تأويل ماركس لهيجل
تأويل ماركس لهيجل
Marx’s Midrash on Hegel
تجد الفكرة بأن ماركس قام ـ ببساطة ـ بعكس النسق الهيجلي ـ لكي يقدم نظريته الخاصة تجد هذه الفكرة أصلها عند ماركس نفسه. فكما أكد في استهلال لكتاب "رأس المال " " لا يختلف منهجي الجدلي ( الديالكتيكي ) عن المنهج الهيجلي و لكنه نقيضه المباشر".
فبالنسبة لهيجل فقد حول عمليات الحياة التي يقوم بها العقل الإنساني ـ على سبيل المثال عملية التفكير التي تقع تحت مسمى الفكر ـ حولها إلى فاعل مستقل و خالق للعالم الواقعي فالعالم الواقعي مجرد شكل خارجي ظاهراتي Phenomenal للفكرة ،عندي على العكس ،لا يعدو المثالي أكثر من كونه العالم المادي كما يعكسه العقل الإنساني و يترجمه إلى أشكال من الفكر... عنده يقف الجدل (الديالكتيك) على رأسه فيجب أن ينعدل واقفاً في و ضعه الصحيح إذا كان لك أن تكتشف لب الرشادة في محارة الروحانية .
لقد أخذ كتاب القرن العشرين الذين تناولوا مسألة دين ماركس الفكري لهيجل أخذوا كلام ماركس بصورة حرفية فافترضوا أنه عكس الجدل المثالي مع الاحتفاظ بمقولاته الأساسية . في الحقيقة من السهل استيعاب أغلب نظرية ماركس عن الوجود Ontology في جدل هيجل، فقد فهم هيجل العالم ـ مختلفاً عن العديد من المفكرين في زمانه و في نفس الوقت متشابهاً مع ماركس ـ يتألف من توترات ببين قوى متضادة( أو متناقضة) فرأى أن هذه التناقضات تنتج ترتيبات جديدة للأحداث و الأفكار ففلسفة هيجل فلسفة دينامية (حركية ) فقد درست الواقع في تدفقه كما كانت فلسفة تقدمية فقد حازت ثراءها لأنها تمحص كل حقبة تاريخية تلو الأخرى و تتجه نحو تحقيق الخير النهائي فهي لذلك ـ أي فلسفة ماركس ـ زمنية و تاريخية بصورة جوهرية .
يتفق المعلقون لكل هذه الأسباب بصورة عامة على أن نظرية ماركس تبدأ كنقد مادي لمنطق هيجل المثالي ،فحيثما كان هيجل يكتب الروح كان ماركس يستبدلها بالإنسان
إذا كان من الممكن قراءة أغلب فكر ماركس عن طبيعة الواقع ، بصورة مقبولة ، باعتباره عدلاً لهيجل في وضعه الصحيح على قدميه و إذا كانت هذه القراءة تحمل معها تراثاً طويلاً و جليلاً له وزنه فما الذي يعطينا الجرأة و الوقاحة لاقتراح ( قراءة ) بديلة ؟ (السبب ) جزئياً هو الإحساس بالضجر من أن الصيغة المقبولة هذه مرتبة جداً كما أن تغير الأوضاع الذي تتطلبه أسلس من أن يصف الأسلوب الذي يقرأ به مفكر مفكراً آخر ناهيك عن الأسلوب الخاص الذي قرأ ماركس به هيجل ، و لكن لدينا سببين محددين إضافيين : أن الصيغة المقبولة لا تتضمن كل ما قاله ماركس عن كيفية قراءته لهيجل كما أنها تضللنا عما حدث كنتيجة لقراءته .
فعندما يشرح ماركس لماذا كان عليه أن يتجاوز أستاذه فإنه ينتقد النزعة الروحانية لدى الأخير كما رأينا ، و لكنه أيضاً شجب نظرية هيجل عن الوجود Ontology لأنها "يونانية"Greek : فهي تستبعد أوجهاً أساسية للحياة الإنسانية ـ و من ثَم تستبعد أشخاصاً معينين في المجتمع ـ من المشاركة الكاملة في الحرية الإنسانية .
ينظر ماركس ـ على خلاف معاصريه ـ لدولة المدينة Polis كمحاولة لتحقيق الحرية باءت بالفشل و أنحى باللائمة على إخفاقها على نزعة ثقافية في الفلسفة اليونانية ، الاعتقاد بأن الفكر يمكن أن يدرك ذاته بمعزل عن الحياة .بصورة أكثر تحديداً ، أنكر ماركس أن أي مفكر يمكن أن يكتشف الحقيقة عن الطبيعة الإنسانية من خلال التأمل و التفكير المجرد خارج علاقاته الاجتماعية بالبشر الآخرين. فاتهم ماركس في أطروحته إبيقور و ديمقرطيس و سقراط بمثل هذا التفكير غير العلائقي Nonrelational
إن الفلسفة التي تبدأ بالتجريد تنتهي إليه أيضاً. فاتهم ماركس الفلاسفة اليونانيين بتصور العالم على أنه أفكارهم الخاصة مكتوبة بشكل موسع (يعني الكاتب أن العالم هو الكتاب المفتوح الذي تتجسد فيه أفكارهم ) فالعالم الخارجي الذي يواجهونه " هو مجرد هذه الطبيعة المجردة مجرد طبيعة ككيان فكري و لكن الآن بدلالة أنه كيان آخر من الفكر " و هكذا فإن عالم الفلاسفة اليونانيين هو رؤية من موقعهم الخاص لا يمكن إقرارها و ليست الواقع الكلي كما كانوا يتصورون فهو يعكس جزءً ضئيلاً فقط من الحياة الإنسانية و بسبب جزئيته لا يمكن أن يحرر الفكر اليوناني الإنسان بكامله بل عقله فقط كما لا يمكنه تحرير الأنواع الإنسانية بل الفلاسفة فقط.
لقد كتب ماركس سنة 1840 أن علاج عجز الفكر اليوناني هو المنهج الديالكتيكي على مثال هيجل و تكريس النسق الهيجلي نفسه للبحث عن المثال في الواقع نفسه فيعد النسق الهيجلي بتجنب التقوقع الداخلي على ذاته و هو ما أدان فكر ماركس الفلسفة اليونانية به .
بدأ ماركس ـ مع ذلك ـ بعدها بعامين في قراءة هيجل أكثر فأكثر بوصفه يونانياً و حيثما كان ماركس يحتفي بهيجل كفيلسوف " الكل الكامل" فإنه أعاد قراءته بصورة متزايدة كفيلسوف جزئي آخر فقد صعّد هيجل الدولة السياسية ـ أحد أجزاء المجتمع ـ لتصبح جوهر المجتمع فنبذ المجتمع المدني مجال الحاجات العملية باعتباره مجرد لحظة في الطريق إلى التوفيق بين كل الحاجات الإنسانية في الدولة فكانت النتيجة ـ وفقاً لرأي ماركس ـ أن هيجل و كل أتباعه حتى اليساريين مثل Bruno Bauer تجاهلوا حالة أي فرد لا تجعله الدولة حراً : اليهود في الدولة المسيحية ، العمال في ظل الرأسمالية فهم يقدمون تحريراً فقط على مستوى النظرية مجرد القدرة على رؤية المرء لنفسه كحر و ليس الحرية نفسها.
تجعل رؤية الكل التي نسبها ماركس عن حق أو عن غير حق لهيجل ـ تجعل الوصول للحقيقة ( و الحرية بالتبعية ) ممكناً فقط من منطلق فلسفي سواء من الفلاسفة أو الذين يتبنون نظرة مشابهة بعين الرب God’s-eye view للكون ، و هذا عند ماركس فهم مشوه لتحرير الإنسان و انعتاقه
تبدأ نظرية ماركس عن كيف نصبح أحراراً من منظور مختلف دعاه " نفي ( Aufhebung ) اليهودية "و يعني ماركس باليهودية هنا المجتمع المدني ، المجال الاقتصادي ، حيث تحكم النقود و تسيطر الحاجات العملية على الساحة و تصبح الحرية قريبة المنال فقط عندما نعمل على تلبية الحاجات و نتجاوزها.
لقد حاججت في غير هذا الموضع بأنه لا المصادفة و لا التحيز وحدهما هما اللذان أديا بماركس لأن يتطابق مع المنظور اليهودي فقد كان لماركس انحيازاته في الصراع بين الفكر اليوناني و اليهودي ، هذا الصراع القديم قدم أوجستين الجديد جدة جاك ديريدا . فرؤية ماركس عن الوجود Ontology ، التي تشبه معنى الواقع الذي نجده في الكتاب المقدس العبراني ، تضع البشر في حوار مع قوى أكثر اتساعاً من أنفسنا عن كيفية إعادة تشكيل العالم من خلال الفعل التاريخي. يجري هذا الحوار ـ في نظرية ماركس ـ في و من خلال الحاجة الإنسانية ، و هكذا فان الحرمان من الحاجات التي يشعر بها بعضنا فقط ـ بسبب الظروف غير المتساوية ـ هو كبت لتطور الأنواع .
إذاً نلاحظ بقراءة ماركس أنه يهاجم هيجل على جبهتين : لاختياره الروح و ليس الإنسانية كبطل لقصته و لرغبته في إقصاء مجمل الطبقات و أوجه الحياة الإنسانية من مثال الحرية عنده. إن قلب هيجل ـ في أفضل الأحوال ـ سيكون إجابة فقط على أولى المهمتين و يدع الأخرى دون رد .
الآن ، ليست هذه نقاطاً تافهة بل إنها تضرب في عمق نظرية هيجل كما فسرها ماركس . هل يحتمل أن ماركس لم يفكر قط في هذه النقاط قبل أن يقرأ هيجل و أن النقاط الأساسية لنظريته الخاصة طرأت له فقط " كنقيض مباشر " ل "فلسفة الحق" ما الذي كان ماركس يعنيه بأنه "رد هيجل إلى وضعه الصحيح واقفاً مرة أخرى ؟" و ماذا حدث عندما فعل ذلك؟
II
يجب لكي نجيب على هذه الأسئلة أن نصغي عن قرب لما تقوله هذه العبارة البارزة عن هيجل ، فيجب للحديث عن الديالكتيك الواقف على رأسه استخدام مجاز عكس أو قلب و تبادل المكان فمثله مثل الساعة الرملية التي يتساقط فيها الرمل إلى قعرها فإن الديالكتيك كما هو موجود عند هيجل يمكن أن يُعدل ، و بذلك فان ما كان ساكناً مستقراً يمكن أن يأخذ في الحركة مرة ثانية ، و لكن مع عدل الساعة لن تتغير البنية ولا المحتوى ؛ فجانبي الساعة متطابقا الشكل لذا إذا قرأنا "يقف على رأسه " (أي الديالكتيك) كاستعارةة لغوية بسيطة فسنتوقع أن الإله سيحل مكان الإنسان والانسان محل الإله في نظرية ماركس و أن كل العلاقات ستبقى هي نفسها برغم أن التدفق إلى القطب المقابل بعد أن كان يأتي منه.
لم يحدث ذلك عندما قرأ ماركس هيجل و يصعب ـ حقيقةً ـ تصور كيفية ذلك . تجسد الكائنات الانسانية ـ في ديالكتيك هيجل ـ بمحدوديتها و عرضتها للفناء لحظة ضرورية في العملية التي تصبح بها الروح واقعاً في العالم و على الرغم من أن هذه العملية تمتد أبعد من نطاقها فإن البشر يكونون بين ذراتها و عناصرها المكونة : فلا يستطيعون أن يغادروها خارجاً .
الأمور مختلفة تماماً عند ماركس ؛ فعلى خلاف وضع الإنسانية في جدل الروح فإن الإله ليس أساسياً لنمو و تطور الأنواع الانسانية بل بالأحرى الإله ( أو الإيمان بالإله ) عائق لهذا التطور فالتحرر و الانعتاق الانساني لا يدمج الدين فيه بل ـ بدلاً من ذلك ـ يلغيه و يبطله و نفس الأمر بالنسبة للدولة ، و هكذا تم الاستغناء عن مؤسسة نظر إليها هيجل باعتبارها حيوية لتحقيق الروح المطلق و حتى الثقافة و الوعي ـ الساكنين الآخرين في عالم الروح ـ لهما حياة جزئية مبهمة في كتابات ماركس التي أتت نقداً لهيجل . لقد كان الأمر كما لو أن إخضاع هيجل الانسانية للفكرة ضايق ماركس أشد الضيق حتى أنه لم يستطع أن يضع بؤرة تركيزه طويلاً على أي فكرة أخرى لدى هيجل
إذا أردنا أن نفهم لماذا نزع ماركس الروح من الجدل (الديالكتيك) و لم يعكس موضعه فقط بداخله فإننا سنأخذ في الاعتبار اطروحة هيجل ذات الأهمية الحاسمة التي وصفها تايلور :
إن الكون عدة مستويات لأنه تجلي لضرورة داخلية على الواقع الخارجي .إن الغايات اللامتناهية تتحقق بغايات متناهية. و هذا ما يوضح لماذا يمكننا أن نرى غاية العقل باعتبارها عادة ما تتحقق و واجبة التحقق معاً فخبرة الأفراد المحدودة هي أن مشروع العقل لا يزال قيد الإنجاز فهم يناضلون باتجاهه ، و لكن إذا ارتفعنا لرؤية “ الكل ” فيمكننا رؤية هذا النضال جزءً من المشروع و أنه ك “كل” قد تحقق بالفعل فمظهر عدم التحقق خطأ و خداع و لكن هذا الخداع نفسه جلبه الفكر فيجب أن نتغلب بأنفسنا على هذ الخطأ .
هذه نتيجة مريحة. و لكن كان على هيجل ليصل إليها أن يقوم بافتراضين أوليين، أولاً: أن ثمة رؤية "للكل" أي منظور سائد يصبح منه للواقع "الخارجي" معنى
ثانياً : أننا يمكننا معرفة أن هذا المنظور هو المنظور الصحيح فالمنظور الأرضي الذي يرى العالم باعتباره لا يزال مفتتاً و غير كامل خطأو خداع . لقد طمح هيجل إلى ـ في وضعه رؤية مؤكدة و صحيحة معاًـ إلى ما أسميناه في في الصفحات السابقة نظرة للكون بعين الرب . عندما نزع ماركس الإله من الديالكتيك فإنه بذلك يكون قد نبذ ـ في نفس الوقت ـ الرؤية بعين الرب و ما شابهها “ فخبرة الأشخاص المتناهين و المحدودين هي كل ما لدينا لننطلق به فإنكار محدوديتنا و تعرضنا للفناء يقودنا إلى نسج عوالم واهية من خيوط العنكبوت من نتاج رؤوسنا و هو ما اتهم به ماركس الفلاسفة اليونانيين ، و من ناحية أخرى ، فإن إنكار أننا أشخاص بالجمع ( و ليس أفراداً لروح عالمية ) سيفتح الباب لبعض طبقات الناس لتدعي لنفسها الكلية و الشمول متجاهلة الخبرة و احتياجات الآخرين لذا كان للحركة التنظيرية التي أقصت الإله من الديالكتيك منذ البداية مضمونها السياسي فالإله ليس موجوداّ ـ و بقى ماركس مصراً على إنكاره ـ ليتم دحض أية ادعاءات لبشر معين بتلك التي للإله.
