بصائر المعرفة

مدونة تهتم بقضايا العمران الإنساني تفضل بزيارة مدونتي الأخرى umranyat.blogspot.com

Friday, April 21, 2006

الديمقراطية وإدارة الحكم والتنمية

الفصل الأول من كتاب
بناء المؤسسات الديمقراطية: إصلاح إدارة الحكم في البلدان النامية
الديمقراطية وإدارة الحكم والتنمية
على مدار العقدين الماضيين تم إحراز تقدم معقول في التنمية الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية عبر العالم، فإذ يزيد قدر وسرعة تكامل الاقتصاد العالمي فإن المجتمع العالمي بدوره أصبح أصغر وأكثر ترابطاً فقد جعل السفر والتقدم في الوسائط المتعددة والإنترنت المعلومات أيسر منالاً للعديد من الناس، وبشكل أسرع عن ذي قبل، وأصبحت الاهتمامات العالمية مثل حقوق الإنسان والبيئة و الجريمة تجمع المواطنين من خلفيات متنوعة معاً ليعملوا لغرض مشترك، ونتيجة لذلك نما المجتمع المدني وأصبح أكثر عالمية في عضويته وقائمة أولوياته، وخفضت كل المناطق في العالم معدلات أمية الكبار في الفترة من 1990- 1997 وبلغ هذا الانخفاض 8% في أفريقيا جنوب الصحراء، وهذا تخفيض كبير، وإن كان لا يزال متوضعاً ،وانخفضت نسبة من يعيشون في فقر مدقع في العالم بشكل تدريجي من 29% عام 1990 إلى 23 % في 1999، وثمة زيادة مشجعة في عدد الأقطار التي تطبق خطط عمل لمواجهة الفقر على المستوى الوطني .
ومع ذلك، وبرغم هذه المكاسب، تبقى فجوات خطيرة فبرغم أن ثروة العالم عامة قد زادت فإن الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتسعت، ففي العشر سنولت الماضية تحكمت نسبة أصغر فأصغر من سكان العالم في نسبة أكبر فأكبر من ثروة العالم، والأرقام مروعة: فخمس السكان في الأقطار الأكثر ثراءً يتمتعون ب 82 % من تجارة الصادرات المتوسعة و68 % من الاستثمار الأجنبي المباشر، في حين أن الخمس الأفقر لا يحصل إلا على 1% بالكاد، وفي 19 بلد من الإحدى وأربعين بلداً الأقل نمواً أصبح الناس في التسعينات أفقر مما كانوا عليه في العقد السابق بمقياس دخل الفرد.
وتتضح التفاوتات بين الفقراء والأغنياء في كيفية وصولهم واستخدامهم لتقنيات المعلومات والاتصال والنقل. على سبيل المثال، تظل تقنيات الحاسب الآلي والإنترنت غالية الثمن بشكل يمنع استخدامها في العديد من البلدان النامية، ولم يصل ربع بلدان العالم إلى المعدل الأدنى الأساسي هاتف لكل 99 مواطن، وزاد العدد المطلق للأميين في العالم بسبب النمو السكاني، ويوجد 42 % من الفقراء (الذين يعيشون على دولار أو أقل في اليوم) في جنوب آسيا و27% في أفريقيا و 24% في شرق آسيا والباسيفيك. ولا يزال صحيحاً أنه بغض النظرعن أين يعيشون، فإن الفقراء يفتقرون للسلع والخدمات، ويعيشون عمراً أقصر، ويسقطون ضحايا الصراع العنيف.
إن المنظمات الإرهابية والمتطرفة ومنتجو المخدرات ومهربو البشر يؤثرون بشكل خطير على الأمن الإنساني في الاقتصادات النامية والمتقدمة على السواء، ولفتت هجمات 11/9/ 2001 الإرهابية داخل الولايات المتحدة انتباه العالم للامتداد العالمي للمنظمات المتطرفة وتداعياتها المخيفة على الأمان الشخصي والسلام والأمن والتوترات المحتملة بين القطاعات المختلفة في المجتمع والضغوط على مؤسسات الدولة لتوازن بين الاهتمامات الأمنية وحماية حقوق الإنسان لكل المواطنين.
وثمة أسباب عديدة للحرمان البدان النامية: نقص الدخل اللازم للحصول على الضروريات الأساسية بما في ذلك الغذاء والمأوى والخدمات الصحية والتعليمية، والمستوى المنخفض من الأصول التي يحوزها الناس بما في ذلك المهارات، والأرض، والوصول للبنية الأساسية، والادخار، والإئتمان، وشبكات الاتصالات الشخصية، ومع ذلك تشير الخبرة بأن قدرة الناس على تنظيم أنفسهم للمشاركة في العملية السياسية والتأثير على السياسات القومية والحلية والبرامج هو العامل الأهم الوحيد في تحسين الظروف الإنسانية.
إن الديمقراطية وإدارة الحكم الرشيدة - أي المؤسسات الديمقراطية وجودة عمليات وممارسات الحكم – هي عوامل حيوية تؤثر على عملية التنمية والظروف الإنسانية. فعندما يكون الحكم ديمقراطياً - أي مشبعاً بمبادئ المشاركة وحكم القانون والشفافية والمساءلة وما إلى ذلك – فإنه يبدأ في قطع طريق طويل نحو تحسين نوعية الحياة والتنمية الشرية لكل المواطنين.
تطور الديمقراطية في الاقتصادات النامية
نشهد اليوم صعوداً في شعبية الديمقراطية كأهم الوسائل لإنجاز المطامح الفردية وتنظيم المصالح ورعاية وتعزيز المجتمع المدني، فعدد لا يحصي من النظم السياسية والثقافات يشايع ويلتزم بالقيم الأساسية لاحترام الكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة والمشاركة والمساءلة التي تشكل الأساس لحقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد، إلا أنه حتى مع انتشار الديمقراطية فإن طبيعتها ونماذجها تتنوع، وهذا يصح بشكل خاص في الأقطار النامية والحديثة العهد بالديمقراطية، والتي يكون فيها لعوامل مثل الاختلافات السياسية والثقافية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتاريخ الحكم الديمقراطي فيها والعولمة تأثيراتها على الطريقة والسرعة التي تتطور بها الديمقراطية.
ولأول مرة في التاريخ يفوق عدد الدول الديمقراطية عدد الدول غير الديمقراطية، ويرى البعض أن صعود الديمقراطية ربما كان أهم أحداث القرن العشرين، ويقرر مسح "الحرية في العالم" لعام 2001 – 2002 الذي أجراه "بيت الحرية" أن 65% من سكان العالم يعيشون في دول حرة أو حرة بشكل جزئي تقدم لمواطنيها درجة من الحقوق الأساسية والحريات المدنية، وأظهر المسح أنه من بين دول العالم ال 192 هناك 121 دولة (63%) ديمقراطيات انتخابية، وهذا تغير هام له دلالاته منذ 1987 حيث كان 66 دولة من 167 (40%) تقع في تلك الفئة، ويستمر "مسح الحرية" ليشير إلى" أن الحرية الإنسانية تمتد بشكل مطرد خلال القرن العشرين" وأنه " عند النظر من منظور القرن ككل، فإن الديمقراطية والحريات المدنية أحرزت تقدماً هاماً ومؤثراُ" وأظهرت دراسات الأمم المتحدة أنه منذ عام 1980 "قام 81 بلد بخطوات هامة في الأخذ بالديمقراطية (المقرطة) فجرى إحلال حكومات مدنية محل 53 نظام عسكري"
لقد تم إحراز تقدم هام في الأخذ بالديمقراطية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين بما في ذلك سقوط الدكتاتورية العسكرية في أمريكا اللاتينية كما حدث في "الأكوادور" و"بيرو"، وظهور "الديمقراطيات الجديدة " في وسط وشرق أوربا بعد سقوط حائط برلين، وإنهاء الحكم الممتد للنظم الدكتاتورية في أفريقيا وأسيا، بما فيها تلك التي كانت في "مالي" و"مالاوي" و"الفلبين"، إلا إن التقدم في الأخذ بالديمقراطية كان أبطأ ما كان في المنطقة العربية، حيث كان لأربعة دول من 17 نظم انتخابية متعددة الأحزاب، برغم أنه كانت هناك فرص متزايدة للمشاركة الشعبية في "الأردن" و"تونس" و"المغرب". و أكثر من ذلك، فإنه قرب نهاية التسعينات نكصت بعض الديمقراطيات الجديدة إلى التسلطية، أو أبطأت عمليات الأخذ بالديمقراطية ومنها" سيراليون" و"روسيا البيضاء" و"الكاميرون" و"أوزبكستان".
لا يعني هذا القول بأن الديمقراطية لا تنطبق على الانتقالات والتحولات الحديثة، بل كما أشار "سافتي" "من "بولندا" إلى "اليمن" ومن "بلغاريا" إلى "تايوان" ومن "ورشيوس"إلى "جواتيمالا"ومن "ألبانيا" إلى "نيجيريا" يبدو الأخذ بالديمقراطية يستجيب لتوق إنساني عالمي للحرية والعيش بكرامة لا يضمر بفعل تنوعنا الثقافي ولا اختلافاتنا العرقية " وبشكل محدد، فإنه بسبب مواجهة الديمقراطيات الجديدة للعديد من التحديات التي لم تواجهها نظيراتها الأقدم فإن الديمقراطية تثبت أنها نظام مرن ومتكيف في ظروف متنوعة ومختلفة.
إن مناخاً متنامياً من الديمقراطايات المعززة وتعزيز الديمقراطية يمهد الطريق لمحاولة تعريف الديمقراطية بطريقة دالة ذات مغزى.
يصف "سيمور مارتن ليبست" التعريفين الأساسيين الجاريين للديمقراطية باعتبارها تعريف "الحد الأدنى" وتعريف "الحد الأقصى" وتبنى "ليبست" نفسه أحد تعريفات "الحد الأدنى" حيث يرى الديمقراطية " كنظام سياسي للحقوق السياسية يحدد كيف يجب اختيار وتولي القيادة في أعلى مستوى وطني في كيان سياسي ما" ومن ناحية أخرى يحدد تعريف "الحد الأقصى" حقوقاً وحريات متنوعة لابد وأن ترتبط بنظام تنافسي إدماجي غير إقصائي للحكومة ويستخدم "لاري دياموند" تعريف الحد الأقصى للديمقراطية باعتبارها تشمل "ليس نظاما مدنياً دستورياً متعدد الأحزاب تجري فيه انتخابات منتظمة حرة ونزيهة واقتراع عام وحسب بل تعددية تنظيمية ومعلوماتية وحريات مدنية واسعة: حرية التعبير والصحافة وحرية تكوين التنظيمات والانضمام إليها وسلطة فعالة للرسميين المنتخبين واستقلال وظيفي للأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية للحكومة" ومع ذلك فإن عمليات الديمقراطية النامية تقود إلى أشكال ومراحل مختلفة.
في أواخر التسعينات أصبح من الشائع مناقشة سطوة الأصول غير الليبرالية للديمقراطية على تلك الليبرالية وهذه الأخيرة جرى تعريفها بمفاهيم الحد الأقصى على أنها نظام سياسي يتميز ليس بانتخابات حرة نزيهة وحسب، بل أيضاً بحكم القانون وفصل بين السلطات وحماية الحريات الأساسية للكلام والاجتماع والدين والملكية" وتم تعريف الأولى كتآكل " للمارسات الدستورية الأساسية" فإذا تم تعريف الديمقراطية فقط حسب مفاهيم الانتخابات فإنه يمكن أن يكون لدينا ديمقراطية غير ليبرالية أي ديمقراطية يختار فيها الناس الحكومة بحرية وبالتالي ستقتطع وتجتزئ من حرياته،م ويفترض هذا أن الليبرالية والدستورية والانتخابات جديلتان منفصلتان تتضافران ليصنعا حبل الديمقراطية.
وكما تظهر الفصول القادمة فإن زرع عناصر مختلفة من الديمقراطية الليبرالية في الأقطار النامية قد يتحرك في اتجاهات مختلفة ويتبع مسارات مختلفة، وتكون له تداعيات مختلفة على الديمقراطيات الانتخابية، ويمكن أن تصبح أكثر أو أقل ديمقراطية وبصورة مشابهة يمكن أن تتحسن الديمقراطيات الليبرالية أو تتدهور في مستوى المساءلة والاستجابية فيها.
