عرض كتاب الأيديولوجيا الصهيونية
هذا الكتاب من أوائل الكتب التي تناولت الأيديولوجيا الصهيونية بالدراسة الشاملة فلم يحاول أن يركز على بعض جوانب الأيديولوجيا دون غيرها بل سعى إلى عرض الأيديولوجيا الصهيونية بأبعادها المختلفة سواء من ناحية المنشأ والجذور أو الأساطير المؤسسة والاعتذاريات التي تطرحها أو ارتباطها بالمشروع الاستعماري الذي كفل لها تحولها إلى مشروع احتلال استيطاني كانت له علاقاته المعقدة بالأقليات اليهودية في العالم وسعى إلى نفي الوجود العربي تعبيراً عن الرؤية الصهيونية شعب مقدس بلا أرض مقدسة لأرض مقدسة بلا شعب مقدس.
على أن أهمية الكتاب لاتأتي فقط من تناوله المتكامل للأيديولوجيا الصهيونية بل وأيضاً من الطابع المنهجي له فهو أحد الأعمال التأسيسية في مشروع د.المسيري الإبستمولوجي وخاصة أطروحته عن النماذج التفسيرية ومن هنا كان اهتمام الكاتب بإفراد ملحقين منهجيين لعلم اجتماع المعرفة والأيديولوجيا يستعرض فيهما اتجاهات التعريف والمداخل المنهجية ومركزه المعرفي منها وكيف سعى إلى تطبيق رؤيته المنهجية على الأيديولوجيا الصهيونية
بهذا الاعتبار يعد الكتاب دراسة شاملة ومنهجية: دراسة في علم اجتماع المعرفة تتخذ من الأيديولوجيا الصهيونية حالة للدراسة باعتبار أن علم اجتماع المعرفة يسعى لدراسة علاقة الأفكار بالمجتمع وكيف يتبنى بعض الأفراد مجموعة من الأفكار المحددة المشتركة ليشكلوا جماعة إنسانية لها فهم خاص ورؤية خاصة تحكم سلوكهم السياسي وكيف تتحقق وتتشكل وتتعدل هذه الأفكار بعد ذلك خلال الممارسة السياسية وكيف تواجه التحديات من داخل النسق الفكري ذاته ومن خارجه .
وبطبييعة الحال ليس من أهداف هذه العرض إجمال فضلاً عن استعراض مضامين الكتاب الصادر في جزئين يبلغ عدد صفحاتهما 414 صفحة بل يسعى لمحاولة التعرف على تحديد الكاتب لمفهوم الأيديولوجيا ومنهجيته في استخدامه كأدة للدراسة العلمية باعتباره أحد مفاهيم علم اجتماع المعرفة.
فهذا العلم يدرس العلاقة بين عالم المنتجات الفكرية من فلسفات ونظريات علمية وأيديولوجيات وآداب والواقع الاجتماعي والتاريخي انطلاقاً من أن لكل معرفة أساس اجتماعي وإن اختلف منظروا هذا العلم في تحديدهم لهذا الأساس الاجتماعي هل هو الطبقات والفئات ذات المصلحة أم الحضارة والجماعة مجال الدراسة بوصفها كلاً واحداً وينعكس هذا الاختلاف على وحدة التحليل في هذا العلم فأصحاب الاتجاه الأول يركزون على تحليل الأيديولوجيا في حين يركز أصحاب الاتجاه الثاني على تحليل المشاعر الجماعية مثل موقف الرجل العادي والأنماط العقلية الجماعية.
ولا يقف الاختلاف عند وحدة التحليل بل بشمل تحديد مهمة العلوم الاجتماعية ودور العالم الاجتماعي حيث يرى أنصار الاتجاه الأول أن مهمة العلوم الاجتماعية كشف القوى المستغلة عن طريق إظهار القوانين التي تتحكم في التاريخ حتىتساهم في تغيير المجتمع ويصبح دور العالم الاجتماعي أن يكون ناقداً يعمق وعي الجماهير من خلال تحليل أشكال القمع المتعينة أما أنصار اتجاه الآخر فيرون أن مهمة العلوم الاجتماعية هي تراكم المعرفة لإظهار الأنماط المتكررة في المجتمع حتى يتم الحفاظ على اتزان المجتمع ودور العالم الاجتماعي هو دور الخبير أو المستشار المحترف.
ويسعى الكاتب لموقف تكاملي لهذين المركزين ففي الجزء الأول من الكتاب المخصص لدراسة جذور الأيديولوجيا الصهيونية والبيئة التي مثلت نقطة بداية تبلورها وتحديد بنيتها كان الكاتب أقرب للاتجاه الأول وفي محاولة كشف الأنماط الفكرية المتكررة في الفكر والسلوك خاصة بصدد المسألة اليهودية وحركة التنوير وضع يهود شرق أوربا وكيف أفرز المسألة اليهودية والأفكار الصهيونية (الفصول 1-3)
لكن الكاتب سعى أيضا إلى كشف القوى الاجتماعية المستغلة التي تمثلت بالأساس في رواد الفكر الصيوني المرتبطين بقوى الإمبريالية ثم تحولها لكيان سياسي بمساعدة الإمبريالية وكيف استفادت الصهيونية من حاجة الاستعمار الغربي إلى قاعدة في الشرق الأوسط وكيف استفادت الصهيونية من المناخ الفكري والحضاري الذي خلقته الإمبريالية فهي جزء مميز من كل (الفصلين 4 و 5) كما أن الكاتب يكامل بين رؤية المجتمع الصهيوني من الداخل ككيان عضوي متماسك فأوضح كيف أن المجتمع الإسرائيلي نتاج للأيديولوجيا الصهيونية وأنه مجتمع صهيوني بالدرجة الأولى لا تزال تسيطر عليه الصهيونية برغم كل التحديات التي تواجهها هذه الأيديولوجيا نظراً لدور الدعم الذي يقدمه يهود الشتات الذين تسيطر عليهم الصهيونية والقوى الاستعمارية إلى جانب رؤية المجتمع الإسرائيلي في حالى صراع داخلي وخارجي مع الإنسان العربي وخاصة الفلسطينيين عبر عن نزعته العنصرية وانعكس هذا على قبول المجتمع الإسرائيلي للحرب كحالة دائمة ونهائية.
وبالمثل سعى الكاتب لتجاوز الانتقادات الموجهة لعلم اجتماع المعرفة من خلال تعددية مستويات التحليل فهذه الانتقادات هي نسبية محدودة بمستوى التحليل الذي يقوم به الباحث لكنه على مستوى تحليلي آخر يمكن توظيفها كنقطة قوة فمثلاً ينتقد علم اجتماع المعرفية بشكل عام ودراسة الأيديولوجيا كاحد مجالاته بأنه لا يعطي أهمية كافية لفحص مضمون الأفكار ومدى صدقها بل قد يهتم بدراسة مدى اتساقها أو تعبيرها عن وضع اجتماعي معين بشكل أكبر الأمر الذي قد ينتهي بالعلم لنوع من النسبية المفرطة لكن الكاتب يرى أن هذا قد يعد انتقاداً بالنظر لهدف الدراسة ككل لكنه ضروري عند مستوى تحليلي محدد كما فعل الكاتب عند دراسة منطق الأسطورة الصهيونية من الداخل حيث يتناول الأيديولوجيا الصهيونية بوصفها نسقاً فكرياً متكاملاً والتشابه في البنية بين الأفكار الصهيونية والأفكار الدينية اليهودية السمة الساسية لهذه الفكار الخلط بين المقدس والقومي وبين المطلق والنسبي وتمازجهما وفكرة اليهودي الخالص الذي لا تشوبه شائبة غير يهودية هي المثل الأعلى للصهيونية لكنه لم يتوقف عنده هذا المستوى وتابعه بدراسة الأيديولوجيا على مستوى احتكاكها بالواقع وما ينشأ عن حركتها في الواقع من صراعات وتوترات تثير اهتماماً بالحكم على مضمون الأيديولوجيا إذ لا يمكن اكتشاف الطبيعة الحقيقية لنسق فكري خارج نطاق الممارسة الدراسة فدرس في الفصل 9 توجه الصهيونية إزاء اليهود وقيام علاقة عنصرية تقوم على أن هناك شعب يهودي واحد يجب أن ينقل شاء أم أبى لذلك تنتقد الصهيونية الشخصية اليهودية التي ترعرعت ونشأت في المنفى وتهاجم يهود الشتات وتحاول قلقلة أوضاعهم وإرهابهم بل وتتعاون مع معادي السامية والنازية لتحقيق أهدافها ويرصد الفصل العاشر الاستجابة اليهودية للصهيونية وأشكالها الواضحة النادرة وأشكالها الكثيرة المستترة كما درس علاقة الصهيونية بالعربي الذي تم تغييبه والأشكال العنيفة والعنصرية التي اتبعت لذلك.
