بصائر المعرفة

مدونة تهتم بقضايا العمران الإنساني تفضل بزيارة مدونتي الأخرى umranyat.blogspot.com

Tuesday, May 30, 2006

حقوق الإنسان بين الصكوك الدولية والتشريعات المصرية (2 من 2)

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
تستند بعض الرؤى الفكرية في مجال حقوق الإنسان إلى تمايز الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية في عهدين مستقلين عن الأمم المتحدة للإشارة إلى تراتبية معينة لهذه الحقوق حتى أن هذه الرؤى تشير لأجيال متتالية لحقوق الإنسان كتصنيف تاريخي وتدرجي فالحقوق المدنية والسياسية تعد الجيل الأول من الحقوق الإنسانية، بينما تمثل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الجيل الثاني، أما الجيل الثالث فيتمثل في مجموعة الحقوق التي جرى التعبير عنها كمفهوم جماعي شامل مثل الحق في بيئة نظيفة والحق في التنمية.
وقد تعززت هذه الرؤية مع تحول العولمة لتصبح بمثابة "روح العصر" بما تتضمنه من حرية التجارة وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات، ومن ثم الاتجاه لتهميش بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لصالح حقوق أخرى خاصة وأن هذه الرؤى الفكرية تعتبر أن الحقوق المدنية والسياسية كحريات للفرد في مواجهة تدخل الدولة تعني مفهوماً عكسياً للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تعني وجوب تدخل الدولة، وأن الطائفة الأولى من الحقوق هي الحقوق الإنسانية الأساسية، وأنه لا يمكن إعمال الحقوق الأخرى إلا بتحقيق هذه الحقوق وذلك
على الرغم من أن الممارسة تشير إلى أن انتهاكات حقوق الإنسان "الأساسية" - في علاقتها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية- ترجع إلى سياسات حكومية اقتصادية واجتماعية معينة أوالفشل في تقديم الدعم والمساندة للمتضررين من هذه السياسات (مثلاً العلاقة بين العشوائيات كانتهاك للحق في السكن وانتهاك الحق في الحرية والأمان الشخصي الذي يعد سكان العشوائيات الأكثر تعرضاً له).
ومن ناحية أخرى فإنه لا مجال للحديث عن تمتع الإنسان بحقوقه المدنية والسياسية كالحق في المشاركة دون توفر جميع الضرورات الأساسية للحياة كالعمل والغذاء والسكن المناسب والرعاية الصحية والتعليم والثقافة.
أما تمايز هاتين المجموعتين من الحقوق في عهدين منفصلين فليس إلا مجرد تعبير عن الاختلاف في طبيعة الإلزام القانوني الناشئ عن مجموعتي الحقوق بالإضافة إلى آليات تطبيقهما.
ويعكس مفهوم التنمية فكرة هذا التكامل بين حقوق الإنسان فالتنمية (الشاملة) و(الإنسانية) هي كما قرر إعلان الحق في التنمية الذي اعتمدته الجمعية العامة بموجب قرارها 41/128 الصادر في4 ديسمبر 1986عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم، ورأى هذا الإعلان أن جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية متلاحمة ومترابطة، وأن تعزيز التنمية يقتضي إيلاء الاهتمام على قدم المساواة لإعمال وتعزيز وحماية الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومن ثم فإن التمايز بين حقوق الإنسان المختلفة هو مقدمة لترابطها فهي حقوق متداخلة فمثلاً لجنة الأمم المتحدة في تعليقها العام رقم 4 لسنة 1991 أكدت على أن الحق في السكن ينبغي ألا يفسر تفسيرا ضيقا أو يجعله مساويا لمجرد وجود سقف فوق رأس الإنسان، أو يعتبر المأوى بل يجب النظر إلى هذا الحق باعتباره حق المرء في أن يعيش في مكان ما في أمن وسلام وكرامة استناداً إلى أن الحق في السكن مرتبط ارتباطا تاما بسائر حقوق الإنسان وبالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها العهد.
فحقوق الإنسان حقوق عالمية مترابطة فيما بينها وغير قابلة للتجزئة أو الانتقاص أو التقسيم وسواء كانت حقوقاً مدنية و سياسية أو اقتصادية واجتماعية فإنها حقوق متساوية ولا تقبل إعطاء أولوية أو أفضلية لإحداها على الأخرى بل إنها تترابط بعضها بعضاً بما يجعل ثمة نوع من التفاعل والتضامن والتضام بينها باعتبار الكرامة الإنسانية هي الجوهر والمبدأ الناظم لكافة الحقوق، وحماية هذه الكرامة هي الهدف النهائي من إقرارها.
وقد تضمنت القرارات والإعلانات والاتفاقيات الدولية هذه المبادئ فنص قرار الأمم المتحدة رقم 32/130 والذي تبنته الجمعية العامة في عام 1977 - على سبيل المثال - على أن: "(أ) كل حقوق الإنسان والحريات الأساسية غير قابلة للتجزئة ومترابطة، لذا فإن اهتماماً متساوياً ومعالجة ملحة يجب أن تعطى لتطبيق وتعزيز وحماية كلاً من الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. (ب) إن التحقيق الكامل للحقوق المدنية والسياسية مستحيل بدون التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإن الوصول إلى تقدم ثابت في تطبيق حقوق الإنسان يعتمد على السياسات المحلية والدولية المعلنة والفعالة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (ج) إن كل حقوق الإنسان والحريات الأساسية والناس غير قابلة للتجزئة.
(11) حقوق العمل:
تشكل حقوق العمل قسماً مهماً من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية باعتبار أن العمل عصب الحياة وأساس تطويرها وأهم عوامل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن أن العمل يمثل المصدر الرئيسي للدخل الذي يتوقف عليه العيش والبقاء.
ويقصد بحقوق العمل بشكل عام حق كل شخص في التمتع بفرصة عمل يختارها بحرية في بيئة عمل مناسبة، ويحصل في مقابلها على مكافأة مادية عادلة ومرضية نظير عمله وتؤمن له ولأفراد أسرته مستوى معيشي يليق بكرامة الإنسان، وتوفر لهم حماية اجتماعية كافية، كما يعني أيضاً الحق في المساواة في الحصول على فرصة العمل، وأن تتوافر للجميع الإمكانية التامة للوصول إلى فرص كسب الدخل
وتشمل حقوق العمل أبعاداً أشمل تضم - إضافة لما سبق - الحق في الأجور المنصفة والمتساوية عندما تتساوى قيمة العمل دون تمييز، والمساواة بين الجميع في فرص الترقي داخل عملهم إلى مرتبة أعلى على أساس مبدأي الكفاءة والأقدمية فقط، كما يتضمن الحق في العمل حق كل شخص في الاستراحة وأوقات الفراغ، والتحديد المعقول لساعات العمل والأجازات الدورية المدفوعة والمكافآت المالية عن الإجازات الرسمية، والحق في الضمان الاجتماعي والتأمينات الصحية، والحق في تحقيق شروط الصحة والسلامة المهنية في العمل وأيضاً الحق في التنظيم النقابي والتفاوض الجماعي والإضراب لتحسين شروط العمل. وتمثل هذه الحقوق الحد الأدنى لما يجب أن يتمتع به العمال.
وقد حظيت حقوق العمل باعتراف مميز في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ويعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الوثيقة الأولى التي تضمنت بنودا واضحة كحقوق أساسية حيث تنص المادة ( 23) منه على أن: "1- لكل شخص حق العمل، وفى حرية اختيار عمله، وفى شروط عمل عادلة ومرضية، وفى الحماية من البطالة2- لجميع الأفراد، دون أي تمييز، الحق في أجر متساو على العمل المتساوي 3- لكل فرد يعمل حق في مكافأة عادلة ومرضية تكفل له ولأسرته عيشة لائقة بالكرامة البشرية، وتستكمل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية 4- كل شخص حق إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه".
كما تنص المادة (24) من الإعلان على أن: " لكل شخص حق في الراحة وأوقات الفراغ، وخصوصا في تحديد معقول لساعات العمل وفى إجازات دورية مأجورة".
ويتضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أهم الأحكام القانونية المحددة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وأولها حقوق العمل؛ حيث تنص المادة السادسة على أن:
" 1- تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بالحق في العمل، الذي يشمل ما لكل شخص من حق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وتقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق. 2- يجب أن تشمل التدابير التي تتخذها كل من الدول الأطراف في هذا العهد لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق توفير برامج التوجيه والتدريب التقنيين والمهنيين، والأخذ في هذا المجال بسياسات وتقنيات من شأنها تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية مطردة وعمالة كاملة ومنتجة في ظل شروط تضمن للفرد الحريات السياسية والاقتصادية الأساسية ".
وتنص المادة (7) من العهد نفسه على أن: " تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بما لكل شخص من حق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية تكفل على الخصوص (أ) مكافأة توفر لجميع العمال، كحد أدنى 1- أجر منصفا، ومكافأة متساوية لدى تساوى قيمة العمل دون أي تمييز، على أن يضمن للمرأة خصوصا تمتعها بشروط عمل لا تكون أدنى من تلك التي يتمتع بها الرجل، وتقاضيها أجرا يساوى أجر الرجل لدى تساوى العمل 2- عيشا كريما لهم ولأسرهم طبقا لأحكام هذا العهد.(ب) ظروف عمل تكفل السلامة والصحة.(جـ) تساوى الجميع في فرص الترقية، داخل عملهم، إلى مرتبة أعلى ملائمة، دون إخضاع ذلك إلا لاعتباري الأقدمية والكفاءة (د) الاستراحة وأوقات الفراغ، والتحديد المعقول لساعات العمل، والاجازات الدورية المدفوعة الأجر، وكذلك المكافأة عن أيام العطل الرسمية.
أما المادة (8) من العهد فتنص على أن تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة ما يلي:
(أ) حق كل شخص في تكوين النقابات بالاشتراك مع آخرين وفى الانضمام إلى النقابة التي يختارها، دونما قيد سوى قواعد المنظمة المعنية، على قصد تعزيز مصالحه الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها. ولا يجوز إخضاع ممارسة هذا الحق لأية قيود غير تلك التي ينص عليها القانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو النظام العام أو لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم. (ب) حق النقابات في إنشاء اتحادات أو اتحادات حلافية قومية، وحق هذه الاتحادات في تكوين منظمات نقابية دولية أو الانضمام إليه.(ج) حق النقابات في ممارسة نشاطها بحرية، دونما قيود غير تلك التي ينص عليها القانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو النظام العام أو لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم.(د) حق الإضراب، شريطة ممارسته وفقا لقوانين البلد المعنى.
2- لا تحول هذه المادة دون إخضاع أفراد القوات المسلحة أو رجال الشرطة أوموظفي الإدارات الحكومية لقيود قانونية على ممارستهم لهذه الحقوق.
3- ليس في هذه المادة أي حكم يجيز للدول الأطراف في اتفاقية منظمة العمل الدولية المعقودة في 1948 بشأن الحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي اتخاذ تدابير تشريعية من شأنها، أو تطبيق القانون بطريقة من شأنها، أن تخل بالضمانات المنصوص عليها في تلك الاتفاقية.
واتفاقية الحرية النقابية المشار إليها في هذه المادة من العهد هي واحدة ضمن منظومة الإعلانات والاتفاقيات الدولية الإنمائية التي تتضمن أهدافها حماية حقوق العمل ومن هذه الاتفاقيات: اتفاقية حق التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية (يوليو 1951)، والاتفاقية الخاصة بممثلي العمال (يونيو 1971) واتفاقية تشجيع المفاوضة الجماعية واتفاقية المساواة في الأجور واتفاقية سياسة العمالة والاتفاقية بشأن النهوض بالعمالة والحماية من البطالة (يونيو 1988) واتفاقية شروط العمل(1949) واتفاقية الصحة والسلامة المهنيتين (1981) وغيرها من الاتفاقيات القطاعية والنوعية إلى جانب ما تضمنته الإعلانات مثل إعلان الحق في التنمية (ديسمبر 1986) والإعلان حول التقدم والإنماء في المجال الاجتماعي(ديسمبر 1969).
وقد أدت هذه الإعلانات والاتفاقيات إلى تبلور مفهوم العمل اللائق الذي دار حوله تقرير منظمة العمل الدولية لعام 1999 كهدف يتعين تحقيقه تدريجياً، ويقصد به العمل المنتج الذي تكون فيه الحقوق محمية، و يدر دخلاً كافياً، مع توفر حماية اجتماعية كافية، وهو يعني أيضاً العمل المتكافئ، بمعنى أن تتوافر للجميع الامكانية التامة للوصول الى فرص كسب الدخل وهو يفتح الطريق امام التنمية الاقتصادية والاجتماعية، دون النيل من حقوق العمال ومن المعايير الاجتماعية. وعليه فقد تقرر الهدف الأساسي لمنظمة العمل الدولية في الوقت الحاضر في تعزيز فرص حصول المرأة والرجل على عمل لائق ومنتج، في ظل ظروف توفر لهم الحرية والعدالة والامن والكرامة الانسانية. ويشكل العمل اللائق محور التقاء أهداف المنظمة الاستراتيجية الأربعة معاً: تعزيز الحقوق في العمل ، والعمالة ، والحماية الاجتماعية والحوار الاجتماعي .
وقد قرر الدستور المصري هذه الحقوق فنص في المادة (13) منه على أن: " العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة، ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع. ولا يجوز فرض أي عمل جبراً على المواطنين الا بمقتضى قانون، ولأداء خدمة عامة وبمقابل عادل. كما كفل الدستور عددا من الضمانات اللازمة لممارسة حقوق العمل منها ما نص عليه في المادة (14) منه على أن: الوظائف العامة حق للمواطنين، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حمايتهم وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب، ولا يجوز فصلهم بغير الطريق التأديبي إلا في الاحوال التي يحددها القانون. كما قررالدستور في المادة (17) منه كفالة الدولة معاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعا، وفقاً للقانون، وحرص الدستور على ضمان عدم التمييز في التمتع بهذه الحقوق عندما نص بوجه عام في المادة (8) على أن: "تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين."
إن الحق في المساواة في تولي الوظائف العامة حق مقرر أوجبته الإعلانات والعهود والاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية منع التمييز في مجال الاستخدام والمهنة لسنة 1958 التي نصت المادة الثانية منه على أن:" تتعهد كل دولة عضو تسري عليها هذه الاتفاقية بصياغة وتطبيق سياسة وطنية ترمي إلى تشجيع تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة في الاستخدام والمهنة باتباع منهج يناسب الظروف والممارسات الوطنية بغية القضاء على أي تمييز في هذا المجال" كما قرر الدستور هذا الحق في المواد (8) و( 14) و( 40 ) السابق الإشارة إليها واستقر قضاء المحكمة الإدارية العليا في أحكام متعددة تتعلق بالمساواة في شرط التعيين في الوظائف العامة على أن: " التعيين في الوظائف العامة من الملاءمات التقديرية التي تترخص فيها جهة الإدارة مشروط بمراعاة ما نص عليه القانون لو حدد شروطاً للصلاحية عند التزاحم في مجال الاختيار بين المرشحين بالتزام ما يحدده المشرع من عناصر لازمة في تبيين أوجه الترجيح (القضية رقم 1127 سنة 8 قضائية إدارية عليا جلسة 9 يناير 1966)
وقد أكد الإعلانات والاتفاقيات الدولية الحق في بيئة عمل مناسبة تكفل الصحة والسلامة ومنها الإعلان العالمي حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي الصادر في 11 ديسمبر 1969 الذي ينص في المادة العاشرة منه على الحق في تهيئة شروط وظروف العمل العادلة والملائمة للجميع بما في ذلك تحسين الظروف المتعلقة بالصحة والسلامة المهنية وقد تم تقنين هذا الحق في اتفاقية الصحة والسلامة المهنيتين في 1981.
وقد صدقت مصر على الاتفاقيات أرقام 115،139، 148 بشأن شروط الوقاية وحماية العمال من الأمراض والمخاطر المهنية وتم تقنيين هذه الالتزامات في قانون العمل الذي يتناول في الفصل الثالث منه توفير بيئة عمل آمنة (المواد 115-120) بينما يتناول الفصل الخامس التفتيش على أماكن العمل لتنفيذ اشتراطات السلامة والصحة المهنية، كما صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 114 لسنة 1984 بإنشاء المجلس الاستشاري الأعلى للسلامة والصحة المهنية.
(12) الحق في الصحة:
الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان لا غنى عنه من أجل التمتع بحقوق الإنسان الأخرى، فلكل إنسان الحق في أن يتمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه ويفضي إلى العيش بكرامة.
وقد تضمنت الإعلانات والعهود والاتفاقيات الدولية التأكيد على هذا الحق حيث نصت الفقرة 1 من المادة (15) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: "لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة له ولأسرته، ويشمل المأكل والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية". ويتضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أشمل مادة تتعلق بالحق في الصحة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. فوفقاً للمادة 12(1) من العهد، تقر الدول الأطراف "بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه"، في حين توجب المادة 12(2) على الدول الأطراف اتخاذ عددا من التدابير "لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق"كما تم اقرار الحق في الصحة في عدد من صكوك حقوق الإنسان الإقليمية، مثل الميثاق الاجتماعي الأوروبي لعام 1961 بصيغته المنقحة (المادة 11)، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1981 (المادة 16)، والبروتوكول الإضافي للاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1988 (المادة 10) ، وكذلك في إعلان وبرنامج عمل فيينا لعام 1993، إضافة إلى العديد من الصكوك دولية أخرى.
ويرتبط الحق في الصحة ارتباطاً وثيقاً بإعمال حقوق الإنسان الأخرى ويعتمد على ذلك، بما فيها الحق في المأكل، والمسكن، والعمل، والتعليم، والكرامة الإنسانية، والحياة، وعدم التمييز، والمساواة، وحظر التعذيب، والخصوصية، والوصول إلى المعلومات، وحرية تكوين الجمعيات، والتجمع، والتنقل. فهذه الحقوق والحريات وغيرها تتصدى لمكونات لا تتجزأ من الحق في الصحة.
وإذا كانت اللجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة لم تعتمد عند صياغة المادة (12) من العهد تعريف الصحة الوارد في ديباجة دستور منظمة الصحة العالمية، الذي ينظر إلى مفهوم الصحة على أنه "حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز" فإن الإشارة الواردة في المادة 12(1) من العهد إلى "أعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه" لا تقتصر على الحق في الرعاية الصحية بل تتضمن الإقرار بأن الحق في الصحة يشمل طائفة عريضة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تهيئ الظروف التي تسمح للناس بأن يعيشوا حياة صحية، كما تشمل المقومات الأساسية للصحة مثل الغذاء والتغذية، والمسكن، والحصول على مياه الشرب المأمونة والتطبيب الوافي، والعمل في ظروف آمنة وصحية، وبيئة صحية.
وإلى جانب هذه الحقوق يشمل الحق قي الصحة مجموعة من الحريات التي تتضمن حق الإنسان في التحكم في صحته وجسده، أن يكون في مأمن من التدخل، مثل الحق في أن يكون في مأمن من التعذيب، ومن معالجته طبياً أو إجراء تجارب طبية عليه بدون رضاه.
ويشمل الحق في الصحة، بجميع مستوياته ، العناصر الأساسية التالية:
(أ) التوافر: يجب أن توفر الدولة القدر الكافي من المرافق العاملة المعنية بالصحة العامة والرعاية الصحية وكذلك من السلع والخدمات والبرامج حسب المستوى الإنمائي للدولة على أن تشمل كحد أدنى المقومات الأساسية للصحة مثل مياه الشرب المأمونة ومرافق التطبيب الكافية، والمستشفيات، والعيادات، وغيرها من المباني المرتبطة بالصحة، والموظفين الطبيين والمهنيين المدربين الذين يحصلون على مرتبات تنافسية محلياً، والعقاقير الأساسية.
(ب) إمكانية الوصول: ينبغي أن يتمتع الجميع، بدون تمييز، بإمكانية الاستفادة من المرافق والسلع والخدمات المرتبطة بالصحة. وتنطوي إمكانية الوصول على أربعة أبعاد متداخلة هي:
- عدم التمييز: يجب أن يتمتع الجميع بإمكانية الاستفادة من المرافق والسلع والخدمات المرتبطة بالصحة، ولا سيما أكثر الفئات ضعفاً أو تهميشاً بين السكان بحكم القانون وبحكم الواقع، دون أي تمييز.
