القوة والسيطرة
يقوم هذا الفصل على حجة رئيسية مفادها أن علاقات القوة والسيطرة استمرت وستظل أحد العناصر التأسيسية للعلاقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة وعلى رغم ماتبدو عليه هذه المقولة من بساطة فإنالكاتب يعتبرها تعد بالكثير من الناحية التحليلية وباعتبارها مقولة أكثر تركيباً وينبع ذلك من افتراض ضرورة تحديد خطوط تمايز واضحة بين مفاهيم وعلاقات القوة والسيطرة و الحفاظ على التمييز وذلك لاعتبارات دلالية و مفهومية وسياسية وكذلك من حقيقة أن أي سياسات تحررية انعتاقية لابد لها أن تتحدد بشكل متسق وجوهري بسياسات القوة كشكل متميز لسياسات السيطرة.
ويتساءل الكاتب ما أهمية التمييز بين القوة والسيطرة ؟ ويرى الكاتب أن الإجابة المباشرة يمكن سوقها على أساس قاعدة الاقتصاد في المفاهيم بمعنى أنه في حالة وجود مفهوم يحدد مجموعة محددة من المشكلات التحليلية و الإمكانات السياسية فلماذا نخلط المسائل بإدخال مفهوم آخر؟ لكن هذه الإجابة وإن كان لها وجاهتها فإن ثمة إجابة أخرى أكثر اكتمالاً وأوضح كشفاً وأكثر مناسبة من الناحية السياسية ولها أهمية خاصة في هذا المقام حيث تكشف مراجعة الأدبيات حول القوة في العلوم الإنسانية عن سمتين أساسيتين: التمييز بين القوة لـ و القوة على وانشغال كبير بالتفسير المفاهيم والنظري والإمبريقي والسياسي لأطروحة (القوة على) ومن ثم يناقش الكاتب أربع محاجات محورية في مناقشة القوة في العلوم الاجتماعية: محاجة "ليوك" في كتابه " القوة رؤية راديكالية" ومحاجة بارسونز في " حول مفهوم القوة السياسية" ومناقشة فوكو للقوة الانضباطية واستكشاف " مان" لمصادر القوة الاجتماعية.
وقد ناقش الكاتب تعريف بارسونز للقوة باعتبارها قدرة معممة لضمان أداء التعهدات الملزمة من جانب وحدات تنظيم جماعى عندما تكون هذه التعهدات مشروعة لتعلقها بأهداف جماعية وبافتراض أن النكوص عن الوفاء بهذه التعهدات سوف يستتبع إنفاذها من خلال جزاءات سلبية مناسبة للموقف" ويركز أغلب المناقشات لصياغة بارسونز لمفهوم القوة على مساوته بين القوة والسلطة وتهاجمه لتأكيده على التعبئة النابعة من الإجماع وعلى استهداف تحقيق أهداف جماعية ومن ثم التاكيد على الطابع التنسيقي للقوة في مقابل الطابع التوزعي الذي تهتم به الصياغات التي تعنى بصراع المصالح بين أعضاء المجتمع وتباين الأهداف والطابع القسري و القطاعي لمساعي تحقيق هذا الأهداف وهو ما اوضحه رايت ميلز في كتابه صفوة القوة الصادر عام1956.
لكن الكاتب يرى أن النظر لمحاجة بارسونز باعتبارها تقدم صياغة لمفهوم القوة بديلة لمحاجة القوة الموزعة أمر مضلل إذ إن تجريد محاجة بارسونز في صدام المناظرات النظرية والإمبريقية
التي تشكل سياقها الاصلي يؤدي بنا لفهمها بصورة دقيقة باعتبارها تشغل نفس الحيز المفاهيمي الذي تبلورت فيه الرؤى المضادة لها فالقوة عند بارسونزيمكن فهمها -شأنها شأن صياغة أبعاد القوة الثلاثة التي طرحها ليوك- باعتبارها نموذج عمل "غائي" فيه يمكن للفرد – أو مجموعة يمكن اعتبارها فاعلاً فرداً- تختار الطرق المناسبة لتحقيق الهدف الذي تضعه لنفسها فكما لاحظ هابرماس فإن بارسونز كرر على مستوى نظرية النظم نفس المفهوم الغائي للقوة (كقدرة على تحقيق الأهداف) الذي اعتمده ماكس فيبر على مستوى نظرية العمل فكما قرر بارسونز " عرفت القوة كقدر للنظام الاجتماعي على تعبئة الموارد لتحقيق الأهداف الجماعية" وبأسلوب مباشر ربط بارسونز مفهومه للقوة بالمنظور التوزعي في عبارته " قوة أ على ب – في شكلها المشروع – هي حق أ كوحدة لصنع القرار داخلة في العملية الجماعية في صنع قرارات لها أسبقية على قرارات ب حسب مصالح العمل الجماعي ككل"
وعليه يتوجب النظر لصياغة بارسونز لمفهوم القوة لا باعتبارها بديلاً لنموذج القوة على السائد بل كتنويعة ضمن هذا النموذج وهذا الفهم هو ما افتقر إليه "جيدنز" في اشتراكه في هذا الجدل برغم اهمية انتقاداته لمفهوم بارسونز للقوة حيث تجاهل مفهوم بارسونز أن القوة لابد أن تمارس على شخص ما فتجاهل بارسونز عن عمد السمة التراتبية للقوة وما يستتبعه هذا من انقسام المصالح.فقد سعى بارسونز لتقييد مفهومه المحدد للقوة بتحليل القوة المشروعة المستخدم للتعبئة فيما يتصل الهداف الجماعية. وبطبيعة الحال فإن إسباغ الطابع الصحي على علاقات القوة له تضمينات سياسية هامة كما لاحظ جيدنز لكن تبقى نقطتنا الأساسية صحيحة فتخصيص بارسونز النظام بالقوة يظل تنويعة على منظور القوة على.