مفهوم إدارة الحكم والعولمة
عندما يسمع أغلب الناس كلمة "إدارة الحكم" يفكرون في الحكومة، ففي النهاية كلاهما به مقطع "حكم" كجذر للكلمة، لكن إدارة الحكم مفهوم يتحدث عما هو أكثر من مجرد الحكومة: إنه قوة معقدة إلا إنها شاملة في كل المجتمعات، فالناس يستخدمون إدارة الحكم في حياتهم اليومية لإدارة علاقاتهم الإنسانية كما تستخدمه الشركات والبلدان لإدارة تفاعلاتها وأنشطتها.
إدارة الحكم مفهوم محايد يضم آليات معقدة وعمليات وعلاقات ومؤسسات من خلالها يقوم المواطنون والجماعات ببيان وتنظيم مصالحهم وممارسة حقوقهم والتزاماتهم والتوسط في خلافاتهم. إدارة الحكم الرشيدة تعنى بتخصيص وإدارة الموارد استجابة للمشكلات الجماعية وتتسم بمبادئ المشاركة والشفافية والمساءلة وحكم القانون والفعالية والإنصاف والرؤية الاستراتيجية.
في الممارسة تترجم هذه المبادئ إلى أشياء حقيقية ملموسة مثل: الانتخابات الحرة النزيهة المتكررة، والهيئة التشريعية التمثيلية التي تضع القوانين وتقوم بالمراقبة، والهيئة القضائية المستقلة التي تفسر القوانين، كما تترجم أيضاً إلى ضمانات لحقوق الإنسان وحكم القانون، وإلى مؤسسات شفافة مسئولة كما تجعل إدارة الحكم الرشيدة السلطة والموارد لامركزية لصالح الحكومات المحلية لتعطي المواطنين دوراً أكبر في الحكم.
وختماً تضمن إدارة الحكم الرشيدة قيام المجتمع المدني بدور فعال في وضع الأولويات وجعل احتياجات أغلب الناس في المجتمع معروفة. إجمالاً تكون إدارة الحكم رشيدة إذا ما كانت تدعم مجتمعاً يمكن فيه أن يوسع الناس خياراتهم بصدد طريقة حياتهم، ويعزز التحرر من الفقر والحرمان والخوف والعنف، ويحافظ على ويستديم البيئة وتقدم المرأة.
عندما نتحدث عن جودة إدارة الحكم في بلد ما فإننا نعني إذن الدرجة التي إليها تكون مؤسساتها (مثل البرلمان) وعملياتها (كالعملية الانتخابية) شفافة وخاضعة للمساءلة أمام الشعب، وتسمح لهم بالمشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتهم، وهي الدرجة التي إليها يكون القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني حرة وقادرة على المشاركة. إدارة الحكم الرشيدة أو الديمقراطية تكون حيث تقوم سلطة الحكومة على إرادة الشعب وتستجيب للناس، كما تكون عندما تسمح مؤسسات ديمقراطية مفتوحة بالمشاركة الكاملة في الشئون السياسية وعندما تضمن حماية حقوق الإنسان حق الكلام والتجمع والاحتجاج، وعندما تكون الحكومة والمؤسسات الحكومية معضدة للفقراء ومعززة للتنمية الشرية لكل المواطنين. اختصاراً إنه مفهوم يميز بين مؤسسات وعمليات إدارة الحكم وبين مضمونها نوعيتها.
في عالم اليوم لم يعد ممكناً اعتبار إدارة الحكم نظاماً مغلقاً، فمهمة الحكومة أن تجد توزناً بين الأخذ بمزايا العولمة وتوفير بيئة محلية اقتصادية واجتماعية آمنة ومستقرة، بالأخص لأولئك الأكثر عرضة للتأثر. ومع ذلك فإن العولمة تضع الحكومات موضع إنعام متزايد للنظر، الأمر الذي يعزز سلوكاً أحسن للدولة وسياسات اقتصادية مسئولة . في الدول المتقدمة نتج عن العولمة تقليل الخدمات التي تقدمها الدولة لصالح الخدمات الخاصة، ونظراً لانتشار ظاهرة العولمة عبر العالم فإنها يصحبها انتشار للمؤسسات الإقليمية والعالمية غير المنتخبة ولا المسئولة أمام المواطنين، ويترجم هذا إلى حاجة الدولة لتطوير قدرتها على المناورة ضمن معمار جديد، وإلى تيسير سياسات تعزز التنمية البشرية محلياً في الوقت الذي تحمي فيه المصالح الوطنية عالمياً، وأحياناً تفتقر الدول النامية للقدرة على التفاعل مع المنظمات العالمية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لأنها أحياناً ما تتفاوض من مركز الضعف. إن الوصول غير الملائم للدول النامية للسوق العالمي والمستوى المرتفع من الإعانات والدعم الزراعي الذي تقدمه الدول المتقدمة له آثار سلبية على حياة المزارعين الفقراء في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
وتوجد أيضاً علاقة متزايدة بين نوعية إدارة الحكم في الدول النامية والمعونة والاستثمارات المقدمة لهذه الدول، ويحاج بعض مقدمي المساعدة للديمقراطية والمانحين بأن الربط بين المشروطيات والمساعدة هو توجه في الاتجاه الصحيح، وأن تخفبف الدين والحوافز الأخرى يجب أن تستخدم لتعزيز التحرر السياسي، بينما تثور المخاوف لدى الآخرين من الفصل بين الفائزين والخاسرين وتلك البلدان الأكثر احتياجاً للمساعدة. من المهم الإقرار بأن الفاعلين الخارجيين عادة ما يأتون إلى الطاولة بمفاهيم ومشروطيات معينة متأثرة بالكيفية التي يرون بها إدارة الحكم والتنمية البشرية.
اختصاراً فقد أصبحت إدارة الحكم معياراً هاماً لمصداقية البلد واحترامها في المسرح الدولي، وثمة أسباب تلجئنا للاهتمام بما إذا كانت نوعية إدارة الحكم جيدة عبر العالم، فلخير شعوبها ومن أجل أهدافنا المشتركة فإن قدرة الدول الضعيفة على إدارة الحكم يجب تقويتها، لأن الدول التي يدار فيها الحكم بشكل جيد أقل احتمالاً لأن تكون عنيفة أو فقيرة، فالبلد الذي يحمي حقوق الإنسان ويعزز الإدماج في الحياة العامة يقل احتمال أن يكون لديه مواطنون يشعرون بالاغتراب لدرجة تجعلهم يتحولون للعنف كوسيلة لمواجهة مشكلاتهم، والبلد الذي يكون للفقراء فيه صوت مسموع في حكومتهم يغلب أن يستثمروا في السياسات القومية التي تخفض الفقر، وعندما تكون مصالح الناس وحاجاتهم وحقوق الإنسان في مركز مؤسسات وممارسات إدارة الحكم يمكن تحقيق تقدم حقيقي في محاربة الفقر.
إدارة الحكم الديمقراطية والتنمية
منذ عام 1959 عندما قدم "سيمور مارتن ليبست" لأول مرة ربطاً إمبريقياً بين المستوى المرتفع من التنمية الاقتصادية والديمقراطية المستقرة والمناظرة حول الارتباط بين إدارة الحكم ديمقراطيا والتنمية في تطور، سنقوم أولاً بالاقتراب من القضية بمفاهيم النمو الاقتصادي وحده وليس من منظور التنمنية البشرية الكلي ووفقاً ل"كارلوس سانتيسو" " فقد تمركز هذا الجدل بالأساس حول ثلاث قضايا :
1- ما إذا كانت الديمقراطية تعزز الثروة والنمو.
2- ما إذا كانت الدخول المرتفعة والثروة تعزز الديمقراطية.
3- ما إذا كان هناك تأثير متضافر ومتمازج بين كليهما.
توصل باحثون مختلفون لإجابات مختلفة على السؤال عما إذا كانت الديمقراطية تحفز النمو الاقتصادي أو العكس، فخلص "آدم برزورسكي وفرناندو ليمونجي" إلى أنهما "لا يعرفان ما إذا كانت الديمقراطية تقوي أو تعوق النمو الاقتصادي" وفي دراسته الأحدث قال "برزورسكي" أنه على حين لا يزال المحكمون لم يصلوا إلى قرار بشأن ما إذا كانت الديمقراطيات تولد التنمية الاقتصادية أم العكس فإنه يعظم احتمال استمرار بقاء الديمقراطيات في المجتمعات الغنية" ومن ناحية أخرى فإن " روبرت كابلان" خلص إلى أنه ثمة حاجة لمتطلبات أولية معينة في المجتمع قبل أن تستطيع الديمقراطية مد جذورها منها: مستوى معين من التوظيف والاستقرار الاقتصادي والسلم المدني، وحسب رؤيته فإن التنمية الاقتصادية تزيد من فرص استدامة الديمقراطية.
إلا إن باحثين آخرين مثل "توماس كراوثر" يرون أن التنمية السياسية والاقتصادية متضافرتان ومتداخلتان ويجب ألا يتم فصلهما أو إقامة تتابع بينهما بشكل مصطنع " فالمحاجة بالتتابع يراها العديدون مصطنعة وليست إلا قناعاً للتسلطية" ووفق هذه الرؤية فإن الفقراء بل وكل المواطنين في المجتمع هم الذين يجب أن يقرروا ما إذا كانوا يفضلون الطعام أم التصويت أم كلاهما معاً فهذا الاختيار هم وحدهم وليس غيرهم الذي يتخذونه ومن خلال الممارسة الديمقراطيةوحدها يمكن حسم هذا الاختيار.
وبينما يزعم عادة أن النظم التسلطية أفضل في تحقيق التنمية الاقتصادية فإن التحليلات الإحصائية الشاملة لا تدعم هذه الفرضية: فأولاً وكما وجد "برزورسكي" فإن تحليلات واسعة النطاق تؤكد أنه لا يمكن استخلاص ربط بين النظم التسلطية والتنمية الاقتصادية. ثانياً أثبتت الأزمات الاقتصادية الأخيرة في جنوب شرق أسيا أن إدارة الحكم الرديئة ونقص المساءلة والشفافية يمكن أن تحرف التقدم الاقتصادي عن مساره. وثالثاً فحتى لو أثبتت إدارة الحكم غير الديمقراطية أنها تعزز النمو الاقتصادي فإن إدارة الحكم الديمقراطية ذات قيمة متأصلة ذاتياً للتنمية البشرية باعتبارها تمكن من المشاركة الاجتماعية والسياسية، ذلك أن التنمية البشرية مقياس لما هو أكثر كثيراً من مجرد الرفاه الاقتصادي، فهي عملية تحسين للقدرات الإنسانية بطريقة توسع نطاق الخيارات والمشاركة، وبهذه الشاكلة فإن الديمقراطية وقيمها تستقر في قلب التنمية البشرية، فكما أشار "أمارتيا سن " فإنه نظراً لأهمية الدمقراطية والحرية السياسية في ذاتها فإن إقامة الدعوى لهما تبقى لا يمكن النيل منها".
وبناء على ما سبق يكون الدرس هو: أن استراتيجيات تحسين الأوضاع الإنسانية لا يمكن أن تكون مستدامة وفعالة في الأجل الطويل إلا حينما تكون المجموعة المتأثرة بها منغمسة في كل مستويات عملية صنع القرار، وعلى الرغم من أن العديد من أنماط الحكم بما فيها غير الديمقراطية مثل نظام "كوبا" الحالي أوالنظام "التشيلي" تحت حكم "بينوشيه" قادرة على خفض الفقر في المدى القصير فإنه لا يمكن استدامة هذه الجهود، فلا يمكن القيام بهذا إلا من خلال مشاركة الفقراء الفعالة في القرارات التي تؤثر على حياتهم، وهذه المشاركة تتحقق بشكلها الأقرب إلى الكمال من خلال النظم الديمقراطية.
هذا الدرس يدعمه العديد من الأمثلة في الدول النامية نفسها، ففي "تايلاند" على سبيل المثال تخطط المجتماعات المحلية خططها التنموية وتعبئ مواردها الخاصة لتؤتي ثمارها، وفي "بنجلاديش" جرت تعبئة قرى كاملة، وليس مجرد القطاعات الفقيرة لمحاربة الفقر بمشروعات جماعية مطورة محلياً، وفي "بلغاريا" دربت منظمات المجتمع المدني المحلية العمال المتبطلين على الحصاد ومهارات أخرى. هذه كلها أمثلة لبنى حكومية ومنظمات مجتمع مدني محلية تعمل من خلال مبادئ إدارة الحكم الديمقراطية وتؤثر بشكل مباشر على نوعية حياة المجتمعات المضارة.