- إمكانية الوصول المادي: ينبغي أن تكون المرافق والسلع والخدمات المرتبطة بالصحة في المتناول المادي والآمن لجميع فئات السكان، خاصة الفئات الضعيفة أو المهمشة، مثل الأقليات والنساء، والأطفال، وكبار السن، والمعوقين كما أن إمكانية الوصول تعني ضمنياً أن تكون الخدمات الطبية والمقومات الأساسية للصحة، مثل مياه الشرب المأمونة ومرافق التطبيب الكافية، في المتناول المادي والآمن للسكان بما في ذلك سكان المناطق الريفية. كذلك تشمل إمكانية الوصول تمكين المعوقين من الوصول إلى المباني.
- الإمكانية الاقتصادية للحصول عليها (القدرة على تحمل نفقاتها): يجب أن يتمكن الجميع من تحمل نفقات المرافق والسلع والخدمات المرتبطة بالصحة. وينبغي سداد قيمة خدمات الرعاية الصحية، والخدمات المرتبطة بالمقومات الأساسية للصحة، بناء على مبدأ الإنصاف، الذي يكفل القدرة للجميع، بما فيهم الفئات المحرومة اجتماعياً، على دفع تكلفة هذه الخدمات سواء أكانت مقدمة من القطاع الخاص أو من القطاع العام. ويقتضي الإنصاف عدم تحميل الأسر الفقيرة عبء مصروفات صحية لا يتناسب معها مقارنة بالأسر الأغنى منها.
- إمكانية الوصول إلى المعلومات: تشمل هذه الإمكانية الحق في التماس المعلومات والأفكار المتعلقة بالمسائل الصحية والحصول عليها ونقلها دون إخلال بالحق في معاملة البيانات الصحية الشخصية بسرية.
(ج)المقبولية: إن جميع المرافق والسلع والخدمات المرتبطة بالصحة ينبغي أن تراعي الأخلاق الطبية وأن تكون مناسبة ثقافياً، أي أن تحترم ثقافة الأفراد، الجماعات ، وأن تراعي متطلبات الجنسين فضلاً عن تصميمها بشكل يحترم السرية ويرفع مستوى الحالة الصحية للأشخاص المعنيين.
(د) الجودة: بالإضافة إلى ضرورة أن تكون المرافق والسلع والخدمات المرتبطة بالصحة مقبولة ثقافياً، ينبغي أن تكون مناسبة علمياً وطبياً وذات نوعية جيدة. ويتطلب ذلك، في جملة أمور، موظفين طبيين ماهرين، وعقاقير ومعدات للمستشفيات معتمدة علمياً ولم تنته مدة صلاحيتها، ومياه شرب مأمونة، وتطبيباًً مناسباً.
ويفرض الحق في الصحة، التزامات على الدول بالاحترام والحماية والأداء، ويشتمل الالتزام بالأداء، بدوره، التزامات بالتسهيل والتوفير والتعزيز. ويتطلب الالتزام بالاحترام من الدول أن تمتنع عن التدخل في التمتع بالحق في الصحة. ويقتضي الالتزام بالحماية أن تتخذ الدول تدابير من شأنها أن تمنع أي إعاقة لضمانات التمتع بالحق في الصحة وتشمل هذه الالتزامات:
- تأمين حق الاستفادة من المرافق الصحية والحصول على السلع والخدمات الصحية على أساس غير تمييزي، خصوصا للفئات الضعيفة والمهمشة.
- كفالة الحصول على الحد الأدنى الأساسي من الأغذية الذي يضمن الكفاية والسلامة من حيث التغذية، بغية تأمين التحرر من الجوع لكل الناس.
- كفالة الحصول على المأوى الأساسي، والسكن وخدمات الإصحاح، وإمدادات كافية من المياه النظيفة الصالحة للشرب.
- توفير العقاقير الأساسية، وتأمين التوزيع العادل لجميع المرافق والسلع والخدمات الصحية؛
-اعتماد وتنفيذ استراتيجية وخطة عمل وطنيتين للصحة العامة، إذا ظهرت أدلة على وجود أوبئة، بحيث تتصديان للاهتمامات الصحية لجميع السكان، وينبغي تصميم الاستراتيجية وخطة العمل، وبيانهما بشكل دوري، في سياق من المشاركة والشفافية
- كفالة الرعاية الصحية الإنجابية، والرعاية الصحية للأمومة (في أثناء الحمل وبعد الولادة) وللطفولة.
- اتخاذ تدابير للوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة ومعالجتها ومكافحتها؛ توفير التحصين ضد الأمراض المعدية الرئيسية التي تحدث في المجتمع؛
- توفير التعليم وإتاحة الحصول على المعلومات المتعلقة بالمشاكل الصحية الرئيسية في المجتمع، بما في ذلك طرق الوقاية والمكافحة؛
- توفير التدريب الملائم للموظفين الصحيين، بما في ذلك التثقيف في مجال الصحة وحقوق الإنسان.
وقد نص الدستور في المادتين (16) و (17) منه على كفالة الدولة لخدمات التأمين الصحي والخدمات الصحية ، وعملها على توفيرها بوجه خاص للقرية في يسر وانتظام رفعا لمستواها. كما قرر في المادة ( 43) أنه: "لا يجوز إجراء أي تجربة طبية أو علمية على أي إنسان بغير رضائه الحر".
(13) الحق في سكن ملائم:
إن الحق في السكن حق أساسي من حقوق الإنسان لتمكينه من العيش في مسكن يضمن كرامته ويؤمن حقه في الخصوصية الشخصية والحياة الأسرية، ويعتبر شرطاً لتمتع الأفراد والجماعات بحقوقهم وحرياتهم الأساسية. فالسكن المناسب ينسج العلاقات والروابط في جو يعزز الخصوصية بما يؤدي إلى احترام العلاقات الاجتماعية بين كافة الأفراد، ومن شأن المساس به انتهاك حقوق أخرى عديدة، مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية، فكما ورد في التقرير المقدم من مقرر الأمم المتحدة للحق في السكن فإن حس الأمن والكرامة والعيش في جماعة المتولد عن حيازة السكن متطلب أولي وأساسي للتمكن من بقية الحقوق الأخرى وممارستها بما في ذلك الحق في اختيار مقر الإقامة، والحق في المشاركة في الشئون العامة والحق في الصحة، والحق في بيئة نظيفة، وغيرها من الحقوق التي تشملها الحياة الكريمة وبهذا المعنى فإن الحق في السكن يرتبط باعتبارات ملاءمته فالسكن ليس مجرد مكان يغطيه سقف وتحوطه جدران تضم الإنسان بين جنباتها، بل سكن ملائم يعيش الإنسان فيه أمن وسلام وكرامة، وعليه فإن حق الفرد – على سبيل المثال - في ألا يخضع لأي تدخل تعسفي أوغير مشروع في خصوصياته أو خصوصيات أسرته أو منزله أو مراسلاته يشكل بعداً بالغ الأهمية في تعريف الحق في السكن الملائم.
ويعتبر إعلان فانكوفر للمستوطنات البشرية لعام 1976الوثيقة الأكثر تفصيلاً في ما يتعلق بالطبيعة القانونية الخاصة بهذا الحق، حيث نصت الفقرة الثانية من الجزء الثالث على ما يلي:
"إن السكن والخدمات المناسبة حق أساسي للإنسان، يفرض على الحكومة واجب ضمان بلوغ جميع الناس له." وأكد الفصل الثاني من الإعلان على أنه "يجب ألا تستخدم الايديولوجيات لحرمان الناس من بيوتهم وأراضيهم أو لترسيخ الامتيازات والاستغلال."
ويمكن الأخذ كحد أدنى بما ورد في "الاستراتيجية العالمية للمأوى حتى عام 2000" من أن المأوى الملائم يعني التمتع بالدرجة الملائمة من الخصوصية، والمساحة الكافية، والأمان الكافي، والإنارة والتهوية الكافيتين، والهيكل الأساسي الملائم، والموقع الملائم بالنسبة إلى أمكنة العمل والمرافق الأساسية ، وكل ذلك بتكاليف معقولة".
على أنه ثمة اعتبارات اجتماعية واقتصادية وثقافية لابد من أخذها عند تحديد السكن الملائم منها :
- الضمان القانوني لشغل المسكن: بغض النظر عن نوع شغل المسكن، ينبغي أن يتمتع كل شخص بدرجة من الأمن في شغل المسكن تكفل له الحماية القانونية من الإخلاء بالإكراه، ومن المضايقة، وغير ذلك من التهديدات.
- توفير الخدمات والمواد والمرافق والهياكل الأساسية: إن المسكن الملائم يجب أن تتوفر له بعض المرافق الأساسية اللازمة للصحة والأمن والراحة والتغذية. وينبغي أن تتاح لجميع المستفيدين من الحق في السكن الملائم إمكانية الحصول بشكل مستمر على الموارد الطبيعية والعامة ومياه الشرب النظيفة، والطاقة لأغراض الطهي والتدفئة والإضاءة، والمرافق الصحية، ووسائل تخزين الأغذية، والتخلص من النفايات، تصريف المياه، وخدمات الطوارئ.
- القدرة على تحمل الكلفة: إن التكاليف المالية الشخصية أو الأسرية المرتبطة بالسكن ينبغي أن تكون ذات مستوى يكفل عدم تهديد تلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى أو الانتقاص منها بحيث تكون النسبة المئوية للتكاليف المتصلة بالسكن متناسبة، بصورة عامة، مع مستويات الدخل. ويمكن لضمان ذلك تحديد أشكال ومستويات تمويل الإسكان التي تعبر بصورة كافية عن الاحتياجات للسكن.
- الصلاحية للسكن: إن المسكن الملائم يجب أن يكون صالحا للسكن من حيث توفير المساحة الكافية لساكنيه وحمايتهم من البرد والرطوبة والحر والمطر والريح أو غير ذلك من العوامل التي تهدد الصحة، ومن المخاطر البنيوية وناقلات الأمراض. كما يجب ضمان السلامة الجسدية لشاغلي المساكن استرشاداً "بالمبادئ الصحية للسكن" التي أعدتها منظمة الصحة العالمية.
إتاحة إمكانية الحصول على السكن لكل الذين يحق لهم الاستفادة منها. ويجب أن تتاح للجماعات المحرومة إمكانية الاستفادة بصورة كاملة ومستمرة من موارد السكن الملائم وبالأخص المسنين والأطفال والمعوقين وضحايا الكوارث الطبيعية.
- الموقع: إن السكن الملائم يجب أن يكون في موقع يتيح إمكانية الاستفادة من خيارات العمل وخدمات الرعاية الصحية والمدارس ومراكز رعاية الأطفال وغير ذلك من المرافق الاجتماعية
- السكن الملائم من الناحية الثقافية: إن الطريقة التي يتم بها بناء المساكن ومواد البناء المستخدمة والسياسات الداعمة لها يجب أن تتلاءم مع ثقافة السكان و تتيح إمكانية التعبير عن الهوية الثقافية.
وقد تطرق الدستور المصري إلى الحق في السكن في المادة 44 منه، والتي تنص على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بامر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون".
(14) الحق في التعليم:
يعد الحق في التعليم ، بوصفه حقاً تمكينياً، الأداة الرئيسية التي يمكن بها المهمَّشين اقتصادياً واجتماعياً أن ينهضوا بأنفسهم وأن يقوموا بالمشاركة الكاملة في مجتمعاتهم فالتعليم له دور حيوي في تمكين المرأة، وحماية الأطفال من العمل الذي ينطوي على مخاطر وغيره من صنوف الاستغلال، وفي تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية، وحماية البيئة، كما يعد التعليم واحداً من أفضل الاستثمارات التي يمكن أن تقوم بها المجتمعات ولا تقتصر أهمية التعليم على أهميته العملية حيث أن الإنسان المثقف والمستنير والنشط القادر على أن ينطلق عقله بحرية وإلى أبعد الحدود هو المؤهل لأن ينعم بإنسانيته.
وقد خصص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أطول مادتين فيه (المادتين13 و14) لبيان الأبعاد المختلفة للحق في التعليم من حيث أهداف التعليم وأغراضه والتمكين من ممارسته على كافة المستويات وضمان حرية التعليم حيث نصت المادتان على أن: تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم. وهى متفقة على وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وهى متفقة كذلك على وجوب استهداف التربية والتعليم تمكين كل شخص من الإسهام بدور نافع في مجتمع حر وتوثيق أواصر التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم ومختلف الفئات السلالية أو الإثنية أو الدينية، ودعم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل صيانة السلم، وتقر الدول الأطراف في هذا العهد بأن ضمان الممارسة التامة لهذا الحق يتطلب:
(أ) جعل التعليم الابتدائي إلزاميا وإتاحته مجانا للجميع (ب) تعميم التعليم الثانوي بمختلف أنواعه، بما في ذلك التعليم الثانوي التقني والمهني، وجعله متاحا للجميع بكافة الوسائل المناسبة ولا سيما بالأخذ تدريجيا بمجانية التعليم (ج) جعل التعليم العالي متاحا للجميع على قدم المساواة، تبعا للكفاءة، بكافة الوسائل المناسبة ولا سيما بالأخذ تدريجيا بمجانية التعليم (د) تشجيع التربية الأساسية أو تكثيفها، إلى أبعد مدى ممكن، من أجل الأشخاص الذين لم يتلقوا أو لم يستكملوا الدراسة الابتدائية،)هـ) العمل بنشاط على إنماء شبكة مدرسية على جميع المستويات، وإنشاء نظام منح واف بالغرض، ومواصلة تحسين الأوضاع المادية للعاملين في التدريس.
وتتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حرية الأباء، أو الأوصياء عند وجودهم في اختيار مدارس لأولادهم غير المدارس الحكومية، شريطة تقيد المدارس المختارة بمعايير التعليم الدنيا التي قد تفرضها أو تقرها الدولة، وبتامين تربية أولئك الأولاد دينيا وخلقيا وفقا لقناعاتهم الخاصة وليس في أي من أحكام هذه المادة ما يجوز تأويله على نحو يفيد مساسه بحرية الأفراد والهيئات في إنشاء وإدارة مؤسسات تعليمية، شريطة التقيد دائما بالمبادئ المنصوص عليها في الفقرة (1) من هذه المادة ورهنا بخضوع التعليم الذي توفره هذه المؤسسات لما قد تفرضه الدولة من معايير دنيا.
وتنص المادة (14) على أن تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد، لم تكن بعد وهى تصبح طرفا فيه قد تمكنت من كفالة إلزامية ومجانية التعليم الابتدائي في بلدها ذاته أو في أقاليم أخرى تحت ولايتها، بالقيام، في غضون سنتين، بوضع واعتماد خطة عمل مفصلة للتنفيذ الفعلي والتدريجي لمبدأ إلزامية التعليم ومجانيته للجميع، خلال عدد معقول من السنين يحدد في الخطة.
كما أقرت إتفاقية حقوق الطفل في المادة 28 فقرة 1 أنه يجب على الدولة أن تشجيع تطوير شتى اشكال التعليم الثانوى أو المهنى وتوفيرها وإتاحتها لجميع الأطفال واتخاذ التدابير المناسبة مثل إدخال مجانية التعليم وتقديم المساعدة المالية عند الحاجة اليها.
ويشمل التمكن من الحق في التعليم ستة أبعاد متداخلة هي :
- توافر مؤسسات وبرامج تعليمية بأعداد كافية في الدولة وما تحتاج إليه هذه المؤسسات وهذه البرامج للعمل من مبان تشمل مرافق صحية للجنسين، والمياه الصالحة للشرب والمدرسين المدربين الذين يتقاضون مرتبات تنافسية محلياً، ومواد التدريس وما إلى ذلك؛ كما تحتاج أيضاً إلى مرافق مثل مرافق المكتبات والحواسيب وتكنولوجيا المعلومات.
- إمكانية الالتحاق ، يجب أن يكون الالتحاق بالمؤسسات والبرامج التعليمية ميسراً للجميع، دون أي تمييز، ولإمكانية الالتحاق ثلاثة أبعاد متداخلة هي:
* عدم التمييز – يجب أن يكون التعليم في متناول الجميع، ولا سيما أضعف الفئات دون أي تمييز لأي سبب
* إمكانية الالتحاق مادياً – يجب أن يكون التعليم في المتناول مادياً وبطريقة مأمونة وذلك إما عن طريق الحضور للدراسة في موقع جغرافي ملائم بشكل معقول (مثلاً في مدرسة تقع بالقرب من المسكن) أو من خلال استخدام التكنولوجيا العصرية (مثل الوصول إلى برنامج "للتعليم عن بعد").
* إمكانية الالتحاق من الناحية الاقتصادية - يجب أن يكون التعليم في متناول الجميع. مع الخذ في الاعتبار التمييز الوار دفي المادة 13 بين التعليم الابتدائي والثانوي والعالي
- القبول: يجب أن يكون شكل التعليم وجوهره مقبولين، بما في ذلك المناهج الدراسية وأساليب التدريس، بأن يكون وثيق الصلة بالاحتياجات وملائماً من الناحية الثقافية ومن ناحية الجودة للطلاب، وللوالدين حسب الاقتضاء.
القابلية للتكيف - يجب أن يكون التعليم مرناً كيما يتسنى لـه التكيف مع احتياجات المجتمعات وأن يستجيب لاحتياجات الطلاب في محيطهم الاجتماعي والثقافي المتنوع.
وقد نص الدستور المصري في المادة 18 منه أن التعليم حق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية، وتعمل لدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى وتشرف على التعليم كله ،وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي وذلك له بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والإنتاج. كما تنص المادة (20) من الدستور على أن: "التعليم في مؤسسات الدولة التعليمية مجاني في مراحله المختلفة".
وقد قننت القوانين المختلفة هذا الحق ومنها قانون حماية الطفل الذي ينص على أن التعليم حق لجميع الأطفال فى مدارس الدولة بالمجان ولا يجوز لصاحب العمل إعاقة الطفل أوحرمانه من التعليم الأساسى وإلا عوقب بالحبس مدة لا تزيد على شهر وغرامة لا تقل عن مائتى (200) جنية ولا تزيد على خمسمائة جنيه.
كما نص قانون الطفل المصرى على أن التعليم يهدف إلى:-
- تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى امكانياتها.
- تنمية احترام ذوى الطفل وهويته الثقافية ولغته وقيمه الخاصة والقيم الوطنية للبلد الذى يعيش فيه الطفل والبلد الذى نشأ فيه فى الأصل والحضارات المختلفة عن حضارته.
- إعداد الطفل لحياة تستشعر المسئولية فى مجتمع حر يروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين الشعوب والجماعات الأثنية والوطنية والدينية والاشخاص الذين ينتمون الى السكان الأصليين
- أن ينمى إحترام الطفل للبيئة والطبيعة التى يحيا فيها وأن يحافظ عليها ويحميها.
(15) الحق في الملكية:
إن حق الاحتفاظ بملك خاص والتمتع به بدون تدخل الآخرين هو من حقوق الإنسان الأساسية حيث يعكس استخدام الناس الحر لممتلكاتهم حريتهم الشخصية ويمنحهم الأمان ويوفر لهم احتياجاتهم. ولا يشترط أن يتخذ الملك شكلاً مادياً فقد يكون أعمالاً فنيّةً، أو نتاجا فكرياً وبوجه عام، تعد أية حقوق إضافية ذات قيمة اقتصادية ملكاً. وقد أقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هذا الحق في المادة (17) منه حيث نصت على أن "1- لكل فرد حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره 2- لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً".
كما كفل الستور المصري هذا الحق ونظمه في المواد من 29 إلى 36 منه والتي تنص على أن تخضع الملكية لرقابة الشعب وتحميها الدولة ، وهي ثلاثة انواع :
الملكية العامة ، والملكية التعاونية ، والملكية الخاصة والملكية العامة هي ملكية الشعب، وتتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام. الملكية التعاونية هي ملكية الجمعيات التعاونية ، ويكفل القانون رعايتها ويضمن لها الادارة الذاتية. الملكية الخاصة تتمثل في راس المال غير المستغل وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية في خدمة الاقتصاد القومي وفي إطار خطة التنمية دون انحراف أواستغلال، ولا يجوز أن تتعارض في طرق استخدامها مع الخير العام للشعب للملكية العامة حرمة، وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن وفقا للقانون، باعتبارها سندا لقوة الوطن وأساسا للنظام الاشتراكي ومصدرا لرفاهية الشعب. والملكية الخاصة مصونة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض وفقا للقانون. وحق الإرث فيها مكفول. لا يجوز التأميم إلا لاعتبارات الصالح العام وبقانون، ومقابل تعويض. المصادرة العامة للأموال محظورة، ولا تجوز المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي.