أما "جيدنز" فيرى القوة كتبعية و سيطرة فمفهومه للقوة الاجتماعية هو مفهوم تراتبي ضمن مفهوم القوة على وإذا كان البعض ينتقد "جيدنز" لرؤيته القوة كقدرة وتجاهله لصياغة مفهوم السيطرة فإن هذا النقد تغيم عنه حقيقة أن مفهوم "جيدنز" للقوة في سياق التفاعل مصاغ بمصطلحات السيطرة فلدى استعراض مفهوم جيدنز للقوة نجده يميز بين معنيين للقوة معنى ضيق ومعنى واسع فالقوة في معناها الواسع يمكن النظر إليها باعتبارها " قدرة تحويلية للكائن البشري فهي تشير لقدرة فاعل على التدخل في مسار سلسلة من الاحداث ليغير مجراها فهذه الإمكانية هي التي تتوسط المقاصد و الرغبات والتحقق الفعلي للنواتج التي يسعى الفرد لها وبالعكس فإن القوة في معناها الضيق ترتبط بعلاقة فهي سمة للتفاعل ويمكن تعريفها على أنها القدرة على ضمان نتائج عندما يكون بلوغ هذه النتائج متوقفا على أعمال الآخرين لكن تمييز "جيدنز" ليس بهذا الوضوح فهو يصف هذا المعنى الضيق على أنه سيطرة ففي ظل اعتماده القدرة التحويلية على أعمال الآخرين تتداخل تجليات القوة مع السيطرة حتى ليبدو المفهومان مترادفين ومن هذا المنظور فإن الاعتماد على افعال الآخرين يعزز الهيمنة والإذعان وليس التبادلية والتناسق وهذا الاستناج تؤكده محاجة جيدنز بأن" يمكن فهم القوة في تفاعل ما كموارد وزتسهيلات يقدمها المشاركون فيه ويعبئونها كعناصر لإنتاج القوة ومن ثم توجيه مسارها وأيضاً أية موارد يقدمها المشاركون للتأثير على والتحكم في سلوكيات الآخرين أطراف التفاعل بما في ذلك حيازة " السلطة " والتهديد باستخدام الجبر.
فهنا تأكيد واضح على مفهوم "القوة على " وعلى القوة كسيطرة مقصودة هذه المحاجة تعادل القوة الاجتماعية بالسيطرة بقدر ما تقترحه من ارتباط إمبريقي لازم بين علاقات القوة وعلاقات السيطرة والأهم ما تقترحه من ارتباط مفاهيمي فقد جعلت هذه المحاجة تصور القوة الاجتماعية (لـ) تابع مفهومياً لمفهوم السيطرة في القوة (على)
ويرى الكاتب أن مسار النتائج المنطقية بل والوجودية (الأنطولوجية) لمفهوم "جيدنز الغائي للقوة يؤدي بمفهوم "جيدنز للقوة الاجتماعية أن يصبح ذا طابع استراتيجي فمفهوم القوة الاجتماعية يهتم بالحصول على وباستعمال القوة.
لكن ماذا عن توليد القوة الاجتماعية عالج جيدنز هذا السؤال على أنه لا يثير أية إشكالات وبقدر كبير من الاختزالية فبرغم تأكيده والتزامه بأولوية الفاعل الإنساني في التحليل الاجتماعي فإنه لم ياخذ بجدية السمات المعينة لتقوية الإنسان (التمكين) فيما يتصل بتوليد القوة الاجتماعية
فأدرك "جيدنز " القوة بالأساس على أنها الحصول على واستعمال الموارد والقدرات معبراً عنه بالنضال والإخضاع والتبعية ومن ثم أشار جيدنز في صياغته الأولى للمفهوم إلى أنه لا يمكن القول بأن القوة لا تظهر للوجود إلا لدى ممارستها وإن لم يوجد معيار آخر لتحديد ما إذا كان فاعل معين يحوذ القوة وأهمية ذلك أننا يمكننا القول بإمكانية تخزين القوة لاستعمالها مستقبلاً في حين ان صياغة جيدنز الأحدث للمفهوم تعنى بمسالة نطاق المفهوم وتشير لاستبعاد مسألة توليد القوة فالقوة حسب "جيدنز" ترتبط بالتفاعل بمعنى مزدوج: باعتبارها داخلة بشكل مؤسسي في عملية التفاعل وباعتبارها مستخدمة لتحقيق نتائج في سلوك استراتيجي فحتى لحظات المواجهة (بين طرفي القوة ) فيها عناصر من الكيان الكلي كبنية للسيطرة لكن السمات البنيوية تنسحب على ويعاد إنتاجها في نفس الوقت بنشاطات المشاركين في نظام التفاعل فالقوة كقدرة تحويلية تشير لقدرات الفاعل للوصول لمثل هذه النتائج.
ويشير النص عاليه لنظرية تشكيل الهياكل" التي تمثل الإطارالنظري الذي يضم مناقشات "جيدنز" لمفهوم القوة فكما يقول "جيدنز" "تتولد القوة في وعبر إعادة بناء هياكل السيطرة والموارد التي تكون هياكل السيطرة نوعان: سلطوية تخصيصية.
ويرى الكاتب أن صياغة "جيدنز" لمفهوم القوة كمفهوم استراتيجي له تداعيات هامة منها استبعاد قضية توليد القوة وهي قضية مهمة لدى معالجة مسائل الاستقالال والتبعية والتي يقر "جيدنز" بمحوريتها في التحليل الذي ينظر لعلاقات القوة كلعبة غير صفرية فالقوة عند "جيدنز" دالة في توزيع الموارد لا تخضع إلا لقدرات الفاعلين على استخدام هذه الموارد بكفاءة. وهنا نجد الكثير من النقد لمحاولة "جيدنز" لتجاوز الثنائية التي اعتبرها سمة للنظرية الاجتماعية التقليدية فمحاولة التجاوز هذه لابد وأن تنتهي بتفضيل أي من قطبي الثنائية ويرى البعض أن محاجة "جيدنز" تعلي من جانب الفاعل على البنية و الذاتية على الموضوعية لكن الكاتب يرى العكس فتحديد "جيدنز" للقوة الاجتماعية يجعل القدرة التحويلية ااجتماعياً معتدمة على " هياكل السيطرة الموجودة" وموقف الكاتب هذا ينقض فرضية أن القوة لـ تسبق منطقياً القوة على إذ أن القوة على تستبع القوة القوة لـ لكن العكس ليس صحيحاً
لكن ماذا عن الاعتراض بأن القول باختزال "جيدنز" القوة لـ إلى القوة على يتجاهل إقراره بطبيعة القوة الاجتماعية كعلاقة ؟ هذا الإقرار عبر عنه في محاجته عن جدل "التحكم" التي نبذ فيها التفكير في علاقات القوة بشكل دائم وفق تعبيرات اللعبة الصفرية مقترحاً أن جميع الفاعلين لهم القدرة على ممارسة القوة " فالفاعلين في موقع الخضوع ليسوا تابعين بشكل كامل بل عادة ما يسعون لتحويل أي موارد بحوزتهم لدرجة من درجات التحكم في ظروف إعادة إنتاج النظام وفي كل النظم الاجتماعية ثمة جدلية للتحكم فثمة تحول مستمر في توازنات الموارد يمكن أن يغير من التوزيع الكلي للقوة.