وبصورة مشابهة فإن القول بأن عناصر البناء الحضاري بمجرد تكونها تصبح لها حياتها الخاصة وتتحول جزءاً من بناء حضاري ثابت بحيث يصعب رده لوضع سياسي محدد إلا بنوع من النزعة التبسيطة المفرطة لإنه حتى عناصر البناء الحضاري الثابتة عندما تتعين في سياق واقعي معين يكتسب أبعادا جديدة من هذا الواقع ولا يمكن فهم هذه الأبعاد إلا بربطها بهذا السياق المحدد فمثلاً فكرة المكان المقدس الذي ينجذب له المؤمنون كجزء من خبرة دينية إنسانية عامة يأخذ أبعاداً جديدة في النسق الحلولي الصهيوني ليتمثل في الأرض المقدسة الذي يتخندق فيه الشعب المقدس وتخرج منه الجيوش المسلحة.
أما مفهوم الأيديولوجيا فهو مفهوم متعدد الاستخدامات والتعريفات فمثلاً يعرفه قاموس علم الاجتماع كمفهوم محايد باعتباره نسق من المعتقدات والمفاهيم (وقعية وعيارية ) يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية / الاجتماعية للأفراد والجماعات وهي من منظار آخر نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت. في حين يعرف البعض الأيديولجيا كقناع أو كتعارض مع العلمية أو حتى كرؤية للكون cosmology والقاسم المشترك بين هذه التعريفات أنها تطرح علاقة مركبة بين الواقع والأيديولوجيا فهي تعكسه وتحاول تسويغه أيضاً والواقع ليس مجرد واقع مادي بل واقع اجتماعي نفسي روحي وهو واقع إلى جانب تطلعات وآمال.
وعليه سعى الكاتب إلى فهم الأنساق التي نشأت فيها الصهيونية كرد على المسألة اليهودية التي ظهرت مع ظهور النشاط التجاري والمصرفي المحلي وتطور الرأسمالية ولم تكن تاريخ من الاضطهاد والقمع لذلك لم توجد في المجتمع الإقطاعي ولو وجدت فإن أشكالها وحجمها وحدتها تختلف عن المسألة اليهودية في القرن الثامن عشر ولكانت نتيجة الطبيعة الخاصة للأقلية اليهودية في أوربا نظراً للفصل بين الطبقات والجماعات في النظام الإقطاعي
فاليهود خضعوا لتحولات مجتمعاتهم الفكرية والاقتصادية الاجتماعية إذ لم تنتم الأقليات اليهودية لتشكيل حضاري مستقل أو بناء تاريخي منفصل (التاريخ اليهودي عند الصهاينة) الأمر الذي ينقض مسألة وجود طبيعة خاصة لليهود جعلتهم ينجذبون لقطاعات التجارة اولإقراض الربوي ويقدم عوضاً عن هذا فكرة الجماعة الوظيفية التي لا ترتبط بأطراف العملية الإنتاجية وتقوم بأنشطة هامشية وعزز من تبلور اليهود كجماعة وظيفية عدم تركيز الدين اليهودي على الزهد وطبيعة بعض الجماعات اليهودية كبدو رحل ووجود اليهود خارج الحدود القانونية والأخلاقية للمجتمع وتنظيم الجيتو للمجتمع كإطار حضاري انعزالي تغيب فيه بنية طبقية واضحة ويحس أفراده بفقد الأمن خارجه وتسيطر الفئات الهامشية داخله إلى جانب هذا أدت الظروف التاريخية لقلة الأقليات وتعاظم الحاجة للاقتراض متزامنة مع حصر اليهود في هذه الوظيفة فبدأت تنشأ كراهية اليهود والمسألة اليهودية
كان حل المسألة اليهودية يتمثل في الاندماج أو الهجرة ولم تكن حركة التحديث أو الانعتاق قاصرة على اليهود بل على كل الأقليات في كافة المجتماعات التي عرفت هذه التحولات وطلبت الدولة التي فصلت الدين عن الدولة ومنحت الأقليات حقوقهم من هذه الأقليات أن بقوموا بفصل حياتهم داخل الدولة كمواطنين عن انتماءاتهم الدينية فمنح اليهود كامل حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية وقامت محاولات لدمجهم في مختلف مناشط الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية و تحديث اليهود والقضاء على هامشيتهم الإنتاجية وتحويلهم لقطاع منتج هام في المجتمع وبالفعل اندمج عدد كبير منهم في مجتماعاتهم وظهرت حركة عقلانية تنويورية بين اليهود رأت أن هذا الاندماج ممكن إذا تم فصل اليهودية عما يسمى بالقومية اليهودية وكان مذهب اليهودية الإصلاحية نتاج حركة التنوير بين اليهود وكان هذا التيار يعكس رغبة بعض اليهود في تقبل وضعيته التاريخية كفرد عادي وليس فرداً شاذاً ينتمي إلى مجموعة من الكهنة المختارين
لم يقدر لهذه الحركة النجاح الكامل وبتأثير الإخفاق ظهر الفكر الصهيوني وكان الوضع داخل روسيا هو الذي فجر المسألة اليهودية على صعيد العالم الغربي بأسره على مستوى من الحدة والشمول لم يسبق لهما مثيل فنظراً لإخفاق محاولات الدمج قررت لجنة إيجانتيف الموكل إليها بحث المسألة اليهودية من جديد أن فشل سياسة التسامح التي اتبعها القيصر يقتضي إجراءات جديدة ضد اليهود الروس وبالفعل فقد قضت هذه الإجراءات التي اتخذت على فترة زمنية ممتدة على فرص اندماج اليهود الروس الاجتماعي والاقتصادي وشجع الأفكار الصهيونية ولما كانت المجتمعات الاقطاعية قد انتهت تاريخياً لم يعد بإمكان اليهود التقهقر ليجدو مكاناً لها في مسامها فبدأ شرق اوربا وروسيا بتصدير المشكلة اليهودية إلى فرنسا وبريطانيا والمانيا والعالم الجديد وهي دول كانت قد قطعت أشواطا هائلة في عملية التحديث ولم تعد ترغب ولا تقدر على استيعاب أقلية يصعب الاستفادة منها لافتقاد اعضائها للمهارات اللازمة.
إن الأيديولوجيا تقوم بدور الوسيط لأنها نسق رمزي يستخدم كنموذج لأنساف أخرى اجتماعية ونفسية ورمزية وهي قد تشوه الواقع أو تخطئه لكنها تشويه يعكس حقائق معينة ويطمس أخرى لتوصيل رسالة معينة للمؤمنين بها فقدرة الأيديولوجيا هي في قدرتها على الإحاطة بالحقائق الاجتماعية وصياغتها صياغة جديدة فالأيديولجية لا تسبعد عناصر معينة من الواقع بقدر ما تسعى لتقيم نسق يضم عناصر نفسية واجتماعية ودينية... مماثل للواقع الذي تدعو إليه الأيديولوجية
فإخفاق حركة التنوير والاندماج بين اليهود كان إخفاقاً نسبياً يعود لأسباب عديدة في السياقات المختلفة للمسائل اليهودية في كل مجتمع ظهرت فيه (روسيا ، أوربا الشرقة ، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بحيث يمكن القول بأنه لم توجد مسألة يهودية واحدة.
فالواقع أن اندماج اليهود تم بسرعة كبيرة مقارنة بخبرة الزنوج في أمريكا الشمالية مثلاُ لكن الصهاينة باعتبارهم ورثة فكر ة شعب الله المختار رلم يرضوا بهذا التقييم النسبي وفي هذا السياق يكون تقويم أي حركة باتجاه الاندماج بأنها فاشلة برغم أنه يصعب وصف الأفكار والظواهر الحضارية بالفشل والنجاح وهي التي تأخذ آلاف السنيين حتى تتبلور في واقع سياسي.
لقد واجه اندماج اليهود صعوبات لكن هذا لا يبرر الطرح الصهيوني بأن حركة التنوير والتحديث قدأخفقت فهذا الطرح يبسط المسألة بمواجهة اليهود بأحد اختيارين إما الذوبان الكامل عن طريق الاندماج أوالفناء الكامل عن طريق المذابح فالصعوبات التي واجهت تحديث الجماعات اليهودية يتمثل بعضها في طبيعة التحولات التي مرت بها هذه المجتمعات وانعكاساتها على الأقليات اليهودية وبعضها يعود إلى طبيعة البنية السياسية والطبقية فيها ويتمثل بعضها في طبيعة الوجود الأوربي في هذه المجتمعات وإلى هذه المجموعة الأخيرة من الأسباب يمكن رد انتشار الصهيونية بين يهود الغرب غرب أوربا الذين رأوا فيها حلاً لمشكلات اليهود القادمين من الشرق في حين أنهم كانوا من المندمجين في مجتمعاتهم بحيث يمكن القول انه لكن إذا كانت الصهيونية هي رد الفعل المضاد لحركة التنوير فإن حركة التنوير حركة التنوير ساهمت بشكل غير مباشر في ظهور الصهيونية من خلال المناخ الفكري الذي أوجدته والتناقض الذي سببه هذا المناخ للشخصية اليهودية حتى أن بعض الصهاينة يراها تركيباً بالمعنى الهيجلي من اليهودية والتنوير الذي هو نفي لليهودية.