سنبدأ ـ من الآن ـ تقصي نمطاً انحرف فيه ماركس عن مقاييس هيجل . و قام ماركس بنفس التحول عن Bauer في كتاب " في المسألة اليهودية" بنفيه أن يكون التحرر و الانعتاق السياسي من الدين و الملكية وهكذا ... تحرراً حقيقياً ،و أظهر ماركس نفس الميل عندما نبذ ادعاءات الدولة السياسية "الدولة المسيحية الكاملة" بأنها توحد و تحررالمجتمع و كذلك عندما خلف دولة المدينة Polis وراءه وهجرها كنموذج يدعي موافقته لمتطلبات الحياة الانسانية و الفكر الانساني.
عاد ماركس في "رأس المال" ليمد كقولاته في نفس الاتجاه، أولاً أعاد بناء المفهوم الشائع عن التبادل الحر في السوق و كشف عما يخلفه غياب هذا المفهوم : العامل في المصنع ثم استعاد حقارات استغلال العمالة إلى الصورة فبدت حرية السوق فجأة في توصيفه المتسم بالمفارقة بدت كروحانية و غير واقعية وغير ملائمة شأنها شأن الروح المطلق ،كما عالجها ماركس أيضاً باعتبارها خطلاً .
يبدو ماركس بصورة أساسية غير قادر على القيام بما يعتقد أن هيجل كان يود أن يقوم ماركس به : الترقي لرؤية "الكل" التي يمكن انجازها بجعل بعض الأجزاء ـ اليهود العمال ـ عملية العمل ـ غير منظورة .
يمكن أن نقر بهذا التوجه باعتباره منسجماً مع رؤية ماركس عن الوجود و التي فهمناها باعتبارها تشترك في حركيتها (دينامياتها) الأساسية مع الفكر اليهودي التقليدي .إن قراءة ماركس جنب إلى جنب مع هيجل تشبه مقارنة العبرية باليونانية ،على الأقل ، إذا قرأنا هيجل بالطريقة التي قرأه ماركس بها.
إلا أن ذلك يعيدنا للسؤال السابق كيف قام ماركس بقراءة هيجل؟ فقد قام ماركس ليصل إلى استنتاجاته و استخلاصاته بأداء بعض العمليات على كتابات هيجل، و إذا كان ماركس قد و صل إلى خلاصات يهودية فإن ذلك لابد و أن يجعلنا أكثر تشوقاً لمعرفة كيف وصل إلى هذه الخلاصات من حيث بدأ. و إذا لم يكن ماركس قد أوقف هيجل على قدميه فماذا فعل به إذاً؟ و أين أدخل الفكر اليهودي إليه ؟
يمكننا بسهولة سرد ما لم يفعله ماركس ، فلم يقل ماركس أن هيجل كان على خطأ بصورة كاملة ، كما لم يقل أنه يوناني بصورة قوية و يجب أن نستغني عنه و لا أن هيجل كان في الأغلب على حق و أنه يحتاج فقط لبعض التصحيحات في نقاط معينة .في الحقيقة كلما قرأنا كتابات ماركس عن هيجل كلم صعب تلخيص استجابة ماركس و رد فعله على كتابات هيجل في أية صيغة مبسطة.
يبدو ماركس بالأحرى يستجيب لجزئيات صغيرة مما كتبه هيجل فيجد الفرصة للتعبير عن تيماته المتكررة في سياق تعليقه على هيجل ، فكان ماركس في الأحيان التي كان تحليل هيجل يقود إلى خلاصات يونانية كان يتناول المسألة من جانبه كما لو كان واضحاً أن عليه التزاماً بتجنب هذه النتائج فقد " صحح " نظرية هيجل باتباعها في إطار قيود معينة ،تأتي هذه القيود من رؤية ماركس الحوارية للعالم واصراره اليهودي على ضرورة فعالية الواقع .
أين اكتشف ماركس هذا الإجراء الغريب ؟ لا يحتمل أن نعرف ذلك ـ بصورة مؤكدة ـ على الإطلاق بكلمات سيرته الذاتية الواقعية ، أما في الحاضر فيمكن أن نبلي بلاء حسناً كمطالعين في استكشاف الصلات بين طريقة ماركس في الواصل مع النصوص و نمط التأويلات اليهودي المعروف بالمدراش (التفسير اليهودي التقليدي للتوراة )
III
يعني المدراش نمط التفسير النصي المبدع و الخلاق الذي طوره أحبار فلسطين و بابل في الفترة ما بين القرنين الثالث و السادس أو على الأقل هذا أحد معانيه تعتمد كلمة المدراش ـ شأنها شأن التوراة ـ على السياق الذي ترد فيه فيمكن أن يعني الدراش تفسير آية أو بعض آية باستخدام الناهج المدراشية كما يمكن أن تشير إلى نتاج مثل هذا التفسير سواء أكان شرحاً من جملة واحدة أو سلسلسة بدائل متعددة من القراءات لنفس الجزئيو من النص و يتضمن المدراش أيضاً مقتطفات من هذه الشروح المدراشية MIDRASHIM القصيرة على امتداد كتاب كامل فمثلاً Bereishit Rabbahتعطينا كل الشروح المدراشية MIDRASHIMعن كتاب Bereishit Rabbah أو كتاب The book of Genesis
علاوة على ذلك ،عندما يتحدث شخص عن المدراش فعادة ما يعني هذا الجسد من الكتب المدراشية و القصص التي تحتويها ، و إن كان من الخطأ الشائع الإشارة إلى أية قصة شعبية فلكلورية باعتبارها مدراشاً ، و يركز بعض نقاد الأدب المعاصرين على السمة المميزة للمدارش كنص مكتوب عن نص آخر دون سواها من السمات ، فيستخدمون المصطلح ليشيروا إلى بنية قطعة مكتوبة كتعليق على عمل ( نص ) مؤلف سابق أو إعادة توظيف النص بصورة خلاقة لهدف مغاير، كما يستعملون اصطلاح المدراش ليشيروا إلى طبيعة كافة الكتابات باعتبارها لها إلماعاتها و و إشاراتها الخفية و تحمل دلالات لفترات زمنية تالية متأخرة عن كتابتها و ليشيروا إلى تشجيعهم تفكيك هذه الكتابات .
إن ما يربط هذه المجموعة من الاستخدامات هو نشاط القيام بعمل مدراش ، فيدل الجذر العبري للكلمة DRASH على أن المدراش يدور حول السؤال ، البحث عن ،الطلب، ما يتطلب الاستجابة ، البحث بعمق (في موضوع أو مسألة ما ) فعندما يقوم القارئ بمدراش على نص ما فإنه يريد أن يعرف أكثر مما تقوله الكلمة أو الجملة أو ما قصد المؤلف أن يقوله فيذهب أيضاً ما وراء الظروف التاريخية لإنتاج النص و الفن الأدبي الذي ينتج به النص الأدبي آثاره هذه النقاط ،ا لظروف التاريخية و الفن الأدبي تهم القائم بالمدراش Medrashist إلا أنها غير كافية و لا مُرضية وحدها ؛ إذ يريد القارئ الذي يقوم بالمدراش أن يكتشف كيف يمكن أن يساعده النص في مواجهة مشاكل الحياة اليومية :معضلته الشخصية و مشاكل كونه يهودياً هنا و الآن ، فيبحث من يعمل المدراش في النص عن مرشد ليعاود الدخول مع الرب ، فبمعاناة النص المقدس يكون القارئ قد بدأ بالفعل في الانضمام لهذه العلاقة و هكذ يصبح المدراش ليس اتصالاً فقط عن الفعل بل فعلاً في ذاته أي جهد لإعادة الالتزام ( الإلتزام بالمعنى الديني).
نحتاج لفهم المدراش و ما يفعله من يقوم بالمدراش أن نأخذ في الاعتبار الوضع الفريد للتوراة في التراث اليهودي ، فتولد التوراة التيمات الفكرية الحيوية في الثقافة اليهودية ، و بداخل هذه الثقافة تفهم دراسة التوراة على أنها محاولة لاكتشاف ما يريد الرب أن نفعله ، لكي تتم الاستجابة لها .فالتوراة ليست مجرد الميثاق المكتوب للمشاركة اليهودية مع الرب بل موضع و لحظة حوار.
إن كتاباً يلعب مثل هذا الدور الفعال في الأمور ذات الدلالة الكونية ليس مجرد كتاب ، فقد سجل الأحبار في مدراش الآية الأولى من Genesis مركزاً جديداً للتوراة : إنها الصورة الأولية للخليقة .
لقد استقر العرف على أنه عندما يبني الانسان قصراً فإنه لا يبنيه وفق معرفته و حكمته ،بل وفق معرفة المهني و لا يبني المهني وفق معرفته و حكمته بل لديه التصميمات و القياسات التي يعرف منها كيف يعمل الغرف و الممرات فقام الخالق المقدس المبارك بنفس الشئ ، فقد نظر في التوراة و خلق العالم.
هنا نجد التوراة تتقدم التاريخ حتى التاريخ الأسطوري ،كالوحي في سيناء، فيتصورها الأحبار موجودة قبل الخليقة نفسها "مكتوبة بحروف من السوداء على خلفية من النار الحمراء " فالكون مخلوق طبقاً لتصميم مبدئي يمكن أن نكتشفه في التوراة فيقول الأحبار الذين جعلوا من المدراش فناً ( علماً ) من الفنون إذا أردت أن تعرف أي شئ عن العالم ابحث في التوراة ،تعلمها ثم تعلمها لأن كل شئ فيها و حتى ـ بل و بصورة خاصة ـ إذا كان ما تود معرفته غير مذكور بصراحة في صفحات النص المقدس فإن استشارة القديرين و المتمكنين من المدراش سيضاعف من مهارتك و إبداعك و ستجد ـ كما يؤكدون ـ بين السطور إجابة تقودك و لا تضللك .
فحتى يكون النص ملائماً بصورة كاملة يجب ان يكون مفعماً بالمعاني أيضاً فيدعوا الأحبار التوراة "محيطاً من المعاني" يمكنهم أن يخوضوا غماره المرة تلو الأخرى دون أن يقربوا من أعماقه و يفترضون بصورة مطلقة ،في نفس الوقت ، أن كل تفاصيل النص و ليس مقولاته فقط بل ترتيب الجمل و حذف و تكرار الحروف و حساب الجمل للحروف العبرية و أشكالها و حتى زخارف الخط التقليدي بالغة الدقة كلها تحمل رسائل مهمة للقارئ "فلا شئ بالصدفة" هو شعارهم الذي يرفعونه فقد اقتبس الحبر Akiba الأية من الكتاب المقدس " أما التوراة فليست خاوية لك : إنها حياتك " و علق عليها بقوله " إذا كانت فارغة (من الدلالة ) فهذه مسئوليتك لأنك لم تعرف كيف تفسرها ". فمن واجب كل ذكر يهودي أن يعطي اهتماها ـ كما يرى الأحبار ـ بتكريس وقت أساسي لتفسير التوراة و ملأها بالمعنى الذي يمكن أن يطبقه المرء على اتجاه حياته الخاصة .
الآن ، من وجهة نظر حديثة ، ثمة ما يبدو متناقضاً في موقف الأحبار من التوراة ؛فإذا كانت التوراة هي المخطط الأولي للعالم فإها يجب أن تذكر المعرفة الموضوعية و بالتالي كيف تكون خلواً من المعنى و المغزى؟ يبدو تحذير Akiba في غير موضعه . بالتأكيد ، سيراكم الناس الذي يؤمنون بوثقة مقدسة جسداً من التفسير لهذه الوثيقة له حجيته بتحويل التأويل إلى مذهب سيبعد خطر أن يكون النص فارغاً من المعنى أو أن المؤمين قد يخطئوا المعنى المقصود للنص . و من ناحية اخرى ، إذا كانت الحقيقة في التوراة حقيقة ذاتية و يبقى معناها غير محدد إلى أن يقوم القراء البشر بانتاج هذا المعنى من أفكارهم و خبراتهم فلماذا البحث في التوراة أساساً ؟ لماذا لا يتم تشغيل هذه الطاقة في التفكير حول مشكلاتنا بصورة مباشرة بدلاً من معاناة التفكير العميق عبر لغة بائدة لجعلها ذات معنى ؟
من الواضح ـ بالنسبة للأحبار ـ أن هذا السؤال ليس هاماً ليس بسبب الإيمان الأعمى و لكن ـ ببساطة ـ لأن السؤال أخطأ مرماه " تعلمها ثم تعلمها " : فبافتراض أن كل جزئية صغيرة من التوراة لها معناها ( و بصورة محتملة العديد من المعاني ) فإن معرفتنا بما تقوله (التوراة)لا يمكن أن يستنفد أبداً كل ما يمكن أن تقوله .عادة ما يكون هنالك تفسير آخر . فلا يمكن لقراءة بمفردها أن تحل محل النص و لا يمكن أن قوم أية قراءة بذلك لأنه بمرور الزمن تقوي التغيرات في المولقف المحددة التي نوجد فيها فهمنا و إدراكنا لشئ ما في النص ربما كان مستغلقاً علينا فهمه من قبل . أما بالنسبة للسؤال لماذا التوراة فلن يجيب الأحبار عليه بالتاكيد على الحقيقة المطلقة في التوراة و لا حتى بالقول بمنفعة التوراة فلن يبرروا مطلقاً دراسة التوراة بكلمات عن غايات محددة ، فتفسير التوراة هو إبقاء على الحوار مع الرب و هذا غرض الإنسانية لكن السؤال الذي يحاول الأحبار الإجابة عليه باسلوب المدراش فهو التساؤل الذي شكل الميثاق بين الرب و البشرية : " كيف ستقدس العالم؟" فحقيقة المدراش ليست في النص و لا في القارئ و لكن في العلاقى التي يمثل كلاهما جزئيها .