الديمقراطية ليست العلاج الذي يداوي كل الأمراض فيما يخص التنمية البشرية واستئصال الفقر فكما حاجج "أمي شوا" في دراسة حديثة فإن الانتخابات والأسواق الحرة في البلدان النامية عادة ما تقود لا إلى الاستقرار والرخاء، بل إلى التوترات العرقية والتمييز وتركيز الثروة في أيدي "قلة مهيمنة على السوق " برغم زيادة القوة السياسية للأغلبية الفقيرة، ولكن برغم هذه الحدود السالفة الذكر فلا تزال الديمقراطية تحمل إمكانات تحقيق هذه الأهداف أكثر من أي نظام آخر للحكومة، فالديمقراطية تخلق الفرص وتحسن قدرات الفقراء والمعدمين، وبهذا الوصف فإن لها قيمة تنموية إنسانية ذاتية. علاوة على هذا يميل أغلب الديموقراطيات المستقرة لأن تكون مستويات الفقر لديها منخفضة، وعلى الجانب العكسي فإن الديمقراطيات التي تترك مواطنيها في فقر ممتد تميل لأن تكون قصيرة الأجل.
لإدارة الحكم الديمقراطية ثلاث مزايا متمايزة على النظم التسلطية: أولاً الديمقراطيات أفضل قدرة على على إدارة الصراعات وتتجنب التغير السياسي العنيف لأنها تقدم للشعب فرص المشاركة في العملية السياسية في البلد. ثانياً :الديمقراطيات أكثر قدرة على تجنب تهديدات البقاء الإنساني على قيد الحياة بسبب المراجعات التي تجريها الأحزاب والنقد غير المراقب للسياسات العامة والخوف من التصويت بالطرد من الحكم. ثالثاً تقود الديمقراطيات لوعي أكبر باهتمامات التنمية الاجتماعية والتي تشمل الصحة والرعاية الصحية الأساسية وحقوق المرأة والأقليات .
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على الولايات المتحدة جرت مناظرة في الولايات المتحدة - بل حقيقة في العالم أجمع - حول محددات صعود الحركات الأصولية والمتطرفة داخل بعض البلدان الإسلامية. وبرغم أن أسباب الإرهاب الدولي على المستوى الوطني معقدة جداً فإن أحد الرؤى المسيطرة التي جرى التعبير عنها كان مفادها أن الافتقار للممؤسسات والعمليات الديمقراطية في العديد من البلدان يؤدي إلى إقصاء ويدعم التنظيمات المتطرفة لأن أعضاءها ليست لديهم فرصة مناسبة للمشاركة في العملية السياسية في البلد فعلى سبيل المثال أظهر المسح الذي أجراه "بيت الحرية" عام 2001- 2002 وجود "عجز في الديمقراطية" في العالم الإسلامي وبالأخص في المنطقة العربية، فعلى الرغم من أن أغلبية المسلمين يعيشون تحت حكم ديمقراطي باعتبار الأقطار الأكبر من بين هذه الأقطار الإسلامية مثل "أندونيسيا" و"نيجيريا" و"بنجلاديش" و"تركيا" وعدد كبير من المسلمين في "الهند" فإن 11 فقط من بين 47 دولة أي 23 % من الدول ذات الأغلبية المسلمة ذات حكومات منتخبة ديمقراطياً.
تهدف التنمية البشرية لتوسيع قدرات الناس وخياراتهم التي تمكنهم من عيش حياة خلاقة وصحية ممتدة وتمكنهم من المشاركة في صنع القرار الذي يؤثر على حياتهم، وتشمل خصائصها تمكين الناس وتكافؤ الفرص والاستدامة والأمن الإنساني والحرية، وباختبار هذه المجموعة من السمات يصبح أداء البلد التنموي وتوقعاته أوضح، وتشمل هذه الخصائص الهامة العمر المتوقع، وتعلم الكبار، والقيد في المدارس ودخل الفرد.
ومن الخصائص الحيوية للأداء التنموي في مجتمع ما تلك الخصائص التي يصعب التعبير عنها كمياً لكنها كاشفة، وتشمل: الوصول للخدمات، والمشاركة في صنع القرار، والتكافؤ في الدخول والفرص ومستوى التشغيل، والنمو الاقتصادي، ومؤشرات الصحة، والتعليم، والأمن الإنساني، ومن هنا تأتي أهمية تفصيل مؤشرات التنمية البشرية ما أمكن حتى يمكن أن تكشف عدم تكافؤ التنمية على أساس العرق أو الجنس أو السن أوأي أساس آخر، وتماشياً مع هذا الاتجاه تم تطوير مؤشرات معينة لقياس أمور من قبيل تمكين النوع الاجتماعي والفقر البشري (ويشمل الوصول للماء والخدمات الصحية والصحة العامة) والتعليم ووالوصول إلى تدفق المعلومات والأداء الاقتصادي وبنية الاقتصاد الكلي والأوضاع البيئية والحياة السياسية والجريمة والإجهاد الشخصي والعناصر الأخرى للتنمية.
وكما رأينا عاليه فإن إدارة الحكم الديمقراطية هي أكثر نظم إدارة الحكم ملاءمة وصداقة للتنمية البشرية. لماذا وكيف تؤثر إدارة الحكم الديمقراطية بشكل محدد على أداء التنمية الإنسانية؟ إذا أخذنا أولاً المجموعة الأولى من المؤشرات كمثال فإن إدارة الحكم الديمقراطية يمكن أن تساعد على زيادة العمر المتوقع وتحسين تعلم الكبار والقيد في المدارس وترفع دخل الفرد من خلال تقديم نظام للحكومة يستجيب لاحتياجات الناس، فإذا كان الناس يرغبون في رعاية صحية وتعليم ونوعية حياة أفضل – ولابد لنا أن نفترض أن هذه مطامح إنسانية عالمية - فإن إدارة الحكم الديمقراطية تضمن أن الممثلين المنتخبين سيتصرفون وفق إرادة الشعب وبشكل مسئول، وأكثر من ذلك ستضمن نظاماً يضع القيام على حكم القانون والوصول المتساوي للفرص موضعه الصحيح، وكما رأينا سلفاً، فإن نظم إدارة الحكم الأخرى - حتى تلك غير الديمقراطية- يمكنها أيضاً تحسين الرعاية الصحية والتعليم والدخل لمواطنيها لكن مع إنعام النظر في المؤشرات الكيفية للتنمية تبدو المنافع الحقيقية لإدارة الحكم الديمقراطية جلية.
الخلاصة أن أداء التنمية البشرية يمكن أن يتحسن من خلال نوعية الديمقراطية، بما في ذلك خفض قيمة القوة والموارد وحماية حقوق الإنسان وإزالة الفساد ونشر العدل. في مثل هذه البيئة سيصبح الفقراء أكثر حرية في تنظيم أنفسهم وتطوير قدرتهم على العمل الجماعي. في عالم اليوم المعولم آفاق تحسين نوعية الديمقراطية أكبر، إذ يتمتع المواطنون بوصول متزايد للمعلومات والخبرات المقارنة، وأصبح إخفاء الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان عن الأعين أصعب، وأصبح المجتمع المدني أكثر فعالية على المستويين الإقليمي والعالمي.


إطار مفاهيمي
ولاعتبار أخير قد يكون من المفيد تشكيل أداة لاختبار وبحث إدارة الحكم الديمقراطية والتنمية الشرية بطريقة كلية عبر البلدان. هذه الأداة والإطار المفاهيمي ترسم الخطوط العامة للأفكار والعناصر الرئيسية التي تساعدنا في تحديد التقدم المحرز بتجاه إدارة الحكم الديمقراطية وباتجاه التنمية البشرية، لكشف أين تكمن الروابط الأقوى بينهما، ويقوم على مقدمة أولية بأن ثمة ثلاثة أبعاد أساسية يجب أخذها في الاعتبار في دراسة إدارة الحكم الديمقراطية: ماذا وكيف ولماذا. ماذا يشكل إدارة الحكم الديمقراطية (المؤسسات والعمليات والممارسات) وكيف تكون إدارة الحكم ديمقراطية (المبادئ المفتاحية للديمقراطية كشكل إدارة الحكم) ولماذا تصبح إدارة الحكم ديمقراطية (العوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر في التنمية وتدعيم الديمقراطية يوضح الشكل (1) التغيير المتبادل الحركي (الدينامي) ما بين العوامل التي تتضمن وتؤثر على نوعية وطبيعة إدارة الحكم الديمقراطيةوحالما نفهم إدارة الحكم الديمقراطية بشكل أكثر اكتمالاً يسهل تقييم آثارها على التنمية البشرية من خلال مدخل يقوم على دراسة عنصر فعنصر.
وتشكل العمليات والمؤسسات المفتاحية لإدارة الحكم الديمقراطية التالية ثلث الحركية (الدينامية) الموضحة في الشكل (1)
الانتخابات والديمقراطية:
الانتخابات هي مكون جوهري في أي نظام ديمقراطي إدارة الحكم لأنها وسائل مباشرة منتظمة لمشاركة المواطن في إدارة الحكم، كما تساعد العمليات الانتخابية الديمقراطية في ضمان أن الحكومة مستجيبة ومسئولة أمام الشعب. مثل هذه النظم والعمليات تصنع معاً القواعد المؤسسة للعلاقة مزدوجة الاتجاه التي تقوم على المشاركة والمساءلة بين المنتخبين وبين أولئك الذي يمثلونهم، فهي تقدم آلية تنتظم وتتجادل من خلالها المصالح المتنافسة وتتحدد خيارات السياسة.
إلا إن الانتخابات كأحداث غير كافية لجعل البلد ديمقراطياً بل نوعية العملية الانتخابية هي التي تعزز إدارة الحكم الديمقراطية، وتشير النوعية هنا إلى انتخابات متعددة الأحزاب ومشاركة فعالة من قبل منظمات المجتمع المدني وانتظام وتوتر الانتخابات وقبول المعارضة لنواتجها، ومن المهم أيضاً قدرة أجهزة إدارة الانتخابات كمؤسسات حاكمة على تحقيق إدارة كفء وشفافة للانتخابات تستند على معايير مقبولة ومقر بها عالمياً.





شكل (1)
تعزيز حقوق الإنسان من خلال ديمقراطية إدماجية
حقوق الإنسان و إدارة الحكم الديمقراطية شديدا الترابط، فلكي يستخد المواطنون قدراتهم لابد أن تكون لهم حقوق معينة غير قابلة للتحول، ولابد أن يتحرروا من التمييز والحاجة والخوف والظلم، ولابد أن يكونو أحراراً في تطوير وتحقيق إمكانتهم وفي التفكير والحديث والمشاركة، وفي العمل دون أن يتم استغلالهم. إن حقوق الإنسان غير قابلة للانقسام، وكل أنواع حقوق الإنسان مهمة: الإجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والديمقراطية متوافقة مع كل فئات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، وتحمي إدارة الحكم الديمقراطية وتعزز حقوق الإنسان من خلال حكم القانون والانتخابات المنتظمة، وحكومة ممثلة تستحث مشاركة المواطنين.
إن المؤسسات والآليات التشريعية مطلوبة، سواء لتعزيز وحماية الحقوق من قبل الدولة أو حقوق الدولة وثمة سمات مفتاحية أربع للديمقراطية تقوم على حقوق الإنسان: انتخابات حرة ونزيهة تسهم في المشاركة السياسية، وحرية واستقلال وسائل الإعلام الموصل إلى حرية التعبير، وفصل بين السلطات بين أفرع الحكومة يحمي الناس من انتهاك الدولة أو الأفراد الآخرين لحقوقهم السياسية والمدنية، وتشجيع المجتمع المدني والأحزاب السياسية يعزز حق التجمع السلمي وتكوين الهيئات (النظر الفصل رقم 5)
الديمقراطية على مستوى الجذور (القاعدة) من خلال اللامركزية
تساعد اللامركزية بما تشمله من تفويض السلطة والموارد على تقوية دور وقدرة السلطات المحلية على أن تصبح أكثر استجابية ومساءلة لاهتمامات الجماعات والمجتمعات المحلية، فاللامركزية وإدارة الحكم المحلية تمكن السلطات من إدماج منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص المحلي في صياغة وتنفيذ وإدارة الخطط والسياسات، ويتم تمكين المجتمعات ومنظماتها لتصبح شريكات متساوية في إدارة الحكم المحلية وعملية التنمية الداعمة للفقراء والنوع الاجتماعي والقابلة للاستدامة بيئياً، فالمناطق الحضرية تقدم تحديات معينة تتطلب استجابات معينة فيما يخص تلبية حاجات وتحسين فرص فقراء الحضر، وإقراراً بدور اللامركزية في التنمية المتمركزة حول الناس وفي تعزيز قيم الديمقراطية و إدارة الحكم الرشيدة فإن ثمة اتجاه عالمي نحو لا مركزة السلطة والمسئوليات من المركز للحكومات المحلية والمناطق.