لذلك لم يكون غريباً ظهور العديد من حركات الارتداد عن حركة العقلانية والتنوير والاندماج والتي اتخذت أشكالاً متعددة مثل اليهودية الأرثوذكسية واليهودية المحافظة اللتان يجمعهما التمسك بالأساطير اليهودية بكل لا تاريخيتها لكن اليهودية المحافظة كانت أقرب للفكر الصهيوني بتعيينها للمطلق وجعلها روح الشعب المقدسة هي مصدر القداسة.
إن السؤال الذي تثيره الأيديولوجيا هو مدى فعاليتها في رسم صورة للواقع الاجتماعي وتقديم خريطة له وأن تكون محوراً لخلق الوعي الجمعي.
فعلى الرغم من أن التحولات التي مر بها المجتمع الأوربي منذ عصر النهضة كانت هي المسئولة عن ظهر المسألة اليهوديةفإن الحل التنويري باندماج اليهود لم يكن هو الحل المطروح فقط كان هناك العديد من الحلول المطروحة حيث طرح المفكر سيمون دوفنوف فكرة قومية الدياسبورا وهي فكرة وإن كانت تشترك مع الصهيونية في الاعتقاد بوجود متميز يجمع بين الأقليات اليهودية في العالم وأن لهم قومية متميزة فإن جوهر هذه القومية هو جوهر فكري روحي ومن ثم يجب على اليهود تقبل وضعهم المنتشر في العالم وتطوير هذا الوجود هذا الإحساس بالوحدة لا يجب تنوع الأقليات اليهودية فلم ينسق وراء الأساطير التاريخية التي تمسكت بها الصهيونية لتؤسس رؤيتها المستقبلية حول أرض الميعاد بل ركز على حاضر اليهود ولم يكن هذا حلاً فكرياً تصوريا بل كان الحل الفعلي الذي طبقه غالبية اليهودومع ذلك فقد نجحت الصهيونية برغم ذلك من الاستيلاء على قيادة اليهود وتتحول من أيديولوجيا فاشية لبعض الجماعات اليهودية في شرق أوربا إلى منظمة عالمية يدين أغلب اليهود إليها بالولاء ونجحت في إنشاء دول في الشرق العربي؟
لكن كيف تم هذا ؟
إن استخدام مفهوم الأيديولوجية كأداة تحليلية يتطلب تعدد مستويات البحث بوصف منطقها الداخلي وحتى ادعاءتها عن نفسها وسماتها الأساسية كجانب معبر عن الواقع
على الجانب الأول يمكن تحديد بنية الأيديولوجية الصهيونية من خلال التعرف على تياراتها الأساسية فالصهيونية حركة سياسية تطالب بتوطين اليهود في فلسطين وسيلة لحل المسألة اليهودية فقد تطورت الصهيوينة الدينية التي كانت تعارض الصهيونية السياسية ثم انضمت إليها باعتبار الصهيوينة ستقوي قبضة اليهودية على الوجدان اليهودي وهناك الصهيونية الثاقفية التي تعبر عن صهيونية أرستقراطية الجيتو وترى أن مهمة الصهيونية حل المشكلات الروحية لليهود بإقامة دولة في فلسطين تصبح جيتو يحمي قيم الديانة اليهودية لكن أهم تيارات الصهيونية الصهيونية السياسية التي كان من روادها هرتزل ويطلق عليها أنها سياسية للتفريق بينها وبين الإرهاصات الصهيونية الأولى التي كانت ذات طابع محلي ولم تتحول لمشورع سياسي متكامل وبرغم اختلاف التيارات الفرعية داخل الصهيونية السياسية ما بين صهيونية مراجعة وصهيونية راديكالية إضافة إلى الصهيونية العمالية التي تتتفرع بدورها إلى تيارات مختلفة فإن ما يجمع الصهيوينة كأيديولوجيا هي رؤيتهم للمسألة على أنها مشكلة يهود وليست مشكلة يهودية بل ويرون اليهودية كبناء فوقي ديني وتراث تاريخي يمكن الاستغناء عنه ويولون أهمية بالغة للجانب القومي ويرون أن القومية فكرة سامية يجب تكريس الجهود لتحقيقها مع استبعاد كافة الأفكار الدخيلة كالدين أو الاشتراكية.
وبالفعل يمكن القول بأن علاقة الأيديولوجيا الصهيونية بمختلف الأفكار السياسية على اختلافها ثورية أو رجعية تتمكثل في أن هذه الأفكار مجرد إضافة غير متداخلة عضوياً معها بحيث لو حذفت هذه الأفكار السياسية من بنية الأيديولوجيا الصهيونية فلن تتغير كثيراً لذلك لا يأخذها منظرو الصهيونية على محمل الجد.
لكن موقف الأيديولوجيا الصهيونية من الدين اليهودي موقف معقد فهي ترفض الدين اليهودي حتى أن رواد الصهاينة كانوا يعرفون أنفسهم على أساس قومي ويسعون لدولة عبرانية وليس يهودية ولم يترددوا في البحث عن أرض الميعاد حسب مقتضيات مشروعهم الاستعماري في كل مكان في إفريقيا وأسيا وهي أيضاً سعت كأي أيديولوجية علمانية لتوظيف الدين واستغلاله لكن ما يلفت الانتباه أن علاقة الأيديولوجيا الصهيونية بالدين وإن كانت على هذا النحو السطحي فإن ثمة تماثل بنيوي بين الصهيونية واليهودية حيث استقت رموزها من الدين اليهودي مع إفراغ هذه الرموز من مضمونها الروحي والأخلاقي ونقلها للمجال السياسي المادي مع ما يعنيه هذا من خلط بين المقدس والمطلق بالمادي القومي فتحولت الأمة اليهودية بالمعنى الديني إلى أمة قومية مقدسة وأصبحت الظواهر القومية اليهودية ذات طابع مقدس.
ويظهر هذا التماثل بين اليهودية والصهيونية والخلط بين المقدس والنسبي في مفاهيم النبوة ومفهوم التاريخ الذي لا يعبر عن صيرورة إنسانية بل هو مطلق يتجه نحو هدف محدد من خلال تدخل إلهي مياشر ومركزية التاريخ بهذا الفهم يمكن تتبعها ايضاً في الصهيونية التي تعتمد تاريخاً مقدساً بل ويصبح التاريخ مصدراً للقيم بدل الدين وأيضاً فكرة الأرض بما تحمله من حلولية في علاقة ثلاثية الأرض الشعب الله
إن الدين اليهودي ليس استثناء من الديان السماوية وكان يمكن تفسير ه تفسيراً إنسانياً ليستى هناك علاقة بسيطة بين اليهودية والصهيونية التي كانت في أحد جوانبها ثورة على الدين اليهودي لكنها خلقت استعداداً أكبر للانعزال عند اليهود وتلقي الأيديولوجيا الصهيونية
فاليهودية تتميز بأن المطلق فيها ذاتي في حين أن المطلق بطبيعته شامل وعالمي يتخطى حدود الزمان والمكان لكن مطلقات اليهود مقصورة عليهم وحدهم لذلك تكتسب طابعاً قومياً فيصبح المقدس المطلق هو النسبي القومي واليهود لا يعتبرون أنفسهم جماعة دينية فحسب بل وجماعة قومية أيضاً لها لغتها الخاصة وتراثها الديني إضافة لفكر ة شعب الله المختار التي ساعدت على تعميق عزلة اليهود كما أن اليهودية سعت لتوحيد اليهود من خلال الشعائر التي تؤكد الانفصال وليس عن طريق توحيد العقيدة والرؤية وتأكيد شمولها وفاعليتها كما في المسيحية والإسلام الحديث عن هذه الجوانب لا يعني أن اليهودية تسببت في خلق "عقلية يهودية " و لا أن اليهودية أدت إلى ظهور الصهيونية بل يعني هذا وجود اندماج أو ارتباط اختياري بين اليهودية ونمط معين من الفكار فهناك أفكار يهودية أو مناخ ديني أوجدته اليهودية خلق عند اليهود الستعداداً كامناً للتأثر بأفكار سياسية معينة يختلط فيها المطلق بالنسبي والمقدس بالقومي وهذا الاستعداد موجود بدرجات مختلفة في مختلف الديانات. فالعلاقة بين الأفكار الدينية والسلوك السياسي ليست علاقة سببية بل هي علاقة بين ما هوموجود على مستوى الكمون وما هوموجود على مستوى التحقق كما أن تفسير الأفكار الدينية يقوم بدور هام ومحوري في مدى فعاليتها على المستوى السياسي والتاريخي في الشكل الذي تأخذه هذه الأفكار فثمة تيارات فكرية في اليهودية فسرت هذه الفكار القوية بشكل مجازي بما أكسب الأفكار القومية فيها مضموناً روحياً ودينياً .
وعلى الجانب الآخر من سمات الأيديولوجيا الصهيونية كتعبير عن الواقع كانت الصهيونية مدينة بفكرها وقوتها وتحولها لدولة إلى الإمبريالية الغربية والدولة الصهيوينة امتداد لهذه الإمبريالية بكل سماتها لكنه يظل في الوقت نفسه محتفظاً ببعض سماته الخاصة من كونه احتلالاً استيطانياً عميلاً فلا يمكن بحال مشروعاً للبرجوازية اليهودية لسبب بسيط أن هذه البرجوازية المتجانسة نظراً لطابعها اليهودي لم توجد قط لأن الجماعات اليهودية لم تتمايز طبقياً داخل مجتمعاتها.