ويرى الكاتب أن مقولة جدلية التحكم هذه تصحيح جيد للصياغة الحتمية و الميكانيكية لطبيعة القوة الاجتماعية لكن اهتمام جيدنز يظل بطبيعة القوة الاستراتيجية كعلاقة أي بالسمة الموقفية والتاريخية لعلاقات القوة على.
زاد جيدنز في سياق تطويره لأفكاره من تأكيده على السمات التوليدية والتمكينية للقوة في مواجهة جوانب الإخضاع والاستتباع فقال " إن القوة ليست بطبيعتها الأصلية قمعية " وغير موقفه الأول فقال " إن الهجوم على تحليل بارسونز للقوة يجب ألا يجعلنا نتجاهل ما أسهم به من تصحيح للأدبيات فالقوة هي قدرة على تحقيق النتائج وبهذا الوصف ليست القوة عائقاً للحرية والانعتاق بل واسطتهما وإن ظل من الغباء تجاهل سمات القوة التقييدية" وعلى الرغم من تغير حكم "جيدنز" على باروسنز فقد استمر ربطه بين القوة ل و القوة على واستمرت رؤيته لتبعية الأولى للثانية فأكد جيدنز أن " وجود القوة يفترض وجود هياكل للسيطرة تنساب فيها القوة بسلاسة في سياق عمل عمليات إعادة الإنتاج الاجتماعية. ومع تقدير الكاتب لمحاولة جيدنز صياغة منظور إنساني يركز على إمكانية إنجاز الفرد للتغيير فإن افتراضات و مقدمات نظرية تشكيل هياكل القوة تشكل صياغة متماسكة للقوة والسيطرة والعلاقات المتداخلة بينهما تجعل فكرة الجدل بين القوة وهياكل السيطرة تتحول إلى تسييل مثير للخلط للازدواجية.
فوكو ونفي المعيارية
يقترح الكاتب ان السمة المحورية لمنظور فوكو ما تبدو عليه مطابقته القوة بالسيطرة - من الناحية المفاهيمية والمنهجية ومن ثم السياسية - من عادية إن لم تكن تفاهة فإسهام فوكو الجوهري في التحليل الاجتماعي إنما يكمن في تحديده للأشكال الحديثة من السيطرة أي أشكال القوة الانضباطية و القوة الحيوية وقام فوكو بتمييز القوة الانضباطية بمقابلتها بما اعتبره الكل الشائع من السيطرة في المجتمعات ما قبل الحديثة أي القوة السيادية حيث تظهر القوة السيادية على فترات وعلى مستوى محدود من التغلغل الاجتماعي نظراً للقيود التي كانت موجودة على تقنيات القوة المتاحةفي حين أن القوة الانضباطية مطردة وشاملة ومنتشرة هذا الاختلاف بين هذين النوعين من التعين المادي للقوة يعبر عنه بالمقابلة بين مركز الفاعلين في كل نموذج فأخذ الفاعلين الداخلين في النموذج كمعطى هو أمر جوهري لنموذج القوة السيادية في مقابل موضعة الفاعلين التي تمثل قلب نموذج القوة الانضباطية حيث يتطابق ظهور توزيع جديد للقوة الحديثة بظهور مجالات في شكل هيئات من المتخصصين أو المعرفة الإجرائية أو مجموعة من الممراسات ذات الصلة بهما.
ويرد الكاتب على الاعتراض بأن رؤية المحاجة الواردة في " التأديب والعقاب" على أنها تقيم تقابلاً بين الأشكال الحديثة والقديمة للقوة إنما يخفي الاختلاف المفاهيمي الأهم بين هذه الأشكال ويتصل هذا الاختلالف برؤية فوكو لما يعتبره شرط ضروري للقوة الانضباطية وهو أنها ذات طبيعة توليدية بذاتها في مقابل الطبيعة الجبرية القمعية للقوة السيادية فعلى حين أن القوة السيادية تعبئ وتقمع و وتجبر الخاضعين لها دون أن تحول جوهرهم فإن القوة الانضباطية تبني الذاتية الضرورية لعمل أي نظام للقوة أو المعرفة بنجاح.
لكن هذا التمييز يبقى ضمن إطار القوة على أي السيطرة وقد يجري التعبير عن هذا الاختلاف بأن السيطرة في نموذج القوة السيادية يعبر عنها بالتحريم والعقاب على العمل الذي ينتهك هذا التحريم في حين أن السيطرة في النموذج الانضباطي تغرس العمل المرغوب في ذهن الفاعل الاجتماعي بجعله عملاً مرغوباً في إطار محكم من نظم الرشادة وتقنيات القوة. لكن هذا الاختلاف أيضا يجب ألا يخفي حقيقة أن الأساس المشترك للنموذجين هو السيطرة وفي هذا يقول فوكو:
يجري الشكل الحديث للقوة في الحياة اليومية التي تضع الفرد في فئات وتكسبه فرديته وتربطه بهويته الخاصة وتفرض عليه قانون الحقيقة الذي يجب عليه أن يقربه وأن يقر به الآخرون بشأنه فهو شكل من القوة يجعل الأفراد أشخاصاً وثمة معنيين لكلمة شخص: الخضوع لشخص آخر بالتحكم والتبعية وارتباط المرء بهويته بالوعي أو بمعرفة الذات وكلا المعنيين يشير لشكل من أشكال القوة يشخص ويخضع لـ.
وفي النص نفسه يشير فوكو إلى أن تحليل علاقات القوة يتطلب ضمن ما يتطلب 1- نظام للتمايز يسمح للمرء بالعمل لتوجيه أعمال الآخرين 2- أنماط من الأهداف يسعى لتحقيقها من يعمل لتوجيه أعمال الآخرين وعليه يرى الكاتب علاقات القوة هي بالضرورة وحصرياً علاقات سيطرة باعتبار أن الآلية المميزة للقوة الانضباطية هي تاسيس أشكال مناسبة من الخضوع فيما يتصل بنظم الحقيقة وباعتبار تأكيد فوكو على عدم الاتساق والتدرجية والضبط والتحكم وقد يرى البعض أن رؤية فوكو لا تقدم أي أساس لسياسات تحررية يمكن أن تبني بديلاً يتجاوز حالة الرفض السلبي فعملية صياغة البديل لابد بالضرورة أن تتقوض بفعل تضمنها بالضرورة على عناصر لتنويعات أخرى من القوة الانضباطية. وعلى هذا الأساس انتقد فوكو بالقدرية وقد كشفت دراسة التواريخ عن نظم عديدية للقوة / المعرفة يربطها جميعاً نفيها للحرية وبناءاً على هذه الرؤية فإن القوة والسيطرة مترادفان.