ويمكن أن تأخذ اللامركزية أربعة أشكال: عدم تركيز الوظائف من إدارات الحكومة المركزية للمناطق المحلية، تفويض السلطة لأجهزة شبه مستقلة لأداء وظائف معينة، نقل السلطة والموارد للحكومات المحلية، نقل الوظائف من المنظمات الحكومية إلى المنظمات غير الحكومية بما فيها القطاع الخاص. إن نقل السلطة السياسية والموارد المالية هو أساس الديمقراطية القاعدية أو على مستوى الجذور، برغم أن الأشكال الأخرى من اللامركزية تسهل أيضاً مشاركة الناس في القرارات المحلية التي تؤثر فيهم. (انظر الفصل رقم 6)
تقوية العملية البرلمانية
الفرع التشريعي من الحكومة هو الفرع التمثيلي الأساسي للمؤسسات الحاكمة في البلد، وفي الدول الديمقراطية هو منتدى به تصبح اهتمامات الناس في حكم البلاد مسموعة، ويرتبط دور الفرع التشريعي بشكل عام بصنع القانون والتمثيل والإشراف والمراقبة، وبهذا يضطلع المشرعون بدور حيوي في صياغة شكل استراتيجيات التنمية البشرية، وتحديد أولويات الموارد الموجهة للصحة والتعليم والبيئة وخلق البيئة التي تمكن القطاع الخاص من النجاح والازدهار.
ومع ذلك يوجد في العديد من البلدان النامية فجوات رئيسية بين النظرية والتطبيق في علاقة المشرعين بناخبيهم في الدوائر، فبرلمانات الحزب الواحد التي لا تزال موجودة في العديد من البلان النامية لا تتطرق لمناقشة وجهات النظر الأخرى. إضافة إلى ذلك فإنه حيث تسيطر الجماعات الإقطاعية على البرلمانات تتم عرقلة جهود الإصلاح الرئيسية بسبب المصالح الواسعة لهذه الجماعات، ويمنع الافتقار إلى التعليم ومستويات الدخول المنخفضة أبناء الدوائر الانتخابية من حمل ممثليهم على أن يكونوا موضع مساءلة تجاه حاجاتهم ومطامحهم (انظر الفصل رقم 4)
الإصلاح القضائي- تحسين الوصول للعدالة
إن الإدارة المنصفة وبشكل متساو للعدالة هي أحد الأعمدة الأولى لإدارة الحكم الديمقراطية. إن إطاراً قانونياً وتنظيمياً يتضمن الدستور والنظام الانتخابي والوصول المتساوي للعدالة أساسيان لتكوين بيئة يمكن فيها للتنمية البشرية أن تتطور، فالمواطنون بحاجة لمعرفة أن القوانين ستنفذ وان إدارة العدالة ستكون منصفة لكي يؤمنوا بالنظام. إضافة إلى ذلك فإن نظام العدالة بحاجة لتوفير وصول متساو إليه من قبل الفقراء والأكثر تهميشاً في المجتمع.
هناك أبعاد عديدة للنظام القضائي والوصول للعدالة لها تأثيراتها المباشرة على تعزيز الثقافة والقيم الديمقراطية: استقلال الجهاز التشريعي عن السلطة القضائية، البنى والعمليات بما فيها التخطيط للتنمية المؤسسية وتطبيق حقوق الإنسان وغيرها من الأبعاد ذات الصلة، والجوانب القانونية لعملية حماية البيئة والأمن العام ونظام السجن والوصول للعدالة بما في ذلك من نظام للمساعدة القانونية وتعزيز حلول بديلة للنزاعات وحملات للوعي العام من خلال المجتمع المدني والآليات الأخرى.
دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية
تضطلع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني بدور حيوي في تعميق الديمقراطية وإدارة الحكم الرشيدة فالمجتمع المدني هو الركيزة الأساسية لإدارة الحكم الديمقراطية، حيث يمكن أن يعمل كقوة حافزة للتغير الاجتماعي الإيجابي، ويمثل المجتمع المدني ومنظماته أصواتاً ومنظورات وقيماً مختلفة في مجتمع تعددي. إن مجتمعاً مدنياً نشطاً ونابضا بالحياة هو عنصر حيوي للتنمية البشرية، لأنه ذلك الجزء من المجتمع الذي يربط الأفراد بالمجال العام والدولة، ويمكن أن يقدم المجتمع المدني مراجعة وموازنة الحكومة والقوة، ووأن يراقب الانتهاكات والمظالم الاجتماعية، وأن يوفر للناس فرصاً لتطوير قدراتهم. اليوم ثمة ثنائية متنامية بين السياسات المحلية والدولية، بمعنى أن المجتمع المدني ينمو على المستوى الوطني وفي الوقت نفسه يتضح دوره من خلال القضايا العالمية مثل البيئة والديون وحقوق الإنسان والأزمة ..إلى غير ذلك.
الأحزاب السياسية مثلها مثل منظمات المجتمع المدني هي قاطرة مهمة مسئولة عن تنظيم وتجميع المطالب المختلفة للمجتمع. ومع ذلك فإن أحد الاختلافات الأساسية - والذي يبرر معالجتها هنا بشكل منفصل - هو أن الأحزاب السياسية تتنافس من أجل القوة السياسية، وعندها القدرة على أن تترجم هذه المطالب المختلفة إلى سياسات عامة إذا تم التصويت لصالح توليها السلطة، ، وعلى حين أن منظمات المجتمع المدني عادة ما ترتكز على قضية، فإنه لابد لأي حزب سياسي أن يطور موقفاً من نطاق عريض من القضايا ومعالجتها من موقفه الأيديولوجي. إن نظاما تعددي الأحزاب نابضاً بالنشاط أساسي لعافية إدارة حكم ديمقراطية، لأنه يكفل أن المواقف تتأسس أيوديولوجياً ويقدم سلسلة من منطلقات العمل يمكن للمواطنين أن يقبلوها أو يرفضوها.
تنغمس منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بشكل مباشر في العملية الانتخابية وقيام الهيئة التشريعية بوظيفتها وتعزيز وحماية حقوق الإنسان واستراتيجيات مناهضة الفساد والاتجاه نحو اللامركزية و نظم إدارة الحكم المحليةوإدارة الحكم في مواقف الأزمات وما بعدها. بهذا المعنى فإنها تتقاطع ومن ثم تدرس في كلا الفصلين ذوي الصلة.
العولمة والقدرة على ادارة القطاع العام
مؤسسات القطاع العام وونظم الخدمة المدنية هما الأسس المؤسسية لقدرة الدولة على الحكم وصياغة وتنفيذ برامج التنمية ودفع التنمية البشرية لاستئصال الفقر. في اقتصاد اليوم المعولم لابد لمؤسسات القطاع العام أن تقوم بأدوار جديدة لها متطلباتها مثل التخلي عن التخطيط المركزي لصالح الاستراتيجيات التي تشجع نشاط القطاع الخاص وزيادة الاستثمار ومكافأة الاداء الفردي والمؤسسي الجيد وزيادة الانتاجية، واستخدام وإدرارة الموارد بشكل أكثر كفاءة وفاعلية، إن مؤسسات القطاع العام اليوم بحاجة الى التمكين أكثر من التحكم والسيطرة والتنسيق، والتسهيل أكثر من التدخل، وأن يدير أقل ولكن بشكل أكثر كفاءة.
يزيد احتمال أن تصبح المؤسسات السياسية (أجهزة إدارة الانتخابات والبرلمانات وأجهزة مكافحة الفساد ونظم القضاء) فعالة عندما تعمل مؤسسات القطاع العام لتحقيق أهداف متتامة على المستوى القومي، وعندما يكون لدى الموظفين المحليين في إدارات الحكومة القدرة والتوجهات لتحسين وصول خدمات مثل الرعاية الصحيه الأساسية و التوسع الزراعي ورفاه السكان والتعليم وإسكان محدودي الدخل، وبذلك فإن عمل مؤسسات القطاع العام بشكل كفء وقدرة القطاع العام على قيادة عملية صنع السياسة وتنفيذها يمكن أن تعمق الديموقراطية وإدارة الحكم الرشيدة ، وتمكن الدولة من الاستفادة من العولمة (انظر الفصل رقم 7).
التكاملية في إدارة الحكم – مقاومة الفساد
ان عملية التكامل في إدارة الحكم الرشيدة واستراتيجيات مكافحة الفساد تنطبق على ولها تاثيرها ليس فقط على المؤسسات العامة، بل وعلى المؤسسات الخاصة ومنظمات المجتمع المدني أيضاً، ومع ذلك فإن القطاع العام هو الأهم، لأنه المسئول عن ادارة وتخصيص صناديق التمويل العامة والمساعدات الخارجية وتقديم السلع العامة، ومن ثم فإن كفاءته وفاعليته ودرجة الشفافية التي يتمتع بها من الأمور الحيوية التنمية البشرية.
إن التكاملية في الحكم – متضمنة مساءلة موظفي الحكومة وشفافية صنع القرار العام والوصول للمعلومات والمعايير والأكواد الأخلاقية الملزمة - لها تأثير هام على مأسسة المؤسسات السياسية الديموقراطية وعلى استئصال الفقر. إن استثمار المصالح الوطنية والدولية تعتمد كثيراً أيضاً على ثقة المستثمرين في التكامل في إدارة الحكم ومدى إمكانية وجود شخص يمكن مساءلته عن رأسمالهم في نهاية العمل.(انظر الفصل 3)
إدارة الحكم الديموقراطية في مواقف الأزمة وما بعدها
يجد العديد من البلدان نفسه - خاصة في افريقيا - متورط في نزاعات داخلية وخارجية اضطرابات وتشوش اقتصادي واجتماعي. أثناء الازمة وبعدها عادة ما تكون المؤسسات والعمليات الديموقراطية التي تحمي المضارين قد تدمرت، وتصبح في حاجة إلى إعادة البناء، فالدول في مواقف الأزمة وما بعدها لابد أن تواجه مشكلات معينة لإدارة الحكم الديموقراطية لاستعادة الشرعية السياسية، فحقوق الانسان والأمن الإنساني ومعاش الناس تحتاج الدعم لحمايتها ، والمؤسسات التي تتعامل مع مع السلطة القضائية والشرطة والادارة العامة تكون بحاجة إلى إعادة بنائها، والمصالحة السياسية بين الفرقاء من المجتمعات المحلية لابد من إنجازها والسكان المنتشرون في غير مناطقهم لابد من تأهيليهم والمساعدة على اندماجهم في المجتمع، وتحتاج الانتخابات الجديدة إلى تنظيم عادةً تحت إشراف مراقبين دوليين، وتتطلب عمية بناء الديموقراطية في مثل هذه المواقف مدخلاً كلياً.
العوامل السياقية واستدامة الديموقراطية
في النهاية يوضح الشكل رقم 1 العوامل المحيطة التي تتعلق باستكشاف تأثيرات الثقافة والعرق والتاريخ والعوامل الاخرى على نوعية ومضمون مؤسسات إدارة الحكم الديموقراطية والعملية السياسية، ويطرح البعض أن ثقافات معينة تحمل اتجاهاً متأصلاً لا يرحب بالقيم والمؤسسات الديمقراطية، ومع ذلك فإن تحليلاً نقدياً لتطور فكرة الديموقراطية والممارسة الديموقراطية والتقدم العالمي للديموقراطية في إدارة الحكم تشير بخلاف ذلك، ويقترح آخرون أن إدارة الحكم الديموقرطية تتوافق مع وتنمو من قيم الحرية والكرامة الانسانية العالمية، فحيثما أخفقت إدارة الحكم الديموقراطية كان الإخفاق عائداً إلى المؤسسات غير المكتملة أو التطبيق غير الكامل وليس ل"عدم نضج" الدولة المعنية. فحتى الدول ذات التعدد والتنوع الثقافي مثل "الهند"، و "كوستاريكا" ، و"مالي" و "بولندا" و "أندونيسيا" خلصت إلى نتيجة بأن إدارة الحكم الديمقراطية أمر إيجابي دون أن يعني هذا القول بأن عملية إدارة الحكم الديمقراطية ستأخذ الشكل نفسه بالضبط في كل من تلك البلدان، أو أن الديموقراطية ستضرب بجذورها في مجتمعات مختلفة بالسرعة نفسها، فالثقافة والتقاليد المحلية لها تأثيرها على الطريقة التي تبنى بها القيم والنظم الديموقراطية وتتدعم .