ه وبالفعل استمرت محاولة هرتزل ورفاقه الصهاينة لبيع المشروع الصهيوني بالمعنى الحرفي للكلمة للقوى الاستعمارية الأوربية مسهباً في جدواه الاستعمارية اقتصادياً وسكانياً وعسكرياً وثقافياً وتعددت الأماكن المقترحة لإقامة هذا المشروع الصهيوني لكن أكد هرتزل ضرورة الدراسة العلمية لهذه الأماكن لتحديد أفضلها كمشروع استعماري لإنشاء الدولة العميلة التي يخطط لها هو ما عبر عنه بكلمات غاية في السفور رواد الصهيونية فكان وايزمان مصراً بشكل دائم على رؤية مشروع الاستيطاني في ضوء المصالح الإمبريالية وليس في ضوء التاريخ اليهودي المزعوم. وولم يقتصر هذا على رواد الصهيونية وحسب بل العديد من الأدبيات الإسرائيلية التي تصف إسرائيل ك"كلب حراسة"
فالصهيونية ليست حركة قومية ذات جذور اسخة وأفرع ممتدة في السماء بل هي حركة ليس لها سند واقعي ولا يمكن أن تمتد إلى الرض من خلال العنف الإمبريالي فالاستعمار الصهيوني جيب استيطاني غريب عن المحيط الإنساني والحضاري الذي يحيط به وهو إلى ذلك كيان غير متجانس وكأي استعمار قدم الاستعمار الصهيوني اعتذارياته التي تعبر عن نمطه الخاص في إطار الظاهرة الاستعمارية ومحولة تسويغ وجودها ومن هذه الاعتذاريات عبء الرجل الأبيض الذي يعود لوطنه الترايخي ممثلاً للحضارةالغربية وأسطورة اليهودي الخالص الذي يرتب له هذا الوصف حقوقاً مقدسة وتتضمن هذه السطورة في بنيتها نفي وجود الفلسطيني والعربي وهنا يختلف الاستعمار الصهيوني عن غيره من أنواع الاستعمار الاستيطاني التي كانت تقر بشكل أو بآخر بوجود أصحاب الأرض الأصليين أما الاستعمارالصهيوني فيستند إلى أسطورة حق العودة الأبدي لإنكار وجود الفلسطنيين أصحاب الأرض ومن الغريب أن هذه الأسطورة لاقت قبولاً في الغرب باعتبار أنها ليست نوعاً من العنصرية لأن مداها خاص باليهود وحدهم فالصهيوينة أيدلوجيا وضعها اليهود من أجل اليهود وحدهم ولا تتضمن أي تمييز ضد غيرهم من المواطنين في أوربا أو الولايات المتحدة!! وإلى جانب هذا يوجد عبء اليهودي الاشتراكي الذي سيجلب الصناعة والتقدم وقيم التحديث والأفكار الاشتراكية إلى هذه المنطقة لكن كل هذه الاعتذاريات مهما بلغ إتقان صياغتها ليست إلا محاولة لتسويغ قهر شعب آخر واغتصاب أراضيه.
وعلى مستوى آخر سعى الكاتب لدراسة الأيديولوجيا في مستوى آخر لتقييم مدى عكسها للواقع وهذا يتطلب دراسة البدائل التاريخية المتاحة والنظر للأيديولوجيا في نتائجها الإنسانية على الجماعة والتطور الاجتماعي.
فالأيديولوجيا الصهيوينة كانت تفتقر لقاعدة شعبية بين اليهود الذين كان تسخيرهم لخدمة المشروع الصهيوني جزء منها لذلك عمدت إلى "غزو" الجماهير اليهودية وفرض الحل الصهيوني عليها فهذا الحل الفوقي يمكن فرضه على اليهود من خلال كسب تأييد قوة إمبريالية لذلك كان "وايزمان" يراهن على أنه بمجرد الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً لليهود فإن اليهود البريطانيين المناهضين للصهيوينة سيوافقون على الفور على الحل الصهيون. وفي هذا السياق يمكن تتبع رفض الصهيونية لا لليهودية فحسب بل ولليهود وتماثلها مع نزعة معاداة السامية في رؤيتها للطبيعة الشاذة النمطية لليهود حتى علىالمستوى الجسدي وتنطوي فكرة اليهودي الخالص على رفض اليهود كمواطنين يحيون في مجتمعاتهم في موقع طبقية وحضارية مختلفةومن ثم عملت الصهيونية على تحقيق الخلاص الجبري لليهود ولو كان ذلك ضد إرادتهم ومن خلال زعزعة أوضاعهم في مجتمعاتهم بل وقتل أعداد كبير من اليهود والتعاون المكثف مع النازية المعادية لليهود لإنجاح عملية نقل السكان اليهود ويمكن فهم هذا الموقف الصهيوني لدى معرفة المقاومة الكبيرة التي أبداها اليهود في مواجهة الحركة الصهيوينة التي برغم نجاحها في الانقضاض على اليهود وغزوهم حسب التعبير الصهيوني لا زالت تشهد انواعاً مختلفة من المقاومة وسط اليهود في شكل رفض الهجرة إلى إسرائيل ورفض فكرة نفي الشتات وتأكيد مركزية الشتات في حياة اليهود.
واتساقاً مع هذه الرؤية كانت محاولات تعريف اليهودي الخالص تستند بالأساس على فكرة العرقيةً والإثنية ففكرة اليهودي الخالص بمعنى وجود جوهر يهودي يميز اليهودي عن غيره من البشر ويميز الظواهر اليهودية عن غيرها هذا الجوهر هو الذي يجعل اندماج الأقليات اليهودية ليس فقط مستحيلاً بل وعاراً وانحرافاً عن الشخصة اليهودية السوية كما تصبح حياة الشتات بلا معنى لأنها لا تعبر عن هذا الجوهر اليهودي وعلى الجانب الآخر كان المقابل لفكرة اليهودي الخالص فكرة العربي الغائمة كممثل للأغيار المتخلفين أو حتى تغييب الشخصية العربية
ومن ناحية أخرى فقد تأثرت الصهيونية بالجيتو في سلوكهم ورؤيتهم للعالم فإسرائيل هي جيتو يقوم بنفس وظائف الجيتو في أوربا وتمثل إحساسه بالخوف من الخارج وقيمه التي تضفى الطابع السلعي على كل القيم والرموز والأشياء حتى الأوطان.
ويحتل العنف مفهوماً وسلوكا مكانة محورية في الأيديولوجيا الصهيونية فهو يتجاوز كونه وسيلة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية لجعلها شخصية طبيعية والتخلص من الخوف ليصبح - كما هو حال مختلف الأيديولوجيات العنصرية والداروينية – غاية في ذاته يتم تمجيده باستمرار
إن دراسة الأيديولوجيا تتطلب الجمع بين مدخلين محاولة الوصول لأنماط عامة بالمفهوم العلمي ومدخل دراسة المنحنى الخاص للظاهرة في تعينها أو بعبارة أخرى دراسة الشكل الخاص للعلاقة بين البناء الفوقي والبناء التحتي وهي علاقة جدلية تبادلية التأثير فكلا البنائين الفوقي والتحتي يكتسب هويته المتعينة من خلال الآخر أخذا في الاعتبار أن البناء التحتي ليس وجودا ماديا فحسب بل وجوداً مادياً وحضارياً وفكرياً.
وعلى هذا النحو يمكن فهم العلاقة بين المسألة اليهودية ( التي كانت الصهيونية ردا عليها ) والمسألة (الإسرائيلية) فالصهيونية هي بناء فوقي له ثلاثة أبنية تحتية هي الجيتو ومناطق الاستيطان في شرق أوربا التي أفرزت المسألة اليهوديةوالشكل المتميز للأسطورة الصهيونية والبرنامج الصهيوني لحل المشكلة اليهودية وقد اختفى هذا البناء التحتي فالصهيونية هي أيديولجية اختفى بناءها التحتي الساسي لكنه لا يزال يعتمد على الإمبريالية التي استند إليها حولت المشروع الصهيوني ليتحول إلى واقع ودولة خدمة لمصالحها فعلاقة الأيديولوجيا بهذا البناء التحتي هي علاقة نفعية وليست علاقة معنوية أو جدلية أما البناء الأخير فهو "إسرائيل" وهو بناء تحتي فريد من ناحية أنه نتج الأيديولجيا التي افرزت المجتمع وليس المجتمع هو الذي أفرز الأيديولوجيا كوضع طبيعي فالمجتمع "الإسرائيلي" نتاج مناورات الحركة الصهيونية ومضارباتها ومن ثم فإن "الإسرائيلي " يعيش في بناء تلمودي فوقي بقوم على أبنية تحتية ليس جزءاً منها و لا يتحكم فيها ومن ثم يمكن "الحوار المسلح " معه وصولاً لحل المسألة الإسرائيلية الناجمة عن وجود عدة ملايين نشأت في ظل الكيان الصهيوني واستيعابهم داخل التشكيل الحضاري العربي فهذا الحوار المسلح هو وحده الكفيل بتبديد أساطير الإيديولوجيا الصهيونيةالمسيطر على أفراد الكيان "الإسرائيلي".