علاوة على ذلك ، يملأ القراء الأحبار ـ في المدراش ـ جزءً واحداً من الخليقة جزءً مركزياً هو تصميمها الأولي (التوراة) بالمعنى فالتهرب من مهمة التفسير ،لذلك، ليست توكيداً للاستقلال الذاتي العقلاني بل قطيعة مع الإيمان و مع الشريك المقدس و كلاهما مع الآخر . فينظر الأحبار للتخلي عن النص و هجرانه باعتباره عملاً غير مسئول بصورة كاملة .
يُلحِق الأحبار بذلك ـ كما لو كانوا يؤكدون على أهمية و عدم إمكانية تعويض الفعل الإنساني بالنسبة للتوراة ، سواء كنص او كوسيط مقدس ، يُلحِقون قصة ثانية لشرح تفرد التوراة ، فحسب وصف الكتاب المقدس في سفر الخروج فقد أُعطي موسى التوراة على جبل سيناء في صورة مكتوبة ، إلا أن الأحبار أعلنوا ـ مع ذلك ـ أن موسى قد استقبل في سيناء مع التوراة المكتوبة توراة شفهية A Torah she b` al peh :" تعليمات بكلمات الفم " و قد نقل هذه التوراة إلى تابعه Joshua الذي نقلها إلى مشايخ الشعب وهكذا...إلى أن استقرت في الأحبار أنفسهم .
لم تكن التوراة قط مذهباً سرياً و لا حكراً على فئة بعينها فقد أنفق أحبار القرن الثالث و ما بعده جهودأطائلة في محاولة لنشرها بين الشعب (اليهودي) و حتى لجعلها قانوناً عاماً. يشير وجود توراة شفهية إلى أن من يقرأ الكتاب المقدس بدون شروح و تعليقات الأحبار فإنه يقرأ فقط جزءً مما تعتبره اليهودية النص بكامله و كان لذلك أثره المباشر من إحباط المسيحيين الداخلين حديثاً في الدين و يحاولون استعراض التوراة باعتبارها العهد القديم لأن سلسلة التقاليد و التراث بدأً من سيناء تظهر أن العهد بين الرب و الشعب اليهودي بقي مضمرا ًغير معلن .
و مع حسم مسألة سلطة الأحبار فإن مبدأ التوراة الشفاهية يجعل ـ بصورة متناقضة ـ تصورات الأحبار حرة في تفسير النص المكتوب بأساليب ابتكارية و خلاقة صحيح أنه على من يقوم بالمدراش Medrashist ليقول شيئاً جديداً أن يعود إلى شئ قديم ؛ فيقوم الأحبار بالتنقيب في الكتاب المقدس بكامله عن دليل نصي ليدعم قراءته و أحياناً ما يخلق ذلك ما يدعوه الأحبار "جبلاً معلقاً بشعرة " و عادة ما يكون ممكناً ـ تقريباً في كل الحالات ـ بهذا الأسلوب العثور على سند (دليل )
في الختام ، فإن قبول أو رفض و نبذ تفسير مدراشي يعتمد على كيفية استخدامه بصورة جيدة التيمات التقليدية لحل مشكلات الحاضر ، فقد أعلن الأحبار أن كل الطلاب الجادون سيستعرضون أمام أساتذتهم ما قيل لموسى في سيناء و يقولون " بإيماننا و حماسنا للتفسير يمننا بالفعل أن نتحدث باسم الرب ". (هنا) يتجاوز الوحي التفسير.
IV
يأخذ الأحبارالذين يقومون بالمدراش بمزية المنطقة التي يوفرها وجود تراث شفاهي فيستعيرون من كنز من الأساليب التفسيرية لفتح النص بشكل أوسع . فبافتراض أن التوراة مفعمة بالمعنى بصورة كاملة ، كما افترض الأحبار، فإنهم يمكن أن يسألوا عن معنى أي اضطراب في النص و يتوقعوا إجابة جادة .هل تحتوي الجملة كلمة كان يمكن أن تحذف بسهولة ؟ فيريد الأحبار القراء أن يعرفوا لِم لم تحذف ؟ هل تظهر كلمة ما في قطعتين مختلفتين من النص ؟ يمكن أن ينسجوا قصة ليظهروا حلقة وصل مختفية بينهما ، هل توجد فجوة في الحكاية التي لا يمكن شرحها بأي اسلوب آخر؟
كما قد يستفيدون من مزية اسلوب كتابة الكتاب المقدس العبري بدون تنقيط و لا علامات ترقيم ليعيدوا صياغة الكلمات و يعيدوا الربط بين الجمل كما قد يشتغلون بحساب الجمل للحروف العبرية ليجدوا إشارات و تلميحات لرسائل أخرى يمكن أن تنضاف لبعضها لتصل إلى كل مساوٍ (للنص الأصلي) . في الواقع ، يسمح الأحبار لأنفسهم ـ لكي يجدوا المعنى ـ بإعادة كتابة النص يطمئنهم الاعتقاد بأنهم يقومون بعمل الرب "لأنه ليس شيئاً فارغاً منك " : فيأخذ الضمان صفة الأمر.
مع أن المدراش بالنسبة للقارئ الخارجي ( الغريب عن هذا الأسلوب ) يقوم بشكل تحكمي فإن لا يمكن انتاج المدراش ولا يمكن أن يكون مقبولاً إلا في إطار سلسلة من القيود التي تجعله تفسيراً مشروعاً في العالم اليهودي فالمدراش ـ من البداية ـ مشروط بالنص نفسه " فلا يفقد أي نص أبداً معناه الواضح"
و برغم تأصيل الدروس التي يستخلصها المرء من أحد آيات الكتاب المقدس من خلال المدراش فإنها تبقى لها رسالتها الباشرة و الصريحة التي تتحدث عن نفسها و لا يمكن تجاوزها كما في حالة التعبيرات المجازية .
علاوة على ذلك، على كل مدراش أن يصل نفسه ـ و لو عبر سلسلة طويلة و واهنة من الأفكار ـ بآية أو عدد من الآيات من التوراة ، و لا يستطيع أن يرى أي مدراش ـ بصورة ناجحة ـ أنه قد عالج كل معاني نصه فمن الشائع ـ في الحقيقة ـ بالنسبة لمقدمي المختارات المدراشية أن يضعوا قائمة بعدد من القراءات حول آية ـ و أحياناً ما تنسب أكثر من واحدة منها لنفس المصدر ـ و تقدم كل قراءة ببساطة على أنها " تفسير آخر " . إن ما يكمن وراء ما يثيره النص و الذي يحدد حقيقة صنع المدراش و يضفي الشرعية على ناتجه هو مجموعة الاهتمامات و الشواغل التي يتشاركها الكتاب الأحبار و قرائهم خلال الفترة التلمودية فقد دعى ماكس كاديوشن Max Kadushin في دراسته "العقل الحبري" (نسبةً إلى الحبر) هذه التيمات المُنَظِمة " المفاهيم ـالقيم " القيم هنا ليست كمقابل للوقائع و لا تقويماتها بل عوضاً عن ذلك ، مجموعة من الموضوعات التي يعالجها النص و يجعل لها مغزاها لمجموعة معطاة (محددة) من القراء.
و قد وضع Max Kadushin قائمة بالمفاهيم ـ القيم الحبرية الرئيسية كعدالة الرب ، حب الرب (أو عطفه ) التوراة ، شعب إسرائيل و كثيراً ما ينكب المدراش على هذه المواضيع الأربعة أو بتعبير آخر و أفضل عندما يقوم الأحبار بمدراش فإنهم يبحثون عن مشاكل في النص يكون لها مغزاها و دلالاتها عن واحدة أو أكثر من هذه التيمات الأربعة .
تتصرف المفاهيم ـ القيم ككل مركب نظامي تجدد إلى حد كبير ما يعنيه كون المرء يهودياً خلال الفترة من القرن الثالث إلى السادس . فتعتمد كلاً من الذات و " السمة الخاصة للمجتمع " وفقاً ل Max Kadushinعلى " إنفاذ هذه الكلمات التقويمية " فقد كانت ـو لا تزال ـ جزء واسعاً من الثقافة اليهودية فبتأصيل هذه التفسيرات و توتيدها في هذه التيمات يتأكد القائمون بالمدراش من سامعيهم و من خلال بناء التعليقات على تعليقات سابقة يضمنون قبول استخلاصاتهم و نتائجهم و هو القبول الذي ما كان لأرائهم وحدها أن تحققه .
و لكن هل يعتقد الأحبار في مدراشياتهم Midrashim ؟ و هل يعتقد جمهورهم فيها ؟ يعتمد ذلك على ما نعنيه بالاعتقاد فإذا كان الاعتقاد يعني مواجهة تساؤل عما إذا كانت بعض الأحداث قد حدثت فعلاً و اختيار الإجابة بنعم أو بلا فإن اليهود لم يعتقدوا قط في المدراشيات إلا أنهم لم يكذبوها أيضاً فالسؤال الذي يتطلب الإجابة بنعم او بلا نادراً ما أهمهم ؛ يشير Kadushin إلى أن من يعملون المدراش عادة ما يسمعون و يقرون باعتراضات سليمة على قراءتهم المفضلة كما يسمعون تأييداً لهذه القراءات بشكل من الأشكال و يذكر أن " مثل هذه المثابرة توحي بالتأكيد بإيمان و اعتقاد بشكل من الأشكال و لكنه ـ تأكيداً ـ إيمان غير جازم "
إن اتجاهاً متفتحاً إزاء المدراش يتضمن بالضرورة حالة ذهنية دعاها Kadushin " الاعتقاد غير المحدد بصورة نهائية " بكلمات الفلسفة الحديثة فإن الدخول في مدراش هو وضع لمسائل الحقيقة بين قوسين (أي إرجاؤها ) لكي نبحث عن المعنى . يفكر من يعمل المدراش و قارئه بقليل من الجد ـ و أحياناً بجذل ـ في النص و لكن لأغراض جادة . فتقول القصص التي ينمونها شيئاً عن مشاكلهم الملحة و الحقيقية إذ يحصلون من خلال المدراش على فهم أعمق عن كيفية التصرف و لماذا .
إذا كان ثمة إيمان متضمن هنا فهو فهو الإيمان العميق بأن التوراة مفعمة بالمعنى و فعالية التفسير لإن تؤمن يعني أن تثق ، فيشبه عمل المدراش استكشاف علاقة المرء بشخص آخر ؛ فلن تدفع معرفة الحقائق الموضوعية عن الآخر العلاقة قدماً "فيُحَصِّل اليهود معرفة "الرب و العالم من خلال المدراش . إنهم يؤمنون بقدر ما يطبقون ما يتعلمونه في المعيشة اليومية لحياتهم الخاصة . إنهم يعتقدون ليا في مقولات و فرضيات بل في حكايات يكونون فيها هم و الرب الشخصيات الأساسية و لا تزال الحكاية مستمرة لتمضي إلى خاتمتها .
IV
من المفيد أن ننظر في مثال للمدراش حلله James Kugel النص هو بسالم 145 أحد القصائد العبرية العديدة المتساوية المقاطع و يبدأ كل سطر فيها بحرف جديد من الألفبائية ( أ،ب، ت، ث، ...) و مع ذلك لا يبدأ أي سطر منها بحرف النون Nun : فقد حذف من التتابع و طبعاً تساءلوا "لماذا؟" لقد أعطى الحبر يوحنان Yohanan تفسيراً لذلك : أن داوود David الذي يفترض أنه مؤلف بسالم يعرف ان حرف النون في عموس2:5 يبدأ جملة مروعة " لقد سقطتNafelah )) و لن تقوم ثانية ، عذراء اسرائيل" لذلك خلّف آية النون وراءه ليتجنب الإشارة إلى نبؤة السقوط هذه و ثنى الحبر ناحمان Nahman مضيفاً أن الآية التالية للمحذوفة تقدم البلسم و الترياق "لقد رفع السيد (الرب) كل الساقطين و أقام كل المعوجين "
حتى الآن ، كان ما سبق مقدمة واضحة بصورة كافية للمدراش . صحيح أن المسألة ليست بالتي يدركها أغلب القراء إلا أن من يعملون المدراش في انتظار مثل هذه التفصيلات في القريب ، و صحيح كذلك أن الإجابة التي يقدمها الحبر يوحنان تجعل ديفيد الذي عاش قبل عموس بزمن طويل بصورة ملحوظة من ذوي البصيرة بالمستقبل. فمن مأثورات الأحبار " أنه لا يوجد قبل و لابعد في التوراة "لذا يمكن أن تجيب الآية على تساؤل حول آية أخرى منبتة الصلة بها تماماً.
و من ناحية أخرى تأخذ الإضافة التي قدمها الحبر يوحنان بحقيقة تجاور (الآيات) ليثبت قراءته لآية بالآية التي تجاورها، فيبحث ـ علاوة على الآية المبني عليها ـ في رحمة الرب تجاه شعب إسرائيل و يصل بين اثنين من المفاهيم ـ القيم بطريقة تقليدية
يقدم حكماء فلسطين ـ مع ذلك ـ قراءة أكثر جرأة من تلك التي قدمها أحبار رابيلون ليس لبسالم 145 و لكن لآية عموس الإشكالية . فقسموا الآية هكذا"لقد سقطت و لن تعاود ثانية ..(السقوط) فلتعلِ! عذراء اسرائيل !"
إن ما فعله هذا المدراش هو إبطال السؤال الأصلي ( و الإجابات الأخرى على هذا السؤال )ليركز على المشكلة الحقيقية : الكارثة التي حلت بعلاقة اليهود بالرب ، فقد كان اليهود في هذا الوقت تابعين أذلاء لروما و خرب Titus المعبد سنة 70 C.E وأخذ الكثير من اليهود أرقاء و قاد Simon Bar Kokhba عصياناً مسلحاً تم إخماده سنة 135 و تحطمت توقعات أتباعه المسيحانية (أي رؤيتهم له كمسيح مخلص ) و أعدم الرومان عشرة من أحبار فلسطين و اعلنت القدس العاصمة و المدينة المقدسة ممنوعةص على اليهود و فقد البلد ككل أغلب سكانه و تشتت اليهود للمرة الثانية دون أية بوادر في الأفق لعودة وشيكة . لقد استخدمت احدى طوائف اليهود ،النصارى أو المسيحيين ، هذه المصيبة كشاهد على ان العلاقة بين الرب و الشعب اليهودي قد اتت نهايتها و كان هذا الذي أكدوه مبعث خوف الكثيرين .