إن عملية استقلال وسائل الإعلام ينظر إليها بشكل عام على أنها متطلب أولي لديموقراطية المشاركة، فوسائل الإعلام تؤدي وظيفة هامة في التربية المدنية بتفسير العمليات والمواقف والأحداث السياسية، كذلك الوصول الحر للمعلومات ووسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمتلفزة أشياء حيوية وهامة ليصبح المواطنين على علم بالمعلومات، وإذا كان لمؤسسات الحكومة أن تكون عرضة للمساءلة عن أعمالها، فإن وسائل الاعلام في العديد من الديموقراطيات كانت هي التي كشفت الفساد والأشكال الاخرى من انتهاك الثقة العامة لدى الرأي العام والتي منعت المواطنين من تحقيق التنمية البشرية الكاملة .
وبالإضافة إلى الأسباب الداخلية فإن وتيرة الأخذ بالديموقراطية (المقرطة) تتأثر بالقوى العالمية ودور الفاعلين الخارجيين، فشركاء التنمية سواء على المستوى الثنائي أوالمتعدد مهتمون بشكل متزايد بكفاءة المساعدات الإنمائية، فهم يركزون على محورية المؤسسات والممارسات الديموقراطية في تعزيز التنمية التي مدارها الناس، فتتطلب الوتيرة السريعة للعولمة تغيرات نسقية في إدارة الحكم الداخلية وفي معمار إدارة الحكم العالمية، ويكفل هذا أن تعمل العولمة من أجل الجميع وليس من قلة قليلة (انظر الفصل رقم 10).
أحد الأجزاء المكملة في الشكل 1 هو جودة مؤسسات وعمليات إدارة الحكم الديموقراطية، ويلفت هذا الانتباه إلى درجة الوصول والمشاركة والمساءلة والشفافية وحكم القانون ... إلخ والتي توفرها تلك المؤسسات، ولا يكفي مجرد وجود هيكل إدارة الحكم الديمقراطية بل يجب لكي تعمل المؤسسات والعمليات الديمقراطية أن تمتزج بالمبادئ الديمقراطية وأهمها الحرية والمساواة.
من المهم عند بحث الصلات بين إدارة الحكم الديموقرطية والتنمية البشرية أن نتذكر أنه لا يوجد مقاس واحد يصلح للجميع، أي أن الانتقال في كل دولة إلى الديمقراطية وتدعيمها يواجه عوامل محيطة أو سياقية تؤثر على وتيرة طبيعة التغير، وهذا يشمل التطور الديموقراطي ( العهود التاريخية والاستعمارية ) في بلد ما والبناء الطبقي، وتاريخ وحاضر العلاقات المدنية العسكرية، وتاريخ الصراعات وحلها، والاعتبارات والجغرافية والسكانية، ودور المانحيين الدوليين.
عن الكتاب
يناقش هذا الكتاب القضايا الرئيسية في بناء المؤسسات الديمقراطية في البلدان النامية في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والمنطقة العربية وشرق أوربا، ولا يقدم إطاراً لفهم كيف تترابط إدارة الحكم الديمقراطية بالتنمية وحسب، بل ولتقييم الظروف التي تجعل إدارة الحكم الديمقراطية ممكنة، ويختبر الكتاب بناء على دراسات حالة وأمثلة لممارسات إدارة الحكم نوعية المؤسسات والعمليات الديمقراطية، ويحلل الكتاب العوامل السياقية الداخلية والخارجية التي تؤثر على نوعية العمليات والمؤسسات الديمقراطية ، وتعرف المؤسسات على أنها "قواعد اللعبة" الناجمة عن القوانين والقواعد غير الرسمية والبنى التنظيمية.
أحد الأفكار المؤسسة لهذه الدراسة هي أن لتصميم مؤسسات وخصائصها تؤثر بدرجة كبيرة علي سياق ومحتوي عمليات الديمقراطية. إن المؤسسات غير الفعالة لا تؤدي فحسب إلي خنق التحول الاقتصادي بل إلي فشل حماية مصالح الفقراء وغيرهم من الجماعات المعرضة للضرر أيضاً. إن إصلاحات وابتكارات تنظيمية قد تدعم المساءلة في العديد من فروع الحكومة، وتوفر آليات لها من أجل مراجعة بعضها بعضاً، وتعزيز تمثيل جميع قطاعات المجتمع، وظهور ديمقراطية إدماجية، وهي شكل من أشكال الحكومة التي قد تشجع وتحمي مصالح الفقراء والنساء والجماعات الاجتماعية المهمشة. إن المؤسسات والقواعد الفعالة تجعل أداء الأسواق جيداً، وتحسن الحصول علي الخدمات العامة، وتحمي حقوق الإنسان.
وهذا الكتاب يتضمن ثلاث محاجات:
الأولى: هي أن تقوية واستدامة إدارة الحكم الديمقراطية في الدول النامية تتيسر بما يلي:
- الانتخابات الحرة النزيهة التي تجري علي أساس منتظم والعملية الديمقراطية الشفافة والفعالة المبنية علي مبادئ الفصل بين السلطات، والمساءلة الأفقية، والقدرة على إدارة القطاع العام ليتكيف مع الإيقاع السريع للعولمة، والديمقراطية علي مستوي الجذور (القاعدة) من خلال تفويض السلطة سياسياً، كما يحتاج أيضا إلي آليات وعمليات لدعم حقوق الإنسان وحمايتها، ونزاهة الإدارة خلال استراتيجيات مكافحة الفساد الفعالة وتحقيق العدالة خلال إصلاحات قانونية، والقدرة علي إدارة الصراعات خاصة في الأزمة وفي مواقف ما بعد الأزمة.
والثانية هي أن المؤسسات والعمليات التي تتعلق بما سبق تتأثر تأثراً كبيراً بمثل هذه العوامل الداخلية مثل العلاقات المدنية – العسكرية داخل البلاد، والثقافة والدين، والاعتماد المتبادل بين وسائل الأعلام الجماهيرية ومدي الفقر والحرمان بين مختلف الجماعات والمناطق الجغرافية. كما تتأثر أيضا بالقوة الخارجية بما فيها الضغوط من المانحين على المستوى الثنائي، والمنظمات متعددة الأطراف، والمجتمع المدني العالمي.
والثالثة هي أن استراتيجيات الإصلاح التنظيمية للإبقاء علي الديمقراطية وإدارة الحكم الرشيدة يجب أن تقوم علي سياق اجتماعي واقتصادي وسياسي، والاعتراف بشمولية المبادئ الأساسية للديمقراطية وإدارة الحكم الرشيدة والمشاركة، والمساءلة، حكم القانون، والإنصاف، والكفاءة وكذلك الدعم.
في الفصول التالية ستتم دراسة كل من المكونات التنظيمية لإدارة الحكم الديمقراطية من خلال طرح أربعة أسئلة: لماذا يعتبر هذا المكون مهما في دعم القيم الديمقراطية؟ ما هي المعايير، والممارسات والاتجاهات الجيدة في تطوير الاقتصاديات النامية في أسيا، أفريقيا، الشرق الأوسط، أمريكا اللاتينية وكذلك أوروبا الشرقية؟ كيف تؤثر العوامل الداخلية والخارجية – بما فيها العولمة ودور الشركاء الخارجين – علي المعايير والقيم المعيارية؟ كيف تؤثر إدارة الحكم الديمقراطية علي التنمية المتمركزة حول البشر؟ لم تهدف هذه الدراسة إلي تصنيف البلدان بناءً علي أدائها في المؤسسات الديمقراطية أو أداء تطوير البشر بصفة عامة. بل كان الهدف هو دراسة ممارسة إدارة الحكم الديمقراطية والعوامل الهامة المسئولة عن النجاح أو الفشل.
وبناء علي دراسات حالة أصلية عن الأبعاد المختلفة لإدارة الحكم الديمقراطية، والبيانات السنوية، وخبرة المؤلف ببرامج المساعدة الديمقراطية علي المستوي المحلي والعالمي، يحاول هذا الكتاب تجسير فجوة واسعة بين الأدبيات النظرية حول الموضوع وبين الأدوات العملية والممارسات الجيدة المتوفرة لتقوية المؤسسات الديمقراطية أو إعادة بنائها لتحسين نوعية العملية الديمقراطية.
يصف الفصل (1) الاتجاهات نحو الديموقراطية والإدارة الجيدة في سياق العولمة، والعلاقة بين الإدارة والتنمية، وأبعاد المؤسسات الديمقراطية والعوامل التي تؤثر علي نوعية وفاعلية الإدارة في التنمية البشرية، كما يعرض إطاراً عملياً نظرياً لمساعدتنا في دراسة المؤسسات وعملية الإدارة الديمقراطية، وسبل تأثرها بالعوامل الداخلية والخارجية، وتأثيرها على دعم التنمية التي تتركز حول البشر.
يصف الفصل الثاني معايير وقواعد إجراء الانتخابات والممارسة في الاقتصاديات النامية كما تنعكس في دراسات الحالة لبعض الانتخابات الأخيرة، ودور هيئات الإدارة الانتخابية في هذه العملية، والقضايا الأساسية في تحسين شرعية الانتخابات بما في ذلك تثقيف الناخب وتسجيله، ودور المراقبين الدوليين، واستخدام تقنية المعلومات، وتكلفة الانتخابات ودور المجتمع المدني والأحزاب السياسية.
ويتناول الفصل (3) أثر تكامل إدارة الحكم واستراتيجيات مكافحة الفساد علي إدارة الحكم الديمقراطية، وبعد تعريف التكامل في إدارة الحكم، أخلاقيات الممارسة في المؤسسات العامة والفساد، يعرض الفصل أشكال، وحجم، وأسباب الفساد في الاقتصاديات النامية، ثم يحلل أثر الفساد علي نوعية المؤسسات الديمقراطية، وعلي التنمية الاقتصادية والقضاء علي الفقر. يلي ذلك عرض دراسات حالة للممارسات الجيدة في مكافحة الفساد وتحليل القضايا الأساسية لإصلاح السياسة بناءاً علي خبرة الاقتصاديات النامية.
يناقش الفصل (4) العملية البرلمانية وتأثيرها علي صنع القوانين، والتمثيل الديمقراطي، والإشراف على الجهاز التنفيذي، كما يصف نماذج لعلاقات الناخبين بالبرلمانيين، ودور الأحزاب السياسية، وأنماط العلاقات بين فروع السلطة التنفيذية والتشريعية، كما يتناول أيضاً قدرة البرلمان كمؤسسة علي تعزيز تمثيل جميع قطاعات المجتمع، وبناء ثقافة سياسية تتصف بالتسامح.
ويدرس الفصل (5) العلاقة بين حقوق الإنسان وإدارة الحكم الديمقراطية، ويحدد العناصر الرئيسية لمدخل تنموي مبني علي الحقوق. وبعد عرض إطار عملي شامل لحقوق الإنسان، يناقش الفصل أثر الديمقراطية علي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحقوق الأقليات وحقوق الإنسان في مواقف الأزمة، وقدرة مؤسسات حقوق الإنسان في البلدان النامية. كما يستعرض هذا الفصل حقوق النساء وأثر العولمة علي موقف حقوق الإنسان في الاقتصاديات النامية.
يدرس الفصل السادس هذه العمليات والآليات التي تعمق عملية اللامركزية من خلالها الديمقراطية على مستوى القاعدة أو الجذور، ويصف القوى الدافعة التي بسببها تحاول الدول النامية لامركزة سلطة صنع القرار وموارده. كما يعرض الفصل أيضاً بعض الممارسات الجيدة لسياسات اللامركزية الحديثة وبرامجها والعوامل التي تؤثر علي اختيار وتأثير برامج اللامركزية.