على أن أهمية الكتاب لاتأتي فقط من تناوله المتكامل للأيديولوجيا الصهيونية بل وأيضاً من الطابع المنهجي له فهو أحد الأعمال التأسيسية في مشروع د.المسيري الإبستمولوجي وخاصة أطروحته عن النماذج التفسيرية ومن هنا كان اهتمام الكاتب بإفراد ملحقين منهجيين لعلم اجتماع المعرفة والأيديولوجيا يستعرض فيهما اتجاهات التعريف والمداخل المنهجية ومركزه المعرفي منها وكيف سعى إلى تطبيق رؤيته المنهجية على الأيديولوجيا الصهيونية
بهذا الاعتبار يعد الكتاب دراسة شاملة ومنهجية: دراسة في علم اجتماع المعرفة تتخذ من الأيديولوجيا الصهيونية حالة للدراسة باعتبار أن علم اجتماع المعرفة يسعى لدراسة علاقة الأفكار بالمجتمع وكيف يتبنى بعض الأفراد مجموعة من الأفكار المحددة المشتركة ليشكلوا جماعة إنسانية لها فهم خاص ورؤية خاصة تحكم سلوكهم السياسي وكيف تتحقق وتتشكل وتتعدل هذه الأفكار بعد ذلك خلال الممارسة السياسية وكيف تواجه التحديات من داخل النسق الفكري ذاته ومن خارجه .
وبطبييعة الحال ليس من أهداف هذه العرض إجمال فضلاً عن استعراض مضامين الكتاب الصادر في جزئين يبلغ عدد صفحاتهما 414 صفحة بل يسعى لمحاولة التعرف على تحديد الكاتب لمفهوم الأيديولوجيا ومنهجيته في استخدامه كأدة للدراسة العلمية باعتباره أحد مفاهيم علم اجتماع المعرفة.
فهذا العلم يدرس العلاقة بين عالم المنتجات الفكرية من فلسفات ونظريات علمية وأيديولوجيات وآداب والواقع الاجتماعي والتاريخي انطلاقاً من أن لكل معرفة أساس اجتماعي وإن اختلف منظروا هذا العلم في تحديدهم لهذا الأساس الاجتماعي هل هو الطبقات والفئات ذات المصلحة أم الحضارة والجماعة مجال الدراسة بوصفها كلاً واحداً وينعكس هذا الاختلاف على وحدة التحليل في هذا العلم فأصحاب الاتجاه الأول يركزون على تحليل الأيديولوجيا في حين يركز أصحاب الاتجاه الثاني على تحليل المشاعر الجماعية مثل موقف الرجل العادي والأنماط العقلية الجماعية.
ولا يقف الاختلاف عند وحدة التحليل بل بشمل تحديد مهمة العلوم الاجتماعية ودور العالم الاجتماعي حيث يرى أنصار الاتجاه الأول أن مهمة العلوم الاجتماعية كشف القوى المستغلة عن طريق إظهار القوانين التي تتحكم في التاريخ حتىتساهم في تغيير المجتمع ويصبح دور العالم الاجتماعي أن يكون ناقداً يعمق وعي الجماهير من خلال تحليل أشكال القمع المتعينة أما أنصار اتجاه الآخر فيرون أن مهمة العلوم الاجتماعية هي تراكم المعرفة لإظهار الأنماط المتكررة في المجتمع حتى يتم الحفاظ على اتزان المجتمع ودور العالم الاجتماعي هو دور الخبير أو المستشار المحترف.
ويسعى الكاتب لموقف تكاملي لهذين المركزين ففي الجزء الأول من الكتاب المخصص لدراسة جذور الأيديولوجيا الصهيونية والبيئة التي مثلت نقطة بداية تبلورها وتحديد بنيتها كان الكاتب أقرب للاتجاه الأول وفي محاولة كشف الأنماط الفكرية المتكررة في الفكر والسلوك خاصة بصدد المسألة اليهودية وحركة التنوير وضع يهود شرق أوربا وكيف أفرز المسألة اليهودية والأفكار الصهيونية (الفصول 1-3)
لكن الكاتب سعى أيضا إلى كشف القوى الاجتماعية المستغلة التي تمثلت بالأساس في رواد الفكر الصيوني المرتبطين بقوى الإمبريالية ثم تحولها لكيان سياسي بمساعدة الإمبريالية وكيف استفادت الصهيونية من حاجة الاستعمار الغربي إلى قاعدة في الشرق الأوسط وكيف استفادت الصهيونية من المناخ الفكري والحضاري الذي خلقته الإمبريالية فهي جزء مميز من كل (الفصلين 4 و 5) كما أن الكاتب يكامل بين رؤية المجتمع الصهيوني من الداخل ككيان عضوي متماسك فأوضح كيف أن المجتمع الإسرائيلي نتاج للأيديولوجيا الصهيونية وأنه مجتمع صهيوني بالدرجة الأولى لا تزال تسيطر عليه الصهيونية برغم كل التحديات التي تواجهها هذه الأيديولوجيا نظراً لدور الدعم الذي يقدمه يهود الشتات الذين تسيطر عليهم الصهيونية والقوى الاستعمارية إلى جانب رؤية المجتمع الإسرائيلي في حالى صراع داخلي وخارجي مع الإنسان العربي وخاصة الفلسطينيين عبر عن نزعته العنصرية وانعكس هذا على قبول المجتمع الإسرائيلي للحرب كحالة دائمة ونهائية.
وبالمثل سعى الكاتب لتجاوز الانتقادات الموجهة لعلم اجتماع المعرفة من خلال تعددية مستويات التحليل فهذه الانتقادات هي نسبية محدودة بمستوى التحليل الذي يقوم به الباحث لكنه على مستوى تحليلي آخر يمكن توظيفها كنقطة قوة فمثلاً ينتقد علم اجتماع المعرفية بشكل عام ودراسة الأيديولوجيا كاحد مجالاته بأنه لا يعطي أهمية كافية لفحص مضمون الأفكار ومدى صدقها بل قد يهتم بدراسة مدى اتساقها أو تعبيرها عن وضع اجتماعي معين بشكل أكبر الأمر الذي قد ينتهي بالعلم لنوع من النسبية المفرطة لكن الكاتب يرى أن هذا قد يعد انتقاداً بالنظر لهدف الدراسة ككل لكنه ضروري عند مستوى تحليلي محدد كما فعل الكاتب عند دراسة منطق الأسطورة الصهيونية من الداخل حيث يتناول الأيديولوجيا الصهيونية بوصفها نسقاً فكرياً متكاملاً والتشابه في البنية بين الأفكار الصهيونية والأفكار الدينية اليهودية السمة الساسية لهذه الفكار الخلط بين المقدس والقومي وبين المطلق والنسبي وتمازجهما وفكرة اليهودي الخالص الذي لا تشوبه شائبة غير يهودية هي المثل الأعلى للصهيونية لكنه لم يتوقف عنده هذا المستوى وتابعه بدراسة الأيديولوجيا على مستوى احتكاكها بالواقع وما ينشأ عن حركتها في الواقع من صراعات وتوترات تثير اهتماماً بالحكم على مضمون الأيديولوجيا إذ لا يمكن اكتشاف الطبيعة الحقيقية لنسق فكري خارج نطاق الممارسة الدراسة فدرس في الفصل 9 توجه الصهيونية إزاء اليهود وقيام علاقة عنصرية تقوم على أن هناك شعب يهودي واحد يجب أن ينقل شاء أم أبى لذلك تنتقد الصهيونية الشخصية اليهودية التي ترعرعت ونشأت في المنفى وتهاجم يهود الشتات وتحاول قلقلة أوضاعهم وإرهابهم بل وتتعاون مع معادي السامية والنازية لتحقيق أهدافها ويرصد الفصل العاشر الاستجابة اليهودية للصهيونية وأشكالها الواضحة النادرة وأشكالها الكثيرة المستترة كما درس علاقة الصهيونية بالعربي الذي تم تغييبه والأشكال العنيفة والعنصرية التي اتبعت لذلك.
وبصورة مشابهة فإن القول بأن عناصر البناء الحضاري بمجرد تكونها تصبح لها حياتها الخاصة وتتحول جزءاً من بناء حضاري ثابت بحيث يصعب رده لوضع سياسي محدد إلا بنوع من النزعة التبسيطة المفرطة لإنه حتى عناصر البناء الحضاري الثابتة عندما تتعين في سياق واقعي معين يكتسب أبعادا جديدة من هذا الواقع ولا يمكن فهم هذه الأبعاد إلا بربطها بهذا السياق المحدد فمثلاً فكرة المكان المقدس الذي ينجذب له المؤمنون كجزء من خبرة دينية إنسانية عامة يأخذ أبعاداً جديدة في النسق الحلولي الصهيوني ليتمثل في الأرض المقدسة الذي يتخندق فيه الشعب المقدس وتخرج منه الجيوش المسلحة.