يمكن ، مقابل هذه الخلفية ، اعتبار ما فعله و ما لم يفعله حكماء فلسطين في مدراشهم عن عموس 2:5 فلم يجادلوا بان كلمات عموس تنطبق فقط على النفي البابلي ( الفترة B.C.E 586 ـ 510 ) الذي كان يتحدث عنه، و لا قرأ الحكماء " و لن تعلو ثانيةً .." في معناها النسبي " ..لوقت طويل " برغم أن ذلك كان ممكناً لقد اختاروا ألا يأخذوا اسرائيل على أنها مملكة شمالية ، على أنها تتمايز عن اليهود برغم أن هذه القراءة كانت ستلطف و تخفف من وقع المصيبة ، و فوق ذلك كله ، رفضوا ، على خلاف أسلافهم النبويين أشعياء و جريميا ، أن يعتمدوا على طلاقة قدرة الرب و إمكاناته لإبطال النبؤات بالحكم بالخروج من الحب المقدس .
لقد كانت أياً من هذه الحلول تتطلب من الناس إيمانهم الكامل : ليس مجرد إيمان بصحة التفسير بل ـ و بصورة حيوية ـ الإيمان بأ رسالة (الفسير ) يجب أن تكون بالضرورة Must صحيحة و بأن الرب لن يخفي وجهه إلى الأبد و لكن بالطبع كان هذا الإيمان هو ما ينقص الناس . لقد اختار أحبار فلسطين بدلاً من ذلك حلاً يتطلب فقط إرادة إبطال عدم الإيمان أو ما دعاه Kadushin الإيمان غير المحدد بصورة نهائية و الذي يمكن تقويته أحياناً ليصبح محدداً.
لقد كان مدراشهم برغم جديته ـ في نفس الوقت ـ ساخراً بصورة قاتمة (كوميديا سوداء) و لا يحتاج أن يكون مقبولاً بل فقك أن يتكرر مرات و مرات ـ كما هو شأن النكتة ـ حتى يصبح جزءص من الثقافة المشتركة التي تضحك في مواجهة المنفى . علاوة على الهالخاه Halkhah فإن قصصاً مدراشية مثل هذه أعطت اليهود تماسكاً و ترابطاً اجتماعياً قوياً كانوا يحتاجونه للبقاء في عالم لم يعودوا يفهمون معناه
إن وظيفة المدراش من إحياء و استعادة المعنى لعالم يزخر بالفوضى هي التي يمكن أن نجدها تجددت عندما قام بتأسيس نظريته
VI
لن يخطئ امرؤ في أية كتابات لماركس عينة من نوع المدراش الأدبي ، لا يكتب ماركس عن التوراة فله دراساته و تعليقاته في الفلسفة و الاقتصاد السياسي و لغته الألمانية و ليست العبرية و لا الآرامية ، كما أنه ليس منقاداً وراء مجموعة من المفاهيم ـ القيم التي عددها Kadushen : إنه لا يهتم إلا في النادر بالرب و إسرائيل فقط كأمثلة تاريخية .
صحيح أنه كان متحمساً للعب بالكلمات .فعادة ما كان يرمي قارئه بتورية في قمة نقاشه كما في كتاب "العائلة المقدسة " من أن الحركة الهيجلية تحتاج لأن "تسبح في نهر من النار" بالألمانية "A Feuer Bach"( التورية هنا أن فوير باخ اسم فيلسوف ألماني كان ينتمي مثل ماركس لمدرسة هيجل ) هذه الطُرف جعلت كتابات ماركس مبرزة وتعلق دائماً بالذاكرة كما كانت المدراشيات اللماحة بالنسبة لنصوص الأحبار و مع ذلك لا يتعلق شئ (من كتابات ماركس ) بها فكان من الممكن أن تمضي محاججات ماركس بدونها .
إلإ أن نظرية ماركس تعني ما هو أكثر من محاججاته ، فيها فنجد في الكيفية التي عمل بها ماركس نظريته ، و نشاطه و ممارساته التنظيرية نجده يعمل ما أدعوه أمراً "مدراشياً "
في البداية ، و قبل ان يبدع ماركس نظريته فإنه يقرأ ثم تأتي كتاباته كتعليقات من هذه القراءة و يعطي ماركس في أي من كتاباته تفسيراً ـ أو قراءة ـ لأسلافه (من المفكرين ) و نصوصهم ، ضرباً خاصاً من القراءة تجعلهم يقولون أو تتهمهم بأنهم أهملوا قول شئ عن التيمات الهامة بالنسبة له ( المفاهيم ـ القيم الخاصة به ) .
يحول تفسير ماركس لهيجل و يهاجم ـ بصورة نظامية ـ نظرية الكاتب المبكرة في النقاط التي تبدو له تتعارض مع معنى " ما هو واقعي " الخاص به و يرتبط معنى الواقع هذا أشد الارتباط برؤية التراث اليهودي للعالم ، يمكن ان نرى لماذا بدأ ماركس بتصنيف هيجل مع اليونانيين . فالواقع غير المحدود ، بالنسبة لليونانيين ، غير محدود و كذا بالنسبة لهيجل أما عند ماركس فهو مادي فبرغم أن الروح و هو ما تترجمه كتبات ماركس ب"المفهوم " أما في رؤية ماركس فتتأسس كل الأشياء في علاقاتها ببعضها بعضاً .
لقد كانت ملاحظة العالم و تأمله هي أسمى النشاطات التي يمكن أن يتصورها الفكر اليوناني و كانت النظرية ـ كفلسفة الروح لهيجل ـ هي تعبيراتها أما بالنسبة لماركس فإن الكائنات الانسانية في أفضل حالاتها تناضل لتتلاءم مع العالم و تحوله من خلال الممارسة الخصبة المنتجة فكر ماركس ـ بالتبعية ـ بإضفاء الطابع الواقعي على العالم باعتباره يتضمن في ذاته منشطاً اجتماعياً أما بالنسبة لليونانيين فإن اتباع الحقيقة هو مهمة الأفراد الفلاسفة أما بالنسبة لهيجل فبرغم أن الروح تحقق نفسها في العالم فإنها تكتمل في عقل أولئك الذين يفهمون نسقه . أيضاً ، وجد ماركس المعنى في التغير التاريخي . تقوم نظرية ماركس على النقيض من الرؤية اليونانية من أن الداخلي و غير المتغير له المعنى و فكرة هيجل بان عدم تحقق العالم خطأ و التغلب عليه هو أهمية التاريخ الوحيدة ، تقوم نظرية ماركس على جدلية نوعية الحاجات الانسانية : أن أن مجموعة من الحاجات تنتج ـ بتحققها ـ مجموعة أخرى منها أكثر ثراءً . لذلك لا يستطيع ماركس أن يقدم مشروع جمهورية ( كجمهورية أفلاطون ) و لا دولة مطلقة و لا رؤية للعالم باعتباره كلاً مصنوعاً مرة واحدة و مستمراص للأبد . لا يقترب التاريخ الانساني لأي شكل مثالي و لا لأية نهائية A Telos و لا لأي هدف معلن . بدلاً من ذلك نمضي ـ وفقاً لماركس ـ في مضمار باتجاه هدف يتغير كلما اقتربنا منه و كذلك نحن ، و نعيد ضمن الظروف المادية التي ساعدت تصرفاتنا السابقة في تشكيلها و منقادين للحاجات التي أنتجناها نحن أنفسنا ـ جزئياً ـ نعيد بصورة مستمرة تعريف العالم الذي نبحث عنه و نطلبه . لقد وضع هذا المفهوم للنشاط الانساني ماركس بعيداً عن كلاً من اليونانيين و هيجل و قربه لعالم التراث اليهودي .و هكذا عمل ماكس مدراش لهيجل بمعنيين : فقد علق على جزئيات صغيرة من نص هيجل لكي يدرس شواغله الخاصة و جعلت تعليقاته النص له معناه للقراء الذين كان منظورهم استمراراً لاهتمامات التراث اليهودي
ثمة تناقض يواجهنا هنا أن ماركس نبذ اليهودية و تبنى الفلسفة و الاقتصاد السياسي كما لو كانا ـ أو يجب أن يكونا ـ التوراة .
لقد طالب بأن يكون لها معنى لقصة العالم والتاريخ و الانسانية بالمعنى الذي يقترحه احساسه اليهودي بالواقع فإذا كانت (كتابات الفلسفة و الاقتصاد السياسي ) غير ملائمة فإنه يعيد تأويلها لتكون كذلك ، هنا نجد نوعاً من أعمال التقوى عن غير وعي و نوعاً من التقديس اللاإرادي في غمرة الاشتراكية و العلمانية .
كيف يمكن أن نعلل امتزاج العوالم الذي لم يفصح ماركس عنه و لا شرحه ؟
تصف "هندلمان " في مناقشاتها للمفكرين المحدثين الذين تأثروا بالمدراش ميلاً تدعوه "التأويلات المهرطقة " فيؤكد الكتاب الذين يعملون في هذا المزاج والاسلوب هويتهم كمعاصرين و كيهود ـ بصورة متزامنة ـ دون الخضوع بصورة كاملة لأي من الهويتين . تتضمن هذه المناورة إزاحة مزدوجة أولاً : يخلف الكاتب عالم التوراة وراءه و يتحول الاهتمام ، بالنسبة لفرويد السيكولوجي علم النفس و بالنسبة لهارولد بلوم و جاك ديريدا تصبح النظرية الأدبية موضع بحث لا ينتهي و تحمل الهرطقة أو الزندقة المطالب القديمة إلى هذه المجالات الجديدة ، و تعالج الأحلام و الأعمال الدبية حسب كلمات فرويد "ككتابة مقدسة " ، بكلمات أخرى ، كتوراة . و من المتوقع منها بل وإنها مطالبة بأن تكون لها معنى حتى في أدق جزئياتها ، و يفسرهم النقاد المحدثين كما يقول من يعمل المدراش :لجعلها ذات معنى بكلمات أنه يعتقد في النص و يجب أن يتشاركه
لا يمكننا أن نرى ـ مع ماركس ـ الأساليب (التكنيكات ) الاستعارية و لكن يمكن أن نحس بقوى الجذب التي يمارسها المدراش على كتابته " لأنه ليس شيئاً خلو من المعنى للنص " . يربط ماركس نفسه بهيجل ( و من ثم بالاقتصاد السياسي و الفلسفة ) لأن تشابهاتم التجريبية بالواقع الذي يؤمن به ماركس و يناضل لجعله حاضراً في الحياة لن تدعه يتجاهلهم . لم يكن ممكناً أن يقبل ماركس بهذه الكتابات بصورة كاملة . فكان في أفضل الأحوال يلاحظها بروح الإيمان غير المحدد بصورة نهائية و كان عليه ـ بصورة محتملة ـ أن يعيد ترتيب كل شئ بما في ذلك قراءته الأولى ( لتلك الكتابات )
ما الدروس التي يمكن أن نتعلمها من تفسيرنا اكيفية قراءة ماركس لهيجل ؟ من بين العديد من الممكنات سأقترح ثلاثة (دروس):
الول يتعلق بفعل القراءة نفسه فممارسة ماركس كقارئ وناقد لهيجل تفصل بوضوح اننا عادة ما نقرأ في سياق فمن خلال الاقتراب من النص من واقع اهتمامات عدة متنوعة نحصل على رؤى ثاقبة كلها ثمينة و لها قيمتها .
على سبيل المثال ، بقراءة كتابات ماركس على هيجل لمعناها الفلسفي نسمع معاها المعتاد : نقد مادي للمثالية و لكن بقراءتها كمدراش نبدأ نولي اهتمامنا أيضاً لاصرار ماركس اليهودي على أن الحرية الانسانية تتطلب فعلاً إنسانياً يهدف لتحويل العالم و ندرك ـ أيضاً ـ نبذ ماركس لمحاولة هيجل اليونانية للعثور على الحرية في تأمل العالم كما هو موجود داخلياً .
و يوضح السياقين معاً فهماً لمشروع ماركس أفضل مما كان لدينا من قبل فلا تتغلب الثورة التي كانت في عقل ماركس على عوائق الحرية التي تضعها الرأسمالية فثورة ماركس ـ كقراءته ـ تطلب النضال و تحويل كل عائق له فعاليته للتحرر الانساني . إنه نشاط نقدي و خلاق معاً كذلك الذي يقوم به صانع المدراش لاستعادة المعنى إلى النص .
الدرس الثاني أكثر ترويعاً فقد أصبح من المستحيل بالنسبة لنا تفسير العالم كما فعل ماركس باعتباره شيئاً يمكن لتصرفاتنا ان تغيره و لسنا في حاجة لأن نكون هيجليين و لا يونانيين لنشعر بذلك يكفينا الانسحاق و الشعور بان العالم واسع جداً و خاو من المعنى و أننا هنا بالصدفة دونما سبب و لا هدف .أعتقد ان هذه هي الكيفية التي يرى بها معظمنا العالم في أغلب الوقت . فإذا كان ذلك صحيحاً فإن العمل و الشاغل الأول لأولئك الذي لا يزالون ملتزمين بتغيير العالم أن يجعلوا فكرة التغير التحويلي لأن يؤمن الناس بها ثانية .
إننا نحتاج لحدوتة تمثل الخلفية عن أفعالنا التي تصنع معنى من نضالنا و تدعنا نسمع همس العالم الذي نقوم بخلقه . لن تفعل أية قصة ذلك ، فتغيير العالم إمكانية و ضرورة ضمن تنويعات معينة في الفكر اليهودي أما في الفكر اليوناني فهذا خلط
يمكن كمنظرين أن نساعد في اكتشاف تجديد و الإخبار من جديد بالقصص التي تدعم الحركات من اجل الانعتاق و التحرر الانساني إلا أن الدرس الثالث هو أننا يجب أن نحترم كل القصص التي يعيش الناس بها و كل الهويات التي تغرسها هذه القصص سواء اكنت تساعد في صنع الثورة أو لا .لقد أخفق ماركس في إدراك ما فسرناه باعتباره البنية المؤسسة لفكره لذلك لم يستطع فهم أن أناساً آخرين يعيشون ضمن حكايات أخرى استطاعوا سماع رسالته و بقوا دون حراك و استمر يحس بالمرارة لهذا الإخفاق طيلة حياته . لسنا بحاجة لأن نعيد تجربته و لا أن نتكلم أبعد من بعضنا بعضاً ، و يبقى الأكثر أهمية أن الحرية الإنسانية الانسانية ـ بحق ـ لا تقبل التجزئة و لا نجرؤ على إقصاء أي منا و لا جزء منا بعيداً عن حريتنا. إن مدراش ماركس لهيجل يكشف عن رؤية موهمة للحرية الانسانية فلنستخدم مهارتنا كأفراد و التزامنا تجاه الانسانية لهدم كل الأوهام الخادعة المماثلة و استبدال محاولات صبورة و مثابرة و حريصة بها لفهم ما يستبقي الكائنات الانسانية رجالاً و نساءً، يهوداً و مسيحيين ، شباباً و كباراً ، بيضاً و سوداً غير أحرار
Marx’s Midrash on Hegel
تجد الفكرة بأن ماركس قام ـ ببساطة ـ بعكس النسق الهيجلي ـ لكي يقدم نظريته الخاصة تجد هذه الفكرة أصلها عند ماركس نفسه. فكما أكد في استهلال لكتاب "رأس المال " " لا يختلف منهجي الجدلي ( الديالكتيكي ) عن المنهج الهيجلي و لكنه نقيضه المباشر".