ويراجع الفصل ( 7) القضايا الرئيسية لقدرة القطاع العام علي التكيف مع الإيقاع السريع للعولمة. كما يدرس حجم وأثر العولمة علي الاقتصاديات النامية، والدور المتغير للدولة والاتجاهات الحديثة في إدارة القطاع العام الحديث في مناطق مختلفة. كما يعرض الفصل دراسات حالة لابتكارات في القطاع العام في ارتباطها بالدور المتغير للدولة وأجندة الإصلاح لتوفير إطار موصل لتحقيق المؤسسات الديمقراطية.
كما يصف الفصل (8) خبرات البلدان النامية في تحسين الحصول علي العدالة عن طريق تصميم وتنفيذ برامج إصلاح قانونية، كما يتناول استقلالية السلطة القضائية وتأثير البيئة السياسية، والعوامل التنظيمية والمؤسساتية التي تعوق استقلال القضاء، كما يعرض دراسات حالة تتعلق بالحصول علي العدالة علي المستوي المحلي والمجتمعي، ودور منظمات المجتمع المدني في توفير خدمات قانونية مساعدة للفقراء لحماية مصالحهم، وأخيراً يعرض الدروس المستفاد من خبرات الإصلاح القضائي في مناطق مختلفة.
ويراجع الفصل (9) إادارة الحكم في مواقف الأزمة وما بعدها، كما يتناول إمكانية إدارة الحكم الديمقراطية كأداة لإدارة الصراع وحله بالنظر إلى مكونات معينة لكل من هذه المواقف. وأخيراً يعرض بعض أمثلة لإعادة بناء مجتمعات ممزقة تجمع بين قضايا إدارة الحجم والصراع بطريقة عملية.
كانت العوامل السياقية، والداخلية والخارجية التي تساهم في إمكانية استمرار الديمقراطية محل بحث الفصل (10) والذي يبدأ بمراجعة أثر الثقافة والعرقية علي إدارة الحكم الديمقراطية مع التركيز علي العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، ويحاول التعرف علي دور العلاقات المدنية- العسكرية في دعم الديمقراطية، ودور الصحافة ووسائل الإعلام الجماهيرية، وأثر الفقر علي المؤسسات الديمقراطية النامية. أخيراً يحلل الفصل مداخل الشركاء الخارجيين- بما فيهم المانحين على المستوى الثنائي والمنظمات متعددة الأطراف- لدعم وتقوية إدارة الحكم الديمقراطية وفحص الدروس المستفاد من الخبرة.

الأزهر بين الحكومة و الإسلاميين

الأزهر بين الحكومة والإسلاميين
ستيفن باراكلوف
لقد نقلت الحكومة المصرية منذ تولى حسنى مبارك الرئاسة سنة 1981 مسؤوليات إدارية هامة للأزهر لإظهار طابعها الإسلامى .و قد استخدمت هذه المؤسسة العتيقة للتعليم العالى هذه السلطات من جانبها لدفع جدول أعمالها الخاص للمقدمة و تصعيد دورها فى صنع القرار فظهر الأزهر كقوة تعمل لصالحها هى لتأخذ مكانها الدقيق بين الحكومة و الإسلاميين.
ففى الوقت الذى زادت فيه جاذبية النزعة الإسلامية فى مصر حاول نظام حسنى مبارك بشكل نشط أن يظهر نفسه كحكومة شرعية إسلامياً وكما يصف المفكر و السياسى العلمانى المصرى البارز رفعت السعيد الوضع فيقول " إنها [ أى الحكومة] تقوم من ناحية بمحاربة الإسلاميين الذين يعلنون أو يدعون من ناحية أخرى أنهم أشد إسلاماً من الآخرين "
قامت الحكومة لتكتسب هوية إسلامية بنقل مسؤوليات إدارية للأزهر المؤسسة العتيقة للتعليم العالى التى تملك الآن بتلقيها لهذا الرأسمال السياسى الكبير قوة كافية للتصرف كقوة ثالثة فى المجال الواقع بين الحكومة و المعارضة الإسلامية.
يعنى هذا المقال بقضايا الإدارة و التحكم مبتدئاً بالضم التاريخ للأزهر تحت حكم عبد الناصر (1954- 1970) و ما تلا ذلك من توظيفه كوكالة حكومية ثم تنتقل بؤرة الاهتمام إلى العلاقة بين الأزهر و الحكومة من 1982 – 1996 التى تزامنت مع تولى مبارك الرئاسة سنة 1981 و تنصيب جاد الحق على جاد الحق شيخاً للأزهر من 1982 حتى وفاته 1996فهذه الفترة هى التى نقلت الحكومة خلالها وظائف إدارية هامة للأزهر الذى أصبح تحت قيادة جاد الحق راغباً بشكل متزايد فى متابعة قائمة أعماله الخاصة.
يظهر التناقض بين فترتى عبد الناصر و مبارك التحول الهام فى علاقات القوة الذى اخذ مجراه فى العقود الأربعة الماضية و تنعم خاتمة المقال النظر فى الاتجاهات المستقبلية المحتملة فى المشهد السياسى المصرى الناشئة عن هذا التغير .
الأزهر أسيراً للدولة
منذ 1952 و الدولة تعبئ الرموز الإسلامية عندما تستدعى الظروف السياسية ذلك فمثل غيرها من النظم الأخرى فى العالم العربى تطلبت الحكومة درجة معينة من الشرعية الدينية إلى أن تطور شرعية بنيوية اكبر فمنذ انقلاب الضباط الأحرار 1952أصبحت القومية العربية الموضوع الخطابى الأساسى للدولة المصرية و مع ذلك ضمنت الحكومة فى شعاراتها فى مراحل سياسية حساسة أفكاراً دينية أيضاً.
فبعد انقلاب 1952 مباشرة أخذ بعض الضباط لأنفسهم الامتياز التاريخى للحكام المسلمين الذى يخولهم إلقاء خطبة الجمعة كما قام عبد الناصر بالحج إلى مكة خلال الصراع المحتدم مع الإخوان المسلمين و على اثر الهزيمة العسكرية 1967 اتخذت الحكومة الدين ملاذاً لها و حضر قادة النظام الصلاة فى المساجد بعد الهزيمة مباشرة و استخدم ناصر وسائل دينية ليضع عن نفسه بعض اللوم محتجاً بأن " الله أراد أن يعلم مصر درساً " و أنه "كان على الأمة أن تقبل هذا الامتحان باعتباره قدرها "
لقد كان الأزهر - مؤسسة التعليم العالى و الشريعة- الجزء المحورى فى استراتيجية الحكومة فى تعبئة الرموز الإسلامية فكما لاحظ المفكر المصرى كريم الراوى" احتاجت الحكومة الأزهر ليخلع عليها مظهر الشرعية الإسلامية"
إن مسح علاقة الحكومة بالأزهر بنظرة عامة تكشف عن أن الأزهر عمل تحت حكم عبد الناصر و خلفه السادات (1970-1981 ) كأحد أجهزة الدولة و أن دور الأزهر لم يتغير بشكل له دلالاته إلا تحت حكم مبارك حيث دعت الحكومة بشكل متكرر خلال نضالها الممتد ضد جماعات الإسلاميين و على وجه الخصوص الإخوان المسلمين الأزهر إلى إصدار البيانات التى تبرر الحملات ضد الإسلاميين و تؤيد إدخال التشريعات التى كانت – بدون هذا التأييد – ستثير مزيداً من المعارضة الدينية .لقد ضمت حكومة ناصر الأزهر بشكل فعال بعد استحواذها على السلطة مباشرة و أخضعت الدولة العلماء للضغوط حتى يؤيدوا سياستها بما أدى للمقاومة السلبية أو حتى استقالة بعض هؤلاء العلماء و إتاحة الفرصة لتعيين المتعاطفين مع الحكومة و منذ الانقلاب العسكرى ظهرت بشكل متكرر سيطرة سلطة الدولة على العلماء ففقد الأزهر سيطرته على قانون الأسرة الذى أدمج فى القانون المدنى و فى سنة 1961 أخذت الحكومة على عاتقها مهمة الإصلاح الكامل للأزهر بإضافة كليات علمانية إليه و قوبل هذا التدخل الصارخ فى حينه بإطراء العلماء الممتنين له و وصل الأزهر أدنى أوضاعه خلال محاكمة مجموعة الإسلاميين التى تعمل تحت الأرض متبنية خطاً متشدداً "جماعة المسلمين" فى محكمة عسكرية سنة 1978 فقد وضع بعض علماء الأزهر فى قفص الاتهام و تم توبيخهم على عدم فعاليتهم فى نشر رؤيتهم المؤيدة لرؤية الحكومة للإسلام و على عدم إدانتهم هذه الجماعة الراديكالية قبلها فى وقت مبكر .
و للحكومة ، حتى الآن ، سلطة تعيين شيخ الأزهر و هو الحق الذى مارسته مؤخراً فى مايو 1996 عندما رقت الشيخ محمد السيد طنطاوى بعد وفاة جاد الحق .
يتمثل دور الأزهر الأساسى – و أهم ما تهتم به الحكومة – فى إقرار سياسات النظام و شجب معارضتها . و لما كان الإسلاميون المصدر الرئيسى لمعارضة الحكومة فى مصر فإن إلقاء الأزهر اللوم على الإسلاميين يلقى بالشك على شرعية و مصداقية الانتقادات الدينية للحكومة فقد انحاز الأزهر بلا تحفظ إلى جانب الحكومة فى الصراع المحتدم بينها و بين الإخوان المسلمين عامى 1953-1954 فوصف الأزهر كتاب "معالم على الطريق" الذى ألفه الكاتب الإسلامى الراديكالى الشهير سيد قطب بأنه كتاب مقيت و أدين مؤلفه باعتباره منحرفاً من الخوارج و عندما ثارت مشاكل أكبر بين الحكومة و الإخوان فى منتصف الستينات أصدر الأزهر – من تلقاء نفسه – بياناً عاماً يؤيد النظام و يشجب المعارضة بل و أمد الأزهر الرئيس السادات بتبرير إسلامى للتوصل لمعاهدات كامب ديفيد سنة 1978-1979 كدليل بين على مناصرة الأزهر لسياسة الحكومة حيث كان الأزهر قد أصدر فتوى سنة 1956 تعارض السلام مع دولة إسرائيل كما جادل شيخ الأزهر الأخير جاد الحق بأن أولئك الذين يستخدمون العنف ضد الدولة ليسوا مسلمين لأنهم يهاجمون المجتمع الإسلامى و ذهب فى تصريح لصالح الحكومة لتلقيبهم بالخوارج و وصى بتطبيق العقوبات القرآنية مثل بتر أطرافهم عليهم .
و كانت هذه التصريحات تشير إلى جماعات الإسلاميين التى تشن حملة قتالية لتقويض الحكومة أى الجماعة الإسلامية و الجهاد الإسلامى و طلائع الفتح و مما له دلالاته أن جماعة الإخوان المسلمين برغم حظرها لا تتسامح مع التغيير العنيف و من ثم لم تشملها إدانة الأزهر .
إن ثمة خطوات قريبة العهد لتمديد دور الأزهر فى الوقت الذى يشتد فيه النضال ضد الإسلاميين فتخطط الحكومة لتعزيز سلطة الأزهر بجعله يتحكم فى كل المساجد الخاصة التى يقدر عددها بحوالى خمسين ألف مسجد بحلول عام 2002 و تنبع أهمية و دلالة هذا التحرك من حقيقة أن المساجد الخاصة المعروفة بالأهلية حيوية لتجنيد و تنظيم الإسلاميين و بشكل مماثل لفتت صحيفة مصرية الانتباه إلى "تقرير امنى أصدره طرف مستقل عالى المستوى " يدعو لتحذير الدولة من الحركة السلفية و هى حركة دينية محافظة يزعم أن لها روابط مع الإسلاميين المناضلين و ذهب التقرير إلى التوصية بتجنب الحكومة المواجهة مع الحركة مفضلاً " مواجهة علماء الأزهر و وعاظه أفكار الحركة السلفية بشكل فعال و مناقشة الكتب التى يقرأها و يدرسها أعضاؤها " .