أما مفهوم الأيديولوجيا فهو مفهوم متعدد الاستخدامات والتعريفات فمثلاً يعرفه قاموس علم الاجتماع كمفهوم محايد باعتباره نسق من المعتقدات والمفاهيم (وقعية وعيارية ) يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية / الاجتماعية للأفراد والجماعات وهي من منظار آخر نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت. في حين يعرف البعض الأيديولجيا كقناع أو كتعارض مع العلمية أو حتى كرؤية للكون cosmology والقاسم المشترك بين هذه التعريفات أنها تطرح علاقة مركبة بين الواقع والأيديولوجيا فهي تعكسه وتحاول تسويغه أيضاً والواقع ليس مجرد واقع مادي بل واقع اجتماعي نفسي روحي وهو واقع إلى جانب تطلعات وآمال.
وعليه سعى الكاتب إلى فهم الأنساق التي نشأت فيها الصهيونية كرد على المسألة اليهودية التي ظهرت مع ظهور النشاط التجاري والمصرفي المحلي وتطور الرأسمالية ولم تكن تاريخ من الاضطهاد والقمع لذلك لم توجد في المجتمع الإقطاعي ولو وجدت فإن أشكالها وحجمها وحدتها تختلف عن المسألة اليهودية في القرن الثامن عشر ولكانت نتيجة الطبيعة الخاصة للأقلية اليهودية في أوربا نظراً للفصل بين الطبقات والجماعات في النظام الإقطاعي
فاليهود خضعوا لتحولات مجتمعاتهم الفكرية والاقتصادية الاجتماعية إذ لم تنتم الأقليات اليهودية لتشكيل حضاري مستقل أو بناء تاريخي منفصل (التاريخ اليهودي عند الصهاينة) الأمر الذي ينقض مسألة وجود طبيعة خاصة لليهود جعلتهم ينجذبون لقطاعات التجارة اولإقراض الربوي ويقدم عوضاً عن هذا فكرة الجماعة الوظيفية التي لا ترتبط بأطراف العملية الإنتاجية وتقوم بأنشطة هامشية وعزز من تبلور اليهود كجماعة وظيفية عدم تركيز الدين اليهودي على الزهد وطبيعة بعض الجماعات اليهودية كبدو رحل ووجود اليهود خارج الحدود القانونية والأخلاقية للمجتمع وتنظيم الجيتو للمجتمع كإطار حضاري انعزالي تغيب فيه بنية طبقية واضحة ويحس أفراده بفقد الأمن خارجه وتسيطر الفئات الهامشية داخله إلى جانب هذا أدت الظروف التاريخية لقلة الأقليات وتعاظم الحاجة للاقتراض متزامنة مع حصر اليهود في هذه الوظيفة فبدأت تنشأ كراهية اليهود والمسألة اليهودية
كان حل المسألة اليهودية يتمثل في الاندماج أو الهجرة ولم تكن حركة التحديث أو الانعتاق قاصرة على اليهود بل على كل الأقليات في كافة المجتماعات التي عرفت هذه التحولات وطلبت الدولة التي فصلت الدين عن الدولة ومنحت الأقليات حقوقهم من هذه الأقليات أن بقوموا بفصل حياتهم داخل الدولة كمواطنين عن انتماءاتهم الدينية فمنح اليهود كامل حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية وقامت محاولات لدمجهم في مختلف مناشط الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية و تحديث اليهود والقضاء على هامشيتهم الإنتاجية وتحويلهم لقطاع منتج هام في المجتمع وبالفعل اندمج عدد كبير منهم في مجتماعاتهم وظهرت حركة عقلانية تنويورية بين اليهود رأت أن هذا الاندماج ممكن إذا تم فصل اليهودية عما يسمى بالقومية اليهودية وكان مذهب اليهودية الإصلاحية نتاج حركة التنوير بين اليهود وكان هذا التيار يعكس رغبة بعض اليهود في تقبل وضعيته التاريخية كفرد عادي وليس فرداً شاذاً ينتمي إلى مجموعة من الكهنة المختارين
لم يقدر لهذه الحركة النجاح الكامل وبتأثير الإخفاق ظهر الفكر الصهيوني وكان الوضع داخل روسيا هو الذي فجر المسألة اليهودية على صعيد العالم الغربي بأسره على مستوى من الحدة والشمول لم يسبق لهما مثيل فنظراً لإخفاق محاولات الدمج قررت لجنة إيجانتيف الموكل إليها بحث المسألة اليهودية من جديد أن فشل سياسة التسامح التي اتبعها القيصر يقتضي إجراءات جديدة ضد اليهود الروس وبالفعل فقد قضت هذه الإجراءات التي اتخذت على فترة زمنية ممتدة على فرص اندماج اليهود الروس الاجتماعي والاقتصادي وشجع الأفكار الصهيونية ولما كانت المجتمعات الاقطاعية قد انتهت تاريخياً لم يعد بإمكان اليهود التقهقر ليجدو مكاناً لها في مسامها فبدأ شرق اوربا وروسيا بتصدير المشكلة اليهودية إلى فرنسا وبريطانيا والمانيا والعالم الجديد وهي دول كانت قد قطعت أشواطا هائلة في عملية التحديث ولم تعد ترغب ولا تقدر على استيعاب أقلية يصعب الاستفادة منها لافتقاد اعضائها للمهارات اللازمة.
إن الأيديولوجيا تقوم بدور الوسيط لأنها نسق رمزي يستخدم كنموذج لأنساف أخرى اجتماعية ونفسية ورمزية وهي قد تشوه الواقع أو تخطئه لكنها تشويه يعكس حقائق معينة ويطمس أخرى لتوصيل رسالة معينة للمؤمنين بها فقدرة الأيديولوجيا هي في قدرتها على الإحاطة بالحقائق الاجتماعية وصياغتها صياغة جديدة فالأيديولجية لا تسبعد عناصر معينة من الواقع بقدر ما تسعى لتقيم نسق يضم عناصر نفسية واجتماعية ودينية... مماثل للواقع الذي تدعو إليه الأيديولوجية
فإخفاق حركة التنوير والاندماج بين اليهود كان إخفاقاً نسبياً يعود لأسباب عديدة في السياقات المختلفة للمسائل اليهودية في كل مجتمع ظهرت فيه (روسيا ، أوربا الشرقة ، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بحيث يمكن القول بأنه لم توجد مسألة يهودية واحدة.
فالواقع أن اندماج اليهود تم بسرعة كبيرة مقارنة بخبرة الزنوج في أمريكا الشمالية مثلاُ لكن الصهاينة باعتبارهم ورثة فكر ة شعب الله المختار رلم يرضوا بهذا التقييم النسبي وفي هذا السياق يكون تقويم أي حركة باتجاه الاندماج بأنها فاشلة برغم أنه يصعب وصف الأفكار والظواهر الحضارية بالفشل والنجاح وهي التي تأخذ آلاف السنيين حتى تتبلور في واقع سياسي.
لقد واجه اندماج اليهود صعوبات لكن هذا لا يبرر الطرح الصهيوني بأن حركة التنوير والتحديث قدأخفقت فهذا الطرح يبسط المسألة بمواجهة اليهود بأحد اختيارين إما الذوبان الكامل عن طريق الاندماج أوالفناء الكامل عن طريق المذابح فالصعوبات التي واجهت تحديث الجماعات اليهودية يتمثل بعضها في طبيعة التحولات التي مرت بها هذه المجتمعات وانعكاساتها على الأقليات اليهودية وبعضها يعود إلى طبيعة البنية السياسية والطبقية فيها ويتمثل بعضها في طبيعة الوجود الأوربي في هذه المجتمعات وإلى هذه المجموعة الأخيرة من الأسباب يمكن رد انتشار الصهيونية بين يهود الغرب غرب أوربا الذين رأوا فيها حلاً لمشكلات اليهود القادمين من الشرق في حين أنهم كانوا من المندمجين في مجتمعاتهم بحيث يمكن القول انه لكن إذا كانت الصهيونية هي رد الفعل المضاد لحركة التنوير فإن حركة التنوير حركة التنوير ساهمت بشكل غير مباشر في ظهور الصهيونية من خلال المناخ الفكري الذي أوجدته والتناقض الذي سببه هذا المناخ للشخصية اليهودية حتى أن بعض الصهاينة يراها تركيباً بالمعنى الهيجلي من اليهودية والتنوير الذي هو نفي لليهودية.
لذلك لم يكون غريباً ظهور العديد من حركات الارتداد عن حركة العقلانية والتنوير والاندماج والتي اتخذت أشكالاً متعددة مثل اليهودية الأرثوذكسية واليهودية المحافظة اللتان يجمعهما التمسك بالأساطير اليهودية بكل لا تاريخيتها لكن اليهودية المحافظة كانت أقرب للفكر الصهيوني بتعيينها للمطلق وجعلها روح الشعب المقدسة هي مصدر القداسة.