فبالنسبة لهيجل فقد حول عمليات الحياة التي يقوم بها العقل الإنساني ـ على سبيل المثال عملية التفكير التي تقع تحت مسمى الفكر ـ حولها إلى فاعل مستقل و خالق للعالم الواقعي فالعالم الواقعي مجرد شكل خارجي ظاهراتي Phenomenal للفكرة ،عندي على العكس ،لا يعدو المثالي أكثر من كونه العالم المادي كما يعكسه العقل الإنساني و يترجمه إلى أشكال من الفكر... عنده يقف الجدل (الديالكتيك) على رأسه فيجب أن ينعدل واقفاً في و ضعه الصحيح إذا كان لك أن تكتشف لب الرشادة في محارة الروحانية .
لقد أخذ كتاب القرن العشرين الذين تناولوا مسألة دين ماركس الفكري لهيجل أخذوا كلام ماركس بصورة حرفية فافترضوا أنه عكس الجدل المثالي مع الاحتفاظ بمقولاته الأساسية . في الحقيقة من السهل استيعاب أغلب نظرية ماركس عن الوجود Ontology في جدل هيجل، فقد فهم هيجل العالم ـ مختلفاً عن العديد من المفكرين في زمانه و في نفس الوقت متشابهاً مع ماركس ـ يتألف من توترات ببين قوى متضادة( أو متناقضة) فرأى أن هذه التناقضات تنتج ترتيبات جديدة للأحداث و الأفكار ففلسفة هيجل فلسفة دينامية (حركية ) فقد درست الواقع في تدفقه كما كانت فلسفة تقدمية فقد حازت ثراءها لأنها تمحص كل حقبة تاريخية تلو الأخرى و تتجه نحو تحقيق الخير النهائي فهي لذلك ـ أي فلسفة ماركس ـ زمنية و تاريخية بصورة جوهرية .
يتفق المعلقون لكل هذه الأسباب بصورة عامة على أن نظرية ماركس تبدأ كنقد مادي لمنطق هيجل المثالي ،فحيثما كان هيجل يكتب الروح كان ماركس يستبدلها بالإنسان
إذا كان من الممكن قراءة أغلب فكر ماركس عن طبيعة الواقع ، بصورة مقبولة ، باعتباره عدلاً لهيجل في وضعه الصحيح على قدميه و إذا كانت هذه القراءة تحمل معها تراثاً طويلاً و جليلاً له وزنه فما الذي يعطينا الجرأة و الوقاحة لاقتراح ( قراءة ) بديلة ؟ (السبب ) جزئياً هو الإحساس بالضجر من أن الصيغة المقبولة هذه مرتبة جداً كما أن تغير الأوضاع الذي تتطلبه أسلس من أن يصف الأسلوب الذي يقرأ به مفكر مفكراً آخر ناهيك عن الأسلوب الخاص الذي قرأ ماركس به هيجل ، و لكن لدينا سببين محددين إضافيين : أن الصيغة المقبولة لا تتضمن كل ما قاله ماركس عن كيفية قراءته لهيجل كما أنها تضللنا عما حدث كنتيجة لقراءته .
فعندما يشرح ماركس لماذا كان عليه أن يتجاوز أستاذه فإنه ينتقد النزعة الروحانية لدى الأخير كما رأينا ، و لكنه أيضاً شجب نظرية هيجل عن الوجود Ontology لأنها "يونانية"Greek : فهي تستبعد أوجهاً أساسية للحياة الإنسانية ـ و من ثَم تستبعد أشخاصاً معينين في المجتمع ـ من المشاركة الكاملة في الحرية الإنسانية .
ينظر ماركس ـ على خلاف معاصريه ـ لدولة المدينة Polis كمحاولة لتحقيق الحرية باءت بالفشل و أنحى باللائمة على إخفاقها على نزعة ثقافية في الفلسفة اليونانية ، الاعتقاد بأن الفكر يمكن أن يدرك ذاته بمعزل عن الحياة .بصورة أكثر تحديداً ، أنكر ماركس أن أي مفكر يمكن أن يكتشف الحقيقة عن الطبيعة الإنسانية من خلال التأمل و التفكير المجرد خارج علاقاته الاجتماعية بالبشر الآخرين. فاتهم ماركس في أطروحته إبيقور و ديمقرطيس و سقراط بمثل هذا التفكير غير العلائقي Nonrelational
إن الفلسفة التي تبدأ بالتجريد تنتهي إليه أيضاً. فاتهم ماركس الفلاسفة اليونانيين بتصور العالم على أنه أفكارهم الخاصة مكتوبة بشكل موسع (يعني الكاتب أن العالم هو الكتاب المفتوح الذي تتجسد فيه أفكارهم ) فالعالم الخارجي الذي يواجهونه " هو مجرد هذه الطبيعة المجردة مجرد طبيعة ككيان فكري و لكن الآن بدلالة أنه كيان آخر من الفكر " و هكذا فإن عالم الفلاسفة اليونانيين هو رؤية من موقعهم الخاص لا يمكن إقرارها و ليست الواقع الكلي كما كانوا يتصورون فهو يعكس جزءً ضئيلاً فقط من الحياة الإنسانية و بسبب جزئيته لا يمكن أن يحرر الفكر اليوناني الإنسان بكامله بل عقله فقط كما لا يمكنه تحرير الأنواع الإنسانية بل الفلاسفة فقط.
لقد كتب ماركس سنة 1840 أن علاج عجز الفكر اليوناني هو المنهج الديالكتيكي على مثال هيجل و تكريس النسق الهيجلي نفسه للبحث عن المثال في الواقع نفسه فيعد النسق الهيجلي بتجنب التقوقع الداخلي على ذاته و هو ما أدان فكر ماركس الفلسفة اليونانية به .
بدأ ماركس ـ مع ذلك ـ بعدها بعامين في قراءة هيجل أكثر فأكثر بوصفه يونانياً و حيثما كان ماركس يحتفي بهيجل كفيلسوف " الكل الكامل" فإنه أعاد قراءته بصورة متزايدة كفيلسوف جزئي آخر فقد صعّد هيجل الدولة السياسية ـ أحد أجزاء المجتمع ـ لتصبح جوهر المجتمع فنبذ المجتمع المدني مجال الحاجات العملية باعتباره مجرد لحظة في الطريق إلى التوفيق بين كل الحاجات الإنسانية في الدولة فكانت النتيجة ـ وفقاً لرأي ماركس ـ أن هيجل و كل أتباعه حتى اليساريين مثل Bruno Bauer تجاهلوا حالة أي فرد لا تجعله الدولة حراً : اليهود في الدولة المسيحية ، العمال في ظل الرأسمالية فهم يقدمون تحريراً فقط على مستوى النظرية مجرد القدرة على رؤية المرء لنفسه كحر و ليس الحرية نفسها.
تجعل رؤية الكل التي نسبها ماركس عن حق أو عن غير حق لهيجل ـ تجعل الوصول للحقيقة ( و الحرية بالتبعية ) ممكناً فقط من منطلق فلسفي سواء من الفلاسفة أو الذين يتبنون نظرة مشابهة بعين الرب God’s-eye view للكون ، و هذا عند ماركس فهم مشوه لتحرير الإنسان و انعتاقه
تبدأ نظرية ماركس عن كيف نصبح أحراراً من منظور مختلف دعاه " نفي ( Aufhebung ) اليهودية "و يعني ماركس باليهودية هنا المجتمع المدني ، المجال الاقتصادي ، حيث تحكم النقود و تسيطر الحاجات العملية على الساحة و تصبح الحرية قريبة المنال فقط عندما نعمل على تلبية الحاجات و نتجاوزها.
لقد حاججت في غير هذا الموضع بأنه لا المصادفة و لا التحيز وحدهما هما اللذان أديا بماركس لأن يتطابق مع المنظور اليهودي فقد كان لماركس انحيازاته في الصراع بين الفكر اليوناني و اليهودي ، هذا الصراع القديم قدم أوجستين الجديد جدة جاك ديريدا . فرؤية ماركس عن الوجود Ontology ، التي تشبه معنى الواقع الذي نجده في الكتاب المقدس العبراني ، تضع البشر في حوار مع قوى أكثر اتساعاً من أنفسنا عن كيفية إعادة تشكيل العالم من خلال الفعل التاريخي. يجري هذا الحوار ـ في نظرية ماركس ـ في و من خلال الحاجة الإنسانية ، و هكذا فان الحرمان من الحاجات التي يشعر بها بعضنا فقط ـ بسبب الظروف غير المتساوية ـ هو كبت لتطور الأنواع .
إذاً نلاحظ بقراءة ماركس أنه يهاجم هيجل على جبهتين : لاختياره الروح و ليس الإنسانية كبطل لقصته و لرغبته في إقصاء مجمل الطبقات و أوجه الحياة الإنسانية من مثال الحرية عنده. إن قلب هيجل ـ في أفضل الأحوال ـ سيكون إجابة فقط على أولى المهمتين و يدع الأخرى دون رد .
الآن ، ليست هذه نقاطاً تافهة بل إنها تضرب في عمق نظرية هيجل كما فسرها ماركس . هل يحتمل أن ماركس لم يفكر قط في هذه النقاط قبل أن يقرأ هيجل و أن النقاط الأساسية لنظريته الخاصة طرأت له فقط " كنقيض مباشر " ل "فلسفة الحق" ما الذي كان ماركس يعنيه بأنه "رد هيجل إلى وضعه الصحيح واقفاً مرة أخرى ؟" و ماذا حدث عندما فعل ذلك؟
II
يجب لكي نجيب على هذه الأسئلة أن نصغي عن قرب لما تقوله هذه العبارة البارزة عن هيجل ، فيجب للحديث عن الديالكتيك الواقف على رأسه استخدام مجاز عكس أو قلب و تبادل المكان فمثله مثل الساعة الرملية التي يتساقط فيها الرمل إلى قعرها فإن الديالكتيك كما هو موجود عند هيجل يمكن أن يُعدل ، و بذلك فان ما كان ساكناً مستقراً يمكن أن يأخذ في الحركة مرة ثانية ، و لكن مع عدل الساعة لن تتغير البنية ولا المحتوى ؛ فجانبي الساعة متطابقا الشكل لذا إذا قرأنا "يقف على رأسه " (أي الديالكتيك) كاستعارةة لغوية بسيطة فسنتوقع أن الإله سيحل مكان الإنسان والانسان محل الإله في نظرية ماركس و أن كل العلاقات ستبقى هي نفسها برغم أن التدفق إلى القطب المقابل بعد أن كان يأتي منه.
لم يحدث ذلك عندما قرأ ماركس هيجل و يصعب ـ حقيقةً ـ تصور كيفية ذلك . تجسد الكائنات الانسانية ـ في ديالكتيك هيجل ـ بمحدوديتها و عرضتها للفناء لحظة ضرورية في العملية التي تصبح بها الروح واقعاً في العالم و على الرغم من أن هذه العملية تمتد أبعد من نطاقها فإن البشر يكونون بين ذراتها و عناصرها المكونة : فلا يستطيعون أن يغادروها خارجاً .
الأمور مختلفة تماماً عند ماركس ؛ فعلى خلاف وضع الإنسانية في جدل الروح فإن الإله ليس أساسياً لنمو و تطور الأنواع الانسانية بل بالأحرى الإله ( أو الإيمان بالإله ) عائق لهذا التطور فالتحرر و الانعتاق الانساني لا يدمج الدين فيه بل ـ بدلاً من ذلك ـ يلغيه و يبطله و نفس الأمر بالنسبة للدولة ، و هكذا تم الاستغناء عن مؤسسة نظر إليها هيجل باعتبارها حيوية لتحقيق الروح المطلق و حتى الثقافة و الوعي ـ الساكنين الآخرين في عالم الروح ـ لهما حياة جزئية مبهمة في كتابات ماركس التي أتت نقداً لهيجل . لقد كان الأمر كما لو أن إخضاع هيجل الانسانية للفكرة ضايق ماركس أشد الضيق حتى أنه لم يستطع أن يضع بؤرة تركيزه طويلاً على أي فكرة أخرى لدى هيجل
إذا أردنا أن نفهم لماذا نزع ماركس الروح من الجدل (الديالكتيك) و لم يعكس موضعه فقط بداخله فإننا سنأخذ في الاعتبار اطروحة هيجل ذات الأهمية الحاسمة التي وصفها تايلور :
إن الكون عدة مستويات لأنه تجلي لضرورة داخلية على الواقع الخارجي .إن الغايات اللامتناهية تتحقق بغايات متناهية. و هذا ما يوضح لماذا يمكننا أن نرى غاية العقل باعتبارها عادة ما تتحقق و واجبة التحقق معاً فخبرة الأفراد المحدودة هي أن مشروع العقل لا يزال قيد الإنجاز فهم يناضلون باتجاهه ، و لكن إذا ارتفعنا لرؤية “ الكل ” فيمكننا رؤية هذا النضال جزءً من المشروع و أنه ك “كل” قد تحقق بالفعل فمظهر عدم التحقق خطأ و خداع و لكن هذا الخداع نفسه جلبه الفكر فيجب أن نتغلب بأنفسنا على هذ الخطأ .
هذه نتيجة مريحة. و لكن كان على هيجل ليصل إليها أن يقوم بافتراضين أوليين، أولاً: أن ثمة رؤية "للكل" أي منظور سائد يصبح منه للواقع "الخارجي" معنى
ثانياً : أننا يمكننا معرفة أن هذا المنظور هو المنظور الصحيح فالمنظور الأرضي الذي يرى العالم باعتباره لا يزال مفتتاً و غير كامل خطأو خداع . لقد طمح هيجل إلى ـ في وضعه رؤية مؤكدة و صحيحة معاًـ إلى ما أسميناه في في الصفحات السابقة نظرة للكون بعين الرب . عندما نزع ماركس الإله من الديالكتيك فإنه بذلك يكون قد نبذ ـ في نفس الوقت ـ الرؤية بعين الرب و ما شابهها “ فخبرة الأشخاص المتناهين و المحدودين هي كل ما لدينا لننطلق به فإنكار محدوديتنا و تعرضنا للفناء يقودنا إلى نسج عوالم واهية من خيوط العنكبوت من نتاج رؤوسنا و هو ما اتهم به ماركس الفلاسفة اليونانيين ، و من ناحية أخرى ، فإن إنكار أننا أشخاص بالجمع ( و ليس أفراداً لروح عالمية ) سيفتح الباب لبعض طبقات الناس لتدعي لنفسها الكلية و الشمول متجاهلة الخبرة و احتياجات الآخرين لذا كان للحركة التنظيرية التي أقصت الإله من الديالكتيك منذ البداية مضمونها السياسي فالإله ليس موجوداّ ـ و بقى ماركس مصراً على إنكاره ـ ليتم دحض أية ادعاءات لبشر معين بتلك التي للإله.