(16) الحق في الضمان والرعاية الاجتماعية
يمثل الضمان الاجتماعي بمعنى البحث عن الأمن في كنف المجتمع في مواجهة ما يتعرض له من ظروف صحية واقتصادية اجتماعية أحد الأبعاد الهامة للرعاية الاجتماعية التي أصبحت التزاماً على المجتمع لتحقيق التنمية الإنسانية بما يمكن الأفراد على اختلاف شرائحهم الاجتماعية من ممارسة كافة حقوقهم الإنسانية.
وقد تقرر هذا الحق في المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي نصت على أن:
"1- لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفى لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحق في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أوالعجز أو الترمل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه.
2- للأمومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصتين. ولجميع الأطفال حق التمتع بذات الحماية الاجتماعية سواء ولدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.
كما تأكد في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي تقر الدول في المادة الثامنة منه "بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي، بما في ذلك التأمينات الاجتماعية".وكذلك في إعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي الذي تنص المادة (11) منه على:(أ) توفير نظم ضمان اجتماعي شاملة وخدمات رعاية اجتماعية، وإنشاء وتحسين نظم الضمان والتأمين الاجتماعيين لصالح جميع الأشخاص الذين يكونون، بسبب المرض أو العجز أو الشيخوخة، غير قادرين بصورة مؤقتة أو مستمرة علي الارتزاق وذلك لتأمين مستوي معيشي سليم لهم ولأسرهم ولمعيليهم،(ب) حماية حقوق الأم والطفل، والاهتمام بتربية الأولاد وبصحتهم، وتوفير التدابير اللازمة لحماية صحة ورفاه النساء ولا سيما الأمهات العاملات أثناء حملهن وباكورة سن أطفالهن، وكذلك صحة ورفاه الأمهات اللواتي يكون أجرهن المصدر الوحيد لرزق الأسرة، ومنح النساء أجازات وعلاوات حمل وأمومة مع ضمانة عدم تعرضهن لفقد العمل أو الأجر،(ج) حماية حقوق الأطفال والمسنين والعجزة وتأمين رفاههم، وتوفير حماية لذوي العاهات البدنية أو العقلية.
كما تضمن الدستور المصري هذ الحق حيث نص على أن يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعي.وتكفل الدولة حماية الامومة والطفولة ، وترعى النشء والشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم. وخدمات التامين الاجتماعي والصحي، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعا، وذلك وفقا للقانون. (المادتان 7 و 17)
وعلى الرغم من عدم تضمن أي من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أوالعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية إشارة صريحة لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة فإن الصكوك الدولية التالية نصت بوضوح على ضمان تمكين هذه الفئة من التمتع بكافة الحقوق المنصوص عليها في مختلف صكوك الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ومن أول هذه الصكوك الإعلان الخاص بحقوق المعوقين الصادر عن الأمم المتحدة في 9/12/1975 والذي ينص – إضافة إلى ضمان تمتع ذوي الاحتيجات الخاصة بكل الحقوق الإنسانية المعترف بها - حقهم فى التدابير التى تهدف إلى تمكينهم من بلوغ أكبر قدر ممكن من الاستقلال الذاتى وحقهم في الخدمات التى تمكنهم من إنماء قدراته إلى أقصى الحدود وتعجل بعملية إدماجهم فى المجتمع وحق ذوي الاحتياجات الخاصة في أن تؤخذ حاجاتهم الخاصة بعين الاعتبار فى كافة مراحل التخطيط الاقتصادى والاجتماعى وحمايتهم من أى استغلال ومن أية أنظمه أو معاملة ذات طبيعة تميزيه أو متعسفة أو حاطة للكرامة وقد توالت الصكوك الدولية التي تهدف إلى ضمان هذه الحقوق ومنها: برنامج العمل العالمي المتعلق بالمعوقين الذي ينص على إطار للسياسة العامة يهدف إلى "اتخاذ التدابير الفعالة للوقاية من العجز، وإعادة التأهيل، وتحقيق هدفي "المشاركة الكاملة [من جانب ذوي الاحتياجات الخاصة] في الحياة الاجتماعية والتنمية، وتحقيق "المساواة" ،والمبادئ التوجيهية لإنشاء وتطوير لجان التنسيق الوطنية أو الهيئات المماثلة المعنية بالعجز، التي اعتمدت في عام 1990،ومبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي وتحسين العناية بالصحة العقلية، التي اعتمدت في عام 1991والقواعد الموحدة بشأن تحقيق تكافؤ الفرص للمعوقين المعتمدة في عام 1993 والتي تهدف إلى أن يكون لجميع الأشخاص المعوقين "إمكانية ممارسة ما يمارسه غيرهم من حقوق والتزامات"
(17)الحق في بيئة نظيفة:
يعد الحق في بيئة صحية وسليمة أحد حقوق التضامن، التي لا يمكن أن تمارس إلا بشكل جماعي من ناحية ومن خلال تضافر جهود الدولة والمجتمع من ناحية أخرى وقد أظهرت التطورات في مجال البيئة وتعرضها للتلوث بوضوح أهمية إقرار حق الحياة في بيئة صحية مناسبة ويجد هذا الحق أساسه الجديد في العديد من النصوص التي تضمنتها القوانين والعهود والمواثيق الدولية؛ إذ تجمع هذه الصكوك على كفالة حق الفرد في الحياة وفي سلامة بدنه وجسده ، ولا يمكن للإنسان التمتع بهذا الحق إلا إذا عاش في بيئة صحية سليمة، إذ أن تلوث البيئة بصوره المختلفة وعناصره ، لا يمّكن الإنسان من ممارسة حقه في الحياة وفي سلامة بدنه على الوجه الأكمل وكذلك قررالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وللحقوق المدنية والسياسية تقرر مجموعة من الحقوق المتصلة بالبيئة وقد شكل إعلان استوكهولم لعام 1972اعترافا واضحا بأن عناصر البيئة هي من العوامل الأساسية لرفاه وحياة الإنسان وتلاه إعلان لاهاي ليثبت حق الإنسان في الحياة بكامل متطلباتها من العيش بسلام وحرية، وتتوج هذه القرارات والإعلانات بقرار الهيئة العامة للأمم المتحدة في عام إلى حق الأفراد في بيئة مناسبة لصحتهم ورفاهيتهم. يجسّد مفهوم التنمية المستدامة بانحيازه للعدالة حقوق الإنسان في بيئة سليمة لأنه يشكل معياراً يمكن من خلاله تحديد مدى التقارب ما بين سياسات التنمية والإنسان يشير المفهوم إلى أن التجاوزات على حقوق الإنسان والبيئة هي محصلة علاقة غير متوازنة بين التنمية والبيئة مع ملاحظة أن البيئة لا تقتصر على البيئة الطبيعية والبيولوجية بل و البيئة الاجتماعية التي تمثل الإطار الذي يضم مختلف من العلاقات التي تحدد ماهية تفاعل الإنسان مع غيره سواء داخل المجتمع أو بين الجماعة التي ينتمي إليها والجماعات الأخرى من الأنماط الحضارية المختلفة وتؤلف هذه العلاقات معا ما يعرف بالنظم الاجتماعية.
(18) حقوق الأجانب
نطلق منظومة الحقوق الإنسانية من مبدأ المساواة بين جميع الأشخاص في تمتعهم بهذه الحقوق لمجرد كيانهم الإنساني بغض النظر عن أية اختلافات بينهم كالجنس أاو اللون أو الموطن أوغير ذلك من الاختلافات. ومن ثم أكدت الإعلانات والعهود والمواثيق الدولية وغيرها من الصكوك التي تمثل المرجعية الفكرية والقانونية لحقوق الإنسان على المساوة بين الناس في تمتعهم ومباشرتهم هذه الحقوق بغض النظر عن اختلاف مراكزهم القانونية، وأولت في هذا الصدد اهتماماً خاصاً بالمقيمين على أراضي الدولة من غير مواطنيها. وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد قرر حق كل فرد التمتع بجنسية ما (م 15) وفي حرية التنقل، وفى اختيار محل إقامته داخل حدود دولته ومغادرتها متى شاء (م13)، فإنه أوجب على الدولة المضيفة المساواة بين جميع الأشخاص المقيمين على أرضها في تمتعهم بحقوقهم الإنسانية سواء كانوا مواطنين أو أجانب. كما حظر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إبعاد الأجنبي المقيم بصفة قانونية في إقليم دولة طرف في هذا العهد إلا تنفيذا لقرار اتخذ وفقا للقانون (م 13)، كما أكد كل من الإعلان والعهد على توفير ذات الضمانات المقررة للمواطن للتمتع بحقوق الإنسان للأجنبي والمساواة بين كافة الأشخاص بغض النظر الأصل الذي ينحدرون منه أو موطنهم الأصلي.
وحماية لحقوق مصالح العمال المهاجرين فقد أفردت منظمة العمل الدولية لهم "الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال والمهاجرين وأفراد أسرهم" التي تبنتها الجمعية العامة بالقرار 45/158 المؤرخ في 18 دسمبر 1990 ومن بين الحقوق التي كفلتها الاتفاقية للعمال المهاجرين: الحق في الحماية من التعذيب والماعملة القاسية ، والحق في حرية الفكر والدين ، والحق في الملكية والسلامة الشخصية وفي المحاكمة العادلة ، والحق في التمتع بنفس الحقوق من حيث الأجر وشروط العمل وفي الضمان الاجتماعي والحق في التنظيم النقابي وفي الرعاية الطبية وفي الحصول على التعليم الأساسي لأطفالهم.

حقوق الإنسان بين الصكوك الدولية والتشريعات المصرية 1من 2

1) الحق في الحرية والأمان الشخصى
أ- الاعتقال
إن حرية الإنسان وأمنه على ذاته هي مناط الكرامة الإنسانية التي توافرت العهود والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان على ضمان احترامها وحفظها باعتبارها أهم الحقوق اللصيقة بالإنسان والتي لابد من تأمينها للتمتع بغيرها من الحقوق، وهو ما يظهر من استقراء هذه العهود والإعلانات والمواثيق التي تواترت على تقرير الحق في الحرية والأمان الشخصي حيث نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 9 منه على أنه " لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً".
كما يضمن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية توفير هذا الحق بشكل مفصل ومحكم حيث نص في مادته التاسعة على:
"1- لكل فرد حق في الحرية وفى الأمان على شخصه، ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا، ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون، وطبقاً للإجراء المقرر فيه.
2- يتوجب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه كما يتوجب إبلاغه سريعا بأية تهمة توجه إليه.
3- يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية سريعا، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه. ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم المحاكمة في أية مرحلة أخرى من مراحل الإجراءات القضائية ولكفالة تنفيذ الحكم عند الاقتضاء.
4- لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني.
5- لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض.
وكفل الدستور المصري ضمان توفير هذه الحرية في المادة (41) منه والتي نص فيها على : "الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس لايجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وذلك وفقاً لأحكام القانون. ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي."
ووضعت المادة (71) من الدستور ضمانات وحقوقاً للأفراد في حال القبض عليهم أو اعتقالهم فنصت على أنه " يبلغ كل من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فوراً ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذي ينظمه القانون ويجب إعلانه على وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه، وله ولغيره التظلم أمام القضاء من الإجراء الذي قيد حريته الشخصية، وينظم القانون حق التظلم بما يكفل الفصل فيه خلال مدة محددة، وإلا وجب الإفراج حتماً".
وعلى الرغم من أن بعض المواثيق والعهود الدولية أقرت حق الدول في تقييد ممارسة بعض الحقوق والحريات غير الأساسية _ والتي ليس من بينها الحق في الحرية والحياة الخاصة والآمنة¬- في حالة الطوارئ والأزمات إلا أن الأعراف الدولية والإقليمية الخاصة بحقوق الإنسان استقرت على وضع عدد من القيود والمبادئ التي تحكم سلوك الدول في حالات الخطر والطوارئ؛ ومنها:
- يجب أن تهدف التدابير الاستثنائية أو الإجراءات الاحترازية التي تتخذها الدول في حالات الطوارئ إلى تخفيض أو إلغاء الأوضاع الخطرة التي تهدد حياة الأمة.
- يجب أن تفشل الإجراءات المتبعة في الأوقات العادية في مواجهة الأوضاع الخطرة.
- أن تكون هناك تدابير طوارئ أخرى ذات أثر أقل على حقوق الإنسان وقادرة على حل المشكلة المعنية.
- لا ينبغي أن تمارس تدابير الطوارئ تمييزاً يقوم على الجنس أو اللون أو الدين أو الأصل الاجتماعي.
وقد خالف المشرع المصري هذه التوجهات والمبادئ العامة عند سنه ووضعه لقانون الطوارئ رقم 162 لسنة1958 الذي يتعارض بشكل واضح مع القيود الدستورية والقانونية الداخلية والالتزامات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بل ويتعارض مع آراء عدد من فقهاء القانون في مصر ومنهم د.أحمد فتحي سرور الذي يتولى سلطة التشريع (رئيس مجلس الشعب الحالي) في كتابه" الشرعية والإجراءات الجنائية" طبعة 1977 ص. 258؛ حيث قال "إن الدستور قد عني صراحة بمعالجة حالتين سمح فيهما استثناء للسلطة التنفيذية بأن تمارس بعض اختصاصات السلطة التشريعية وهي المادة (74) التي تمنح لرئيس الجمهورية سلطة اتخاذ كافة الإجراءات السريعة لمواجهة الخطر الذي يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري، والمادة (108) التي أجازت تفويض رئيس الجمهورية في الأحوال الاستثنائية بأغلبية ثلثي مجلس الشعب في إصدار قرارات لها قوة القانون ولو أراد المشرع الدستوري التحلل من بعض نصوص الدستور في حالة الطوارئ لحدد نطاق التحلل وضمانته على النحو الذي بينه في المادتين (74)،(108) سالفتي الذكر وإن القرار بقانون 162 لسنة 1958 بشأن حالة الطوارئ قد خالف الدستور فيما جاء به من نصوص خولت رئيس الجمهورية إصدار أوامر مما تدخل في اختصاص السلطة التشريعية وهي الجرائم والعقوبات والإجراءات الجنائية".
وبصرف النظر عن المبدأ العام السابق بشأن عدم دستورية قانون الطوارئ، فإنه من المفيد استعراض نصوص ومواد القانون والضمانات التي يقدمها لحفظ وصون حقوق الأفراد ومدى التزام السلطات المختصة بضوابط العمل عند تنفيذه، وذلك على النحو التالي:
أولاً: اعتبرت المادة الأولى من القانون إعلان العمل بحالة الطوارئ من أعمال السيادة ومؤدى ذلك امتناع المطالبة قضائياً بإلغائها أو التعويض عنها، ولايجوز فحص مشروعيتها بطريق مباشر أو غير مباشر فيما يتعلق بإعلانها أو بشروط إعلانها أو التدابير الصادرة من سلطات الطوارئ مما يعني أنه لا تتوافر أي رقابة قضائية على إعلان العمل بحالة الطوارئ.
ثانياً: خولت المادة الثالثة من القانون رقم 162 لسنة 1958 لسلطة الطوارئ اتخاذ عدة تدابير استثنائية، وأوردت في المادة الثالثة ستة تدابير على سبيل التمثيل لا الحصر، ومن ثم يكون لرئيس الجمهورية ولمن ينوب عنه سلطة تقديرية لا تقف عند حد هذه التدابير؛ ومنها:
- وضع قيود على حرية الشخاص في الاجتماع والتنقل والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة والقبض على المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن العام والنظام العام واعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية. وسلطة الأمر بمراقبة الرسائل والصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات وكافة وسائل التعبير وضبطها ومصادرتها وتعطيلها.
وقد صدر أمر رئيس الجمهورية رقم (4) لسنة 1982 بتفويض وزير الداخلية في اتخاذ التدابير المنصوص عليها في البند من المادة الثالثة، وبالتالي أصبح من سلطة وزير الداخلية ومكنته أن يصادر تلك الحقوق الأساسية الخاصة بالحرية الشخصية، وحرمة المساكن، وحرية الإقامة والتنقل، وحرية الاجتماع، وحرمة حياة المواطنين الخاصة ومراسلاتهم وبرقياتهم ومحادثاتهم التليفونية، وحرية الرأي والنشر، وحرية البحث العلمي والأدبي والفني، وذلك دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية وهو ما يسمح بالافتئات على حرية المواطنين. ومازال هذا التفويض الصادر لوزير الداخلية بصفته سارياً حتى الآن دون أن يخل ذلك بحق رئيس الجمهورية في استعمال تلك السلطات المخولة له أصلاً بموجب القانون، ورئيس الوزراء مفوض أيضاً في كافة اختصاصات رئيس الجمهورية الواردة في قانون حالة الطوارئ بموجب أمر رئيس الجمهورية رقم (1) لسنة 1987.
كما أضاف قانون حالة الطوارئ في الفقرة الأخيرة من المادة الثالثة أنه " يجوز بقرار من رئيس الجمهورية توسيع دائرة الحقوق المبينة في الفقرة السابقة على أن يعرض هذا القرار على مجلس الشعب في المواعيد وطبقاً للأحكام المنصوص عليها في المادة السابقة"
ويعد هذا التفويض التشريعي للسلطة التنفيذية في توسيع دائرة السلطات المفوضة لسلطة الطوارئ تهديداً خطيراً لمبدأ سيادة القانون واعتداء على اختصاصات السلطة التشريعية. كما أن ما ورد في المادة من ضرورة عرض الأمر على مجلس الشعب في المواعيد المنصوص عليها في المادة الثانية لا يحقق ضمانة في ظل انعدام أي رقابة برلمانية فعالة على الحكومة في الوقت الحاضر، كما أنه يجوز لرئيس الجمهورية توسيع دائرة التدابير المبينة أثناء انحلال المجلس.
ثالثاً: تضمن قانون الطوارئ نذراً قليلاً من الحقوق للمعتقلين عند إلقاء القبض عليهم أو في التظلم من قرار اعتقالهم ،حيث نصت المادة (3 مكرر) على أن "يبلغ فوراً كتابة كل من يقبض عليه أو يعتقل وفقاً للمادة السابقة بأسباب القبض عليه واعتقاله ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع والاستعانة بمحام ويعامل المعتقل معاملة المحبوس احتياطياً". وللمعتقل وغيره من ذوي الشأن أن يتظلم من القبض أوالاعتقال إذا انقضى ثلاثون يوماً من تاريخ صدوره دون أن يفرج عنه ويكون التظلم بطلب يقدم بدون رسوم إلى محكمة أمن الدولة المشكلة وفقاً لأحكام هذا القانون".
وتفصل المحكمة في التظلم بقرار مسبب خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تقديم التظلم وذلك بعد سماع أقوال المقبوض عليه أو المعتقل وإلا يتعين الإفراج عنه فوراً.
ولوزير الداخلية في حالة صدور قرار الإفراج أو في حالة عدم الفصل في الموعد المحدد المنصوص عليه في الفقرة السابقة أن يطعن على قرار الإفراج خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدور القرار أو انقضاء الموعد المشار إليه.
فإذا طعن وزير الداخلية على القرار أحيل الطعن إلى دائرة أخرى خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ الإحالة وإلا وجب الإفراج عن المعتقل فوراً ويكون قرار المحكمة في هذه الحالة واجب النفاذ.
وفي جميع الأحوال يكون لمن رفض تظلمه الحق في أن يتقدم بتظلم جديد كلما انقضى ثلاثون يوماً من تاريخ رفض التظلم".
ومؤدى نص المادة الآنفة البيان أن من يقبض عليه أو يعتقل وفقاً لقانون الطوارئ تكون له الحقوق التالية:
1- يبلغ فوراً كتابة بأسباب القبض عليه أو اعتقاله. وإبلاغ من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض أو الاعتقال يعد إجراءاً جوهرياً من الإجراءات الجنائية التي تتصل بحقوق الإنسان وحريته وهي على هذا النحو يعد أمراً يتعلق بالنظام العام بل أنها تعلو عليه باعتبارها أمراً يمس حرية الإنسان. وقد وضع القانون هذا التبليغ الكتابي كضمانة من الضمانات لا يجوز إهدارها تحت أي ظرف من الظروف إذ أن الإخلال بهذه الضمانة يعد افتئاتاً على حرية المعتقل وعدواناً عليه يجب درؤه.