إن الإقرار بهذا هو إقراربأن التمييز بين القوة والسيطرة يقتضي بيان افتقار محاجة فوكو عن القوة للتماسك والاتساق وتفسير العلاقة بين القوة والحرية تفسيراً يمكن أن يتأسس عليه تحليل نقدي لهياكل السيطرة.وتقديم استشراف يقبل بضرورة أن تكون أية علاقات بل وكل علاقات القوة تكتسب معنها من سياقها وفي الوقت نفسه رفض القول غير المنطقي بمساوة ذلك بالحتمية وأن القوة مشتقة من سياقها.
وعليه يسعى الكاتب لتأسيس استقلال الحرية مفاهيمياً وإمبريقياً في علاقتها بهياكل الممارسات السائدة وأجهزة المعرفة النظامية فمن وجهةنظر تاريخية و إمبريقية أخفق فوكو في معالجة ما دعاه تشارلز تايلور بغموض نظم أو مجالات الضبط الجديدة ففوكو يجلي عملية تشكيل هياكل السيطرة الجديدة ضمن العلاقات فيما بين نظم الضبط الجديدة لكنه يخفق في تقييم إسهام هذه النظم في تطوير إمكانية أو قيامها بالفعل بالضبط الذاتي فردياً وجماعياً كخصيصة للمجتمعات التي تقوم على المشاركة والحكم الذاتي فمعالجة فوكو لنظم الضبط على انها منتجة بالضرورة و بالكلية لذاتيات خاضعة مذعنة وأشخاص يتوهمون حريتهم يستبعد أي تمييز بين القوة كسيطرة والقوة كفاعلية و لا يناقش أي بديل ولو كان مجرد إمكانات تناقض هذه الرؤية لذلك لاحظ تشارلز تايلور أنها رؤية أحادية الجانب تخفق في رؤية نظم الضبط الجماعية يمكن أن تعمل كهياكل للسيطرة و وكعناصر أساسية للقوة الفاعلة ومن ثم أخفقت هذه الرؤية في تحليل حركيات العلاقة بين القوة والسيطرة بشكل مناسب.
ويؤدي منطق محاجة فوكو الأحادي الجانب إلى عدم الإقرار بالاختلاف بين النظم السياسية التي لديها التزام مبدئي بمبادئ جوهرية لنظم الضبط المكونة لها وتحافظ على حدودها وبين تلك النظم التي تسمح وتسهل تنظيم مجال الضبط إلى هيكل للسيطرة فكما يقول والزر فإن الدولة وحدها هي التي تنشئ افطار العام الذي تعمل فيه كل مؤسسات الضبط وهي التي تفتح إمكانيات المقاومة أو تغلقها.
ويضيف الكاتب لهذا النقد التاريخي الإمبريقي نقداً آخر يقوم على القيود الدلالية والمنطقية التي ترد على محاجة فوكو فالسؤال الأساسي الذي تجب الإجابة عليه برأي تشارلز تايلور هو هل يمكن صياغة أي تحليل لمفهوم القوة لا يدع أي مساحة فيه للحرية أو الحقيقة ؟ وتظهر قراءة فوكو أن الإجابة لابد وأن تكون بالنفي فمفهوم فوكو للقوة لا يعني شيئاً دون فكرة التحرر وصياغة لمفهوم الحقيقة باعتبارها يتم إخفاؤها من خلال عملية فرض التطلعات و الاهداف
ثم يناقش الكاتب تحليل "مان" الذي يرى أن تحليل القوة الاجتماعية لا يمكن أن يأخذ مفهوم المجتمع كمعطى غير إشكالي أي ككل موحد بل إن تحليل القوة لابد وأن ينطوي على تصور المجتمعات كشبكات قوة متقاطعة ومتداخلة فوصف المجتمعات وتاريخها هياكلها يجري على أحسن وجه بتعبيرات العلاقات المتداخلة بين أربعة مصادر للقوة الاجتماعية هي: العلاقات الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ويجب أن يجري تحديد هذه المصادر لا كأبعاد أو مستويات أو عوامل بل شبكات متداخلة من التفاعل الاجتماعي ويمكن اعتبار مصادر القوة الاجتماعية هذه كوسائل تنظيمية ومؤسسية لتحقيق الأهداف الإنسانية فالقضية المحورية في تحليل القوة تتصل بالتنظيم والضبط والإمداد والاتصال أي القدرة على تنظيم الناس والتحكم فيهم وفي الاشياء والمناطق وتطوير هذه القدرة عبر التاريخ وعليه فإن المصادر الأربعة للقوة الاجتماعية تتيح بدائل من الوسائل التنظيمية للضبط الاجتماعي وهنا ثمة ربط معادلة واضحة بين علاقات القوة و علاقات الإخضاع التدرجية.
يحاج مان بان القوة ليست موارد فالموارد هي الوسيلة التي من خلالها تمارس القوة لذلك فإن لتحليل القوة مهمتين: تحديد الوسائل البديلة أو مصادر القوة والتي من خلالها تتم ممارسة القوة و المهمة الثانية تطوير منهجية تسهل دراسة هذه الوسائل وفي مستهل كتابه يتبنى مان رؤية استراتيجية غائية للقوة باعتبارها" القدرة على تحقيق الأهداف من خلال السيطرة على بيئة الفرد" واقترح جانبين للقوة الاجتماعية القوة التوزيعية والقوة الجماعية وتشير القوة التوزيعية لإخضاع الذي يمارس على الآخرين أما القوة الجماعية فيفهمها بشكل وظيفي على أنها تشير إلى جوانب القوة التي يمكن للأفراد بتعاونهم معاً أن يعززوا قوتهم المشتركة على طرف ثالث أو على الطبيعة ويرى الكاتب أن هذا التمييز بين جانبي القوة قد يبدو متاناقضاً مع تأكيده على أننا نتعامل هنا مع مفهوم واحد للقوة باعتبارها قوة على لكن التعاون هنا سمة للجانب الجماعي للقوة الاجتماعية لكن المعاني المعزوة للقوة الاجتماعية مثيرة للبس مثل قول مان أن تطور الرأسمالية حول بدرجة نوعية القوة الجماعية فوسم هذا التطور بسمة التعاون وليس التنسيق مثلاص مضلل وإلا فكيف يتم تحديد القواعد الحاكمة لهذا التعاون الوظيفيوما شروط إنتاج العلاقات الاجتماعية؟
ويتطرق الكاتب لمفهوم القوة التنظيمية المحوري في رؤية مان للقوة حيث يقتضي تنفيذ الأهداف الجماعية تنظيمات و تقسيم للوظائف ومن ثم الخضوع لاتجاه متأصل نحو القوة التوزيعية أو قوة القمة على الكل بما يشبه نظرية ميلز عن نخبة القوة وفي تفصيله لمفهوم القوة التنظيمية يميز مان بين امتداد القوة وكثافتها وبين القوة المنتشرة والقوة السلطوية حيث يتميز النمط الأول بالمركزية في حين يتسم الاخر بالتوزع.