سنبدأ ـ من الآن ـ تقصي نمطاً انحرف فيه ماركس عن مقاييس هيجل . و قام ماركس بنفس التحول عن Bauer في كتاب " في المسألة اليهودية" بنفيه أن يكون التحرر و الانعتاق السياسي من الدين و الملكية وهكذا ... تحرراً حقيقياً ،و أظهر ماركس نفس الميل عندما نبذ ادعاءات الدولة السياسية "الدولة المسيحية الكاملة" بأنها توحد و تحررالمجتمع و كذلك عندما خلف دولة المدينة Polis وراءه وهجرها كنموذج يدعي موافقته لمتطلبات الحياة الانسانية و الفكر الانساني.
عاد ماركس في "رأس المال" ليمد كقولاته في نفس الاتجاه، أولاً أعاد بناء المفهوم الشائع عن التبادل الحر في السوق و كشف عما يخلفه غياب هذا المفهوم : العامل في المصنع ثم استعاد حقارات استغلال العمالة إلى الصورة فبدت حرية السوق فجأة في توصيفه المتسم بالمفارقة بدت كروحانية و غير واقعية وغير ملائمة شأنها شأن الروح المطلق ،كما عالجها ماركس أيضاً باعتبارها خطلاً .
يبدو ماركس بصورة أساسية غير قادر على القيام بما يعتقد أن هيجل كان يود أن يقوم ماركس به : الترقي لرؤية "الكل" التي يمكن انجازها بجعل بعض الأجزاء ـ اليهود العمال ـ عملية العمل ـ غير منظورة .
يمكن أن نقر بهذا التوجه باعتباره منسجماً مع رؤية ماركس عن الوجود و التي فهمناها باعتبارها تشترك في حركيتها (دينامياتها) الأساسية مع الفكر اليهودي التقليدي .إن قراءة ماركس جنب إلى جنب مع هيجل تشبه مقارنة العبرية باليونانية ،على الأقل ، إذا قرأنا هيجل بالطريقة التي قرأه ماركس بها.
إلا أن ذلك يعيدنا للسؤال السابق كيف قام ماركس بقراءة هيجل؟ فقد قام ماركس ليصل إلى استنتاجاته و استخلاصاته بأداء بعض العمليات على كتابات هيجل، و إذا كان ماركس قد و صل إلى خلاصات يهودية فإن ذلك لابد و أن يجعلنا أكثر تشوقاً لمعرفة كيف وصل إلى هذه الخلاصات من حيث بدأ. و إذا لم يكن ماركس قد أوقف هيجل على قدميه فماذا فعل به إذاً؟ و أين أدخل الفكر اليهودي إليه ؟
يمكننا بسهولة سرد ما لم يفعله ماركس ، فلم يقل ماركس أن هيجل كان على خطأ بصورة كاملة ، كما لم يقل أنه يوناني بصورة قوية و يجب أن نستغني عنه و لا أن هيجل كان في الأغلب على حق و أنه يحتاج فقط لبعض التصحيحات في نقاط معينة .في الحقيقة كلما قرأنا كتابات ماركس عن هيجل كلم صعب تلخيص استجابة ماركس و رد فعله على كتابات هيجل في أية صيغة مبسطة.
يبدو ماركس بالأحرى يستجيب لجزئيات صغيرة مما كتبه هيجل فيجد الفرصة للتعبير عن تيماته المتكررة في سياق تعليقه على هيجل ، فكان ماركس في الأحيان التي كان تحليل هيجل يقود إلى خلاصات يونانية كان يتناول المسألة من جانبه كما لو كان واضحاً أن عليه التزاماً بتجنب هذه النتائج فقد " صحح " نظرية هيجل باتباعها في إطار قيود معينة ،تأتي هذه القيود من رؤية ماركس الحوارية للعالم واصراره اليهودي على ضرورة فعالية الواقع .
أين اكتشف ماركس هذا الإجراء الغريب ؟ لا يحتمل أن نعرف ذلك ـ بصورة مؤكدة ـ على الإطلاق بكلمات سيرته الذاتية الواقعية ، أما في الحاضر فيمكن أن نبلي بلاء حسناً كمطالعين في استكشاف الصلات بين طريقة ماركس في الواصل مع النصوص و نمط التأويلات اليهودي المعروف بالمدراش (التفسير اليهودي التقليدي للتوراة )
III
يعني المدراش نمط التفسير النصي المبدع و الخلاق الذي طوره أحبار فلسطين و بابل في الفترة ما بين القرنين الثالث و السادس أو على الأقل هذا أحد معانيه تعتمد كلمة المدراش ـ شأنها شأن التوراة ـ على السياق الذي ترد فيه فيمكن أن يعني الدراش تفسير آية أو بعض آية باستخدام الناهج المدراشية كما يمكن أن تشير إلى نتاج مثل هذا التفسير سواء أكان شرحاً من جملة واحدة أو سلسلسة بدائل متعددة من القراءات لنفس الجزئيو من النص و يتضمن المدراش أيضاً مقتطفات من هذه الشروح المدراشية MIDRASHIM القصيرة على امتداد كتاب كامل فمثلاً Bereishit Rabbahتعطينا كل الشروح المدراشية MIDRASHIMعن كتاب Bereishit Rabbah أو كتاب The book of Genesis
علاوة على ذلك ،عندما يتحدث شخص عن المدراش فعادة ما يعني هذا الجسد من الكتب المدراشية و القصص التي تحتويها ، و إن كان من الخطأ الشائع الإشارة إلى أية قصة شعبية فلكلورية باعتبارها مدراشاً ، و يركز بعض نقاد الأدب المعاصرين على السمة المميزة للمدارش كنص مكتوب عن نص آخر دون سواها من السمات ، فيستخدمون المصطلح ليشيروا إلى بنية قطعة مكتوبة كتعليق على عمل ( نص ) مؤلف سابق أو إعادة توظيف النص بصورة خلاقة لهدف مغاير، كما يستعملون اصطلاح المدراش ليشيروا إلى طبيعة كافة الكتابات باعتبارها لها إلماعاتها و و إشاراتها الخفية و تحمل دلالات لفترات زمنية تالية متأخرة عن كتابتها و ليشيروا إلى تشجيعهم تفكيك هذه الكتابات .
إن ما يربط هذه المجموعة من الاستخدامات هو نشاط القيام بعمل مدراش ، فيدل الجذر العبري للكلمة DRASH على أن المدراش يدور حول السؤال ، البحث عن ،الطلب، ما يتطلب الاستجابة ، البحث بعمق (في موضوع أو مسألة ما ) فعندما يقوم القارئ بمدراش على نص ما فإنه يريد أن يعرف أكثر مما تقوله الكلمة أو الجملة أو ما قصد المؤلف أن يقوله فيذهب أيضاً ما وراء الظروف التاريخية لإنتاج النص و الفن الأدبي الذي ينتج به النص الأدبي آثاره هذه النقاط ،ا لظروف التاريخية و الفن الأدبي تهم القائم بالمدراش Medrashist إلا أنها غير كافية و لا مُرضية وحدها ؛ إذ يريد القارئ الذي يقوم بالمدراش أن يكتشف كيف يمكن أن يساعده النص في مواجهة مشاكل الحياة اليومية :معضلته الشخصية و مشاكل كونه يهودياً هنا و الآن ، فيبحث من يعمل المدراش في النص عن مرشد ليعاود الدخول مع الرب ، فبمعاناة النص المقدس يكون القارئ قد بدأ بالفعل في الانضمام لهذه العلاقة و هكذ يصبح المدراش ليس اتصالاً فقط عن الفعل بل فعلاً في ذاته أي جهد لإعادة الالتزام ( الإلتزام بالمعنى الديني).
نحتاج لفهم المدراش و ما يفعله من يقوم بالمدراش أن نأخذ في الاعتبار الوضع الفريد للتوراة في التراث اليهودي ، فتولد التوراة التيمات الفكرية الحيوية في الثقافة اليهودية ، و بداخل هذه الثقافة تفهم دراسة التوراة على أنها محاولة لاكتشاف ما يريد الرب أن نفعله ، لكي تتم الاستجابة لها .فالتوراة ليست مجرد الميثاق المكتوب للمشاركة اليهودية مع الرب بل موضع و لحظة حوار.
إن كتاباً يلعب مثل هذا الدور الفعال في الأمور ذات الدلالة الكونية ليس مجرد كتاب ، فقد سجل الأحبار في مدراش الآية الأولى من Genesis مركزاً جديداً للتوراة : إنها الصورة الأولية للخليقة .
لقد استقر العرف على أنه عندما يبني الانسان قصراً فإنه لا يبنيه وفق معرفته و حكمته ،بل وفق معرفة المهني و لا يبني المهني وفق معرفته و حكمته بل لديه التصميمات و القياسات التي يعرف منها كيف يعمل الغرف و الممرات فقام الخالق المقدس المبارك بنفس الشئ ، فقد نظر في التوراة و خلق العالم.
هنا نجد التوراة تتقدم التاريخ حتى التاريخ الأسطوري ،كالوحي في سيناء، فيتصورها الأحبار موجودة قبل الخليقة نفسها "مكتوبة بحروف من السوداء على خلفية من النار الحمراء " فالكون مخلوق طبقاً لتصميم مبدئي يمكن أن نكتشفه في التوراة فيقول الأحبار الذين جعلوا من المدراش فناً ( علماً ) من الفنون إذا أردت أن تعرف أي شئ عن العالم ابحث في التوراة ،تعلمها ثم تعلمها لأن كل شئ فيها و حتى ـ بل و بصورة خاصة ـ إذا كان ما تود معرفته غير مذكور بصراحة في صفحات النص المقدس فإن استشارة القديرين و المتمكنين من المدراش سيضاعف من مهارتك و إبداعك و ستجد ـ كما يؤكدون ـ بين السطور إجابة تقودك و لا تضللك .
فحتى يكون النص ملائماً بصورة كاملة يجب ان يكون مفعماً بالمعاني أيضاً فيدعوا الأحبار التوراة "محيطاً من المعاني" يمكنهم أن يخوضوا غماره المرة تلو الأخرى دون أن يقربوا من أعماقه و يفترضون بصورة مطلقة ،في نفس الوقت ، أن كل تفاصيل النص و ليس مقولاته فقط بل ترتيب الجمل و حذف و تكرار الحروف و حساب الجمل للحروف العبرية و أشكالها و حتى زخارف الخط التقليدي بالغة الدقة كلها تحمل رسائل مهمة للقارئ "فلا شئ بالصدفة" هو شعارهم الذي يرفعونه فقد اقتبس الحبر Akiba الأية من الكتاب المقدس " أما التوراة فليست خاوية لك : إنها حياتك " و علق عليها بقوله " إذا كانت فارغة (من الدلالة ) فهذه مسئوليتك لأنك لم تعرف كيف تفسرها ". فمن واجب كل ذكر يهودي أن يعطي اهتماها ـ كما يرى الأحبار ـ بتكريس وقت أساسي لتفسير التوراة و ملأها بالمعنى الذي يمكن أن يطبقه المرء على اتجاه حياته الخاصة .
الآن ، من وجهة نظر حديثة ، ثمة ما يبدو متناقضاً في موقف الأحبار من التوراة ؛فإذا كانت التوراة هي المخطط الأولي للعالم فإها يجب أن تذكر المعرفة الموضوعية و بالتالي كيف تكون خلواً من المعنى و المغزى؟ يبدو تحذير Akiba في غير موضعه . بالتأكيد ، سيراكم الناس الذي يؤمنون بوثقة مقدسة جسداً من التفسير لهذه الوثيقة له حجيته بتحويل التأويل إلى مذهب سيبعد خطر أن يكون النص فارغاً من المعنى أو أن المؤمين قد يخطئوا المعنى المقصود للنص . و من ناحية اخرى ، إذا كانت الحقيقة في التوراة حقيقة ذاتية و يبقى معناها غير محدد إلى أن يقوم القراء البشر بانتاج هذا المعنى من أفكارهم و خبراتهم فلماذا البحث في التوراة أساساً ؟ لماذا لا يتم تشغيل هذه الطاقة في التفكير حول مشكلاتنا بصورة مباشرة بدلاً من معاناة التفكير العميق عبر لغة بائدة لجعلها ذات معنى ؟
من الواضح ـ بالنسبة للأحبار ـ أن هذا السؤال ليس هاماً ليس بسبب الإيمان الأعمى و لكن ـ ببساطة ـ لأن السؤال أخطأ مرماه " تعلمها ثم تعلمها " : فبافتراض أن كل جزئية صغيرة من التوراة لها معناها ( و بصورة محتملة العديد من المعاني ) فإن معرفتنا بما تقوله (التوراة)لا يمكن أن يستنفد أبداً كل ما يمكن أن تقوله .عادة ما يكون هنالك تفسير آخر . فلا يمكن لقراءة بمفردها أن تحل محل النص و لا يمكن أن قوم أية قراءة بذلك لأنه بمرور الزمن تقوي التغيرات في المولقف المحددة التي نوجد فيها فهمنا و إدراكنا لشئ ما في النص ربما كان مستغلقاً علينا فهمه من قبل . أما بالنسبة للسؤال لماذا التوراة فلن يجيب الأحبار عليه بالتاكيد على الحقيقة المطلقة في التوراة و لا حتى بالقول بمنفعة التوراة فلن يبرروا مطلقاً دراسة التوراة بكلمات عن غايات محددة ، فتفسير التوراة هو إبقاء على الحوار مع الرب و هذا غرض الإنسانية لكن السؤال الذي يحاول الأحبار الإجابة عليه باسلوب المدراش فهو التساؤل الذي شكل الميثاق بين الرب و البشرية : " كيف ستقدس العالم؟" فحقيقة المدراش ليست في النص و لا في القارئ و لكن في العلاقى التي يمثل كلاهما جزئيها .