2- يرخص له في الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع.
3- أن يستعين بمحام ومقابلته على انفراد في السجن بشرط الحصول على إذن كتابي من النيابة العامة 4- أن يعامل معاملة المحبوس احتياطياً. وقد نصت المادة (1 مكرر) من قرار رئيس الجمهورية رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون على أن: " يودع كل من حجز أو يعتقل أو يتحفظ عليه أو تسلب حريته على أي وجه في أحد السجون المبينة في هذا القانون أو أحد الأماكن التي يصدر بتحديدها قرار من وزير الداخلية وتسري عليها جميع الأحكام الواردة في هذا القانون على أن يكون حق الدخول فيها للتفتيش للنائب العام أو من ينيبه من رجال النيابة العامة بدرجة رئيس نيابة على الأقل.
وتبرز أهمية وجوب معاملة المعتقل معاملة المحبوس احتياطياً حسبما تضمنه قانون السجون آنف البيان واللائحة الداخلية للسجون الصادرة بقرار وزير الداخلية رقم (79) لسنة 1961 من استعراض المزايا المقررة للمحبوس احتياطياً والمتمثلة فيما يلي:
أ- يقيم المحبوسون احتياطياً في أماكن منفصلة عن أماكن غيرهم من المسجونين، ويجوز التصريح للمحبوس احتياطياً بالإقامة في غرف مؤثثة وذلك في حدود ما تسمح به أماكن المهمات بالسجن (م/ 14 من قانون السجون).
ب- للمحبوسين احتياطياً الحق في ارتداء ملابسهم الخاصة؛ وذلك ما لم تقرر إدارة السجن مراعاة للصحة والنظافة أو لصالح الأمن أن يرتدوا الملابس المقررة لغيرهم من المسجونين. (م/15 من قانون السجن).
جـ - يجوز للمحبوسين احتياطياً استحضار ما يلزمهم من الغذاء من خارج السجن أو شرائه من السجن بالثمن المحدد له، فإن لم يرغبوا في ذلك أو لم يستطيعوا صرف لهم الغذاء المقرر (م/16 من قانون السجن)
د- للمحبوسين احتياطياً الراغبين في مواصلة الدراسة الحق في تأدية الامتحانات الخاصة بها في مقار اللجان (م 13 من قانون السجون).
هـ - لايجوز تشغيل المحبوسين احتياطياً إلا إذا رغبوا في ذلك (م /24 من قانون السجون) ويزاولون مهنهم أو حرفهم لحسابهم (م/ 3 من اللائحة التنفيذية لهذا القانون).
و- للمحبوسين احتياطياً الحق في التراسل في أي وقت، ولذويهم أن يزوروهم مرة واحدة كل أسبوع في أي يوم من أيام الأسبوع عدا أيام الجمع والعطلات الرسمية (م/60 من اللائحة التنفيذية لهذا القانون).
ويلاحظ أن هذا القانون ظل سارياً طوال الفترة من عام 1952 وحتى العام الحالي 2005 ولمدة تربو على 52 عاماً باستثناء الفترة من 1964 إلى عام 1967 ومن أول عام 1980 إلى أكتوبر 1981، والمفترض فيه أنه سن لمعالجة أزمات أو حروب خطيرة تهدد بقاء الدولة ذاتها ولفترة زمنية محددة أي أنه يسن لمواجهة أوضاع استثنائية عاجلة لا يمكن مواجهتها أو التقليل من خطورتها في الظروف العادية وباستخدام النظام القانوني العادي.
ب- الاحتجاز خارج إطار القانون:
يعد الاحتجاز غير القانوني اعتداءً خطيراً على حقوق الإنسان يفوق في خطورته التعرض للاعتقال ليس من ناحية غياب سند قانوني لهذا الاحتجاز وحسب، بل لأنه يهدر كافة حقوق المحتجز الإنسانية نظراً لعدم توافر أي من ضمانات الحماية القانونية للمحتجز الذي يتم احتجازه في ظروف بالغة القسوة. ومن ثم حرصت المواثيق والعهود والإعلانات الدولية على ضمان حق كل فرد في ألا يتم حرمانه من حريته تعسفاً، فنصت المادة ( 9) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه " ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا ولايجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه"، كما قررت حق كل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني في الحصول على تعويض.
مع ملاحظة أن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان تبنت مفهوماً شاملاً للتوقيف التعسفي الوارد في العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فرأت أنه يجب أن يطبـق تطبيقاً عاماً ولا ينبغـي اعتبـاره مرادفـا ل‍ "المنافي للقانون"، بل يجب تفسيره بشكل أعم يشمل عناصر "عدم اللياقة والإجحاف والافتقار إلى إمكانية التنبؤ بالشيء". وضربت لذلك مثلاً بحالة المحتجزين الذين يُحتفظ بهم في المحتشدات بعد صدور الأمر بالإفراج عنهم من قبل سلطة سياسية أو سلطة أخرى والأشخاص الذين اعتقلوا دون أن توجه إليهم تهمة جنائية.
وإقراراً لهذا الحق نصت الـمادة 41 من الدستور المصري علي أن: " الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض علي أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه إجراءات التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وذلك وفقا لأحكام القانون".
انتهاك الحق في السلامة الجسدية والنفسية(التعذيب) :
إن التعذيب بما ينطوي عليه من إهدار للكرامة الإنسانية يقوض كافة حقوق الإنسان وحرياته ويجعل الحديث عن مباشرة أية حقوق خلواً من المعنى فأعمال التعذيب كما وصفها القرار 2000/43 الصادر عن لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة تشكل محاولة إجرامية لتدمير الإنسان بدنياً وذهنياً الأمر الذي لا يمكن تبريره في ظل أي ظرف من الظروف ولا باسم أي أيديولوجية أو مصلحة عليا..]و إن[ المجتمع الذي يسمح بالتعذيب لا يمكن أبداً أن يدعي احترام حقوق الإنسان.

ومن ثم كانت جهود هيئات ومؤسسات المجتمع الدولي لضمان حماية جميع الأفراد من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة والتصدي لجريمة التعذيب فنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة" وهو ما تم التأكيد عليه ثانية في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فى المادة السابعة منه في حين تم تصنيف جريمة التعذيب ضمن الجرائم ضد الإنسانية في اتفاقية منع تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في عام 1968 إلى أن اعتمدت الجمعية العامة في 9 ديسمبر 1975 إعلان حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
كما توافرت جهود المنظمات الدولية على إرساء آليات لمكافحة التعذيب فوضعت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1961 مبادئ تنظم معاملة المقبوض عليهم، وطلبت إلى الدول إصدار القوانين التي تحرم انتهاك هذه المبادئ، ثم اعتمدت في عام 1979 مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بتنفيذ القانون متضمنة تحريم قيام هؤلاء الموظفين بأي عمل من أعمال التعذيب أو التحريض عليه أو التغاضي عنه، وصولاً إلى اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر1984 والبروتوكول الاختياري للاتفاقية الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 ديسمبر 2002.
وتعتمد الاتفاقية تعريفاً شاملاً للتعذيب يمتد لكافة عناصره المادية والمعنوية حيث قررت المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب على أن التعذيب هو " أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه فى أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث – أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التميز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص أخر يتصرف بصفته الرسمية"
و توجب "اتفاقية مناهضة التعذيب" على كل دولة طرف فيها أن تجرم بموجب قانونها الجنائي أي عمل من أعمال التعذيب، وأن تقرر له العقوبة المناسبة للطبيعة الخطر لهذه الأعمال ( م4)، كما تقضي المادة (2) من الاتفاقية بأن "تتخذ كل دولة طرف إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة أو أية إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب"، وتحظر الاتفاقية التذرع بأية ظروف استثنائية أو بالأوامر الصادرة عن موظفين أعلى مرتبة أو سلطة عامة كمبرر للتعذيب، كما تنص المادة (11) من هذه الاتفاقية على أن "تُبقي كل دولة قيد الاستعراض المنظم... الترتيبات المتعلقة بحجز ومعاملة الأشخاص الذين تعرضوا لأي شكل من أشكال التوقيف أو الاعتقال أو السجن".
ولضمان عدم اللجوء للتعذيب لانتزاع الاعترافات تنص الاتفاقية على ضمان الدول الأطراف فيها إهدار أية اقوال تم الإدلاء بها نتيجة للتعذيب كدليل في أية إجراءات".
وتطلب الاتفاقية من الدول الأطراف فيها التحقيق السريع والنزيه في أية شكاوى بادعاءات التعرض للتعذيب يقدمها الأفراد، وأن تضمن في نظمها القانونية إنصاف من تعرض لعمل من أعمال التعذيب بشكل عادل ومناسب.
بينما تنص المادة الأولى من البروتوكول الاختياري للاتفاقية على أن هدفه...."إنشاء آلية للزيارات المنتظمة تقوم بها هيئات دولية ووطنية مستقلة إلى الأماكن التي يُحرم فيها الأشخاص من حريتهم، وذلك من أجل منع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهين بقبول أي دولة للبروتوكول عن طريق المصادقة عليه أو الانضمام إليه فإنها تصبح ملزمة بالسماح للجنة الفرعية المعنية بمنع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة و التي ينص البروتوكول على إنشائها بزيارة أي مكان خاضع لولايتها القضائية.
وعلى المستوى الوطني التزمت مصر بهذه العهود والاتفاقيات الدولية بموجب تصديقها علي العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية عام 1982، وعلي الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب بموجب القرار الجمهوري رقم 154 لسنة 1986 ، والمنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 25/7/1986، وكفل الدستور والتشريع الجنائى الحق فى السلامة الجسدية والنفسية والعقلية فى مواجهة الإجراءات الجنائية فنصت المادة ( 42) منه " كل مواطن يقبض علية أو يحبس أو تقيد حريته بأي قيد ، تجب معاملته بما يحفظ علية كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاءه بدنيا أو معنويا كما لا يجوز حجزه أو حبسه فى غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون وكل قول يصدر من مواطن تحت وطأة شي مما تقدم أو التهديد بشي منه يهدر ولا يعول عليه ". واعتبرت المادة (57) من الدستور التعذيب جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية عنها بالتقادم و قررت تعويض من وقع عليه التعذيب تعويضاً عادلاً ، وكذلك نصت المواد 126،127،129،282 من قانون العقوبات المصري على العقوبات التى توقع على أي موظف أو مستخدم عمومي أو أى شخص مكلف بخدمة عامة ارتكب جريمة التعذيب أو استعمال القسوة ضد المتهمين أو المحكوم عليهم أو غيرهم من آحاد الناس.
فقد نصت المادة (126) من قانون العقوبات على أن " كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى عشر . وإذا مات المجني علية يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمداً " ، كما تنص المادة (282) عقوبات على أنه " يحكم فى جميع الأحوال بالإشعال الشاقة المؤقتة على من قبض علي شخص بدون وجه حق وهدده بالقتل أو عذبة بالتعذيبات البدنية".
كما أضاف القانون رقم (6) لسنة 1998 قد المادتين 375 مكرر أ، و375 مكرر أ (1) اللتين تنصان على تجريم وعقاب كافة أعمال انتهاك السلامة الجسدية والمعنوية وبالنسبة لكافة الافراد للموظفين العامين وغيرهم حيث نصت المادة ( 375 مكرر أ) على أنه مع عدم الاخلال بأية عقوبة أشد واردة في نص آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من قام بنفسه أو بواسطة غيره باستعراض القوة أمام شخص أو التلويح له بالعنف، أو بتهديده باستخدام القوة أو العنف معه أو مع زوجه أو أحد من أصوله أو فروعه، أو التهديد بالافتراء عليه أو علي أي منهم بما يثنيه أو بالتعرض لحرمة حياته أو حياة أي منهم الخاصة، وذلك لترويع المجني عليه أو تخويفه بإلحاق الأذى به بدنيا أو معنويا أو هتك عرضه أو سلب ماله أو تحصيل منفعة منه أو التأثير في إرادته لفرض السطوة عليه أو لإرغامه علي القيام بأمر لا يلزمه به القانون أو لحمله علي الامتناع عن عمل مشروع، أو لتعطيل تنفيذ القوانين أو اللوائح أو مقاومة تنفيذ الإرهاب أو الاجراءات القضائية أو القانونية واجبة التنفيذ، متي كان من شأن ذلك الفعل أو التهديد إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو إلحاق الضرر بشيء من ممتلكاته أو مصالحه أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره أو بسلامة إرادته.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين إذا وقع الفعل أو التهديد من شخصين فأكثر، أو وقع باصطحاب حيوان يثير الذعر، أو بحمل سلاح أو آلة حادة أو عصا أو أي جسم صلب أو أداة كهربية أو مادة حارقة أو كاوية أو غازية أو مخدرة أو منومة أو أي مادة أخرى ضارة.
وتكون العقوبة مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز خمس سنين إذا وقع الفعل أو التهديد علي أنثى، أو علي من يبلغ ثماني عشر سنة ميلادية كاملة".
حقوق السجناء
تتجه السياسة العقابية والأمنية في رؤيتها لمعاملة المسجونين إلى التعديل الجذري بما يهدف إلى إثناء المجرم عن المضي في إجرامه وإعادة تأهيل المسجونين بغرض إعادة إدماجهم في المجتمع وردهم إليه أعضاء صالحين.
ومن هنا تطورت نظم العديد من السجون من وسيلة للزجر والردع دون أي مراعاة لأحوال السجين الصحية والنفسية والاجتماعية إلى معاملة المسجونين بما يلائم النظرة الجديدة إلى المسجون باعتباره آدمياً يجب الحفاظ على كرامته وحقوقه، وذلك بالاهتمام بأوضاع المسجونين، ووضع المبادئ والقواعد التي تكفل معاملتهم معاملة إنسانية، ورعايتهم أثناء سجنهم وبعد الإفراج عنهم، ورعاية أسرهم حتى لا يتعرضوا للانحراف.
فأصبح الغرض الذي تهدف إليه معاملة الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبة أو تدبير سالب للحرية أن تعيد تأهيلهم اجتماعياً وأن تنمي عندهم الشعور بالمسئولية وأن تخلق لديهم الإرادة والإمكانية التي تتيح لهم عقب الإفراج عنهم سلوك حياة يحترمون فيها القانون ويشبعون فيها احتياجاتهم.
وقد أسهمت جملة من المتغيرات ظهور هذه الرؤية الجديدة على رأسها إقرار عدد من الإعلانات والعهود والاتفاقيات الدولية التي أصبحت بتصديق غالبية الدول عليها جزءاً من تشريعاتها الداخلية، وبقيام هذه الدول بتعديل تشريعاتها الخاصة بالمعاملة العقابية داخل السجون بما يتماشى ويتوافق مع القواعد المنصوص عليها في هذه العهود والإعلانات والاتفاقيات؛ ومنها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء.
فقد أكدت المادة (5) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه: لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة.
وتقريراً للحق في المساواة بالتمتع بالمعاملة الكريمة لمجرد الوصف الإنساني بغض النظر عن وقع الفرد تحت طائلة الاتهام أو العقاب، أكدت المادة (7) من الإعلان أيضاً على أن الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز،، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز.
كما اتجه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلى تقنين أسس معاملة المحرومين من حريتهم في المادة (10) منه والتي تنص على أن: "1- يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني .2- (أ) يفصل الأشخاص المتهمون عن الأشخاص المدانين، إلا في ظروف استثنائية، ويكونون محل معاملة على حدة تتفق مع كونهم أشخاصا غير مدانين،(ب) يفصل المتهمون الأحداث عن البالغين. ويحالون بالسرعة الممكنة إلى القضاء للفصل في قضاياهم. 3- يجب أن يراعى نظام السجون معاملة المسجونين معاملة يكون هدفها الأساسي إصلاحهم وإعادة تأهيلهم الاجتماعي. ويفصل المذنبون الأحداث عن البالغين ويعاملون معاملة تتفق مع سنهم ومركزهم القانوني."
ونظراً لما شاب ممارسات بعض الدول من انتهاكها الواضح لحقوق المسجونين اتجهت الشرعة الدولية إلى وضع وتقنين معاملة المسجونين داخل السجون، وتبنت في هذا الشأن قراري المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقمي: 663 ج (د – 24) والمؤرخ في 31 يوليو 1957، و 2076 ( د- 62) المؤرخ في13 مايو 1977 اللذين يتضمنان القواعد النموذجية لمعاملة السجناء، واعتبرتهما الشرعة الدولية بمثابة الشروط الدنيا التي تعترف بصلاحها الأمم المتحدة للحكم على سلامة الأجهزة العقابية والسجون في العالم.
ويتناول الجزء الأول من هذه القواعد الضوابط المتعلقة بالإدارة العامة للمؤسسات الجزائية والتي يتعين تطبيقها على جميع فئات المسجونين، سواء كان حبسهم جنائياً أو مدنياً، وسواء كانوا متهمين أو مدانين، بما في ذلك أولئك الذين تطبق بحقهم "تدابير أمنية" أو تدابير إصلاحية أمر بها القاضي. وتتناول هذه القواعد بدءاً من القاعدة (9) إلى القاعدة (14) منها شروط إقامة السجين في أماكن الاحتجاز، حيث تحرم إقامة أكثر من شخص واحد في الغرف الفردية ليلاً، كما تركزعلى وجوب اختيار من يشغل الغرف الجماعية من المسجونين اختياراً واعياً على أساس الأهلية والتجانس مع فرض رقابة منظمة أثناء الليل تتفق وطبيعة السجن كما توصي هذه القواعد بوجوب توافر الاشتراطات الصحية وخاصة التهوية والحد الأدنى للاتساع والإضاءة والتدفئة وسعة النوافذ بحيث يستطيع المسجونون القراءة والعمل في الضوء الطبيعي وأن تكون الإضاءة الصناعية كافية ليتمكن المسجون من القراءة والعمل دون إضرار بإبصاره بالإضافة إلى إلزام المسجونين بمراعاة النظافة الشخصية مع تزويدهم بالمياه والأدوات اللازمة والمراحيض الكافية للمحافظة على صحتهم ونظافتهم. وتوجب القاعدة (20) على إدارة السجن توفير وجبة طعام ذات قيمة غذائية لكل سجين تكون كافية للحفاظ على صحته وقواه على أن تكون جيدة النوعية وحسنة الإعداد والتقديم، وتوفير الماء الصالح للشرب للسجين كلما احتاج إليه.
وتحدد القواعد بدءاً من القاعدة (22) إلى القاعدة (26) نوعية وجودة الخدمات الطبية والصحية التي يتوجب على إدارة السجون توفيرها للسجناء، ومنها توفير أطباء مؤهلين ومتخصصين للكشف الدوري والمنتظم على السجناء وكلما دعت الضرورة لذلك بغية اكتشاف أي مرض جسدي أو عقلي يمكن أن يصيب السجناء، واتخاذ جميع التدابير الضرورية لعلاجهم وتوفير المعدات والأدوات الصحية والأدوية والمنتجات الصيدلانية اللازمة والكافية للسجناء المرضى ونقل السجناء الذين يتطلبون عناية خاصة إلى سجون متخصصة أو مستشفيات مدنية متخصصة في علاج أمراضهم، وفرضت القاعدة (26) على أطباء السجون عدة واجبات منها: معاينة كمية ونوعية وطريقة غعداد الغذاء المقدم للسجناء، ومراقبة مدى اتباع القواعد الصحية والنظافة في السجن ولدى السجناء، وحالة المرافق الصحية والتدفئة والإضاءة والتهوية في السجن، ونوعية ونظافة ملابس السجناء ولوازم أسرتهم، ومدى التقيد بالقواعد المتعلقة بالتربية البدنية والرياضية حين يكون منظمو هذه الأنشطة غير متخصصين. وأوجبت هذه القواعد على الأطباء إعداد التقارير التي تتضمن اتخاذ التدابير اللازمة والتوصيات الواجب تنفيذها في كافة الواجبات المكلفين بها وتقديم هذه التقارير إلى مديري السجون لوضع نتائجها موضع التنفيذ أو رفعها إلى سلطة أعلى في حالة رفض مديري السجون التوصيات المقترحة أو في حالة ما إذا كانت التوصيات المقترحة خارج اختصاصات هؤلاء المديرين.