ويتساءل الكاتب ما أهمية التمييز بين القوة والسيطرة ؟ ويرى الكاتب أن الإجابة المباشرة يمكن سوقها على أساس قاعدة الاقتصاد في المفاهيم بمعنى أنه في حالة وجود مفهوم يحدد مجموعة محددة من المشكلات التحليلية و الإمكانات السياسية فلماذا نخلط المسائل بإدخال مفهوم آخر؟ لكن هذه الإجابة وإن كان لها وجاهتها فإن ثمة إجابة أخرى أكثر اكتمالاً وأوضح كشفاً وأكثر مناسبة من الناحية السياسية ولها أهمية خاصة في هذا المقام حيث تكشف مراجعة الأدبيات حول القوة في العلوم الإنسانية عن سمتين أساسيتين: التمييز بين القوة لـ و القوة على وانشغال كبير بالتفسير المفاهيم والنظري والإمبريقي والسياسي لأطروحة (القوة على) ومن ثم يناقش الكاتب أربع محاجات محورية في مناقشة القوة في العلوم الاجتماعية: محاجة "ليوك" في كتابه " القوة رؤية راديكالية" ومحاجة بارسونز في " حول مفهوم القوة السياسية" ومناقشة فوكو للقوة الانضباطية واستكشاف " مان" لمصادر القوة الاجتماعية.
وقد ناقش الكاتب تعريف بارسونز للقوة باعتبارها قدرة معممة لضمان أداء التعهدات الملزمة من جانب وحدات تنظيم جماعى عندما تكون هذه التعهدات مشروعة لتعلقها بأهداف جماعية وبافتراض أن النكوص عن الوفاء بهذه التعهدات سوف يستتبع إنفاذها من خلال جزاءات سلبية مناسبة للموقف" ويركز أغلب المناقشات لصياغة بارسونز لمفهوم القوة على مساوته بين القوة والسلطة وتهاجمه لتأكيده على التعبئة النابعة من الإجماع وعلى استهداف تحقيق أهداف جماعية ومن ثم التاكيد على الطابع التنسيقي للقوة في مقابل الطابع التوزعي الذي تهتم به الصياغات التي تعنى بصراع المصالح بين أعضاء المجتمع وتباين الأهداف والطابع القسري و القطاعي لمساعي تحقيق هذا الأهداف وهو ما اوضحه رايت ميلز في كتابه صفوة القوة الصادر عام1956.
لكن الكاتب يرى أن النظر لمحاجة بارسونز باعتبارها تقدم صياغة لمفهوم القوة بديلة لمحاجة القوة الموزعة أمر مضلل إذ إن تجريد محاجة بارسونز في صدام المناظرات النظرية والإمبريقية
التي تشكل سياقها الاصلي يؤدي بنا لفهمها بصورة دقيقة باعتبارها تشغل نفس الحيز المفاهيمي الذي تبلورت فيه الرؤى المضادة لها فالقوة عند بارسونزيمكن فهمها -شأنها شأن صياغة أبعاد القوة الثلاثة التي طرحها ليوك- باعتبارها نموذج عمل "غائي" فيه يمكن للفرد – أو مجموعة يمكن اعتبارها فاعلاً فرداً- تختار الطرق المناسبة لتحقيق الهدف الذي تضعه لنفسها فكما لاحظ هابرماس فإن بارسونز كرر على مستوى نظرية النظم نفس المفهوم الغائي للقوة (كقدرة على تحقيق الأهداف) الذي اعتمده ماكس فيبر على مستوى نظرية العمل فكما قرر بارسونز " عرفت القوة كقدر للنظام الاجتماعي على تعبئة الموارد لتحقيق الأهداف الجماعية" وبأسلوب مباشر ربط بارسونز مفهومه للقوة بالمنظور التوزعي في عبارته " قوة أ على ب – في شكلها المشروع – هي حق أ كوحدة لصنع القرار داخلة في العملية الجماعية في صنع قرارات لها أسبقية على قرارات ب حسب مصالح العمل الجماعي ككل"
وعليه يتوجب النظر لصياغة بارسونز لمفهوم القوة لا باعتبارها بديلاً لنموذج القوة على السائد بل كتنويعة ضمن هذا النموذج وهذا الفهم هو ما افتقر إليه "جيدنز" في اشتراكه في هذا الجدل برغم اهمية انتقاداته لمفهوم بارسونز للقوة حيث تجاهل مفهوم بارسونز أن القوة لابد أن تمارس على شخص ما فتجاهل بارسونز عن عمد السمة التراتبية للقوة وما يستتبعه هذا من انقسام المصالح.فقد سعى بارسونز لتقييد مفهومه المحدد للقوة بتحليل القوة المشروعة المستخدم للتعبئة فيما يتصل الهداف الجماعية. وبطبيعة الحال فإن إسباغ الطابع الصحي على علاقات القوة له تضمينات سياسية هامة كما لاحظ جيدنز لكن تبقى نقطتنا الأساسية صحيحة فتخصيص بارسونز النظام بالقوة يظل تنويعة على منظور القوة على.
أما "جيدنز" فيرى القوة كتبعية و سيطرة فمفهومه للقوة الاجتماعية هو مفهوم تراتبي ضمن مفهوم القوة على وإذا كان البعض ينتقد "جيدنز" لرؤيته القوة كقدرة وتجاهله لصياغة مفهوم السيطرة فإن هذا النقد تغيم عنه حقيقة أن مفهوم "جيدنز" للقوة في سياق التفاعل مصاغ بمصطلحات السيطرة فلدى استعراض مفهوم جيدنز للقوة نجده يميز بين معنيين للقوة معنى ضيق ومعنى واسع فالقوة في معناها الواسع يمكن النظر إليها باعتبارها " قدرة تحويلية للكائن البشري فهي تشير لقدرة فاعل على التدخل في مسار سلسلة من الاحداث ليغير مجراها فهذه الإمكانية هي التي تتوسط المقاصد و الرغبات والتحقق الفعلي للنواتج التي يسعى الفرد لها وبالعكس فإن القوة في معناها الضيق ترتبط بعلاقة فهي سمة للتفاعل ويمكن تعريفها على أنها القدرة على ضمان نتائج عندما يكون بلوغ هذه النتائج متوقفا على أعمال الآخرين لكن تمييز "جيدنز" ليس بهذا الوضوح فهو يصف هذا المعنى الضيق على أنه سيطرة ففي ظل اعتماده القدرة التحويلية على أعمال الآخرين تتداخل تجليات القوة مع السيطرة حتى ليبدو المفهومان مترادفين ومن هذا المنظور فإن الاعتماد على افعال الآخرين يعزز الهيمنة والإذعان وليس التبادلية والتناسق وهذا الاستناج تؤكده محاجة جيدنز بأن" يمكن فهم القوة في تفاعل ما كموارد وزتسهيلات يقدمها المشاركون فيه ويعبئونها كعناصر لإنتاج القوة ومن ثم توجيه مسارها وأيضاً أية موارد يقدمها المشاركون للتأثير على والتحكم في سلوكيات الآخرين أطراف التفاعل بما في ذلك حيازة " السلطة " والتهديد باستخدام الجبر.
