤيتهما للقوة كقدرة حيوية نشطة على التأثير والتأثر لكن أغلب المنظرين يرون أن استخدام القوة كقدرة فعالة هو أقل إثارة للخلط لذلك يميل المنظرون المحدثون المصنفين في هذا الاتجاه إلى قصر القوة على القدرة على إحداث تغيرات في الآخرين.
المدخل الاخر لدراسة القوة يقصرها على الكائن الاجتماعي أو الإنسان ومن ثم يعرفها على أنه قدرة افنسان على إحداث نتائج لصالحه وكان هوبز هو من أدخل هذا المفهوم للقوة إلى الخطاب الفلسفي والسياسي عندما قال " إن قوة إنسان - إذا أخذناه بصورة شاملة هي وسائله الحاضرة للحصول على خير مستقبلي " وواضح أنه يقصر القوة على الكائنات البشرية.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home