وفي مجال أسس وآليات تحقيق الانضباط والعقاب داخل السجون أوجبت القواعد من القاعدة (27) إلى القاعدة (34) على إدارة السجون عدم استخدام أدوات للعقاب أو للتأديب ضد السجناء تتسبب في زيادة العناء المتمثل في تجريد الشخص من تقرير مصيره وحرمانه من حريته، أو استخدام أي سجين في عمل على ينطوي على صفة تأديبية، وعدم جواز معاقبة السجين بالحبس الانفرادي أو بتخفيض الطعام المقدم له أو بأي عقوبة أخرى يحتمل أن تلحق الأذى بصحة السجين الجسدية أو العقلية مثل العقوبة الجسدية أو العقوبة بالوضع في زنزانة مظلمة وأية عقوبة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة، وأكدت القاعدة (35) على ضرورة قيام إدارات السجون بتزويد السجناء بالمعلومات المكتوبة أو الشفهية حول الأنظمة المطبقة على فئته من السجناء، حقوقه وواجباته على السواء، ومن تكييف نفسه وفقاً لحياة السجن بالإضافة لكفالة حقوق السجناء في التقدم بطلبات أو شكاوى إلى مدير السجن أو إلى الموظف المفوض بتمثيله أو إلى مفتشي السجون أو إلى السلطة القضائية أو إلى غيرهما من السلطات دون أن يخضع الطلب أو الشكوى للرقابة من حيث الجوهر، ولكن على أن يتم عبر الطرق المقررة وضرورة استجابة إدارة السجون لطلبات وشكاوى السجناء دون إبطاء.
وشددت القواعد من (37) إلى (42) على إدارة السجون ضرورة القيام بتوفير كافة السبل اللازمة لمداومة اتصال السجين بالعالم الخارجي سواء من خلال: الاتصال بأسرته أو بأصدقائه على فترات منتظمة وتلقيه زياراتهم، أو مواصلة الاطلاع بانتظام على مجرى الأحداث عن طريق الصحف اليومية والاستماع إلى محطات الإذاعة والتلفزيون، وتزويد كل سجن بمكتبة مخصصة لمختلف فئات السجناء، وتوفير مكان لممارسة الشعائر الدينية، والسماح للسجناء بحيازة كتب الشعائر والتربية الدينية وفرضت القاعدة (45) على إدارات السجون عدم تعريض السجناء أثناء نقلهم للسجن لأنظار الجمهور، وحظر نقل السجناء في ظروف سيئة من حيث التهوية والإضاءة وبأية وسيلة تفرض عليهم عناءً جسدياً لا ضرورة له وضرورة المساواة بين السجناء في وسائل النقل.
وأكدت القواعد (76) و(77) و(78) على إدارات السجون في دول العالم ضرورة تحديدها وقتاً كافياً للسجناء للتعليم، ومواصلة تعليمهم دون عناء، والسماح لهم بالقيام بأنشطة ترويحية وثقافية واجتماعية كجزء من علاج السجناء وإعادة تأهيلهم، والسماح للإدارات والهيئات الحكومية والخاصة والأهلية بإمكانية دخول السجن والالتقاء بالسجناء لمساعدتهم في بحث سبل تدبير موارد وتأمين أسباب العيش لهم داخل السجن وخارجه بعد إطلاق سراحهم.
وشددت القواعد من (84) إلى (93) على إدارات السجون الالتزام بتطبيق عدد من المعايير والضمانات بحق الموقوفين والمحتجزين في عهدة الشرطة أو السجن ولم يتم محاكمتهم والحكم عليهم ، ومنها إطلاق صفة "متهم" على هؤلاء الأشخاص، ومعاملته على أنهم أبرياء ووضع نظام معاملة خاص بهم مثل فصلهم عن السجناء المحكوم عليهم وارتداء ملابس خاصة والترخيص لهم بالاستعانة بأطبائهم المتخصصين، وكفالة وسائل الاتصال اللازمة لهم بالعالم الخارجي عموماً وأسرتهم بصفة خاصة، ووضعهم في غرف نوم فردية يتوفر بها وسائل الراحة من سير مستقل وفراش وأغطية كافية، وأن تكون فترة إقامة هؤلاء الأفراد بالسجون معقولة ومؤقتة وبحيث لا تتحول إلى نوع من العقوبة المقررة للسجناء المحكوم عليهم.
ونبهت القواعد من (79) إلى (81) على إدارات السجون ضرورة توجيهها عناية خاصة لكل سجين أثناء تنفيذ العقوبة، ووضع برنامج خاص بكل سجين لتأهيله للعودة للمجتمع كفرد صالح وتزويده بما يلزمه من سكن وملابس وتدبير فرصة عمل له بعد الإفراج عنه مما يحول دون عودته للجريمة ومن ثم للسجن مرة أخرى، والتنسيق مع الجهات المعنية لضمان تقديم الرعاية اللاحقة للسجين ولأسرته بعد الإفراج عنه.
أفرد المشرع الوطني عدداً من النصوص التشريعية التي توفر قدراً من الحماية ضد انتهاكات حقوق السجناء والمحتجزين، ومنها ما نصت عليه المادة (40) من قانون الإجراءات الجنائية من أنه " لايجوز القبض على إنسان أو حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة بذلك قانوناً، كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً". كما تضمن قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن السجون القواعد العامة في المعاملة العقابية للمسجونين، وفصلت اللائحة التنفيذية للقانون الصادرة بقرار وزير الداخلية رقم 79 لسنة 1961 في أوجه الرعاية الصحية والاجتماعية والإنسانية والنفسية التي ينبغي أو يتعين تقديمها للسجناء وحقوق وواجبات السجناء تجاه إدارة السجون واختصاصات أطباء موظفي السجون، وتنظيم قواعد الإفراج النهائي والشرط الصحي عن السجناء، ونظم وبرامج الرعاية اللاحقة بعد الإفراج عنهم.
وحدد قرار وزير الداخلية الصادر في 7 مارس 1998، والذي نشر في الجريدة الرسمية العدد 76 في 2 أبريل 1998 مقررات أغذية المسجونين العاديين والسجينات سواء الحوامل أو المرضعات، ومقررات أغذية مرضى القلب وتصلب الشرايين ومرضى السكر ومرضى القصور الكلوي ومقررات اغذية الأطفال الرضع.
وعلى الرغم من تقنين المعاملة العقابية للسجناء في التشريع المصري إلا إن ثمة معوقات ومشكلات عدة تعترض التطبيق السليم والنزيه لتلك الضوابط إما لقصور الإمكانات العلاجية أو إجراءات الضبط والربط من جانب المؤسسات القائمة، أو لتعسف القائمين على هذه المؤسسات في استخدام السلطات الممنوحة لهم في القانون واللائحة التنفيذية بشكل يهدر حق جانب كبير من السجناء في المساواة في المعاملة العقابية والرعاية داخل السجون
انتهاك حرية الرأي والتعبير:
تعتبر حرية الرأي والتعبير من الحقوق الفردية الشديدة الالتصاق بالإنسان وبطبيعته ويقصد بها في ظل المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية التي تناولتها " فتح المجال واسعاً أمام الإنسان لالتماس مختلف ضروب المعرفة، والإحاطة بأسرارها سواء للاستفادة الشخصية منها في تكوين رأيه الذي يؤمن به أو تمهيداً لنقل الاستفادة بها إلى غيره من الأشخاص بشتى الطرق والوسائل المكتوبة والشفهية".
وتشتمل حرية الرأي والتعبيرعلى حق القول أو حق الكلمة أي: الحق في إبداء الرأي ونقد الخطأ أو تصويبه أو الرد عليه بما يرد للصواب كرامته ويستبقيه في الحياة، وبهذا المعنى تعد حرية التعبير من أهم الركائز في حياة الإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يعيش في واقع لا يستطيع أن يعبر فيه عن رأيه، ويدافع عنه ويدعو إليه.
ويمثل حق النقد جوهر حرية الرأي ذلك أن حق النقد ليس إلا رأياً يبديه الناقد حول أمر متصل بالمصلحة العامة إذ أن حرية الرأي عملة ذات وجهين: أحدهما التعبير عن الذات والآخر التعبير لصالح المجتمع، فهي بالنسبة للمجتمع وسيلة إصلاح وتقدم، وحق النقد هو هذا الشق الأخير الخاص بالمجتمع الساعي للإصلاح والتقدم، حيث تثمر حرية الرأي اقتناعاً مبنياً على دقة النظر، وحرية الاختيار، فإذا ما أتيحت فرص الإعلان عن الرأي والتبشير به والدفاع عنه فإن ذلك سيوفر مناخاً حوارياً تتقابل فيه الآراء، وتتصارع فيه الحجج، فينكشف من المعطيات والطرق بذلك ما كان مستوراً بالغفلة، أو محجوباً بسبب الجهل، والثابت أن الحركات الفكرية الكبرى في التاريخ والتي أسهمت إسهاماً عظيماً في خلق التقدم ودفع مسيرته لم تكن إلا وليدة استعمال حرية الرأي في أوسع وأشمل صورها.
وقد تضمنت العديد من النصوص والمواثيق الدولية وجوب احترام حرية الرأي والتعبير بكافة أشكالها، وقررت ضمانات ممارستها حيث نصت المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: " لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء ون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود. في حين توسعت المادة (27) من الإعلان بضمان حق المشاركة الحرة في الحياة الثقافية باعتباره المجال العام لممارسة حرية الرأي والتعبير حيث تنص على أن: " لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية، وفى الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدم العلمي وفى الفوائد التي تنجم عنه. 2- لكل شخص حق في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه". وإزاء قيام عدد من الدول ذات أنظمة الحكم الشمولية بإهدار حقوق شعوبها في الرأي والتعبير بزعم إعطاء الاولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتأى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلزام الدول الأطراف فيه بتضمين التشريعات الداخلية الضمانات والإجراءات اللازمة لممارسة هذا الحق والمقرر في المادة (19) من الإعلان والتي تنص على أن: " لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة 2- لكل إنسان حق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها
.3- تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية: (أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، (ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
كما أكدت منظمة اليونسكو هذا المعنى في إعلان المبادئ الأساسية الخاصة بإسهام وسائل الإعلام في دعم السلام والتفاهم الدولي وتعزيز حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية والتحريض على الحرب في مؤتمرها ودورتها العشرين في 22 نوفمبر 1978.
ولم يقف الأمر تأكيداً وتثبيتاً لحرية الرأي والتعبير عند حد إصدار الوثائق والمواثيق الدولية وإنما صار الحق في حرية الرأي والتعبير واحداً من الحقوق الدستورية التي حرصت الدساتير المختلفة على النص عليها صراحة بتأكيدها على الحق في حرية الرأي والتعبير والمعرفة وتدفق المعلومات؛ ومنها الدستور المصري الذي حظيت فيه حرية الرأي والتعبير فيه بنصوص عديدة تؤكدها وتصونها يصل عددها إلى 13 مادة منها ما يقع في باب الحريات والحقوق والواجبات العامة (المواد أرقام: 27، 48 ، 49 ، 50 ، 57) أو في باب مستقل عن سلطة الصحافة (المواد من 206 إلى 211) فضلاً عن النصوص الواردة في الباب الرابع من الدستور والتي تؤكد سيادة القانون واستقلال القضاء.
كما تمنح التشريعات المختلفة ضمانات لحرية الرأي والتعبير وما يتفرع عنهما من الحق في تلقي المعلومات والبحث عنها وفحصها ونقلها عبر الحدود مثل: قانون تنظيم الصحافة رقم 96 الصادر عام 1996، ومواثيق الشرف الصحفي، ومنها: ميثاق الشرف الصحفي الصادر في عام 1983، أو الميثاق الحالي الذي أعدته نقابة الصحفيين وأصدره المجلس الأعلى للصحافة في 26/3/ 1998.
وفي مقابل ما سبق حرصت بعض المواثيق والإعلانات الدولية وكذا الستور المصري والتشريعات الوطنية على تنظيم هذه الحرية بما يقابلها من واجبات إزاء المجتمع او الآخرين بحيث لا تتضمن مساساً بحقوقهم أو عدواناً على حرياتهم ومراعاة قيم المجتمع والنظام العام لذا كان فرض مسئولية لاحقة يحددها القانون أمراً جائزاً ومقبولاً، ويحدد القانون صراحة متى يكون ذلك ضرورياً من أجل احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن القومي أو النظام العام أو المصلحة العامة أو الأخلاق أو الآداب العامة، وهو ما يعبر عنه دوماً " بالحرية المسئولة " وقد حفلت محكمة النقض بتحديد ماهية التوازن بين الحرية والمسئولية وحدود الممارسة بين الحل والتحريم في مجال الحقوق والحريات الخاصة بالرأي والتعبير، وذلك بحكم دورها في الرقابة القضائية على ممارسة هذه الحقوق والحريات سواء في مجال التشريع أو التطبيق.
حق المشاركة في الاقتراع وإدارة الشئون العامة:
أضحى حق الاقتراع والمشاركة في إدارة الشئون العامة من الحقوق الأساسية المستقرة في النظم السياسية المعاصرة عموماً، والنظم الديمقراطية بصفة خاصة، لذا حرص العديد من الدول النامية التي تمر بعملية التحول الديمقراطي على البدء بتفعيل هذا الحق نظراً لما يمنحه من قوة دفع ذاتى لتنفيذ باقي متطلبات هذه العملية، إضافة إلى أثره في طمأنة دول العالم الأخرى على جدية التزامها بالديمقراطية وعلى أمنها وسلامتها ومن ثم على استثمارات هذه الدول فيها نظراً لاستقرار السياسات وترسخ دور المؤسسات في هذه الدولة.
وقد سعت الشرعة الدولية لتقنين هذه الحقوق المؤسسة للتطور الديمقراطى ونظم الحكم الرشيد فى عدد من الإعلانات والعهود والاتفاقيات؛ وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص في المادة (21) منه على أنه :"1- لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشئون العامة لبلده، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية. 2- لكل شخص بالتساوي مع الآخرين، حق تقلد الوظائف العامة في بلده .3- إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم ويجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرية التصويت."
يضاف لما سبق العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذى أفرد المادة (25) منه لتقنين ذات الحقوق المنصوص عليها فى الإعلان العالمى لحقوق الانسان ،وبنفس الكلمات والضوابط التي صيغت في الإعلان.
ويمكن على ضوء المادة (25) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التأكيد على عدد من الملاحظات الخاصة بمباشرة المواطنين لحق الاقتراع وإدارة الشئون العامة، ومنها:
1- إن المادة (25) من العهد تُقر وتحمي حق كل مواطن في أن يشارك في إدارة الشؤون العامة، وحقه في أن يَنتخب أو يُنتخب، وحقه في أن تتاح له فرصة تقلد الوظائف العامة. ويطلب العهد إلى الدول، بغض النظر عن ماهية دستورها أو نوع الحكم القائم، أن تعتمد ما قد يلزم من التدابير التشريعية والتدابير الأخرى لضمان توفير إمكانية فعلية تسمح للمواطنين بالتمتع بالحقوق التي يحميها. وتعتبر المادة (25) أساس الحكم الديمقراطي القائم على موافقة الشعب والذي يراعي المبادئ المكرسة في العهد.
2- إن مفهوم إدارة الشؤون العامة المشار إليه في الفقرة (أ) من ذات المادة هو مفهوم واسع يتعلق بممارسة السلطة السياسية، وعلى وجه الخصوص، السلطات التشريعية والتنفيذية والإدارية؛ وهو يشمل شتى أوجه الإدارة العامة كما يخص تحديد وتنفيذ السياسة العامة التي ستتبع على الأصعدة الدولية والوطنية والإقليمية والمحلية. ويجب أن تحدد دساتير الدول وقوانينها كيفية توزيع السلطات، والوسائل التي ستتاح للمواطنين الأفراد كي يمارسوا حقهم المحمي في المادة (25) في المشاركة في الشؤون العامة.
3 - يشارك المواطنون مباشرة في إدارة الشؤون العامة عندما يمارسون السلطة بوصفهم أعضاء الهيئات التشريعية أو بشغل مناصب تنفيذية. وتؤيد الفقرة (ب) الحق في المشاركة المباشرة. ويشارك المواطنون في إدارة الشؤون العامة بصفة مباشرة، أيضا، عندما يختارون دستورهم أو يعدلونه، أو يبتون في مسائل عامة عن طريق الاستفتاءات الشعبية أو غيرها من الإجراءات الانتخابية التي تجري طبقا للفقرة (ب). ويجوز للمواطنين أن يشاركوا مباشرة بانضمامهم إلى المجالس الشعبية المخولة بسلطة اتخاذ القرارات في المسائل المحلية أو في شؤون جماعة معينة، وبانتسابهم إلى هيئات تنشأ بالتشاور مع الحكومة لتمثيل المواطنين. ويجب، حيثما أقرت المساهمة المباشرة للمواطنين، ألا يتم التمييز بين المواطنين بناء على الأسس المذكورة في الفقرة1 من المادة (2) وألا تفرض عليهم قيود غير معقولة.
4- تشكل حرية التعبير وحرية التجمع، وحرية تكوين الجمعيات شروطا أساسية أيضاً لممارسة حق الانتخاب بصورة فعالة، لذا يجب حمايتها تماما. وينبغي أن تتخذ تدابير إيجابية للتغلب على صعوبات معينة من قبيل الأمية، والعوائق اللغوية، والفقر، أو ما يعيق حرية التنقل مما يحول دون تمكن الأشخاص المؤهلين للانتخاب من ممارسة حقوقهم بصورة فعلية. ويجب أن توفر المعلومات والمواد اللازمة للاقتراع بلغات الأقليات. كما ينبغي أن تعتمد أساليب معينة، مثل استخدام الصور الفوتوجرافية والرموز لضمان أن الناخبين الأميين حصلوا على ما يلزم من المعلومات لتمكينهم من الاختيار.
5- تُكفل للمتمتعين بحق الانتخاب حرية اختيار المرشحين بإعمال حق الترشيح والاستفادة من فرص تقلد المناصب إعمالا فعالا. وينبغي أن تكون أي قيود تفرض على حق ترشيح النفس للانتخاب، مثل تعيين حد أدنى للسن، قيود مبررة قائمة على معايير موضوعية ومعقولة ويجب ألا يستثنى أي شخص مؤهل، غير من تنطبق عليه هذه القيود، من ترشيح نفسه للانتخاب لأسباب غير مقبولة أو لأسباب تمييزية من قبيل مستوى التعليم، أو مكان الإقامة، أو النسب، أو بسبب انتمائه السياسي. ويجب عدم إخضاع أي شخص لأي شكل كان من أشكال التمييز أو التحيز لمجرد قيامه بترشيح نفسه.
6- ويجب أن تكون الانتخابات نزيهة وحرة وأن تجري دوريا في إطار قوانين تضمن ممارسة حقوق الانتخاب ممارسة فعلية. ويجب أن يتمتع المؤهلون للانتخاب بحرية الإدلاء بصوتهم لمن يختارون من بين المرشحين للانتخاب ولصالح أو ضد أي اقتراح يطرح للاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء العام، وأن يتمتعوا بحرية مناصرة الحكومة أو معارضتها دون إخضاعهم لنفوذ مفرط أو قسر من أي نوع كان مما قد يشوب أو يكبت حرية الناخب في التعبير عن رأيه وإرادته. ويجب أن يمكن الناخبون من تكوين رأيهم بصورة مستقلة دون التعرض للعنف أو التهديد باستخدام العنف، أو الإكراه، أو الإغراء، أو محاولات التدخل بالتلاعب مهما كان نوعها. وقد تكون بعض القيود المعقولة التي تستهدف الحد من تكاليف الحملات الانتخابية مبررة إن كانت ضرورية لضمان حرية الاختيار التامة للناخبين أو للتأكد من أن العملية الديمقراطية لا يشوبها إفراط في الإنفاق لصالح أي من المرشحين أو الأحزاب. ويجب أن تراعى في النتائج التي تسفر عنها الانتخابات النزاهة وأن يتم تنفيذها.