لقد تم ضم الأزهر فى عهدى ناصر و السادات فى سياق سياسى كان للدولة فيه دعاواها المتميزة بالشرعية اعنى دعمها للاشتراكية و القومية العربية و وقت تولى مبارك الرئاسة كانت هاتين القضيتين قد ضعفتا إلى حد كبير فسياسة الانفتاح الساداتى مثلت علامة بارزة على التحول لاقتصاديات السوق الحر على حين بدأ التقارب بين مصر و إسرائيل مع اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1979 و استمرت الانقسامات الرئيسية فى العالم العربى .
و عندما نتحول لدراسة نمو قوة الأزهر فى السنوات الأخيرة يجب أخذ السياق الأوسع – أى الخواء الأيديولوجى لسلطة الدولة- فى الاعتبار .
الأزهر كفاعل مستقل
قد يبدو مما سبق أن الأزهر استمر يعمل كتابع مدين بالفضل للحكومة إلا أن الحال لم يكن كذلك إذ كان ثمة تغير دقيق فى كلمات الأزهر ففى موضوع المتطرفين على سبيل المثال أوجز شيخ الأزهر فى أكتوبر 1994 أسباب صعود الحركات الإسلامية موضحاً كيف ظهرت كرد فعل لسوء تناول الدولة للأمور الدينية و استهدف بحديثه الإعلام الذى تسيطر عليه الدولة قائلاً:"تسيطر الجماعات الأخرى على الإعلام و بدأت فى العمل على تغيير التفكير الاجتماعى و التقاليد المصرية الإسلامية بطريقة لا تتفق مع عقيدة هذا المجتمع و هو ما أثار معضلة أمام المواطنين بين معتقداتهم الخاصة و المبادئ الأخرى المفروضة عليهم "و أتبع الشيخ هذا التصريح بنقد قوى لسعى الدولة للتحكم فى الدين ملمحاً لاستراتيجيتها فى ضم الأزهر قائلاً :"لقد حاولت هذه الجماعات أن تغير المبادئ الإسلامية معطية نفسها سلطة تفسيرها بما يوافق أهواءها و الحديث بجهل فى الأمور الدينية و وقعت أحداث أخرى مكنت هذه الجماعات من إحكام سيطرتها و حيازتها لفرص أكبر لتخريب البنية الاجتماعية و توجيه الاتهامات العشوائية للمسلمين و تقويض وضع العلماء "
لقد كان الشيخ دبلوماسياً بحيث أنه لم يحدد من الذين يعنيهم بقوله "هم" إلا أن الرسالة كانت واضحة للقارئ المطلع فعلى الحكومة ان تطلق يد الأزهر فى الحديث عن الأمور الدينية إذا ما أرادت حججاً إسلامية لها مصداقيتها ضد المناضلين الإسلاميين و ذهب شيخ الأزهر إلى أبعد من ذلك ليحاجج بأن هؤلاء المناضلين ظهروا كرد فعل على هجمات المثقفين و الإعلام على الدين و بسبب الآثار الاجتماعية للظروف الاقتصادية المتغيرة و سوء تناول هيئات الدولة للدين فكانت توصيته بإعطاء الأزهر كلمة أكبر فى المجالات الهامة فى السياسة الاجتماعية فمن خلال تحديد الزهر للتفسير الصحيح للتدين "ستتجنب الأمة مخاطر وجهى التطرف : انحلال العلمانيين الأخلاقى والمناضلين الإسلاميين بتفسيرهم الخاطئ للدين " و خلص الشيخ إلى قائمة بعدد من الخطوات التى يجب على الحكومة اتخاذها و التى إذا ما طبقت ستعزز من قوة الأزهر السياسية إلى حد بعيد.
إن هذه الدفعة من الأزهر أكثر من طلب عادى يقدمه البيروقراط لمزيد من التمويل أو دور أكبر لإدارتهم فهى تشير لعملية يحاول الأزهر فيها تحرير نفسه من وصاية الحكومة و ان يصبح قوة تعمل لحسابها الخاص .
إن تمحيصاً دقيقاً لمساعى الأزهر فى مجالات النزاع بين الحكومة و الإسلاميين يكشف عن أن الأزهر يسعى لاستخلاص أقصى ما يمكنه من سلطة من الدولة فى الوقت الذى يحاول فيه الحفاظ على مسافة بينه و بين كل من الحكومة و الإسلاميين فظهر نمط خاص من هذا النضال الثلاثى الجوانب فأولاً هناك جماعات الإسلاميين التى تشيع الانتقادات ضد الحكومة – برغم أنها غير مشروعة قانوناً- لإخفاقها فى تدعيم الأخلاقيات فى مجال معين فتستجيب الحكومة لهذا النقد بالدفاع عن تصرفاتها و تقوم – تأكيداً لصوابها إسلامياً- بنقل سلطات إدارية هامة إلى الأزهر فى هذا المجال و ثالثاً – و فى أكثر المراحل دقة – يستخدم الأزهر بعدها هذه السلطات الجديدة إما للضغط لمزيد من رفع شأنه فى شؤون الدولة أو وصولاً لمركز من غير المعتاد أن يتوافق مع ما تريده الحكومة له.
و على الرغم من أن بيانات الأزهر أقل حدة من تلك التى تصدرها جماعات الإسلاميين الخارجة عن القانون فإنها - مع ذلك – تظهر نوعاً من الاستقلال عن الدولة و فى بعض الأحيان كانت الدولة تمتن بالاستجابة لبيانات الأزهر و لما كانت الحكومة قد وضعت أغلب مصداقيتها فى هذه المؤسسة لم يعد بمقدور الحكومة معارضتها علاوة على ذلك فبقدر محاولة الحكومة تأسيس مظهرها الإسلامى بقدر ما لم يعد هناك مكان للتحول و التراجع و تظهر الحالات الدراسية التالية لمجالات متنوعة من الصراع السياسى تخلى الدولة تحت ضغط الإسلاميين أكثر فأكثر عن سلطات للأزهر.
هجمات الأزهر على المثقفين
يعرض التحرك مؤخراً ضد المثقفين هذا التوجه بشكل جيد فالمثقفون هدف مفضل للإسلاميين نظراً لاتجاهاتهم الشكية و تحطيمهم الصورة المقدسة للمناضلين الإسلاميين و تأثير الغرب المريب على تفكيرهم و تباع شرائط مسجلة أمام المساجد تحمل عناوين مثل "الفن بذاءة" و "بذاءة المجتمع الفنى" و ظل المثقفون ضحايا العنف المباشر فقد تعرض نجيب محفوظ الروائى الحائز على جائزة نوبل للطعن خارج بيته لأن إشارته بطريق المجاز للأنبياء فى كتاباته عدت تجديفاً فى حقهم أما القضية الأكثر خطورة فكانت مقتل المثقف فرج فودة سنة 1992 بعد أسبوعين من إعلان الشيخ الغزالى –أحد علماء الأزهر البارزين- ردته حيث أضافت الجماعة الإسلامية التى تعمل تحت الأرض لدى ادعائها المسؤولية عن قتله أنها بذلك كانت تنفذ حكم الأزهر . لقد كان فودة ناقداً عالى الصوت لإدخال الدين فى السياسة و كان نقده الحاد للحكومة والأزهر و الإسلاميين على نفس الدرجة من الحدة و أدى مقتله لحركة قوية بين الطبقة المثقفة ( الانتلجنسيا) المصرية و تكوين الجمعية المصرية للتنوير و لما لم يبد الشيخ الغزالى أى ندم على إصداره البيان الذى أدى لمصرع فودة نجح المجتمع الثقافى فى الضغط على الحكومة لمنع الغزالى من التلفزيون الذى كان يلقى منه العظات الدينية و لكن حتى فى جرأتهم و تحديهم كان العلمانيون يظهرون وعياً واضحا برجحان الجانب الآخر الذي يقف ضدهم " بمصرعه [فودة ] اغتنت الأرض بدمائه و ظهرت الزهور متفتحةً فى مجتمعه و بين أنداده و وصل شذاها إلى سماء الأمة برغم رياح الاتهام القاسية بالردة "
ادعى المثقفون أن الأزهر اتصل هاتفياً بدور النشر لتحذيرها من طباعة المطبوعات التى تعتبر عدائية و اختارت الحكومة فى مواجهة هذا الضغط انسحاباً استراتيجياً منضمةً إلى الفريق الذي يدين المثقفين و تخلت عن سلطة أكبر للأزهر و كما أشار الراوى :"لم يعد المناضلين الإسلاميين وحدهم فهناك أعضاء البرلمان الذين عرفوا كيف يختطفون العناوين الرئيسية و لا شئ يضمن لهم الحضور على الصفحة الأولى الصحف من هجوم جيد على كاتب أو فنان".
و قد فتح هذا التهميش للمجتمع الثقافى الطريق أمام الأزهر لغزو المجالات الأوسع من الخطاب العام .
الأزهر و الإعلام
و إزاء خلفية تعاظم نشاط الإسلاميين فى مصر فى أوائل التسعينات طلب الأزهر من الدولة توضيح سلطته بجلاء فيما يخص تقديم بعد إسلامى فى الإعلام المطبوع و الإلكترونى و قامت الحكومة فى سنة 1994 بشكل له دلالاته بتبديل قوانين الرقابة على المطبوعات و خولت الأزهر سلطات جديدة و منح حكم مجلس الدولة رقم 58/1/63 الأزهر سلطة رقابة الإعلام الإلكترونى و خول مجلس البحوث الإسلامية داخله هذا الدور على أن يكون للشيخ جاد الحق الكلمة الأخيرة فى مشاورات المجلس و أصبح ما يتوصل إليه الأزهر ملزماً لوزارة الثقافة و أضيفت فقرة تشترط أن أحكام الأزهر محدودة بالقضايا الإسلامية على أن يكون للأزهر وحده تحديد ما يعد "قضايا إسلامية" و يمكن التقاط بعض مؤشرات دور الأزهر البارز فى تصريح وزير الثقافة فاروق حسنى نفسه عندما أعلن أن "الأزهر سلطة عليا و عندما يتكلم الأزهر يلتزم الجميع بالصمت"
و بإمكان الأزهر قانوناً أن يقوم فقط بدور فى الإعلام المطبوع عند تقديم شكوى له بخصوص مواد معينة إلا أن الحكومة كانت تواقة إلى إشغال الأزهر أو على الأقل أن ينظر إليه على أنه منهمك فى أمور النشر فقد هوجم وزير الثقافة فى البرلمان - فى سلسلة من الأحداث تظهر تراجع الدولة – لسماحه بمطبوعات فنية تصور موضوعات جنسية و أكد الوزير فى دفاعه قاعدة مراجعة الأزهر و تنقيته لكل المطبوعات الحكومية و دفع الأزهر بقوة لحيازة سلطات أوسع على رقابة المطبوعات و ربط شيخ الأزهر بشكل له دلالاته فى أحد بياناته فى فبراير 1995 بين النزعة الإسلامية النضالية و كتابات المثقفين حيث قال: " تهين بعض المجلات و الجرائد الدين و علماءه و يفسر كتابها و محرروها و كاتبوا أعمدتها الدين بشكل خاطئ فهم يقولون أموراً خاطئة عن الدين و يسيئون تفسير التعاليم الدينية ... و إذا قبلنا بأن تصرفات هذه المجلات مجرد تطرف و ليس تدميراً لمجتمع متدين ألا نتوقع ردود فعل عليها و أن هذه الأفعال ستعد تطرفاً".
و إذا واجه المثقفون اللوم لتحفيزهم المناضلين فإن على الأزهر مسئولية دعم الواجهة الإسلامية للحكومة فحاجج الشيخ جاد الحق فى تصريح منفصل بأنه يجب على الأزهر أن يتمتع بحق رقابة المطبوعات التى تعتبر ضد الدين : "تشوه هذه الكتب الدين و تستخف بمفاهيم الإسلام و أبنيته و تثير الخلط وسط الرأى العام و تقسم الناس ، إننا واعون بأشئلة الجيل الشاب فيما يتصل بالعديد من الأمور و كلها يدور حول الآراء السيئة التى تنشر فيما يخص البلد و الدين و الرأى العام و السلام بين الناس و أؤكد مرة أخرى أن الوقاية خير من العلاج و لو علم أولئك الذين يبثون السم ليجعلوا الناس يشكون فى ديانتهم و أفكارهم خطورة ما يقومون به لكفوا عنه و لما عاداهم أحد .إننا نواجه الجريمة قبل وقوعها فالإسلام دين وقائى."