فهنا تأكيد واضح على مفهوم "القوة على " وعلى القوة كسيطرة مقصودة هذه المحاجة تعادل القوة الاجتماعية بالسيطرة بقدر ما تقترحه من ارتباط إمبريقي لازم بين علاقات القوة وعلاقات السيطرة والأهم ما تقترحه من ارتباط مفاهيمي فقد جعلت هذه المحاجة تصور القوة الاجتماعية (لـ) تابع مفهومياً لمفهوم السيطرة في القوة (على)
ويرى الكاتب أن مسار النتائج المنطقية بل والوجودية (الأنطولوجية) لمفهوم "جيدنز الغائي للقوة يؤدي بمفهوم "جيدنز للقوة الاجتماعية أن يصبح ذا طابع استراتيجي فمفهوم القوة الاجتماعية يهتم بالحصول على وباستعمال القوة.
لكن ماذا عن توليد القوة الاجتماعية عالج جيدنز هذا السؤال على أنه لا يثير أية إشكالات وبقدر كبير من الاختزالية فبرغم تأكيده والتزامه بأولوية الفاعل الإنساني في التحليل الاجتماعي فإنه لم ياخذ بجدية السمات المعينة لتقوية الإنسان (التمكين) فيما يتصل بتوليد القوة الاجتماعية
فأدرك "جيدنز " القوة بالأساس على أنها الحصول على واستعمال الموارد والقدرات معبراً عنه بالنضال والإخضاع والتبعية ومن ثم أشار جيدنز في صياغته الأولى للمفهوم إلى أنه لا يمكن القول بأن القوة لا تظهر للوجود إلا لدى ممارستها وإن لم يوجد معيار آخر لتحديد ما إذا كان فاعل معين يحوذ القوة وأهمية ذلك أننا يمكننا القول بإمكانية تخزين القوة لاستعمالها مستقبلاً في حين ان صياغة جيدنز الأحدث للمفهوم تعنى بمسالة نطاق المفهوم وتشير لاستبعاد مسألة توليد القوة فالقوة حسب "جيدنز" ترتبط بالتفاعل بمعنى مزدوج: باعتبارها داخلة بشكل مؤسسي في عملية التفاعل وباعتبارها مستخدمة لتحقيق نتائج في سلوك استراتيجي فحتى لحظات المواجهة (بين طرفي القوة ) فيها عناصر من الكيان الكلي كبنية للسيطرة لكن السمات البنيوية تنسحب على ويعاد إنتاجها في نفس الوقت بنشاطات المشاركين في نظام التفاعل فالقوة كقدرة تحويلية تشير لقدرات الفاعل للوصول لمثل هذه النتائج.
ويشير النص عاليه لنظرية تشكيل الهياكل" التي تمثل الإطارالنظري الذي يضم مناقشات "جيدنز" لمفهوم القوة فكما يقول "جيدنز" "تتولد القوة في وعبر إعادة بناء هياكل السيطرة والموارد التي تكون هياكل السيطرة نوعان: سلطوية تخصيصية.
ويرى الكاتب أن صياغة "جيدنز" لمفهوم القوة كمفهوم استراتيجي له تداعيات هامة منها استبعاد قضية توليد القوة وهي قضية مهمة لدى معالجة مسائل الاستقالال والتبعية والتي يقر "جيدنز" بمحوريتها في التحليل الذي ينظر لعلاقات القوة كلعبة غير صفرية فالقوة عند "جيدنز" دالة في توزيع الموارد لا تخضع إلا لقدرات الفاعلين على استخدام هذه الموارد بكفاءة. وهنا نجد الكثير من النقد لمحاولة "جيدنز" لتجاوز الثنائية التي اعتبرها سمة للنظرية الاجتماعية التقليدية فمحاولة التجاوز هذه لابد وأن تنتهي بتفضيل أي من قطبي الثنائية ويرى البعض أن محاجة "جيدنز" تعلي من جانب الفاعل على البنية و الذاتية على الموضوعية لكن الكاتب يرى العكس فتحديد "جيدنز" للقوة الاجتماعية يجعل القدرة التحويلية ااجتماعياً معتدمة على " هياكل السيطرة الموجودة" وموقف الكاتب هذا ينقض فرضية أن القوة لـ تسبق منطقياً القوة على إذ أن القوة على تستبع القوة القوة لـ لكن العكس ليس صحيحاً
لكن ماذا عن الاعتراض بأن القول باختزال "جيدنز" القوة لـ إلى القوة على يتجاهل إقراره بطبيعة القوة الاجتماعية كعلاقة ؟ هذا الإقرار عبر عنه في محاجته عن جدل "التحكم" التي نبذ فيها التفكير في علاقات القوة بشكل دائم وفق تعبيرات اللعبة الصفرية مقترحاً أن جميع الفاعلين لهم القدرة على ممارسة القوة " فالفاعلين في موقع الخضوع ليسوا تابعين بشكل كامل بل عادة ما يسعون لتحويل أي موارد بحوزتهم لدرجة من درجات التحكم في ظروف إعادة إنتاج النظام وفي كل النظم الاجتماعية ثمة جدلية للتحكم فثمة تحول مستمر في توازنات الموارد يمكن أن يغير من التوزيع الكلي للقوة.
ويرى الكاتب أن مقولة جدلية التحكم هذه تصحيح جيد للصياغة الحتمية و الميكانيكية لطبيعة القوة الاجتماعية لكن اهتمام جيدنز يظل بطبيعة القوة الاستراتيجية كعلاقة أي بالسمة الموقفية والتاريخية لعلاقات القوة على.