علاوة على ذلك ، يملأ القراء الأحبار ـ في المدراش ـ جزءً واحداً من الخليقة جزءً مركزياً هو تصميمها الأولي (التوراة) بالمعنى فالتهرب من مهمة التفسير ،لذلك، ليست توكيداً للاستقلال الذاتي العقلاني بل قطيعة مع الإيمان و مع الشريك المقدس و كلاهما مع الآخر . فينظر الأحبار للتخلي عن النص و هجرانه باعتباره عملاً غير مسئول بصورة كاملة .
يُلحِق الأحبار بذلك ـ كما لو كانوا يؤكدون على أهمية و عدم إمكانية تعويض الفعل الإنساني بالنسبة للتوراة ، سواء كنص او كوسيط مقدس ، يُلحِقون قصة ثانية لشرح تفرد التوراة ، فحسب وصف الكتاب المقدس في سفر الخروج فقد أُعطي موسى التوراة على جبل سيناء في صورة مكتوبة ، إلا أن الأحبار أعلنوا ـ مع ذلك ـ أن موسى قد استقبل في سيناء مع التوراة المكتوبة توراة شفهية A Torah she b` al peh :" تعليمات بكلمات الفم " و قد نقل هذه التوراة إلى تابعه Joshua الذي نقلها إلى مشايخ الشعب وهكذا...إلى أن استقرت في الأحبار أنفسهم .
لم تكن التوراة قط مذهباً سرياً و لا حكراً على فئة بعينها فقد أنفق أحبار القرن الثالث و ما بعده جهودأطائلة في محاولة لنشرها بين الشعب (اليهودي) و حتى لجعلها قانوناً عاماً. يشير وجود توراة شفهية إلى أن من يقرأ الكتاب المقدس بدون شروح و تعليقات الأحبار فإنه يقرأ فقط جزءً مما تعتبره اليهودية النص بكامله و كان لذلك أثره المباشر من إحباط المسيحيين الداخلين حديثاً في الدين و يحاولون استعراض التوراة باعتبارها العهد القديم لأن سلسلة التقاليد و التراث بدأً من سيناء تظهر أن العهد بين الرب و الشعب اليهودي بقي مضمرا ًغير معلن .
و مع حسم مسألة سلطة الأحبار فإن مبدأ التوراة الشفاهية يجعل ـ بصورة متناقضة ـ تصورات الأحبار حرة في تفسير النص المكتوب بأساليب ابتكارية و خلاقة صحيح أنه على من يقوم بالمدراش Medrashist ليقول شيئاً جديداً أن يعود إلى شئ قديم ؛ فيقوم الأحبار بالتنقيب في الكتاب المقدس بكامله عن دليل نصي ليدعم قراءته و أحياناً ما يخلق ذلك ما يدعوه الأحبار "جبلاً معلقاً بشعرة " و عادة ما يكون ممكناً ـ تقريباً في كل الحالات ـ بهذا الأسلوب العثور على سند (دليل )
في الختام ، فإن قبول أو رفض و نبذ تفسير مدراشي يعتمد على كيفية استخدامه بصورة جيدة التيمات التقليدية لحل مشكلات الحاضر ، فقد أعلن الأحبار أن كل الطلاب الجادون سيستعرضون أمام أساتذتهم ما قيل لموسى في سيناء و يقولون " بإيماننا و حماسنا للتفسير يمننا بالفعل أن نتحدث باسم الرب ". (هنا) يتجاوز الوحي التفسير.
IV
يأخذ الأحبارالذين يقومون بالمدراش بمزية المنطقة التي يوفرها وجود تراث شفاهي فيستعيرون من كنز من الأساليب التفسيرية لفتح النص بشكل أوسع . فبافتراض أن التوراة مفعمة بالمعنى بصورة كاملة ، كما افترض الأحبار، فإنهم يمكن أن يسألوا عن معنى أي اضطراب في النص و يتوقعوا إجابة جادة .هل تحتوي الجملة كلمة كان يمكن أن تحذف بسهولة ؟ فيريد الأحبار القراء أن يعرفوا لِم لم تحذف ؟ هل تظهر كلمة ما في قطعتين مختلفتين من النص ؟ يمكن أن ينسجوا قصة ليظهروا حلقة وصل مختفية بينهما ، هل توجد فجوة في الحكاية التي لا يمكن شرحها بأي اسلوب آخر؟
كما قد يستفيدون من مزية اسلوب كتابة الكتاب المقدس العبري بدون تنقيط و لا علامات ترقيم ليعيدوا صياغة الكلمات و يعيدوا الربط بين الجمل كما قد يشتغلون بحساب الجمل للحروف العبرية ليجدوا إشارات و تلميحات لرسائل أخرى يمكن أن تنضاف لبعضها لتصل إلى كل مساوٍ (للنص الأصلي) . في الواقع ، يسمح الأحبار لأنفسهم ـ لكي يجدوا المعنى ـ بإعادة كتابة النص يطمئنهم الاعتقاد بأنهم يقومون بعمل الرب "لأنه ليس شيئاً فارغاً منك " : فيأخذ الضمان صفة الأمر.
مع أن المدراش بالنسبة للقارئ الخارجي ( الغريب عن هذا الأسلوب ) يقوم بشكل تحكمي فإن لا يمكن انتاج المدراش ولا يمكن أن يكون مقبولاً إلا في إطار سلسلة من القيود التي تجعله تفسيراً مشروعاً في العالم اليهودي فالمدراش ـ من البداية ـ مشروط بالنص نفسه " فلا يفقد أي نص أبداً معناه الواضح"
و برغم تأصيل الدروس التي يستخلصها المرء من أحد آيات الكتاب المقدس من خلال المدراش فإنها تبقى لها رسالتها الباشرة و الصريحة التي تتحدث عن نفسها و لا يمكن تجاوزها كما في حالة التعبيرات المجازية .
علاوة على ذلك، على كل مدراش أن يصل نفسه ـ و لو عبر سلسلة طويلة و واهنة من الأفكار ـ بآية أو عدد من الآيات من التوراة ، و لا يستطيع أن يرى أي مدراش ـ بصورة ناجحة ـ أنه قد عالج كل معاني نصه فمن الشائع ـ في الحقيقة ـ بالنسبة لمقدمي المختارات المدراشية أن يضعوا قائمة بعدد من القراءات حول آية ـ و أحياناً ما تنسب أكثر من واحدة منها لنفس المصدر ـ و تقدم كل قراءة ببساطة على أنها " تفسير آخر " . إن ما يكمن وراء ما يثيره النص و الذي يحدد حقيقة صنع المدراش و يضفي الشرعية على ناتجه هو مجموعة الاهتمامات و الشواغل التي يتشاركها الكتاب الأحبار و قرائهم خلال الفترة التلمودية فقد دعى ماكس كاديوشن Max Kadushin في دراسته "العقل الحبري" (نسبةً إلى الحبر) هذه التيمات المُنَظِمة " المفاهيم ـالقيم " القيم هنا ليست كمقابل للوقائع و لا تقويماتها بل عوضاً عن ذلك ، مجموعة من الموضوعات التي يعالجها النص و يجعل لها مغزاها لمجموعة معطاة (محددة) من القراء.
و قد وضع Max Kadushin قائمة بالمفاهيم ـ القيم الحبرية الرئيسية كعدالة الرب ، حب الرب (أو عطفه ) التوراة ، شعب إسرائيل و كثيراً ما ينكب المدراش على هذه المواضيع الأربعة أو بتعبير آخر و أفضل عندما يقوم الأحبار بمدراش فإنهم يبحثون عن مشاكل في النص يكون لها مغزاها و دلالاتها عن واحدة أو أكثر من هذه التيمات الأربعة .
تتصرف المفاهيم ـ القيم ككل مركب نظامي تجدد إلى حد كبير ما يعنيه كون المرء يهودياً خلال الفترة من القرن الثالث إلى السادس . فتعتمد كلاً من الذات و " السمة الخاصة للمجتمع " وفقاً ل Max Kadushinعلى " إنفاذ هذه الكلمات التقويمية " فقد كانت ـو لا تزال ـ جزء واسعاً من الثقافة اليهودية فبتأصيل هذه التفسيرات و توتيدها في هذه التيمات يتأكد القائمون بالمدراش من سامعيهم و من خلال بناء التعليقات على تعليقات سابقة يضمنون قبول استخلاصاتهم و نتائجهم و هو القبول الذي ما كان لأرائهم وحدها أن تحققه .
و لكن هل يعتقد الأحبار في مدراشياتهم Midrashim ؟ و هل يعتقد جمهورهم فيها ؟ يعتمد ذلك على ما نعنيه بالاعتقاد فإذا كان الاعتقاد يعني مواجهة تساؤل عما إذا كانت بعض الأحداث قد حدثت فعلاً و اختيار الإجابة بنعم أو بلا فإن اليهود لم يعتقدوا قط في المدراشيات إلا أنهم لم يكذبوها أيضاً فالسؤال الذي يتطلب الإجابة بنعم او بلا نادراً ما أهمهم ؛ يشير Kadushin إلى أن من يعملون المدراش عادة ما يسمعون و يقرون باعتراضات سليمة على قراءتهم المفضلة كما يسمعون تأييداً لهذه القراءات بشكل من الأشكال و يذكر أن " مثل هذه المثابرة توحي بالتأكيد بإيمان و اعتقاد بشكل من الأشكال و لكنه ـ تأكيداً ـ إيمان غير جازم "
إن اتجاهاً متفتحاً إزاء المدراش يتضمن بالضرورة حالة ذهنية دعاها Kadushin " الاعتقاد غير المحدد بصورة نهائية " بكلمات الفلسفة الحديثة فإن الدخول في مدراش هو وضع لمسائل الحقيقة بين قوسين (أي إرجاؤها ) لكي نبحث عن المعنى . يفكر من يعمل المدراش و قارئه بقليل من الجد ـ و أحياناً بجذل ـ في النص و لكن لأغراض جادة . فتقول القصص التي ينمونها شيئاً عن مشاكلهم الملحة و الحقيقية إذ يحصلون من خلال المدراش على فهم أعمق عن كيفية التصرف و لماذا .
إذا كان ثمة إيمان متضمن هنا فهو فهو الإيمان العميق بأن التوراة مفعمة بالمعنى و فعالية التفسير لإن تؤمن يعني أن تثق ، فيشبه عمل المدراش استكشاف علاقة المرء بشخص آخر ؛ فلن تدفع معرفة الحقائق الموضوعية عن الآخر العلاقة قدماً "فيُحَصِّل اليهود معرفة "الرب و العالم من خلال المدراش . إنهم يؤمنون بقدر ما يطبقون ما يتعلمونه في المعيشة اليومية لحياتهم الخاصة . إنهم يعتقدون ليا في مقولات و فرضيات بل في حكايات يكونون فيها هم و الرب الشخصيات الأساسية و لا تزال الحكاية مستمرة لتمضي إلى خاتمتها .
IV
من المفيد أن ننظر في مثال للمدراش حلله James Kugel النص هو بسالم 145 أحد القصائد العبرية العديدة المتساوية المقاطع و يبدأ كل سطر فيها بحرف جديد من الألفبائية ( أ،ب، ت، ث، ...) و مع ذلك لا يبدأ أي سطر منها بحرف النون Nun : فقد حذف من التتابع و طبعاً تساءلوا "لماذا؟" لقد أعطى الحبر يوحنان Yohanan تفسيراً لذلك : أن داوود David الذي يفترض أنه مؤلف بسالم يعرف ان حرف النون في عموس2:5 يبدأ جملة مروعة " لقد سقطتNafelah )) و لن تقوم ثانية ، عذراء اسرائيل" لذلك خلّف آية النون وراءه ليتجنب الإشارة إلى نبؤة السقوط هذه و ثنى الحبر ناحمان Nahman مضيفاً أن الآية التالية للمحذوفة تقدم البلسم و الترياق "لقد رفع السيد (الرب) كل الساقطين و أقام كل المعوجين "
حتى الآن ، كان ما سبق مقدمة واضحة بصورة كافية للمدراش . صحيح أن المسألة ليست بالتي يدركها أغلب القراء إلا أن من يعملون المدراش في انتظار مثل هذه التفصيلات في القريب ، و صحيح كذلك أن الإجابة التي يقدمها الحبر يوحنان تجعل ديفيد الذي عاش قبل عموس بزمن طويل بصورة ملحوظة من ذوي البصيرة بالمستقبل. فمن مأثورات الأحبار " أنه لا يوجد قبل و لابعد في التوراة "لذا يمكن أن تجيب الآية على تساؤل حول آية أخرى منبتة الصلة بها تماماً.
و من ناحية أخرى تأخذ الإضافة التي قدمها الحبر يوحنان بحقيقة تجاور (الآيات) ليثبت قراءته لآية بالآية التي تجاورها، فيبحث ـ علاوة على الآية المبني عليها ـ في رحمة الرب تجاه شعب إسرائيل و يصل بين اثنين من المفاهيم ـ القيم بطريقة تقليدية
يقدم حكماء فلسطين ـ مع ذلك ـ قراءة أكثر جرأة من تلك التي قدمها أحبار رابيلون ليس لبسالم 145 و لكن لآية عموس الإشكالية . فقسموا الآية هكذا"لقد سقطت و لن تعاود ثانية ..(السقوط) فلتعلِ! عذراء اسرائيل !"
إن ما فعله هذا المدراش هو إبطال السؤال الأصلي ( و الإجابات الأخرى على هذا السؤال )ليركز على المشكلة الحقيقية : الكارثة التي حلت بعلاقة اليهود بالرب ، فقد كان اليهود في هذا الوقت تابعين أذلاء لروما و خرب Titus المعبد سنة 70 C.E وأخذ الكثير من اليهود أرقاء و قاد Simon Bar Kokhba عصياناً مسلحاً تم إخماده سنة 135 و تحطمت توقعات أتباعه المسيحانية (أي رؤيتهم له كمسيح مخلص ) و أعدم الرومان عشرة من أحبار فلسطين و اعلنت القدس العاصمة و المدينة المقدسة ممنوعةص على اليهود و فقد البلد ككل أغلب سكانه و تشتت اليهود للمرة الثانية دون أية بوادر في الأفق لعودة وشيكة . لقد استخدمت احدى طوائف اليهود ،النصارى أو المسيحيين ، هذه المصيبة كشاهد على ان العلاقة بين الرب و الشعب اليهودي قد اتت نهايتها و كان هذا الذي أكدوه مبعث خوف الكثيرين .