إن السؤال الذي تثيره الأيديولوجيا هو مدى فعاليتها في رسم صورة للواقع الاجتماعي وتقديم خريطة له وأن تكون محوراً لخلق الوعي الجمعي.
فعلى الرغم من أن التحولات التي مر بها المجتمع الأوربي منذ عصر النهضة كانت هي المسئولة عن ظهر المسألة اليهوديةفإن الحل التنويري باندماج اليهود لم يكن هو الحل المطروح فقط كان هناك العديد من الحلول المطروحة حيث طرح المفكر سيمون دوفنوف فكرة قومية الدياسبورا وهي فكرة وإن كانت تشترك مع الصهيونية في الاعتقاد بوجود متميز يجمع بين الأقليات اليهودية في العالم وأن لهم قومية متميزة فإن جوهر هذه القومية هو جوهر فكري روحي ومن ثم يجب على اليهود تقبل وضعهم المنتشر في العالم وتطوير هذا الوجود هذا الإحساس بالوحدة لا يجب تنوع الأقليات اليهودية فلم ينسق وراء الأساطير التاريخية التي تمسكت بها الصهيونية لتؤسس رؤيتها المستقبلية حول أرض الميعاد بل ركز على حاضر اليهود ولم يكن هذا حلاً فكرياً تصوريا بل كان الحل الفعلي الذي طبقه غالبية اليهودومع ذلك فقد نجحت الصهيونية برغم ذلك من الاستيلاء على قيادة اليهود وتتحول من أيديولوجيا فاشية لبعض الجماعات اليهودية في شرق أوربا إلى منظمة عالمية يدين أغلب اليهود إليها بالولاء ونجحت في إنشاء دول في الشرق العربي؟
لكن كيف تم هذا ؟
إن استخدام مفهوم الأيديولوجية كأداة تحليلية يتطلب تعدد مستويات البحث بوصف منطقها الداخلي وحتى ادعاءتها عن نفسها وسماتها الأساسية كجانب معبر عن الواقع
على الجانب الأول يمكن تحديد بنية الأيديولوجية الصهيونية من خلال التعرف على تياراتها الأساسية فالصهيونية حركة سياسية تطالب بتوطين اليهود في فلسطين وسيلة لحل المسألة اليهودية فقد تطورت الصهيوينة الدينية التي كانت تعارض الصهيونية السياسية ثم انضمت إليها باعتبار الصهيوينة ستقوي قبضة اليهودية على الوجدان اليهودي وهناك الصهيونية الثاقفية التي تعبر عن صهيونية أرستقراطية الجيتو وترى أن مهمة الصهيونية حل المشكلات الروحية لليهود بإقامة دولة في فلسطين تصبح جيتو يحمي قيم الديانة اليهودية لكن أهم تيارات الصهيونية الصهيونية السياسية التي كان من روادها هرتزل ويطلق عليها أنها سياسية للتفريق بينها وبين الإرهاصات الصهيونية الأولى التي كانت ذات طابع محلي ولم تتحول لمشورع سياسي متكامل وبرغم اختلاف التيارات الفرعية داخل الصهيونية السياسية ما بين صهيونية مراجعة وصهيونية راديكالية إضافة إلى الصهيونية العمالية التي تتتفرع بدورها إلى تيارات مختلفة فإن ما يجمع الصهيوينة كأيديولوجيا هي رؤيتهم للمسألة على أنها مشكلة يهود وليست مشكلة يهودية بل ويرون اليهودية كبناء فوقي ديني وتراث تاريخي يمكن الاستغناء عنه ويولون أهمية بالغة للجانب القومي ويرون أن القومية فكرة سامية يجب تكريس الجهود لتحقيقها مع استبعاد كافة الأفكار الدخيلة كالدين أو الاشتراكية.
وبالفعل يمكن القول بأن علاقة الأيديولوجيا الصهيونية بمختلف الأفكار السياسية على اختلافها ثورية أو رجعية تتمكثل في أن هذه الأفكار مجرد إضافة غير متداخلة عضوياً معها بحيث لو حذفت هذه الأفكار السياسية من بنية الأيديولوجيا الصهيونية فلن تتغير كثيراً لذلك لا يأخذها منظرو الصهيونية على محمل الجد.
لكن موقف الأيديولوجيا الصهيونية من الدين اليهودي موقف معقد فهي ترفض الدين اليهودي حتى أن رواد الصهاينة كانوا يعرفون أنفسهم على أساس قومي ويسعون لدولة عبرانية وليس يهودية ولم يترددوا في البحث عن أرض الميعاد حسب مقتضيات مشروعهم الاستعماري في كل مكان في إفريقيا وأسيا وهي أيضاً سعت كأي أيديولوجية علمانية لتوظيف الدين واستغلاله لكن ما يلفت الانتباه أن علاقة الأيديولوجيا الصهيونية بالدين وإن كانت على هذا النحو السطحي فإن ثمة تماثل بنيوي بين الصهيونية واليهودية حيث استقت رموزها من الدين اليهودي مع إفراغ هذه الرموز من مضمونها الروحي والأخلاقي ونقلها للمجال السياسي المادي مع ما يعنيه هذا من خلط بين المقدس والمطلق بالمادي القومي فتحولت الأمة اليهودية بالمعنى الديني إلى أمة قومية مقدسة وأصبحت الظواهر القومية اليهودية ذات طابع مقدس.
ويظهر هذا التماثل بين اليهودية والصهيونية والخلط بين المقدس والنسبي في مفاهيم النبوة ومفهوم التاريخ الذي لا يعبر عن صيرورة إنسانية بل هو مطلق يتجه نحو هدف محدد من خلال تدخل إلهي مياشر ومركزية التاريخ بهذا الفهم يمكن تتبعها ايضاً في الصهيونية التي تعتمد تاريخاً مقدساً بل ويصبح التاريخ مصدراً للقيم بدل الدين وأيضاً فكرة الأرض بما تحمله من حلولية في علاقة ثلاثية الأرض الشعب الله
إن الدين اليهودي ليس استثناء من الديان السماوية وكان يمكن تفسير ه تفسيراً إنسانياً ليستى هناك علاقة بسيطة بين اليهودية والصهيونية التي كانت في أحد جوانبها ثورة على الدين اليهودي لكنها خلقت استعداداً أكبر للانعزال عند اليهود وتلقي الأيديولوجيا الصهيونية
فاليهودية تتميز بأن المطلق فيها ذاتي في حين أن المطلق بطبيعته شامل وعالمي يتخطى حدود الزمان والمكان لكن مطلقات اليهود مقصورة عليهم وحدهم لذلك تكتسب طابعاً قومياً فيصبح المقدس المطلق هو النسبي القومي واليهود لا يعتبرون أنفسهم جماعة دينية فحسب بل وجماعة قومية أيضاً لها لغتها الخاصة وتراثها الديني إضافة لفكر ة شعب الله المختار التي ساعدت على تعميق عزلة اليهود كما أن اليهودية سعت لتوحيد اليهود من خلال الشعائر التي تؤكد الانفصال وليس عن طريق توحيد العقيدة والرؤية وتأكيد شمولها وفاعليتها كما في المسيحية والإسلام الحديث عن هذه الجوانب لا يعني أن اليهودية تسببت في خلق "عقلية يهودية " و لا أن اليهودية أدت إلى ظهور الصهيونية بل يعني هذا وجود اندماج أو ارتباط اختياري بين اليهودية ونمط معين من الفكار فهناك أفكار يهودية أو مناخ ديني أوجدته اليهودية خلق عند اليهود الستعداداً كامناً للتأثر بأفكار سياسية معينة يختلط فيها المطلق بالنسبي والمقدس بالقومي وهذا الاستعداد موجود بدرجات مختلفة في مختلف الديانات. فالعلاقة بين الأفكار الدينية والسلوك السياسي ليست علاقة سببية بل هي علاقة بين ما هوموجود على مستوى الكمون وما هوموجود على مستوى التحقق كما أن تفسير الأفكار الدينية يقوم بدور هام ومحوري في مدى فعاليتها على المستوى السياسي والتاريخي في الشكل الذي تأخذه هذه الأفكار فثمة تيارات فكرية في اليهودية فسرت هذه الفكار القوية بشكل مجازي بما أكسب الأفكار القومية فيها مضموناً روحياً ودينياً .
وعلى الجانب الآخر من سمات الأيديولوجيا الصهيونية كتعبير عن الواقع كانت الصهيونية مدينة بفكرها وقوتها وتحولها لدولة إلى الإمبريالية الغربية والدولة الصهيوينة امتداد لهذه الإمبريالية بكل سماتها لكنه يظل في الوقت نفسه محتفظاً ببعض سماته الخاصة من كونه احتلالاً استيطانياً عميلاً فلا يمكن بحال مشروعاً للبرجوازية اليهودية لسبب بسيط أن هذه البرجوازية المتجانسة نظراً لطابعها اليهودي لم توجد قط لأن الجماعات اليهودية لم تتمايز طبقياً داخل مجتمعاتها.