7- ينبغي إنشاء سلطة انتخابية مستقلة للإشراف على عملية الانتخاب ولضمان إنصافها ونزاهتها وسيرها وفقا للقوانين المعمول بها بما يطابق أحكام العهد. وينبغي للدول أن تتخذ التدابير اللازمة لضمان سرية الاقتراع أثناء الانتخابات، بما في ذلك الاقتراع الغيابي حيثما وجد. وذلك يعني وجوب حماية الناخبين من شتى أشكال القسر أو الإغراء التي تدفعهم إلى الكشف عن نواياهم الاقتراعية أو عمن استفاد من صوتهم، وحماية هؤلاء من أي تدخل غير قانوني أو تعسفي في عملية الاقتراع. ويعتبر كل ما يبطل هذه الحقوق منافيا لما ورد من أحكام في المادة 25 من العهد. ويجب أن تضمن، أيضا، سلامة صناديق الاقتراع، وأن تفرز الأصوات في حضور المرشحين أو وكلائهم. وينبغي أن تدقق جهات مستقلة في عملية الاقتراع وفرز الأصوات وتتاح إمكانية المراجعة القضائية أو غيرها من الإجراءات المشابهة لضمان ثقة الناخبين بأمانة الاقتراع وفرز الأصوات. ويجب أن توفر المساعدة المتاحة للمعوقين فاقدي البصر أوالأميين عن طريق جهات مستقلة. كما يجب السعي لإطلاع الناخبين على هذه الضمانات على أكمل وجه.
8- على الرغم من أن العهد لا يفرض اتباع أي نظام انتخابي خاص، يجب الحرص على أن تراعى في أي نظام يؤخذ به في دولة من الدول الأطراف الحقوق المحمية بموجب المادة (25) من العهد، وأن تضمن وتنفذ حرية الناخبين في التعبير عن رأيهم وإرادتهم . وينبغي أن يطبق المبدأ الآخذ بالصوت الواحد للشخص الواحد، وأن يساوى بين أصوات جميع الناخبين. ويجب ألا يفضي تعيين الحدود الانتخابية وأسلوب الاقتراع إلى تكوين فكرة مشوهة عن توزيع الناخبين أو إلى التمييز ضد أي فئة من الفئات، كما يجب ألا يؤدي ذلك إلى إبطال حق المواطنين في اختيار ممثليهم بحرية أو تقييد هذا الحق بصورة غير معقولة.
9- من الضروري لضمان التمتع التام بالحقوق المحمية بموجب المادة 25، أن يتمكن المواطنون والمرشحون والممثلون المنتخبون من تبادل المعلومات والآراء بكل حرية حول مسائل تتعلق بالشؤون العامة والسياسية. وذلك يفترض وجود صحافة حرة قادرة على التعليق على القضايا العامة دون رقابة أو تقييد، وعلى إطلاع الرأي العام. ويتطلب ذلك التمتع تمتعا تاما بالحقوق المضمونة بموجب المواد (19) و(21) و(22) من العهد، ومراعاة هذه الحقوق على أتم وجه، بما فيها حق الفرد في ممارسة نشاط سياسي بمفرده أو بانتسابه إلى حزب سياسي أو غيره من المنظمات، وحرية مناقشة الشؤون العامة، وحق تنظيم مظاهرات واجتماعات سلمية، وحق الانتقاد والمعارضة، وحق نشر المقالات السياسية، وحق تنظيم حملة انتخابية والدعاية لمبادئ سياسية.
ويعتبر الحق في حرية تكوين الجمعيات، بما في ذلك الحق في تشكيل منظمات تعنى بالشؤون السياسية والعامة والالتحاق بهذه المنظمات، إضافة أساسية للحقوق المحمية بموجب المادة (25)، فالأحزاب السياسية والانضمام إلى عضوية الأحزاب تلعب دورا هاما في إدارة الشؤون العامة والعملية الانتخابية. فيجب على الدول أن تضمن في إدارتها الداخلية مراعاة الأحزاب السياسية لأحكام المادة (25) الواجبة التطبيق بغية تمكين مواطنيها من ممارسة حقوقهم المعترف بها في إطار هذه المادة.
(6) الحق في حرية التنظيم وتكوين الجمعيات:
الأصل في الاجتماع البشري أن يكون قائماً على الطوعية والتقاء الإرادات الحرة لتحقيق النفع العام ضماناً لعدم استبداد أي قوة بقيامها بالحد من حرية الإنسان والتدخل في تشكيل نمط حياته وتقرير مصيره.
ومن ثم اتجهت المنظومة القانونية لحقوق الإنسان لتقرير الحق في تكوين الجمعيات والانضمام إليه - والذي يعد أحد المتطلبات الأساسية لقيام حياة ديمقراطية سليمة - كأحد حقوق الإنسان الأساسية، فنصت المادة (22) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن: " 1- لكل فرد حق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق إنشاء النقابات والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه.
2- لا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي ينص عليها القانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم. ولا تحول هذه المادة دون إخضاع أفراد القوات المسلحة ورجال الشرطة لقيود قانونية على ممارسة هذا الحق".
ويرتبط هذا الحق بشكل وثيق بحق المشاركة في إدارة الشئون العامة على النحو الذي أوضحته لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 25 المعتمد في الدورة 57 لسنة 1996، حين قررت اعتبار الحق في حرية تكوين الجمعيات، بما في ذلك الحق في تشكيل منظمات تعنى بالشؤون السياسية والعامة والالتحاق بهذه المنظمات، إضافة أساسية للحقوق المحمية بموجب المادة( 25) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية والتي تختص بالحق في المشاركة في إدارة شئون المجتمع، وأن المواطنين يشتركون في إدارة الشؤون العامة بممارسة النفوذ من خلال المناقشات العامة والحوار مع ممثليهم، أو من خلال قدرتهم على تنظيم أنفسهم. وتتعزز هذه المشاركة بضمان حرية التعبير، والاجتماع، وتكوين الجمعيات.
وقد تواترت الدساتير المصرية منذ دستور 1923 على كفالة حق التنظيم انتهاء إلى دستور 1971 الذي أقر الحق في التنظيم في المادة (55) منه والتي تنص على أن: " للمواطنين حق تكوين الجمعيات على الوجه المبين في القانون ويحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معاديا لنظام المجتمع أو سريا أو ذا طابع عسكري". وتذهب الفقرة الأولي من المادة (56) من الدستور إلي أن "إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون وتكون لها الشخصية الاعتبارية"، ويتضح من المادة (55) أن الدستور قد كفل حق التنظيم إلا أنه أحال للمشرع مهمة تنظيم هذا الحق الدستوري.
وقد أتت القوانين المتتالية بدءاً من القانون 49 لسنة 1945 بشأن الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية مروراً بالقانون رقم 384 لسنة 1956 والقانون رقم 32 لسنة 1964 بشأن الجمعيات والمؤسسات الخاصة والقانون رقم 153 لسنة 1999 وانتهاء بالقانون رقم 84 لسنة 2002 لتخضع النشاط الأهلي للسلطة التنفيذية في كل كبيرة وصغيرة من خلال ربط الجمعيات الأهلية ببيروقراطية الجهاز الحكومي ذات السمعة المعروفة في خنق المبادرات الجماهيرية حيث تخضع هذه الجمعيات لإشراف سلطة واحدة هي إدارة الجمعيات داخل وزارة الشئون الاجتماعية.
ودون التطرق لمثالب القانون رقم 84 لسنة 2002 الذي كان محل انتقادات واسعة يمكن الإشارة بصدد الشكاوى التي تلقاها المجلس إلى أن هذا القانون قد أقر نظام الأذن المسبق (الترخيص) في تكوين الجمعيات حيث اشترط القانون لممارسة الحق في تكوين الجمعيات الحصول على موافقة وزارة الشئون الاجتماعية بعد تقديم طلب قيد ملخص النظام الأساسي للجمعية على النموذج المعد لذلك بواسطة الجهة الإدارية (إدارة الجمعيات بالوزارة ) (م 5 و 6 ) ولهذه الجهة رفض طلب القيد خلال ستين يوماً بقرار يخطر به ممثل جماعة المؤسسين.
كما نصت المادة (8) من القانون على أن للجهة الإدارية الاعتراض على ما ترى فيه مخالفة للقانون في النظام الأساسي للجمعية أو فيما يتعلق بالمؤسسين.
وبذلك لا يستطيع الفرد ممارسة حريته التي كفلها له الدستور إلا بعد أن يستأذن الإدارة التي أن شاءت منحت وإن أبت منعت، ولم يأخذ القانون بنظام الإخطارالأكثر اتساقاً مع الرؤية الديمقراطية في تنظيم الحريات حيث يتصرف الفرد بحريته ثم يسأل بعدها عن نتائج سلوكه.
(8) الحق في التمتع بالجنسية المصرية:
يعتبر العديد من المواثيق والعهود الدولية حق تمتع الأفراد بجنسية ما من الحقوق اللصيقة بوجودهم من الميلاد حتى الممات، وشددت هذه المواثيق والعهود على توفير كافة الدول وكفالتها هذا الحق لجميع الأفراد المتواجدين على أرضها دون تمييز أو تفرقة بسبب الدين أو العرق أو اللغة، وأكدت على أن هذا الحق وثيق الصلة بحق آخر هو الاعتراف بالشخصية القانونية.
ومن أبرز هذه المواثيق والعهود الدولية: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أكد في المادة (6) منه على أن "لكل إنسان في كل مكان، الحق بأن يعترف له بالشخصية القانونية"، وشدد في المادة (15) على أن "1- لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. 2- لا يجوز، تعسفا، حرمان أي شخص من جنسيته ولا من حقه في تغيير جنسيته." ، وأقر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية هذا الحق، وضمنه في المادتين (16) و (24) منه، حيث نصت المادة (16) على أن " لكل إنسان، في كل مكان، الحق بأن يعترف له بالشخصية القانونية. " ،وأكدت المادة (24) على ضرورة تمتع كل طفل بهذا الحق – وذلك في إطار أوسع لحماية حقوق الطفل وإضفاء ضمانة دولية لممارستها- من خلال النص على "1- يكون لكل ولد، دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب، حق على أسرته وعلى المجتمع وعلى الدولة في اتخاذ تدابير الحماية التي يقتضيها كونه قاصرا. 2- يتوجب تسجيل كل طفل فور ولادته ويعطى اسما يعرف به. 3- لكل طفل حق في اكتساب جنسية."
في حين اتجهت اتفاقية حقوق الطفل التي وقعت عليها مصر في 6/7/1990 وصدقت عليها في 2/9/1990 إلى التأكيد على قيام الدول المنضمة إليها بتنفيذ الالتزامات الواردة في المادة 7 من الاتفاقية في شأن حق الطفل في اكتساب جنسية عموماً وفي حال اعتبار الطفل عديم الجنسية، بصفة خاصة حيث نصت المادة السابقة في هذا الشأن على:
" 1- يسجل الطفل بعد ولادته فوراً، ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان، الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما. 2- تكفل الدول الأطراف إعمال هذه الحقوق وفقاً لقانونها الوطني والتزاماتها بموجب الصكوك الدولية المتصلة بهذا الميدان ولا سيما حيثما يعتبر الطفل عديم الجنسية في حال عدم القيام بذلك."
وعلى الرغم من أن المشرع المصري قد أفاض في كفالة العديد من الحريات والحقوق، وسبق في بعض الأحيان المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، فإنه في مسألة منح الجنسية لم يحدد إطاراً من الإجراءات والضوابط الواضحة بما يجعلها مستقرة في التطبيق. ويظهر هذا التناقض في المادة (53) من الدستور المصري التي قنن فيها المشرع وأصبغ نوعاً من الحماية القانونية على اللاجئين السياسيين – والتي لم تكن معروفة في الممارسة العملية في كثير من الدول آنذاك – حيث نصت المادة (53) منه على أن "تمنح الدولة حق الالتجاء السياسي لكل أجنبي اضطهد بسبب الدفاع عن مصالح الشعوب أو حقوق الانسان أو السلام أو العدالة، وتسليم اللاجئين السياسيين محظور." في حين أنه اتجه عند تقنينه لأسس وقواعد منح الجنسية المصرية للأجانب عموماً والأطفال بصفة خاصة في القانون الصادر عام 1975 لعدم الأخذ بالتوجهات الدولية الجديدة في شأن منح الجنسية، والتي ارتضتها الحكومة المصرية بتوقيعها على الاتفاقيات المتضمنة لهذه الحقوق والتصديق عليها مما أضفى عليها قوة الإلزام والنفاذ المضمونة للتشريعات الداخلية، ومنها المساواة بين الأفراد بغض النظر عن جنسهم ذكراً كان أم أنثى (م2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و م (3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية)، فضلاً عن إخلال القانون رقم 26 لسنة 1975 بشأن الجنسية المصرية بالمبادئ الدستورية التي قررها دستور1971 في بابه الثالث المتعلق بالحريات والحقوق والواجبات العامة، وفي مجال المساواة بين المواطنين على وجه الخصوص، حيث تؤكد المادة (40) على أن: " المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة."
وقد خالف المشرع المبدأ الدستوري السابق في قانون الجنسية رقم (26) لسنة 1975 إذ اعتمد في الفترة من عام 1975 إلى 14 يوليو 2004 في ثبوت الجنسية الأصلية للأبناء على حق الدم من جهة الأب، وبذلك يكتسب الفرد الجنسية بقوة القانون بمجرد ميلاده لأب يحمل الجنسية المصرية. أما من يولد لأم مصرية فإنه لا يكتسب الجنسية المصرية الأصلية إلا إذا ولد في مصر وكان الأب مجهول الجنسية أو معدومها أو لم يثبت نسبه لأب قانوناً.
وإزاء ذلك الوضع اتجه الفقه ، والمجلس القومي للمرأة، والمجالس القومية المتخصصة، ورجال الصحافة، والمؤسسات والجمعيات الأهلية التي ترعى حقوق المرأة والطفل في مصر إلى بحث هذه المشكلة، وتقييم مسلك المشرع المصري الذي أفصح عنه تشريع الجنسية من حيث عدم المساواة بين دور الأب والأم في نقل الجنسية المصرية للأبناء. وانتهى الجميع إلى ضرورة تعديل نص المادة الثانية من القانون، والتي تنص على "أن يكون مصرياً كل من ولد لأب مصري" ليصبح كما يلي: " يكون مصرياً كل من ولد لأب مصري وأم مصرية". وقد استجابت القيادة السياسية لهذا المطلب ووجهت الحكومة بالتقدم للسلطة التشريعية بمشروع قانون لتعديل أحكام ومواد قانون الجنسية.
وفي 14 يوليو 2004، وافق مجلس الشعب على تعديل أحكام قانون الجنسية رقم (26) لسنة1975، وتعديل نص المادة (2) من القانون بالنص التالي: " يكون مصرياً: 1- من ولد لأب مصري، أو لأم مصرية. 2- من ولد في مصر من أبوين مجهولين. ويعتبر اللقيط في مصر مولوداً فيها ما لم يثبت العكس"، كما نصت المادة الثالثة على أن:"يكون لمن ولد لأم مصرية وأب غير مصري قبل تاريخ العمل بهذا القانون أن يعلن وزير الداخلية برغبته في التمتع بالجنسية المصرية، ويعتبر مصرياً بصدور قرار بذلك من الوزير، أو بانقضاء مدة سنة من تاريخ الإعلان دون صدور قرار مسبب منه بالرفض. ويترتب على التمتع بالجنسية المصرية تطبيقاً لحكم الفقرة السابقة تمتع الأولاد القصر بهذه الجنسية باتباع ذات الإجراءات السابقة. فإذا توفي من ولد لأم مصرية و أب غير مصري قبل تاريخ العمل بهذا القانون يكون لأولاده حق التمتع بالجنسية وفقاً لأحكام الفقرتين السابقتين، وفي جميع الأحوال يكون إعلان الرغبة في التمتع بالجنسية المصرية بالنسبة للقاصر من نائبه القانوني، أو من الأم، أو متولي التربية في حالة عدم وجود أيهما."
وعقب إصدار هذا القانون والعمل به في 15 يوليو 2004، توجهت المئات من الأمهات المصريات المتزوجات من غير المصريين إلى وزارة الداخلية لطلب التمتع بالجنسية المصرية لأبنائهن، ووافق وزير الداخلية على غالبية هذه الطلبات، إلا أن هناك نذراً من هذه الطلبات لم يتم الاستجابة لها مما دفع بأصحابها إلى تقديم شكاواهم إليه بهذا الخصوص والتي يتضررون فيها من عدم تطبيق القانون بتعديلاته الجديدة عليهم
انتهاك حق حرية السفر
يعتبر الحراك البشري على مستوى الجماعات والأفراد سبباً أصيلاً من أسباب تكون المجتمعات ونمو الحضارات، ومن ثم كان التنقل والسفر سمة من السمات الملازمة للإنسان في مختلف مراحل تطوره الاجتماعي، فلما استقرت المدنية وتأسست الدول وخططت بينها الحدود تحولت هذه السمة من سلوك فطري إلى حق أصيل منظم وفقاً للمصالح المرسلة التي تعد مثابة كل تشريع.
وفي العصر الحديث أصبح حق التنقل والسفر من الحقوق التي تكفلها جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية والإقليمية؛ حيث أكدت المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل فرد حق في حرية التنقل وفى اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة" بالإضافة إلى أن "لكل فرد حق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفى العودة إلى بلده" كما أوجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على الدول احترام حق وحرية السفر ومغادرة البلاد بما فيها دولة الفرد التي ينتمي إليها، وهو ما قرره البند الثاني من المادة (12) من العهد حيث نص على أنه " لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده" غير أن البند 3 من ذات المادة وضع استثناءً على الوضع والإطار العام السابق وهو جواز تدخل الدول لتقييد هذا الحق إذا كانت هناك ضرورة لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم. واشترط ذات البند على الدول ضرورة استصدار قانون يخول الجهات القضائية تقييد حق وحرية السفر والتنقل، إذ نص على أنه "لا يجوز تقييد الحقوق المذكورة أعلاه بأية قيود غير تلك التي ينص عليها القانون، وتكون ضرورية لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم، وتكون متمشية مع الحقوق الأخرى المعترف بها في هذا العهد."
والملاحظ أن الدستور المصري قد ساير الإطار العام الذي وضعه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بشأن حق السفر والهجرة إلى الخارج حيث نص في المادة (52) منه على أن " للمواطنين حق الهجرة الدائمة أو الموقوتة إلى الخارج، وينظم القانون هذا الحق وإجراءات وشروط الهجرة ومغادرة البلاد "
أما التشريعات المنظمة لحرية وحق التنقل والسفر فقد اتخذت موقفاً متناقضاً ومتعارضاً مع الإطار الدستوري العام والسابق بيانه وهو ما تظهره قراءة قانون الهجرة رقم 111 لسنة 1983 وقرار وزير الداخلية رقم 2214 لسنة 1994 بشأن تنظيم قوائم الممنوعين، إذ أن قانون الهجرة جاء خالياً من أي قيود على حق المصريين في مغادرة البلاد في حين تعارض قرار وزير الداخلية بشأن تنظيم قوائم الممنوعين من السفر مع القانون الخاص بالهجرة، هو ما يتضح من عرض الخطوط العامة لهذا القرار.
فيوجب قرار وزير الداخلية أن يكون الإدراج على قوائم الممنوعين من السفر نفاذاً لأحكام المحاكم وأوامرها الواجبة النفاذ وللنائب العام، غير أنه خول أيضاً جهات إدارية غير قضائية حق إدراج الأشخاص الطبيعيين على قوائم الممنوعين من السفر وبدون حكم قضائي وبلا سند من القانون، وهذه الجهات هي: المدعي العام الاشتراكي، ومساعد وزير العدل للكسب غير المشروع، ورئيس المخابرات العامة، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية، ومدير إدارة المخابرات الحربية، ومدير إدارة الشئون الشخصية والخدمة الاجتماعية، ومساعد أول وزير الداخلية لقطاع مباحث أمن الدولة، ومدير مصلحة الأمن العام بعد موافقة وزير الداخلية.
ولم يشترط القرار أن تكون قرارات تلك الجهات غير القضائية مسببة لمراقبة مدى مشروعيتها برغم أنه رخص لها بأن تكون أوامرها الصادرة بالإدراج والمنع من السفر سارية لمدة ثلاث سنوات، ويجوز لتلك الجهات تجديدها قبل انقضائها. كما لم يضع القرار حداً أقصى للمدد التي يجوز لتلك الجهات إدراج الأشخاص الطبيعيين وحرمانهم من حقهم الطبيعي في السفر، بل نصت المادة(6) من هذا القرار على أن " يستمر الإدراج بعد انقضائها إذا طلبت الجهة التي طلبت الإدراج ذلك" ومفاد ذلك أنه يجوز أن يكون هذا الإدراج والمنع لمدد غير محددة ودون حد أقصى، وبالتالي فإن الشخص الطبيعي يظل تحت رحمة تلك الجهات بموجب قرار إداري ودون حد أقصى ولمدة غير معينة.