زاد جيدنز في سياق تطويره لأفكاره من تأكيده على السمات التوليدية والتمكينية للقوة في مواجهة جوانب الإخضاع والاستتباع فقال " إن القوة ليست بطبيعتها الأصلية قمعية " وغير موقفه الأول فقال " إن الهجوم على تحليل بارسونز للقوة يجب ألا يجعلنا نتجاهل ما أسهم به من تصحيح للأدبيات فالقوة هي قدرة على تحقيق النتائج وبهذا الوصف ليست القوة عائقاً للحرية والانعتاق بل واسطتهما وإن ظل من الغباء تجاهل سمات القوة التقييدية" وعلى الرغم من تغير حكم "جيدنز" على باروسنز فقد استمر ربطه بين القوة ل و القوة على واستمرت رؤيته لتبعية الأولى للثانية فأكد جيدنز أن " وجود القوة يفترض وجود هياكل للسيطرة تنساب فيها القوة بسلاسة في سياق عمل عمليات إعادة الإنتاج الاجتماعية. ومع تقدير الكاتب لمحاولة جيدنز صياغة منظور إنساني يركز على إمكانية إنجاز الفرد للتغيير فإن افتراضات و مقدمات نظرية تشكيل هياكل القوة تشكل صياغة متماسكة للقوة والسيطرة والعلاقات المتداخلة بينهما تجعل فكرة الجدل بين القوة وهياكل السيطرة تتحول إلى تسييل مثير للخلط للازدواجية.
فوكو ونفي المعيارية
يقترح الكاتب ان السمة المحورية لمنظور فوكو ما تبدو عليه مطابقته القوة بالسيطرة - من الناحية المفاهيمية والمنهجية ومن ثم السياسية - من عادية إن لم تكن تفاهة فإسهام فوكو الجوهري في التحليل الاجتماعي إنما يكمن في تحديده للأشكال الحديثة من السيطرة أي أشكال القوة الانضباطية و القوة الحيوية وقام فوكو بتمييز القوة الانضباطية بمقابلتها بما اعتبره الكل الشائع من السيطرة في المجتمعات ما قبل الحديثة أي القوة السيادية حيث تظهر القوة السيادية على فترات وعلى مستوى محدود من التغلغل الاجتماعي نظراً للقيود التي كانت موجودة على تقنيات القوة المتاحةفي حين أن القوة الانضباطية مطردة وشاملة ومنتشرة هذا الاختلاف بين هذين النوعين من التعين المادي للقوة يعبر عنه بالمقابلة بين مركز الفاعلين في كل نموذج فأخذ الفاعلين الداخلين في النموذج كمعطى هو أمر جوهري لنموذج القوة السيادية في مقابل موضعة الفاعلين التي تمثل قلب نموذج القوة الانضباطية حيث يتطابق ظهور توزيع جديد للقوة الحديثة بظهور مجالات في شكل هيئات من المتخصصين أو المعرفة الإجرائية أو مجموعة من الممراسات ذات الصلة بهما.
ويرد الكاتب على الاعتراض بأن رؤية المحاجة الواردة في " التأديب والعقاب" على أنها تقيم تقابلاً بين الأشكال الحديثة والقديمة للقوة إنما يخفي الاختلاف المفاهيمي الأهم بين هذه الأشكال ويتصل هذا الاختلالف برؤية فوكو لما يعتبره شرط ضروري للقوة الانضباطية وهو أنها ذات طبيعة توليدية بذاتها في مقابل الطبيعة الجبرية القمعية للقوة السيادية فعلى حين أن القوة السيادية تعبئ وتقمع و وتجبر الخاضعين لها دون أن تحول جوهرهم فإن القوة الانضباطية تبني الذاتية الضرورية لعمل أي نظام للقوة أو المعرفة بنجاح.
لكن هذا التمييز يبقى ضمن إطار القوة على أي السيطرة وقد يجري التعبير عن هذا الاختلاف بأن السيطرة في نموذج القوة السيادية يعبر عنها بالتحريم والعقاب على العمل الذي ينتهك هذا التحريم في حين أن السيطرة في النموذج الانضباطي تغرس العمل المرغوب في ذهن الفاعل الاجتماعي بجعله عملاً مرغوباً في إطار محكم من نظم الرشادة وتقنيات القوة. لكن هذا الاختلاف أيضا يجب ألا يخفي حقيقة أن الأساس المشترك للنموذجين هو السيطرة وفي هذا يقول فوكو:
يجري الشكل الحديث للقوة في الحياة اليومية التي تضع الفرد في فئات وتكسبه فرديته وتربطه بهويته الخاصة وتفرض عليه قانون الحقيقة الذي يجب عليه أن يقربه وأن يقر به الآخرون بشأنه فهو شكل من القوة يجعل الأفراد أشخاصاً وثمة معنيين لكلمة شخص: الخضوع لشخص آخر بالتحكم والتبعية وارتباط المرء بهويته بالوعي أو بمعرفة الذات وكلا المعنيين يشير لشكل من أشكال القوة يشخص ويخضع لـ.
وفي النص نفسه يشير فوكو إلى أن تحليل علاقات القوة يتطلب ضمن ما يتطلب 1- نظام للتمايز يسمح للمرء بالعمل لتوجيه أعمال الآخرين 2- أنماط من الأهداف يسعى لتحقيقها من يعمل لتوجيه أعمال الآخرين وعليه يرى الكاتب علاقات القوة هي بالضرورة وحصرياً علاقات سيطرة باعتبار أن الآلية المميزة للقوة الانضباطية هي تاسيس أشكال مناسبة من الخضوع فيما يتصل بنظم الحقيقة وباعتبار تأكيد فوكو على عدم الاتساق والتدرجية والضبط والتحكم وقد يرى البعض أن رؤية فوكو لا تقدم أي أساس لسياسات تحررية يمكن أن تبني بديلاً يتجاوز حالة الرفض السلبي فعملية صياغة البديل لابد بالضرورة أن تتقوض بفعل تضمنها بالضرورة على عناصر لتنويعات أخرى من القوة الانضباطية. وعلى هذا الأساس انتقد فوكو بالقدرية وقد كشفت دراسة التواريخ عن نظم عديدية للقوة / المعرفة يربطها جميعاً نفيها للحرية وبناءاً على هذه الرؤية فإن القوة والسيطرة مترادفان.
إن الإقرار بهذا هو إقراربأن التمييز بين القوة والسيطرة يقتضي بيان افتقار محاجة فوكو عن القوة للتماسك والاتساق وتفسير العلاقة بين القوة والحرية تفسيراً يمكن أن يتأسس عليه تحليل نقدي لهياكل السيطرة.وتقديم استشراف يقبل بضرورة أن تكون أية علاقات بل وكل علاقات القوة تكتسب معنها من سياقها وفي الوقت نفسه رفض القول غير المنطقي بمساوة ذلك بالحتمية وأن القوة مشتقة من سياقها.