ه وبالفعل استمرت محاولة هرتزل ورفاقه الصهاينة لبيع المشروع الصهيوني بالمعنى الحرفي للكلمة للقوى الاستعمارية الأوربية مسهباً في جدواه الاستعمارية اقتصادياً وسكانياً وعسكرياً وثقافياً وتعددت الأماكن المقترحة لإقامة هذا المشروع الصهيوني لكن أكد هرتزل ضرورة الدراسة العلمية لهذه الأماكن لتحديد أفضلها كمشروع استعماري لإنشاء الدولة العميلة التي يخطط لها هو ما عبر عنه بكلمات غاية في السفور رواد الصهيونية فكان وايزمان مصراً بشكل دائم على رؤية مشروع الاستيطاني في ضوء المصالح الإمبريالية وليس في ضوء التاريخ اليهودي المزعوم. وولم يقتصر هذا على رواد الصهيونية وحسب بل العديد من الأدبيات الإسرائيلية التي تصف إسرائيل ك"كلب حراسة"
فالصهيونية ليست حركة قومية ذات جذور اسخة وأفرع ممتدة في السماء بل هي حركة ليس لها سند واقعي ولا يمكن أن تمتد إلى الرض من خلال العنف الإمبريالي فالاستعمار الصهيوني جيب استيطاني غريب عن المحيط الإنساني والحضاري الذي يحيط به وهو إلى ذلك كيان غير متجانس وكأي استعمار قدم الاستعمار الصهيوني اعتذارياته التي تعبر عن نمطه الخاص في إطار الظاهرة الاستعمارية ومحولة تسويغ وجودها ومن هذه الاعتذاريات عبء الرجل الأبيض الذي يعود لوطنه الترايخي ممثلاً للحضارةالغربية وأسطورة اليهودي الخالص الذي يرتب له هذا الوصف حقوقاً مقدسة وتتضمن هذه السطورة في بنيتها نفي وجود الفلسطيني والعربي وهنا يختلف الاستعمار الصهيوني عن غيره من أنواع الاستعمار الاستيطاني التي كانت تقر بشكل أو بآخر بوجود أصحاب الأرض الأصليين أما الاستعمارالصهيوني فيستند إلى أسطورة حق العودة الأبدي لإنكار وجود الفلسطنيين أصحاب الأرض ومن الغريب أن هذه الأسطورة لاقت قبولاً في الغرب باعتبار أنها ليست نوعاً من العنصرية لأن مداها خاص باليهود وحدهم فالصهيوينة أيدلوجيا وضعها اليهود من أجل اليهود وحدهم ولا تتضمن أي تمييز ضد غيرهم من المواطنين في أوربا أو الولايات المتحدة!! وإلى جانب هذا يوجد عبء اليهودي الاشتراكي الذي سيجلب الصناعة والتقدم وقيم التحديث والأفكار الاشتراكية إلى هذه المنطقة لكن كل هذه الاعتذاريات مهما بلغ إتقان صياغتها ليست إلا محاولة لتسويغ قهر شعب آخر واغتصاب أراضيه.
وعلى مستوى آخر سعى الكاتب لدراسة الأيديولوجيا في مستوى آخر لتقييم مدى عكسها للواقع وهذا يتطلب دراسة البدائل التاريخية المتاحة والنظر للأيديولوجيا في نتائجها الإنسانية على الجماعة والتطور الاجتماعي.
فالأيديولوجيا الصهيوينة كانت تفتقر لقاعدة شعبية بين اليهود الذين كان تسخيرهم لخدمة المشروع الصهيوني جزء منها لذلك عمدت إلى "غزو" الجماهير اليهودية وفرض الحل الصهيوني عليها فهذا الحل الفوقي يمكن فرضه على اليهود من خلال كسب تأييد قوة إمبريالية لذلك كان "وايزمان" يراهن على أنه بمجرد الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً لليهود فإن اليهود البريطانيين المناهضين للصهيوينة سيوافقون على الفور على الحل الصهيون. وفي هذا السياق يمكن تتبع رفض الصهيونية لا لليهودية فحسب بل ولليهود وتماثلها مع نزعة معاداة السامية في رؤيتها للطبيعة الشاذة النمطية لليهود حتى علىالمستوى الجسدي وتنطوي فكرة اليهودي الخالص على رفض اليهود كمواطنين يحيون في مجتمعاتهم في موقع طبقية وحضارية مختلفةومن ثم عملت الصهيونية على تحقيق الخلاص الجبري لليهود ولو كان ذلك ضد إرادتهم ومن خلال زعزعة أوضاعهم في مجتمعاتهم بل وقتل أعداد كبير من اليهود والتعاون المكثف مع النازية المعادية لليهود لإنجاح عملية نقل السكان اليهود ويمكن فهم هذا الموقف الصهيوني لدى معرفة المقاومة الكبيرة التي أبداها اليهود في مواجهة الحركة الصهيوينة التي برغم نجاحها في الانقضاض على اليهود وغزوهم حسب التعبير الصهيوني لا زالت تشهد انواعاً مختلفة من المقاومة وسط اليهود في شكل رفض الهجرة إلى إسرائيل ورفض فكرة نفي الشتات وتأكيد مركزية الشتات في حياة اليهود.
واتساقاً مع هذه الرؤية كانت محاولات تعريف اليهودي الخالص تستند بالأساس على فكرة العرقيةً والإثنية ففكرة اليهودي الخالص بمعنى وجود جوهر يهودي يميز اليهودي عن غيره من البشر ويميز الظواهر اليهودية عن غيرها هذا الجوهر هو الذي يجعل اندماج الأقليات اليهودية ليس فقط مستحيلاً بل وعاراً وانحرافاً عن الشخصة اليهودية السوية كما تصبح حياة الشتات بلا معنى لأنها لا تعبر عن هذا الجوهر اليهودي وعلى الجانب الآخر كان المقابل لفكرة اليهودي الخالص فكرة العربي الغائمة كممثل للأغيار المتخلفين أو حتى تغييب الشخصية العربية
ومن ناحية أخرى فقد تأثرت الصهيونية بالجيتو في سلوكهم ورؤيتهم للعالم فإسرائيل هي جيتو يقوم بنفس وظائف الجيتو في أوربا وتمثل إحساسه بالخوف من الخارج وقيمه التي تضفى الطابع السلعي على كل القيم والرموز والأشياء حتى الأوطان.
ويحتل العنف مفهوماً وسلوكا مكانة محورية في الأيديولوجيا الصهيونية فهو يتجاوز كونه وسيلة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية لجعلها شخصية طبيعية والتخلص من الخوف ليصبح - كما هو حال مختلف الأيديولوجيات العنصرية والداروينية – غاية في ذاته يتم تمجيده باستمرار
إن دراسة الأيديولوجيا تتطلب الجمع بين مدخلين محاولة الوصول لأنماط عامة بالمفهوم العلمي ومدخل دراسة المنحنى الخاص للظاهرة في تعينها أو بعبارة أخرى دراسة الشكل الخاص للعلاقة بين البناء الفوقي والبناء التحتي وهي علاقة جدلية تبادلية التأثير فكلا البنائين الفوقي والتحتي يكتسب هويته المتعينة من خلال الآخر أخذا في الاعتبار أن البناء التحتي ليس وجودا ماديا فحسب بل وجوداً مادياً وحضارياً وفكرياً.
وعلى هذا النحو يمكن فهم العلاقة بين المسألة اليهودية ( التي كانت الصهيونية ردا عليها ) والمسألة (الإسرائيلية) فالصهيونية هي بناء فوقي له ثلاثة أبنية تحتية هي الجيتو ومناطق الاستيطان في شرق أوربا التي أفرزت المسألة اليهوديةوالشكل المتميز للأسطورة الصهيونية والبرنامج الصهيوني لحل المشكلة اليهودية وقد اختفى هذا البناء التحتي فالصهيونية هي أيديولجية اختفى بناءها التحتي الساسي لكنه لا يزال يعتمد على الإمبريالية التي استند إليها حولت المشروع الصهيوني ليتحول إلى واقع ودولة خدمة لمصالحها فعلاقة الأيديولوجيا بهذا البناء التحتي هي علاقة نفعية وليست علاقة معنوية أو جدلية أما البناء الأخير فهو "إسرائيل" وهو بناء تحتي فريد من ناحية أنه نتج الأيديولجيا التي افرزت المجتمع وليس المجتمع هو الذي أفرز الأيديولوجيا كوضع طبيعي فالمجتمع "الإسرائيلي" نتاج مناورات الحركة الصهيونية ومضارباتها ومن ثم فإن "الإسرائيلي " يعيش في بناء تلمودي فوقي بقوم على أبنية تحتية ليس جزءاً منها و لا يتحكم فيها ومن ثم يمكن "الحوار المسلح " معه وصولاً لحل المسألة الإسرائيلية الناجمة عن وجود عدة ملايين نشأت في ظل الكيان الصهيوني واستيعابهم داخل التشكيل الحضاري العربي فهذا الحوار المسلح هو وحده الكفيل بتبديد أساطير الإيديولوجيا الصهيونيةالمسيطر على أفراد الكيان "الإسرائيلي".
0 Comments:
Post a Comment
<< Home