كما أن التظلم من قرارات تلك الجهات بالإدراج على قوائم الممنوعين من السفر يكون أمام لجنة يغلب على تشكيلها الطابع الإداري، فضلاً عن أن القرار لم ينص على أي ضمانات خاصة للأفراد أمام تلك اللجنة سواء بكفالة حق الدفاع، أو علنية جلساتها أو قرارها.
علاوة على ما سبق فإن بعض معاوني النيابة لجأ في بعض الأحيان إلى عدم إصدار أوامر بالحفظ في جانب كبير من القضايا الجنائية والسياسية والمالية التي يقوم بتحقيقها، فتظل التحقيقات فيها مفتوحة لمدة غير محددة، وبالتالي يحرم الأشخاص المنسوب إليهم اتهام في القضايا التي تباشر فيها النيابة تحقيقاً من السفر ومغادرة البلاد، ويخضع المتهمون في تلك القضايا لإجراءات معقدة للحصول على تصريح أو إذن بالسفر للخارج للعلاج أو في منح علمية برغم انتهاء التحقيقات فيها وإخلاء سبيلهم بموجب قرارات قضائية. كما أنهم يتعرضون عند العودة للمضايقة الأمنية نظراً لوضعهم على قوائم ترقب الوصول بسبب بقاء التحقيقات مفتوحة دون أن يصدر قرار من الجهة المختصة بالتصرف فيها سواء بالحفظ أو الإحالة إلى المحاكمة.
10) الحق في التقاضي والمحاكمة العادلة
حرصت المنظومة القانونية لحقوق الإنسان على تأمين إقامة العدل بين الأفراد كإطار عام لحماية كافة الحقوق الإنسانية فقد جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنه : " ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم …..) ومن ناحية أخرى فإن عندما اتهام شخص بارتكاب جريمة، أو ضلوعه في ارتكابها، فإن هذا الشخص يواجه الدولة بكامل عدتها وعتادها ويتعرض لخطر الحرمان من الحرية أو أو غيره من العقوبات التي تمس حقوقه لذلك قررت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان حق الأفراد في وسائل انتصاف فعالة من أي انتهاك لحقوقهم المشروعة وضمان عدم فرض اية التزامات أو توقيع أي جزاء ينال من حرياتهم أوممتلكاتهم أو غير ذلك مما يتمتعون به من حقوق وامتياوات مقررة إلا في إطار تطبيق عادل للقانون على أساس من المساواة بين الأفراد.
وقد قررت المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية لكل الأفراد الحق في التقاضي بما يشمله ذلك من المساوة في الوصول للمحاكم والحق في الفصل بين منازعتهم في محاكمة عادلة. فنصت المادة (8) من الاعلان العالمى لحقوق الانسان على أن ( لكل شخص حق اللجوء الى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلى من أية اعمال تنتهك الحقوق الأساسية التى يمنحها إياه الدستور أوالقانون) وأكدت المادة (10) من الإعلان نفسه على هذا المبدأ فنص على أن ( لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق فى أن تنظر قضيته محكمه مستقلة ومحايدة نظراً منصفاً وعلنياً للفصل فى حقوقه والتزاماته وفى أية تهمة جزائية توجه اليه.
كما نصت المادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على مجموعة من الحقوق الفردية كالمساواة أمام القضاء، وحق كل فرد في أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة وحيادية منشأة بحكم القانون كما قررت عدداً من المبادئ التي تكفل تحقيق العدالة مثل قرينة البراءة فنصت على أنه من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا. كما نصت هذه المادة على حد أدنى لضمانات المحاكمة العادلة من قبيل حق المتهم في المحاكمة دون تأخير وعلنية المحاكمة وضرورة حضور المتهم أثناء الفصل في الدعوى وحق المتهم في تمكينه من الدفاع عن نفسه سواء شخصياً أم من خلال محام ومنحه الوقت المناسب والكافي لذلك وحقه في طلب استدعاء الشهود ومناقشتهم وحق المتهم في التظلم من الحكم أمام محكمة أعلى.
وقد أكد الدستور المصري على هذه المقومات في المواد من 66 -70 و المواد من 166- 169 منه ومن أهم الضمانات التي كفلها الدستور التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة ولكل مواطن حق الالتجاء الى قاضيه الطبيعي، وتكفل الدولة تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا. ويحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار اداري من رقابة القضاء.
وجاءت قوانين الإجراءات الجنائية في المواد ( 139، 368، 236، 237، 286، 302، 375، 398، 401، 402، 410، 417، 395، 341، 342) والقانون57 لسنة 1959 الخاص بحالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض. بالإضافة للقانون46 لسنة 1972 الخاص بالسلطة القضائية، لتتمم مقومات المحاكمة العادلة التي أكد عليها العهد، وقررها الدستور المصري.

عرض كتاب الأيديولوجيا الصهيونية

هذا الكتاب من أوائل الكتب التي تناولت الأيديولوجيا الصهيونية بالدراسة الشاملة فلم يحاول أن يركز على بعض جوانب الأيديولوجيا دون غيرها بل سعى إلى عرض الأيديولوجيا الصهيونية بأبعادها المختلفة سواء من ناحية المنشأ والجذور أو الأساطير المؤسسة والاعتذاريات التي تطرحها أو ارتباطها بالمشروع الاستعماري الذي كفل لها تحولها إلى مشروع احتلال استيطاني كانت له علاقاته المعقدة بالأقليات اليهودية في العالم وسعى إلى نفي الوجود العربي تعبيراً عن الرؤية الصهيونية شعب مقدس بلا أرض مقدسة لأرض مقدسة بلا شعب مقدس.
على أن أهمية الكتاب لاتأتي فقط من تناوله المتكامل للأيديولوجيا الصهيونية بل وأيضاً من الطابع المنهجي له فهو أحد الأعمال التأسيسية في مشروع د.المسيري الإبستمولوجي وخاصة أطروحته عن النماذج التفسيرية ومن هنا كان اهتمام الكاتب بإفراد ملحقين منهجيين لعلم اجتماع المعرفة والأيديولوجيا يستعرض فيهما اتجاهات التعريف والمداخل المنهجية ومركزه المعرفي منها وكيف سعى إلى تطبيق رؤيته المنهجية على الأيديولوجيا الصهيونية
بهذا الاعتبار يعد الكتاب دراسة شاملة ومنهجية: دراسة في علم اجتماع المعرفة تتخذ من الأيديولوجيا الصهيونية حالة للدراسة باعتبار أن علم اجتماع المعرفة يسعى لدراسة علاقة الأفكار بالمجتمع وكيف يتبنى بعض الأفراد مجموعة من الأفكار المحددة المشتركة ليشكلوا جماعة إنسانية لها فهم خاص ورؤية خاصة تحكم سلوكهم السياسي وكيف تتحقق وتتشكل وتتعدل هذه الأفكار بعد ذلك خلال الممارسة السياسية وكيف تواجه التحديات من داخل النسق الفكري ذاته ومن خارجه .
وبطبييعة الحال ليس من أهداف هذه العرض إجمال فضلاً عن استعراض مضامين الكتاب الصادر في جزئين يبلغ عدد صفحاتهما 414 صفحة بل يسعى لمحاولة التعرف على تحديد الكاتب لمفهوم الأيديولوجيا ومنهجيته في استخدامه كأدة للدراسة العلمية باعتباره أحد مفاهيم علم اجتماع المعرفة.
فهذا العلم يدرس العلاقة بين عالم المنتجات الفكرية من فلسفات ونظريات علمية وأيديولوجيات وآداب والواقع الاجتماعي والتاريخي انطلاقاً من أن لكل معرفة أساس اجتماعي وإن اختلف منظروا هذا العلم في تحديدهم لهذا الأساس الاجتماعي هل هو الطبقات والفئات ذات المصلحة أم الحضارة والجماعة مجال الدراسة بوصفها كلاً واحداً وينعكس هذا الاختلاف على وحدة التحليل في هذا العلم فأصحاب الاتجاه الأول يركزون على تحليل الأيديولوجيا في حين يركز أصحاب الاتجاه الثاني على تحليل المشاعر الجماعية مثل موقف الرجل العادي والأنماط العقلية الجماعية.
ولا يقف الاختلاف عند وحدة التحليل بل بشمل تحديد مهمة العلوم الاجتماعية ودور العالم الاجتماعي حيث يرى أنصار الاتجاه الأول أن مهمة العلوم الاجتماعية كشف القوى المستغلة عن طريق إظهار القوانين التي تتحكم في التاريخ حتىتساهم في تغيير المجتمع ويصبح دور العالم الاجتماعي أن يكون ناقداً يعمق وعي الجماهير من خلال تحليل أشكال القمع المتعينة أما أنصار اتجاه الآخر فيرون أن مهمة العلوم الاجتماعية هي تراكم المعرفة لإظهار الأنماط المتكررة في المجتمع حتى يتم الحفاظ على اتزان المجتمع ودور العالم الاجتماعي هو دور الخبير أو المستشار المحترف.
ويسعى الكاتب لموقف تكاملي لهذين المركزين ففي الجزء الأول من الكتاب المخصص لدراسة جذور الأيديولوجيا الصهيونية والبيئة التي مثلت نقطة بداية تبلورها وتحديد بنيتها كان الكاتب أقرب للاتجاه الأول وفي محاولة كشف الأنماط الفكرية المتكررة في الفكر والسلوك خاصة بصدد المسألة اليهودية وحركة التنوير وضع يهود شرق أوربا وكيف أفرز المسألة اليهودية والأفكار الصهيونية (الفصول 1-3)
لكن الكاتب سعى أيضا إلى كشف القوى الاجتماعية المستغلة التي تمثلت بالأساس في رواد الفكر الصيوني المرتبطين بقوى الإمبريالية ثم تحولها لكيان سياسي بمساعدة الإمبريالية وكيف استفادت الصهيونية من حاجة الاستعمار الغربي إلى قاعدة في الشرق الأوسط وكيف استفادت الصهيونية من المناخ الفكري والحضاري الذي خلقته الإمبريالية فهي جزء مميز من كل (الفصلين 4 و 5) كما أن الكاتب يكامل بين رؤية المجتمع الصهيوني من الداخل ككيان عضوي متماسك فأوضح كيف أن المجتمع الإسرائيلي نتاج للأيديولوجيا الصهيونية وأنه مجتمع صهيوني بالدرجة الأولى لا تزال تسيطر عليه الصهيونية برغم كل التحديات التي تواجهها هذه الأيديولوجيا نظراً لدور الدعم الذي يقدمه يهود الشتات الذين تسيطر عليهم الصهيونية والقوى الاستعمارية إلى جانب رؤية المجتمع الإسرائيلي في حالى صراع داخلي وخارجي مع الإنسان العربي وخاصة الفلسطينيين عبر عن نزعته العنصرية وانعكس هذا على قبول المجتمع الإسرائيلي للحرب كحالة دائمة ونهائية.
وبالمثل سعى الكاتب لتجاوز الانتقادات الموجهة لعلم اجتماع المعرفة من خلال تعددية مستويات التحليل فهذه الانتقادات هي نسبية محدودة بمستوى التحليل الذي يقوم به الباحث لكنه على مستوى تحليلي آخر يمكن توظيفها كنقطة قوة فمثلاً ينتقد علم اجتماع المعرفية بشكل عام ودراسة الأيديولوجيا كاحد مجالاته بأنه لا يعطي أهمية كافية لفحص مضمون الأفكار ومدى صدقها بل قد يهتم بدراسة مدى اتساقها أو تعبيرها عن وضع اجتماعي معين بشكل أكبر الأمر الذي قد ينتهي بالعلم لنوع من النسبية المفرطة لكن الكاتب يرى أن هذا قد يعد انتقاداً بالنظر لهدف الدراسة ككل لكنه ضروري عند مستوى تحليلي محدد كما فعل الكاتب عند دراسة منطق الأسطورة الصهيونية من الداخل حيث يتناول الأيديولوجيا الصهيونية بوصفها نسقاً فكرياً متكاملاً والتشابه في البنية بين الأفكار الصهيونية والأفكار الدينية اليهودية السمة الساسية لهذه الفكار الخلط بين المقدس والقومي وبين المطلق والنسبي وتمازجهما وفكرة اليهودي الخالص الذي لا تشوبه شائبة غير يهودية هي المثل الأعلى للصهيونية لكنه لم يتوقف عنده هذا المستوى وتابعه بدراسة الأيديولوجيا على مستوى احتكاكها بالواقع وما ينشأ عن حركتها في الواقع من صراعات وتوترات تثير اهتماماً بالحكم على مضمون الأيديولوجيا إذ لا يمكن اكتشاف الطبيعة الحقيقية لنسق فكري خارج نطاق الممارسة الدراسة فدرس في الفصل 9 توجه الصهيونية إزاء اليهود وقيام علاقة عنصرية تقوم على أن هناك شعب يهودي واحد يجب أن ينقل شاء أم أبى لذلك تنتقد الصهيونية الشخصية اليهودية التي ترعرعت ونشأت في المنفى وتهاجم يهود الشتات وتحاول قلقلة أوضاعهم وإرهابهم بل وتتعاون مع معادي السامية والنازية لتحقيق أهدافها ويرصد الفصل العاشر الاستجابة اليهودية للصهيونية وأشكالها الواضحة النادرة وأشكالها الكثيرة المستترة كما درس علاقة الصهيونية بالعربي الذي تم تغييبه والأشكال العنيفة والعنصرية التي اتبعت لذلك.
وبصورة مشابهة فإن القول بأن عناصر البناء الحضاري بمجرد تكونها تصبح لها حياتها الخاصة وتتحول جزءاً من بناء حضاري ثابت بحيث يصعب رده لوضع سياسي محدد إلا بنوع من النزعة التبسيطة المفرطة لإنه حتى عناصر البناء الحضاري الثابتة عندما تتعين في سياق واقعي معين يكتسب أبعادا جديدة من هذا الواقع ولا يمكن فهم هذه الأبعاد إلا بربطها بهذا السياق المحدد فمثلاً فكرة المكان المقدس الذي ينجذب له المؤمنون كجزء من خبرة دينية إنسانية عامة يأخذ أبعاداً جديدة في النسق الحلولي الصهيوني ليتمثل في الأرض المقدسة الذي يتخندق فيه الشعب المقدس وتخرج منه الجيوش المسلحة.
أما مفهوم الأيديولوجيا فهو مفهوم متعدد الاستخدامات والتعريفات فمثلاً يعرفه قاموس علم الاجتماع كمفهوم محايد باعتباره نسق من المعتقدات والمفاهيم (وقعية وعيارية ) يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية / الاجتماعية للأفراد والجماعات وهي من منظار آخر نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت. في حين يعرف البعض الأيديولجيا كقناع أو كتعارض مع العلمية أو حتى كرؤية للكون cosmology والقاسم المشترك بين هذه التعريفات أنها تطرح علاقة مركبة بين الواقع والأيديولوجيا فهي تعكسه وتحاول تسويغه أيضاً والواقع ليس مجرد واقع مادي بل واقع اجتماعي نفسي روحي وهو واقع إلى جانب تطلعات وآمال.
وعليه سعى الكاتب إلى فهم الأنساق التي نشأت فيها الصهيونية كرد على المسألة اليهودية التي ظهرت مع ظهور النشاط التجاري والمصرفي المحلي وتطور الرأسمالية ولم تكن تاريخ من الاضطهاد والقمع لذلك لم توجد في المجتمع الإقطاعي ولو وجدت فإن أشكالها وحجمها وحدتها تختلف عن المسألة اليهودية في القرن الثامن عشر ولكانت نتيجة الطبيعة الخاصة للأقلية اليهودية في أوربا نظراً للفصل بين الطبقات والجماعات في النظام الإقطاعي
فاليهود خضعوا لتحولات مجتمعاتهم الفكرية والاقتصادية الاجتماعية إذ لم تنتم الأقليات اليهودية لتشكيل حضاري مستقل أو بناء تاريخي منفصل (التاريخ اليهودي عند الصهاينة) الأمر الذي ينقض مسألة وجود طبيعة خاصة لليهود جعلتهم ينجذبون لقطاعات التجارة اولإقراض الربوي ويقدم عوضاً عن هذا فكرة الجماعة الوظيفية التي لا ترتبط بأطراف العملية الإنتاجية وتقوم بأنشطة هامشية وعزز من تبلور اليهود كجماعة وظيفية عدم تركيز الدين اليهودي على الزهد وطبيعة بعض الجماعات اليهودية كبدو رحل ووجود اليهود خارج الحدود القانونية والأخلاقية للمجتمع وتنظيم الجيتو للمجتمع كإطار حضاري انعزالي تغيب فيه بنية طبقية واضحة ويحس أفراده بفقد الأمن خارجه وتسيطر الفئات الهامشية داخله إلى جانب هذا أدت الظروف التاريخية لقلة الأقليات وتعاظم الحاجة للاقتراض متزامنة مع حصر اليهود في هذه الوظيفة فبدأت تنشأ كراهية اليهود والمسألة اليهودية
كان حل المسألة اليهودية يتمثل في الاندماج أو الهجرة ولم تكن حركة التحديث أو الانعتاق قاصرة على اليهود بل على كل الأقليات في كافة المجتماعات التي عرفت هذه التحولات وطلبت الدولة التي فصلت الدين عن الدولة ومنحت الأقليات حقوقهم من هذه الأقليات أن بقوموا بفصل حياتهم داخل الدولة كمواطنين عن انتماءاتهم الدينية فمنح اليهود كامل حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية وقامت محاولات لدمجهم في مختلف مناشط الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية و تحديث اليهود والقضاء على هامشيتهم الإنتاجية وتحويلهم لقطاع منتج هام في المجتمع وبالفعل اندمج عدد كبير منهم في مجتماعاتهم وظهرت حركة عقلانية تنويورية بين اليهود رأت أن هذا الاندماج ممكن إذا تم فصل اليهودية عما يسمى بالقومية اليهودية وكان مذهب اليهودية الإصلاحية نتاج حركة التنوير بين اليهود وكان هذا التيار يعكس رغبة بعض اليهود في تقبل وضعيته التاريخية كفرد عادي وليس فرداً شاذاً ينتمي إلى مجموعة من الكهنة المختارين
لم يقدر لهذه الحركة النجاح الكامل وبتأثير الإخفاق ظهر الفكر الصهيوني وكان الوضع داخل روسيا هو الذي فجر المسألة اليهودية على صعيد العالم الغربي بأسره على مستوى من الحدة والشمول لم يسبق لهما مثيل فنظراً لإخفاق محاولات الدمج قررت لجنة إيجانتيف الموكل إليها بحث المسألة اليهودية من جديد أن فشل سياسة التسامح التي اتبعها القيصر يقتضي إجراءات جديدة ضد اليهود الروس وبالفعل فقد قضت هذه الإجراءات التي اتخذت على فترة زمنية ممتدة على فرص اندماج اليهود الروس الاجتماعي والاقتصادي وشجع الأفكار الصهيونية ولما كانت المجتمعات الاقطاعية قد انتهت تاريخياً لم يعد بإمكان اليهود التقهقر ليجدو مكاناً لها في مسامها فبدأ شرق اوربا وروسيا بتصدير المشكلة اليهودية إلى فرنسا وبريطانيا والمانيا والعالم الجديد وهي دول كانت قد قطعت أشواطا هائلة في عملية التحديث ولم تعد ترغب ولا تقدر على استيعاب أقلية يصعب الاستفادة منها لافتقاد اعضائها للمهارات اللازمة.
إن الأيديولوجيا تقوم بدور الوسيط لأنها نسق رمزي يستخدم كنموذج لأنساف أخرى اجتماعية ونفسية ورمزية وهي قد تشوه الواقع أو تخطئه لكنها تشويه يعكس حقائق معينة ويطمس أخرى لتوصيل رسالة معينة للمؤمنين بها فقدرة الأيديولوجيا هي في قدرتها على الإحاطة بالحقائق الاجتماعية وصياغتها صياغة جديدة فالأيديولجية لا تسبعد عناصر معينة من الواقع بقدر ما تسعى لتقيم نسق يضم عناصر نفسية واجتماعية ودينية... مماثل للواقع الذي تدعو إليه الأيديولوجية
فإخفاق حركة التنوير والاندماج بين اليهود كان إخفاقاً نسبياً يعود لأسباب عديدة في السياقات المختلفة للمسائل اليهودية في كل مجتمع ظهرت فيه (روسيا ، أوربا الشرقة ، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بحيث يمكن القول بأنه لم توجد مسألة يهودية واحدة.