وعليه يسعى الكاتب لتأسيس استقلال الحرية مفاهيمياً وإمبريقياً في علاقتها بهياكل الممارسات السائدة وأجهزة المعرفة النظامية فمن وجهةنظر تاريخية و إمبريقية أخفق فوكو في معالجة ما دعاه تشارلز تايلور بغموض نظم أو مجالات الضبط الجديدة ففوكو يجلي عملية تشكيل هياكل السيطرة الجديدة ضمن العلاقات فيما بين نظم الضبط الجديدة لكنه يخفق في تقييم إسهام هذه النظم في تطوير إمكانية أو قيامها بالفعل بالضبط الذاتي فردياً وجماعياً كخصيصة للمجتمعات التي تقوم على المشاركة والحكم الذاتي فمعالجة فوكو لنظم الضبط على انها منتجة بالضرورة و بالكلية لذاتيات خاضعة مذعنة وأشخاص يتوهمون حريتهم يستبعد أي تمييز بين القوة كسيطرة والقوة كفاعلية و لا يناقش أي بديل ولو كان مجرد إمكانات تناقض هذه الرؤية لذلك لاحظ تشارلز تايلور أنها رؤية أحادية الجانب تخفق في رؤية نظم الضبط الجماعية يمكن أن تعمل كهياكل للسيطرة و وكعناصر أساسية للقوة الفاعلة ومن ثم أخفقت هذه الرؤية في تحليل حركيات العلاقة بين القوة والسيطرة بشكل مناسب.
ويؤدي منطق محاجة فوكو الأحادي الجانب إلى عدم الإقرار بالاختلاف بين النظم السياسية التي لديها التزام مبدئي بمبادئ جوهرية لنظم الضبط المكونة لها وتحافظ على حدودها وبين تلك النظم التي تسمح وتسهل تنظيم مجال الضبط إلى هيكل للسيطرة فكما يقول والزر فإن الدولة وحدها هي التي تنشئ افطار العام الذي تعمل فيه كل مؤسسات الضبط وهي التي تفتح إمكانيات المقاومة أو تغلقها.
ويضيف الكاتب لهذا النقد التاريخي الإمبريقي نقداً آخر يقوم على القيود الدلالية والمنطقية التي ترد على محاجة فوكو فالسؤال الأساسي الذي تجب الإجابة عليه برأي تشارلز تايلور هو هل يمكن صياغة أي تحليل لمفهوم القوة لا يدع أي مساحة فيه للحرية أو الحقيقة ؟ وتظهر قراءة فوكو أن الإجابة لابد وأن تكون بالنفي فمفهوم فوكو للقوة لا يعني شيئاً دون فكرة التحرر وصياغة لمفهوم الحقيقة باعتبارها يتم إخفاؤها من خلال عملية فرض التطلعات و الاهداف
ثم يناقش الكاتب تحليل "مان" الذي يرى أن تحليل القوة الاجتماعية لا يمكن أن يأخذ مفهوم المجتمع كمعطى غير إشكالي أي ككل موحد بل إن تحليل القوة لابد وأن ينطوي على تصور المجتمعات كشبكات قوة متقاطعة ومتداخلة فوصف المجتمعات وتاريخها هياكلها يجري على أحسن وجه بتعبيرات العلاقات المتداخلة بين أربعة مصادر للقوة الاجتماعية هي: العلاقات الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ويجب أن يجري تحديد هذه المصادر لا كأبعاد أو مستويات أو عوامل بل شبكات متداخلة من التفاعل الاجتماعي ويمكن اعتبار مصادر القوة الاجتماعية هذه كوسائل تنظيمية ومؤسسية لتحقيق الأهداف الإنسانية فالقضية المحورية في تحليل القوة تتصل بالتنظيم والضبط والإمداد والاتصال أي القدرة على تنظيم الناس والتحكم فيهم وفي الاشياء والمناطق وتطوير هذه القدرة عبر التاريخ وعليه فإن المصادر الأربعة للقوة الاجتماعية تتيح بدائل من الوسائل التنظيمية للضبط الاجتماعي وهنا ثمة ربط معادلة واضحة بين علاقات القوة و علاقات الإخضاع التدرجية.
يحاج مان بان القوة ليست موارد فالموارد هي الوسيلة التي من خلالها تمارس القوة لذلك فإن لتحليل القوة مهمتين: تحديد الوسائل البديلة أو مصادر القوة والتي من خلالها تتم ممارسة القوة و المهمة الثانية تطوير منهجية تسهل دراسة هذه الوسائل وفي مستهل كتابه يتبنى مان رؤية استراتيجية غائية للقوة باعتبارها" القدرة على تحقيق الأهداف من خلال السيطرة على بيئة الفرد" واقترح جانبين للقوة الاجتماعية القوة التوزيعية والقوة الجماعية وتشير القوة التوزيعية لإخضاع الذي يمارس على الآخرين أما القوة الجماعية فيفهمها بشكل وظيفي على أنها تشير إلى جوانب القوة التي يمكن للأفراد بتعاونهم معاً أن يعززوا قوتهم المشتركة على طرف ثالث أو على الطبيعة ويرى الكاتب أن هذا التمييز بين جانبي القوة قد يبدو متاناقضاً مع تأكيده على أننا نتعامل هنا مع مفهوم واحد للقوة باعتبارها قوة على لكن التعاون هنا سمة للجانب الجماعي للقوة الاجتماعية لكن المعاني المعزوة للقوة الاجتماعية مثيرة للبس مثل قول مان أن تطور الرأسمالية حول بدرجة نوعية القوة الجماعية فوسم هذا التطور بسمة التعاون وليس التنسيق مثلاص مضلل وإلا فكيف يتم تحديد القواعد الحاكمة لهذا التعاون الوظيفيوما شروط إنتاج العلاقات الاجتماعية؟
ويتطرق الكاتب لمفهوم القوة التنظيمية المحوري في رؤية مان للقوة حيث يقتضي تنفيذ الأهداف الجماعية تنظيمات و تقسيم للوظائف ومن ثم الخضوع لاتجاه متأصل نحو القوة التوزيعية أو قوة القمة على الكل بما يشبه نظرية ميلز عن نخبة القوة وفي تفصيله لمفهوم القوة التنظيمية يميز مان بين امتداد القوة وكثافتها وبين القوة المنتشرة والقوة السلطوية حيث يتميز النمط الأول بالمركزية في حين يتسم الاخر بالتوزع.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home