يمكن ، مقابل هذه الخلفية ، اعتبار ما فعله و ما لم يفعله حكماء فلسطين في مدراشهم عن عموس 2:5 فلم يجادلوا بان كلمات عموس تنطبق فقط على النفي البابلي ( الفترة B.C.E 586 ـ 510 ) الذي كان يتحدث عنه، و لا قرأ الحكماء " و لن تعلو ثانيةً .." في معناها النسبي " ..لوقت طويل " برغم أن ذلك كان ممكناً لقد اختاروا ألا يأخذوا اسرائيل على أنها مملكة شمالية ، على أنها تتمايز عن اليهود برغم أن هذه القراءة كانت ستلطف و تخفف من وقع المصيبة ، و فوق ذلك كله ، رفضوا ، على خلاف أسلافهم النبويين أشعياء و جريميا ، أن يعتمدوا على طلاقة قدرة الرب و إمكاناته لإبطال النبؤات بالحكم بالخروج من الحب المقدس .
لقد كانت أياً من هذه الحلول تتطلب من الناس إيمانهم الكامل : ليس مجرد إيمان بصحة التفسير بل ـ و بصورة حيوية ـ الإيمان بأ رسالة (الفسير ) يجب أن تكون بالضرورة Must صحيحة و بأن الرب لن يخفي وجهه إلى الأبد و لكن بالطبع كان هذا الإيمان هو ما ينقص الناس . لقد اختار أحبار فلسطين بدلاً من ذلك حلاً يتطلب فقط إرادة إبطال عدم الإيمان أو ما دعاه Kadushin الإيمان غير المحدد بصورة نهائية و الذي يمكن تقويته أحياناً ليصبح محدداً.
لقد كان مدراشهم برغم جديته ـ في نفس الوقت ـ ساخراً بصورة قاتمة (كوميديا سوداء) و لا يحتاج أن يكون مقبولاً بل فقك أن يتكرر مرات و مرات ـ كما هو شأن النكتة ـ حتى يصبح جزءص من الثقافة المشتركة التي تضحك في مواجهة المنفى . علاوة على الهالخاه Halkhah فإن قصصاً مدراشية مثل هذه أعطت اليهود تماسكاً و ترابطاً اجتماعياً قوياً كانوا يحتاجونه للبقاء في عالم لم يعودوا يفهمون معناه
إن وظيفة المدراش من إحياء و استعادة المعنى لعالم يزخر بالفوضى هي التي يمكن أن نجدها تجددت عندما قام بتأسيس نظريته
VI
لن يخطئ امرؤ في أية كتابات لماركس عينة من نوع المدراش الأدبي ، لا يكتب ماركس عن التوراة فله دراساته و تعليقاته في الفلسفة و الاقتصاد السياسي و لغته الألمانية و ليست العبرية و لا الآرامية ، كما أنه ليس منقاداً وراء مجموعة من المفاهيم ـ القيم التي عددها Kadushen : إنه لا يهتم إلا في النادر بالرب و إسرائيل فقط كأمثلة تاريخية .
صحيح أنه كان متحمساً للعب بالكلمات .فعادة ما كان يرمي قارئه بتورية في قمة نقاشه كما في كتاب "العائلة المقدسة " من أن الحركة الهيجلية تحتاج لأن "تسبح في نهر من النار" بالألمانية "A Feuer Bach"( التورية هنا أن فوير باخ اسم فيلسوف ألماني كان ينتمي مثل ماركس لمدرسة هيجل ) هذه الطُرف جعلت كتابات ماركس مبرزة وتعلق دائماً بالذاكرة كما كانت المدراشيات اللماحة بالنسبة لنصوص الأحبار و مع ذلك لا يتعلق شئ (من كتابات ماركس ) بها فكان من الممكن أن تمضي محاججات ماركس بدونها .
إلإ أن نظرية ماركس تعني ما هو أكثر من محاججاته ، فيها فنجد في الكيفية التي عمل بها ماركس نظريته ، و نشاطه و ممارساته التنظيرية نجده يعمل ما أدعوه أمراً "مدراشياً "
في البداية ، و قبل ان يبدع ماركس نظريته فإنه يقرأ ثم تأتي كتاباته كتعليقات من هذه القراءة و يعطي ماركس في أي من كتاباته تفسيراً ـ أو قراءة ـ لأسلافه (من المفكرين ) و نصوصهم ، ضرباً خاصاً من القراءة تجعلهم يقولون أو تتهمهم بأنهم أهملوا قول شئ عن التيمات الهامة بالنسبة له ( المفاهيم ـ القيم الخاصة به ) .
يحول تفسير ماركس لهيجل و يهاجم ـ بصورة نظامية ـ نظرية الكاتب المبكرة في النقاط التي تبدو له تتعارض مع معنى " ما هو واقعي " الخاص به و يرتبط معنى الواقع هذا أشد الارتباط برؤية التراث اليهودي للعالم ، يمكن ان نرى لماذا بدأ ماركس بتصنيف هيجل مع اليونانيين . فالواقع غير المحدود ، بالنسبة لليونانيين ، غير محدود و كذا بالنسبة لهيجل أما عند ماركس فهو مادي فبرغم أن الروح و هو ما تترجمه كتبات ماركس ب"المفهوم " أما في رؤية ماركس فتتأسس كل الأشياء في علاقاتها ببعضها بعضاً .
لقد كانت ملاحظة العالم و تأمله هي أسمى النشاطات التي يمكن أن يتصورها الفكر اليوناني و كانت النظرية ـ كفلسفة الروح لهيجل ـ هي تعبيراتها أما بالنسبة لماركس فإن الكائنات الانسانية في أفضل حالاتها تناضل لتتلاءم مع العالم و تحوله من خلال الممارسة الخصبة المنتجة فكر ماركس ـ بالتبعية ـ بإضفاء الطابع الواقعي على العالم باعتباره يتضمن في ذاته منشطاً اجتماعياً أما بالنسبة لليونانيين فإن اتباع الحقيقة هو مهمة الأفراد الفلاسفة أما بالنسبة لهيجل فبرغم أن الروح تحقق نفسها في العالم فإنها تكتمل في عقل أولئك الذين يفهمون نسقه . أيضاً ، وجد ماركس المعنى في التغير التاريخي . تقوم نظرية ماركس على النقيض من الرؤية اليونانية من أن الداخلي و غير المتغير له المعنى و فكرة هيجل بان عدم تحقق العالم خطأ و التغلب عليه هو أهمية التاريخ الوحيدة ، تقوم نظرية ماركس على جدلية نوعية الحاجات الانسانية : أن أن مجموعة من الحاجات تنتج ـ بتحققها ـ مجموعة أخرى منها أكثر ثراءً . لذلك لا يستطيع ماركس أن يقدم مشروع جمهورية ( كجمهورية أفلاطون ) و لا دولة مطلقة و لا رؤية للعالم باعتباره كلاً مصنوعاً مرة واحدة و مستمراص للأبد . لا يقترب التاريخ الانساني لأي شكل مثالي و لا لأية نهائية A Telos و لا لأي هدف معلن . بدلاً من ذلك نمضي ـ وفقاً لماركس ـ في مضمار باتجاه هدف يتغير كلما اقتربنا منه و كذلك نحن ، و نعيد ضمن الظروف المادية التي ساعدت تصرفاتنا السابقة في تشكيلها و منقادين للحاجات التي أنتجناها نحن أنفسنا ـ جزئياً ـ نعيد بصورة مستمرة تعريف العالم الذي نبحث عنه و نطلبه . لقد وضع هذا المفهوم للنشاط الانساني ماركس بعيداً عن كلاً من اليونانيين و هيجل و قربه لعالم التراث اليهودي .و هكذا عمل ماكس مدراش لهيجل بمعنيين : فقد علق على جزئيات صغيرة من نص هيجل لكي يدرس شواغله الخاصة و جعلت تعليقاته النص له معناه للقراء الذين كان منظورهم استمراراً لاهتمامات التراث اليهودي
ثمة تناقض يواجهنا هنا أن ماركس نبذ اليهودية و تبنى الفلسفة و الاقتصاد السياسي كما لو كانا ـ أو يجب أن يكونا ـ التوراة .
لقد طالب بأن يكون لها معنى لقصة العالم والتاريخ و الانسانية بالمعنى الذي يقترحه احساسه اليهودي بالواقع فإذا كانت (كتابات الفلسفة و الاقتصاد السياسي ) غير ملائمة فإنه يعيد تأويلها لتكون كذلك ، هنا نجد نوعاً من أعمال التقوى عن غير وعي و نوعاً من التقديس اللاإرادي في غمرة الاشتراكية و العلمانية .
كيف يمكن أن نعلل امتزاج العوالم الذي لم يفصح ماركس عنه و لا شرحه ؟
تصف "هندلمان " في مناقشاتها للمفكرين المحدثين الذين تأثروا بالمدراش ميلاً تدعوه "التأويلات المهرطقة " فيؤكد الكتاب الذين يعملون في هذا المزاج والاسلوب هويتهم كمعاصرين و كيهود ـ بصورة متزامنة ـ دون الخضوع بصورة كاملة لأي من الهويتين . تتضمن هذه المناورة إزاحة مزدوجة أولاً : يخلف الكاتب عالم التوراة وراءه و يتحول الاهتمام ، بالنسبة لفرويد السيكولوجي علم النفس و بالنسبة لهارولد بلوم و جاك ديريدا تصبح النظرية الأدبية موضع بحث لا ينتهي و تحمل الهرطقة أو الزندقة المطالب القديمة إلى هذه المجالات الجديدة ، و تعالج الأحلام و الأعمال الدبية حسب كلمات فرويد "ككتابة مقدسة " ، بكلمات أخرى ، كتوراة . و من المتوقع منها بل وإنها مطالبة بأن تكون لها معنى حتى في أدق جزئياتها ، و يفسرهم النقاد المحدثين كما يقول من يعمل المدراش :لجعلها ذات معنى بكلمات أنه يعتقد في النص و يجب أن يتشاركه
لا يمكننا أن نرى ـ مع ماركس ـ الأساليب (التكنيكات ) الاستعارية و لكن يمكن أن نحس بقوى الجذب التي يمارسها المدراش على كتابته " لأنه ليس شيئاً خلو من المعنى للنص " . يربط ماركس نفسه بهيجل ( و من ثم بالاقتصاد السياسي و الفلسفة ) لأن تشابهاتم التجريبية بالواقع الذي يؤمن به ماركس و يناضل لجعله حاضراً في الحياة لن تدعه يتجاهلهم . لم يكن ممكناً أن يقبل ماركس بهذه الكتابات بصورة كاملة . فكان في أفضل الأحوال يلاحظها بروح الإيمان غير المحدد بصورة نهائية و كان عليه ـ بصورة محتملة ـ أن يعيد ترتيب كل شئ بما في ذلك قراءته الأولى ( لتلك الكتابات )
ما الدروس التي يمكن أن نتعلمها من تفسيرنا اكيفية قراءة ماركس لهيجل ؟ من بين العديد من الممكنات سأقترح ثلاثة (دروس):
الول يتعلق بفعل القراءة نفسه فممارسة ماركس كقارئ وناقد لهيجل تفصل بوضوح اننا عادة ما نقرأ في سياق فمن خلال الاقتراب من النص من واقع اهتمامات عدة متنوعة نحصل على رؤى ثاقبة كلها ثمينة و لها قيمتها .
على سبيل المثال ، بقراءة كتابات ماركس على هيجل لمعناها الفلسفي نسمع معاها المعتاد : نقد مادي للمثالية و لكن بقراءتها كمدراش نبدأ نولي اهتمامنا أيضاً لاصرار ماركس اليهودي على أن الحرية الانسانية تتطلب فعلاً إنسانياً يهدف لتحويل العالم و ندرك ـ أيضاً ـ نبذ ماركس لمحاولة هيجل اليونانية للعثور على الحرية في تأمل العالم كما هو موجود داخلياً .
و يوضح السياقين معاً فهماً لمشروع ماركس أفضل مما كان لدينا من قبل فلا تتغلب الثورة التي كانت في عقل ماركس على عوائق الحرية التي تضعها الرأسمالية فثورة ماركس ـ كقراءته ـ تطلب النضال و تحويل كل عائق له فعاليته للتحرر الانساني . إنه نشاط نقدي و خلاق معاً كذلك الذي يقوم به صانع المدراش لاستعادة المعنى إلى النص .
الدرس الثاني أكثر ترويعاً فقد أصبح من المستحيل بالنسبة لنا تفسير العالم كما فعل ماركس باعتباره شيئاً يمكن لتصرفاتنا ان تغيره و لسنا في حاجة لأن نكون هيجليين و لا يونانيين لنشعر بذلك يكفينا الانسحاق و الشعور بان العالم واسع جداً و خاو من المعنى و أننا هنا بالصدفة دونما سبب و لا هدف .أعتقد ان هذه هي الكيفية التي يرى بها معظمنا العالم في أغلب الوقت . فإذا كان ذلك صحيحاً فإن العمل و الشاغل الأول لأولئك الذي لا يزالون ملتزمين بتغيير العالم أن يجعلوا فكرة التغير التحويلي لأن يؤمن الناس بها ثانية .
إننا نحتاج لحدوتة تمثل الخلفية عن أفعالنا التي تصنع معنى من نضالنا و تدعنا نسمع همس العالم الذي نقوم بخلقه . لن تفعل أية قصة ذلك ، فتغيير العالم إمكانية و ضرورة ضمن تنويعات معينة في الفكر اليهودي أما في الفكر اليوناني فهذا خلط
يمكن كمنظرين أن نساعد في اكتشاف تجديد و الإخبار من جديد بالقصص التي تدعم الحركات من اجل الانعتاق و التحرر الانساني إلا أن الدرس الثالث هو أننا يجب أن نحترم كل القصص التي يعيش الناس بها و كل الهويات التي تغرسها هذه القصص سواء اكنت تساعد في صنع الثورة أو لا .لقد أخفق ماركس في إدراك ما فسرناه باعتباره البنية المؤسسة لفكره لذلك لم يستطع فهم أن أناساً آخرين يعيشون ضمن حكايات أخرى استطاعوا سماع رسالته و بقوا دون حراك و استمر يحس بالمرارة لهذا الإخفاق طيلة حياته . لسنا بحاجة لأن نعيد تجربته و لا أن نتكلم أبعد من بعضنا بعضاً ، و يبقى الأكثر أهمية أن الحرية الإنسانية الانسانية ـ بحق ـ لا تقبل التجزئة و لا نجرؤ على إقصاء أي منا و لا جزء منا بعيداً عن حريتنا. إن مدراش ماركس لهيجل يكشف عن رؤية موهمة للحرية الانسانية فلنستخدم مهارتنا كأفراد و التزامنا تجاه الانسانية لهدم كل الأوهام الخادعة المماثلة و استبدال محاولات صبورة و مثابرة و حريصة بها لفهم ما يستبقي الكائنات الانسانية رجالاً و نساءً، يهوداً و مسيحيين ، شباباً و كباراً ، بيضاً و سوداً غير أحرار