فالواقع أن اندماج اليهود تم بسرعة كبيرة مقارنة بخبرة الزنوج في أمريكا الشمالية مثلاُ لكن الصهاينة باعتبارهم ورثة فكر ة شعب الله المختار رلم يرضوا بهذا التقييم النسبي وفي هذا السياق يكون تقويم أي حركة باتجاه الاندماج بأنها فاشلة برغم أنه يصعب وصف الأفكار والظواهر الحضارية بالفشل والنجاح وهي التي تأخذ آلاف السنيين حتى تتبلور في واقع سياسي.
لقد واجه اندماج اليهود صعوبات لكن هذا لا يبرر الطرح الصهيوني بأن حركة التنوير والتحديث قدأخفقت فهذا الطرح يبسط المسألة بمواجهة اليهود بأحد اختيارين إما الذوبان الكامل عن طريق الاندماج أوالفناء الكامل عن طريق المذابح فالصعوبات التي واجهت تحديث الجماعات اليهودية يتمثل بعضها في طبيعة التحولات التي مرت بها هذه المجتمعات وانعكاساتها على الأقليات اليهودية وبعضها يعود إلى طبيعة البنية السياسية والطبقية فيها ويتمثل بعضها في طبيعة الوجود الأوربي في هذه المجتمعات وإلى هذه المجموعة الأخيرة من الأسباب يمكن رد انتشار الصهيونية بين يهود الغرب غرب أوربا الذين رأوا فيها حلاً لمشكلات اليهود القادمين من الشرق في حين أنهم كانوا من المندمجين في مجتمعاتهم بحيث يمكن القول انه لكن إذا كانت الصهيونية هي رد الفعل المضاد لحركة التنوير فإن حركة التنوير حركة التنوير ساهمت بشكل غير مباشر في ظهور الصهيونية من خلال المناخ الفكري الذي أوجدته والتناقض الذي سببه هذا المناخ للشخصية اليهودية حتى أن بعض الصهاينة يراها تركيباً بالمعنى الهيجلي من اليهودية والتنوير الذي هو نفي لليهودية.
لذلك لم يكون غريباً ظهور العديد من حركات الارتداد عن حركة العقلانية والتنوير والاندماج والتي اتخذت أشكالاً متعددة مثل اليهودية الأرثوذكسية واليهودية المحافظة اللتان يجمعهما التمسك بالأساطير اليهودية بكل لا تاريخيتها لكن اليهودية المحافظة كانت أقرب للفكر الصهيوني بتعيينها للمطلق وجعلها روح الشعب المقدسة هي مصدر القداسة.

إن السؤال الذي تثيره الأيديولوجيا هو مدى فعاليتها في رسم صورة للواقع الاجتماعي وتقديم خريطة له وأن تكون محوراً لخلق الوعي الجمعي.
فعلى الرغم من أن التحولات التي مر بها المجتمع الأوربي منذ عصر النهضة كانت هي المسئولة عن ظهر المسألة اليهوديةفإن الحل التنويري باندماج اليهود لم يكن هو الحل المطروح فقط كان هناك العديد من الحلول المطروحة حيث طرح المفكر سيمون دوفنوف فكرة قومية الدياسبورا وهي فكرة وإن كانت تشترك مع الصهيونية في الاعتقاد بوجود متميز يجمع بين الأقليات اليهودية في العالم وأن لهم قومية متميزة فإن جوهر هذه القومية هو جوهر فكري روحي ومن ثم يجب على اليهود تقبل وضعهم المنتشر في العالم وتطوير هذا الوجود هذا الإحساس بالوحدة لا يجب تنوع الأقليات اليهودية فلم ينسق وراء الأساطير التاريخية التي تمسكت بها الصهيونية لتؤسس رؤيتها المستقبلية حول أرض الميعاد بل ركز على حاضر اليهود ولم يكن هذا حلاً فكرياً تصوريا بل كان الحل الفعلي الذي طبقه غالبية اليهودومع ذلك فقد نجحت الصهيونية برغم ذلك من الاستيلاء على قيادة اليهود وتتحول من أيديولوجيا فاشية لبعض الجماعات اليهودية في شرق أوربا إلى منظمة عالمية يدين أغلب اليهود إليها بالولاء ونجحت في إنشاء دول في الشرق العربي؟
لكن كيف تم هذا ؟
إن استخدام مفهوم الأيديولوجية كأداة تحليلية يتطلب تعدد مستويات البحث بوصف منطقها الداخلي وحتى ادعاءتها عن نفسها وسماتها الأساسية كجانب معبر عن الواقع
على الجانب الأول يمكن تحديد بنية الأيديولوجية الصهيونية من خلال التعرف على تياراتها الأساسية فالصهيونية حركة سياسية تطالب بتوطين اليهود في فلسطين وسيلة لحل المسألة اليهودية فقد تطورت الصهيوينة الدينية التي كانت تعارض الصهيونية السياسية ثم انضمت إليها باعتبار الصهيوينة ستقوي قبضة اليهودية على الوجدان اليهودي وهناك الصهيونية الثاقفية التي تعبر عن صهيونية أرستقراطية الجيتو وترى أن مهمة الصهيونية حل المشكلات الروحية لليهود بإقامة دولة في فلسطين تصبح جيتو يحمي قيم الديانة اليهودية لكن أهم تيارات الصهيونية الصهيونية السياسية التي كان من روادها هرتزل ويطلق عليها أنها سياسية للتفريق بينها وبين الإرهاصات الصهيونية الأولى التي كانت ذات طابع محلي ولم تتحول لمشورع سياسي متكامل وبرغم اختلاف التيارات الفرعية داخل الصهيونية السياسية ما بين صهيونية مراجعة وصهيونية راديكالية إضافة إلى الصهيونية العمالية التي تتتفرع بدورها إلى تيارات مختلفة فإن ما يجمع الصهيوينة كأيديولوجيا هي رؤيتهم للمسألة على أنها مشكلة يهود وليست مشكلة يهودية بل ويرون اليهودية كبناء فوقي ديني وتراث تاريخي يمكن الاستغناء عنه ويولون أهمية بالغة للجانب القومي ويرون أن القومية فكرة سامية يجب تكريس الجهود لتحقيقها مع استبعاد كافة الأفكار الدخيلة كالدين أو الاشتراكية.
وبالفعل يمكن القول بأن علاقة الأيديولوجيا الصهيونية بمختلف الأفكار السياسية على اختلافها ثورية أو رجعية تتمكثل في أن هذه الأفكار مجرد إضافة غير متداخلة عضوياً معها بحيث لو حذفت هذه الأفكار السياسية من بنية الأيديولوجيا الصهيونية فلن تتغير كثيراً لذلك لا يأخذها منظرو الصهيونية على محمل الجد.
لكن موقف الأيديولوجيا الصهيونية من الدين اليهودي موقف معقد فهي ترفض الدين اليهودي حتى أن رواد الصهاينة كانوا يعرفون أنفسهم على أساس قومي ويسعون لدولة عبرانية وليس يهودية ولم يترددوا في البحث عن أرض الميعاد حسب مقتضيات مشروعهم الاستعماري في كل مكان في إفريقيا وأسيا وهي أيضاً سعت كأي أيديولوجية علمانية لتوظيف الدين واستغلاله لكن ما يلفت الانتباه أن علاقة الأيديولوجيا الصهيونية بالدين وإن كانت على هذا النحو السطحي فإن ثمة تماثل بنيوي بين الصهيونية واليهودية حيث استقت رموزها من الدين اليهودي مع إفراغ هذه الرموز من مضمونها الروحي والأخلاقي ونقلها للمجال السياسي المادي مع ما يعنيه هذا من خلط بين المقدس والمطلق بالمادي القومي فتحولت الأمة اليهودية بالمعنى الديني إلى أمة قومية مقدسة وأصبحت الظواهر القومية اليهودية ذات طابع مقدس.
ويظهر هذا التماثل بين اليهودية والصهيونية والخلط بين المقدس والنسبي في مفاهيم النبوة ومفهوم التاريخ الذي لا يعبر عن صيرورة إنسانية بل هو مطلق يتجه نحو هدف محدد من خلال تدخل إلهي مياشر ومركزية التاريخ بهذا الفهم يمكن تتبعها ايضاً في الصهيونية التي تعتمد تاريخاً مقدساً بل ويصبح التاريخ مصدراً للقيم بدل الدين وأيضاً فكرة الأرض بما تحمله من حلولية في علاقة ثلاثية الأرض الشعب الله
إن الدين اليهودي ليس استثناء من الديان السماوية وكان يمكن تفسير ه تفسيراً إنسانياً ليستى هناك علاقة بسيطة بين اليهودية والصهيونية التي كانت في أحد جوانبها ثورة على الدين اليهودي لكنها خلقت استعداداً أكبر للانعزال عند اليهود وتلقي الأيديولوجيا الصهيونية
فاليهودية تتميز بأن المطلق فيها ذاتي في حين أن المطلق بطبيعته شامل وعالمي يتخطى حدود الزمان والمكان لكن مطلقات اليهود مقصورة عليهم وحدهم لذلك تكتسب طابعاً قومياً فيصبح المقدس المطلق هو النسبي القومي واليهود لا يعتبرون أنفسهم جماعة دينية فحسب بل وجماعة قومية أيضاً لها لغتها الخاصة وتراثها الديني إضافة لفكر ة شعب الله المختار التي ساعدت على تعميق عزلة اليهود كما أن اليهودية سعت لتوحيد اليهود من خلال الشعائر التي تؤكد الانفصال وليس عن طريق توحيد العقيدة والرؤية وتأكيد شمولها وفاعليتها كما في المسيحية والإسلام الحديث عن هذه الجوانب لا يعني أن اليهودية تسببت في خلق "عقلية يهودية " و لا أن اليهودية أدت إلى ظهور الصهيونية بل يعني هذا وجود اندماج أو ارتباط اختياري بين اليهودية ونمط معين من الفكار فهناك أفكار يهودية أو مناخ ديني أوجدته اليهودية خلق عند اليهود الستعداداً كامناً للتأثر بأفكار سياسية معينة يختلط فيها المطلق بالنسبي والمقدس بالقومي وهذا الاستعداد موجود بدرجات مختلفة في مختلف الديانات. فالعلاقة بين الأفكار الدينية والسلوك السياسي ليست علاقة سببية بل هي علاقة بين ما هوموجود على مستوى الكمون وما هوموجود على مستوى التحقق كما أن تفسير الأفكار الدينية يقوم بدور هام ومحوري في مدى فعاليتها على المستوى السياسي والتاريخي في الشكل الذي تأخذه هذه الأفكار فثمة تيارات فكرية في اليهودية فسرت هذه الفكار القوية بشكل مجازي بما أكسب الأفكار القومية فيها مضموناً روحياً ودينياً .
وعلى الجانب الآخر من سمات الأيديولوجيا الصهيونية كتعبير عن الواقع كانت الصهيونية مدينة بفكرها وقوتها وتحولها لدولة إلى الإمبريالية الغربية والدولة الصهيوينة امتداد لهذه الإمبريالية بكل سماتها لكنه يظل في الوقت نفسه محتفظاً ببعض سماته الخاصة من كونه احتلالاً استيطانياً عميلاً فلا يمكن بحال مشروعاً للبرجوازية اليهودية لسبب بسيط أن هذه البرجوازية المتجانسة نظراً لطابعها اليهودي لم توجد قط لأن الجماعات اليهودية لم تتمايز طبقياً داخل مجتمعاتها.
ه وبالفعل استمرت محاولة هرتزل ورفاقه الصهاينة لبيع المشروع الصهيوني بالمعنى الحرفي للكلمة للقوى الاستعمارية الأوربية مسهباً في جدواه الاستعمارية اقتصادياً وسكانياً وعسكرياً وثقافياً وتعددت الأماكن المقترحة لإقامة هذا المشروع الصهيوني لكن أكد هرتزل ضرورة الدراسة العلمية لهذه الأماكن لتحديد أفضلها كمشروع استعماري لإنشاء الدولة العميلة التي يخطط لها هو ما عبر عنه بكلمات غاية في السفور رواد الصهيونية فكان وايزمان مصراً بشكل دائم على رؤية مشروع الاستيطاني في ضوء المصالح الإمبريالية وليس في ضوء التاريخ اليهودي المزعوم. وولم يقتصر هذا على رواد الصهيونية وحسب بل العديد من الأدبيات الإسرائيلية التي تصف إسرائيل ك"كلب حراسة"
فالصهيونية ليست حركة قومية ذات جذور اسخة وأفرع ممتدة في السماء بل هي حركة ليس لها سند واقعي ولا يمكن أن تمتد إلى الرض من خلال العنف الإمبريالي فالاستعمار الصهيوني جيب استيطاني غريب عن المحيط الإنساني والحضاري الذي يحيط به وهو إلى ذلك كيان غير متجانس وكأي استعمار قدم الاستعمار الصهيوني اعتذارياته التي تعبر عن نمطه الخاص في إطار الظاهرة الاستعمارية ومحولة تسويغ وجودها ومن هذه الاعتذاريات عبء الرجل الأبيض الذي يعود لوطنه الترايخي ممثلاً للحضارةالغربية وأسطورة اليهودي الخالص الذي يرتب له هذا الوصف حقوقاً مقدسة وتتضمن هذه السطورة في بنيتها نفي وجود الفلسطيني والعربي وهنا يختلف الاستعمار الصهيوني عن غيره من أنواع الاستعمار الاستيطاني التي كانت تقر بشكل أو بآخر بوجود أصحاب الأرض الأصليين أما الاستعمارالصهيوني فيستند إلى أسطورة حق العودة الأبدي لإنكار وجود الفلسطنيين أصحاب الأرض ومن الغريب أن هذه الأسطورة لاقت قبولاً في الغرب باعتبار أنها ليست نوعاً من العنصرية لأن مداها خاص باليهود وحدهم فالصهيوينة أيدلوجيا وضعها اليهود من أجل اليهود وحدهم ولا تتضمن أي تمييز ضد غيرهم من المواطنين في أوربا أو الولايات المتحدة!! وإلى جانب هذا يوجد عبء اليهودي الاشتراكي الذي سيجلب الصناعة والتقدم وقيم التحديث والأفكار الاشتراكية إلى هذه المنطقة لكن كل هذه الاعتذاريات مهما بلغ إتقان صياغتها ليست إلا محاولة لتسويغ قهر شعب آخر واغتصاب أراضيه.
وعلى مستوى آخر سعى الكاتب لدراسة الأيديولوجيا في مستوى آخر لتقييم مدى عكسها للواقع وهذا يتطلب دراسة البدائل التاريخية المتاحة والنظر للأيديولوجيا في نتائجها الإنسانية على الجماعة والتطور الاجتماعي.
فالأيديولوجيا الصهيوينة كانت تفتقر لقاعدة شعبية بين اليهود الذين كان تسخيرهم لخدمة المشروع الصهيوني جزء منها لذلك عمدت إلى "غزو" الجماهير اليهودية وفرض الحل الصهيوني عليها فهذا الحل الفوقي يمكن فرضه على اليهود من خلال كسب تأييد قوة إمبريالية لذلك كان "وايزمان" يراهن على أنه بمجرد الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً لليهود فإن اليهود البريطانيين المناهضين للصهيوينة سيوافقون على الفور على الحل الصهيون. وفي هذا السياق يمكن تتبع رفض الصهيونية لا لليهودية فحسب بل ولليهود وتماثلها مع نزعة معاداة السامية في رؤيتها للطبيعة الشاذة النمطية لليهود حتى علىالمستوى الجسدي وتنطوي فكرة اليهودي الخالص على رفض اليهود كمواطنين يحيون في مجتمعاتهم في موقع طبقية وحضارية مختلفةومن ثم عملت الصهيونية على تحقيق الخلاص الجبري لليهود ولو كان ذلك ضد إرادتهم ومن خلال زعزعة أوضاعهم في مجتمعاتهم بل وقتل أعداد كبير من اليهود والتعاون المكثف مع النازية المعادية لليهود لإنجاح عملية نقل السكان اليهود ويمكن فهم هذا الموقف الصهيوني لدى معرفة المقاومة الكبيرة التي أبداها اليهود في مواجهة الحركة الصهيوينة التي برغم نجاحها في الانقضاض على اليهود وغزوهم حسب التعبير الصهيوني لا زالت تشهد انواعاً مختلفة من المقاومة وسط اليهود في شكل رفض الهجرة إلى إسرائيل ورفض فكرة نفي الشتات وتأكيد مركزية الشتات في حياة اليهود.
واتساقاً مع هذه الرؤية كانت محاولات تعريف اليهودي الخالص تستند بالأساس على فكرة العرقيةً والإثنية ففكرة اليهودي الخالص بمعنى وجود جوهر يهودي يميز اليهودي عن غيره من البشر ويميز الظواهر اليهودية عن غيرها هذا الجوهر هو الذي يجعل اندماج الأقليات اليهودية ليس فقط مستحيلاً بل وعاراً وانحرافاً عن الشخصة اليهودية السوية كما تصبح حياة الشتات بلا معنى لأنها لا تعبر عن هذا الجوهر اليهودي وعلى الجانب الآخر كان المقابل لفكرة اليهودي الخالص فكرة العربي الغائمة كممثل للأغيار المتخلفين أو حتى تغييب الشخصية العربية
ومن ناحية أخرى فقد تأثرت الصهيونية بالجيتو في سلوكهم ورؤيتهم للعالم فإسرائيل هي جيتو يقوم بنفس وظائف الجيتو في أوربا وتمثل إحساسه بالخوف من الخارج وقيمه التي تضفى الطابع السلعي على كل القيم والرموز والأشياء حتى الأوطان.
ويحتل العنف مفهوماً وسلوكا مكانة محورية في الأيديولوجيا الصهيونية فهو يتجاوز كونه وسيلة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية لجعلها شخصية طبيعية والتخلص من الخوف ليصبح - كما هو حال مختلف الأيديولوجيات العنصرية والداروينية – غاية في ذاته يتم تمجيده باستمرار
إن دراسة الأيديولوجيا تتطلب الجمع بين مدخلين محاولة الوصول لأنماط عامة بالمفهوم العلمي ومدخل دراسة المنحنى الخاص للظاهرة في تعينها أو بعبارة أخرى دراسة الشكل الخاص للعلاقة بين البناء الفوقي والبناء التحتي وهي علاقة جدلية تبادلية التأثير فكلا البنائين الفوقي والتحتي يكتسب هويته المتعينة من خلال الآخر أخذا في الاعتبار أن البناء التحتي ليس وجودا ماديا فحسب بل وجوداً مادياً وحضارياً وفكرياً.
وعلى هذا النحو يمكن فهم العلاقة بين المسألة اليهودية ( التي كانت الصهيونية ردا عليها ) والمسألة (الإسرائيلية) فالصهيونية هي بناء فوقي له ثلاثة أبنية تحتية هي الجيتو ومناطق الاستيطان في شرق أوربا التي أفرزت المسألة اليهوديةوالشكل المتميز للأسطورة الصهيونية والبرنامج الصهيوني لحل المشكلة اليهودية وقد اختفى هذا البناء التحتي فالصهيونية هي أيديولجية اختفى بناءها التحتي الساسي لكنه لا يزال يعتمد على الإمبريالية التي استند إليها حولت المشروع الصهيوني ليتحول إلى واقع ودولة خدمة لمصالحها فعلاقة الأيديولوجيا بهذا البناء التحتي هي علاقة نفعية وليست علاقة معنوية أو جدلية أما البناء الأخير فهو "إسرائيل" وهو بناء تحتي فريد من ناحية أنه نتج الأيديولجيا التي افرزت المجتمع وليس المجتمع هو الذي أفرز الأيديولوجيا كوضع طبيعي فالمجتمع "الإسرائيلي" نتاج مناورات الحركة الصهيونية ومضارباتها ومن ثم فإن "الإسرائيلي " يعيش في بناء تلمودي فوقي بقوم على أبنية تحتية ليس جزءاً منها و لا يتحكم فيها ومن ثم يمكن "الحوار المسلح " معه وصولاً لحل المسألة الإسرائيلية الناجمة عن وجود عدة ملايين نشأت في ظل الكيان الصهيوني واستيعابهم داخل التشكيل الحضاري العربي فهذا الحوار المسلح هو وحده الكفيل بتبديد أساطير الإيديولوجيا الصهيونيةالمسيطر على أفراد الكيان "الإسرائيلي".