استمرت شكاوى الإسلاميين من الإعلام الإلكترونى أمراً ثابتاً و لكنها تكثفت مؤخراً مع شن حملة قضائية ضد إعلانات الأفلام و الرسوم الكاريكاتورية للإسلاميين أما الحكومة فقد شعرت من جانبها بعدم الارتياح لاتجاه الممثلات الجديد لاعتزال مهنتهن و ارتداء الحجاب و تفاقمت التوترات بانتشار التلفزيونات الفضائية التى تقدم مجموعة واسعة النطاق من البرامج الدولية التى يصدم بعضها قطاعات محافظة من المجتمع المصرى .و كانت استجابة الحكومة – فى محاولة لتسكين الإسلاميين مرة أخرى – بإعطاء الأزهر دوراً فى هذه القضية و كان التحرك الأهم فى هذا الصدد حكم مجلس الدولة السالف الذكر الذى كفل – كما نشرته مجلة روز اليوسف – إرسال مخطوطات برامج التلفزيون كنوع من الروتين إلى الأزهر للموافقة عليها و أقرت مصادر حكومية بالبعد السياسى لهذه الاستراتيجية فكما وصفت ألفت حسن أغا رئيسة وحدة الإعلام فى مركز الدراسات السياسية و الاستراتيجية بالأهرام " كان إعطاء وقت أكبر لنجوم الأزهر فى التلفزيون جزءً من فكرة أن [الحكومة] تحتاج مواجهة الإسلاميين بمنظور دينى معتدل " و وصف محمود محى نائب رئيس القناة الفضائية المصرية هذه الاستراتيجية نفسها قائلاً: "إننا نحاول جعل المتطرفين [الدينيين] أكثر مصرية و أكثر علمية و ديمقراطية لذا نحاول جذبهم للمشاركة فى الفكر الوطنى"
و قد ناضلت الحكومة فى الجوانب الأخرى من الإعلام لينظر إليها على أنها تنجز مسؤولياتها الإسلامية ففى عام 1994 حظرت محافظتا دمياط و الدقهلية فى شمال مصر التلفزيونات الفضائية فى الأماكن العامة كالمقاهى و فى عام 1995 وضعت قيود على استيراد أدوات التلفزيون الفضائى فى تحرك عزاه صفوت الشريف وزير الإعلام للحاجة إلى حماية قيم المجتمع المصرى و أخلاقياته و تقاليده
و أظهرت جهود العلاقات العامة الحكومية التى صاحبت إطلاق القمر الصناعى المصرى الثانى في سنة 1995 وعى الحكومة الحاد بمجادلات الإسلاميين و عكس مقال منشور فى مجلة المصور المؤيدة للحكومة أصداء مقولات الإسلاميين مبرراً إطلاق النيل سات كجزء " من استراتيجية الحكومة الإعلامية " لمواجهة " الغزو الإعلامى الهمجى المتعدد الجوانب" و يشمل هذا الغزو –وفقاً لهذه المقالة – برامج العرى و الإباحية الجنسية " التى تكمل الهجمات الشريرة للمخدرات و الإرهاب التى تشجع و تمول من الخارج " و يستمر المقال قائلاً " إن البرامج المصرية ستواجه الهجوم لأنه من المنطقى القول بأن الفكر الصحيح هو الطريق الوحيد لإبعاد الفكر المدمر " و يذكرنا الخطاب هنا بخطاب المرشد العام للإخوان المسلمين محمد حامد أبو النصر – المقتطف عاليه - مع الإشارة إلى التأثير الأجنبى المفسد الذى يقوض أخلاقياً الكيان المحلى الخالص و يختتم المقال بالثناء على أولئك الذين أسهمت خدماتهم فى إطلاق النيل سات بما فيهم العلماء المباركين .
إلا أن الأزهر استمر فى السعى لمزيد من القوة ففى مقال منشور فى أوائل سنة 1995 يأسف جاد الحق لأن " العديد من الأشياء السيئة فى التلفزيون تغطى على الأشياء الطيبة و تبدد عوائدها فالأمور التجارية تقدم بشكل يهين الأخلاق و الفضائل و الذوق العام و كما نعلم فإن لكل فعل رد فعل مضاد و مساو له "و يتوسع الشيخ جاد الحق فى مقولته عن الحاجة لضبط الإعلام لتفادى التطرف داعياً الأجهزة الإعلامية للتوقف عن " نشر الانقسامات و التشهير و الكراهية لأن قلوب الشباب رقيقة و تتأثر بالاتهامات التى يقرؤونها أو يسمعونها"
و هكذا مدت شكاوى الأزهر القديمة قوته و دوره المستقل فى المجتمع المصرى .
الأزهر و المؤتمر الدولى للسكان و التنمية
يقدم الجدال الذى أحاط بالمؤتمر الدولى للسكان و التنمية المنعقد فى القاهرة سنة 1994 رؤى أخرى متعمقة للمناورات الأيديولوجية الفطنة للأزهر بين الحكومة و الإسلاميين و فتح الإخوان النقاش بإدانة جلية للمؤتمر باعتباره مؤتمراً شيطانياً و دعت فى تحد الأزهر ليقوم بالأمر نفسه : " أيها العلماء المسلمون ..يارجال الأزهر ..هذا يومكم الذى يجب أن تقولوا فيه الحقيقة و تفصلون الخير عن الشر و ترشدون الناس لما يرضى الله فى شؤون دينهم و دنياهم .تجمعوا فى مؤتمر عام للعلماء المسلمين و ليس مؤتمراً تفتتحه و نموله وتلهمه الولايات المتحدة أو أى من اعداء الإسلام الآخرين ثم أخبروا الناس أين الحق و أين الضلال و لا تخافوا حاكماً باطشاً و لا اضطهاد مضطهد "
و بعد اقل من شهر و فى 17أغسطس 1994 استجاب الأزهر وفقاً لذلك فشجب الأزهر المؤتمر على أساس ما توصل إليه مجلسه للبحوث الإسلامية لافتراض المؤتمر أن زيادة السكان تجلب الفقر و لمبدئه بقبول شرعية العلاقات الجنسية خارج الزواج و اجتذب موقف الأزهر مديح الإخوان المسلمين : "صان الله مصر من الشرور التى تستهدفها و حمى الأزهر و هدى علماء الإسلام لتعليم الناس و قاد المتولين لأمور الشعوب الإسلامية للعمل بكتاب الله و الالتزام بالشريعة منهاجاً و فى سلوكهم و نبذ كل ما لا يتفق أو يتعارض معها "
و بكل الحماس أعلم الرئيس مبارك أنه " لا تستطيع أى قوة أن تجبرنا على أية ممارسات ترد عليها التحفظات من الناحية الدينية " و كان هذا التصريح غامضاً فى مضمونه لكنه دفاعى بشكل لا لبس فيه فى طبيعته و تحول المؤتمر من نصر للدولة و مسعاها لتخفيض معدلات المواليد إلى استعراض قوى لقوة الوجدان الدينى المحافظ فقضى رد الفعل على المبادرة و تحرك الأزهر ببراعة ملقياً بثقله وراء الإخوان المسلمين و بالتالى ضمن أنه لم يعد هنالك خيار أمام الدولة إلا أن توافق على قائمة أعماله و لكن الأزهر وسط انتصاره على الحكومة تعامل بدبلوماسية متيحاً لنفسه فرصة امتداح الرئيس :
" فى الوقت نفسه تقدر الجبهة [جبهة علماء الأزهر]ما قاله رئيس الأزهر فى هذا الخصوص و ستحسب ملاحظة الرئيس – إن شاء الله – بين حسناته"
التربية : ميدان المعركة بين النزعات العلمانية و الدينية
شهد الصراع فى مجال التربية عملية مماثلة لتلك التى–جرت فى مؤتمر السكان حيث أثارت مبادرة الحكومة رد فقل وضعها فى مركز دفاعى بصورة أكبر من ذى قبل ففى سنة 1993 سعى حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم إلى مقاومة انتشار النزعة الإسلامية فى المدارس بنقل أو تخفيض درجة المدرسين ذوى الميول الإسلامية و تنقيح المناهج و وضع قيود على ارتداء الحجاب و رفضت المحاكم وضع قيود على ارتداء الحجاب فى الجامعات و بقدوم عام 1994 لقيت محاولات تقييد ارتداء الحجاب فى المدارس و حصره على الطالبات اللاتى يوافق آباؤهن على ارتدائهن الحجاب نقداً عنيفاً و وصف أحمد الملط أحد المتحدثين باسم الإخوان الاستجابة المتشددة لهذه التحركات المضادة للإسلاميين بقوله " لما كان لكل فعل رد فعل مساو له فى القوة و مضاد له فى الاتجاه وفق النظرية الرياضية المعروفة فإن رد فعل كل المسلمين على هذا الهجوم كان مساوياً له فى القوة فقد اتسعت دائرة الالتزام و فرض الحجاب نفسه فى الشارع
و المتجر و المكتب و زاد ارتداؤه بين طالبات الجامعة و أصبح العديد ممن اعتزلن التمثيل كمهنة تتطلب سفورهن اكثر التزاماً بالإسلام و حجابه من الأخريات"
و حدث تراجع بسبب رد الفعل على هذا القرار مع تسليم بهاء الدين بأن بإمكان فتيات المدارس ارتداء الحجاب حتى بدون موافقة آبائهن و كانت مقابلة بهاء الدين مع جريدة الأهرام اليومية المؤيدة للحكومة ذات طابع دفاعى واضح فناقض بهاء الدين نفسه بالتأكيد على أن أحد أسباب قرار الحجاب كان " منع المتطرفين من التسلل إلى المدارس و فرض الزى المزعوم أنه إسلامى على الطالبات و الذى يعكس فى الواقع هوية سياسية و ليست دينية " و بعدها بعدة فقرات أجاب على سؤال عما إذا كانت القرارات الخاصة بالتعليم تنبع من مواجهة الحكومة لجماعات الإسلاميين رد الوزير بقوله "لا ليس هذا صحيحاً" و رد بهاء الدين على النقد الموجه لمنهج الدين بالإشارة إلى أن الأزهر كانت له يد فى صياغته و عندما سئل الرد على تهمة قيام خبراء تعليم أمريكيين بالعبث بالجوانب الثقافية و الدينية فى المناهج أجاب الوزير بصورة أكثر درامية بأن مثل هذا الكلام " مجرد إدعاء يهدف لإرهابى إنها محاولة لاغتيال الوزير سواء جسدياً أو سياسياً " و أصر الوزير على أن عمل الخبراء الأمريكيين كان فنياً فقط و بموافقة الأزهر و فى فبراير 1995 و بعد قرابة خمسة أشهر من مقابلة الوزير ادعى شيخ الأزهر أن التطرف سيقل إذا ما وجه مزيد من العناية إلى التعليم الدينى مع إعطاء الأزهر دوراً أكثر بروزاً فيه .
الأزهر و مشكلة مصر القانونية
إن أكثر مناطق النزاع بين الزهر والحكومة و الإسلاميين أهمية و دلالة هى تفسير القانون ففى سنة 1980 قام السادات لتهدئة المشاعر الدينية باستبدال الدستور المصرى بتغيير الشريعة (القانون الإسلامى ) من مصدر رئيسى إلى المصدر الرئيسى للنظام التشريعى المصرى و كان هذا العبير غامضاً عن عمد ربما لأن السادات كان يأمل بان يكون له قيمة نفسية و يحسن من مظهر الحكومة الإسلامى لا أن يكون له نتائج عملية تذكر فى صياغة و تطبيق القوانين.
و مع ضغوط الإسلاميين المتزايدة على الحكومة فى الآونة الأخيرة تركز مزيد من الاهتمام على هذه الفقرة من الدستور و لما كانت هذه الفقرة غامضة فقد كانت مفتوحة للتفسير اعتماداً على المناخ السياسى فى هذه الآونة و كما لاحظ المحامى العلمانى أحمد سيف الإسلام " ثمة جو ثقافى فى المجتمع المصرى يميل إلى استخدام الشريعة لمراجعة القضايا و الضغط على القضاء لإصدار قرارات خارج إطار النظم القانونية القائمة " و يوصف الموقف "كصراع بين نظامين قانونين قائمين " و تتمثل الحجة القانونية الرئيسية لسيف الإسلام فى أن "التغيير فى الدستور يشير لسن التشريعات لا الإجراءات القضائية " و هو ما صادقت عليه المحكمة الدستورية و محكمة النقض و مع ذلك هناك فيض من القرارات أبرزها قضية طلاق نصر أبو زيد التى أمرت فيها المحكمة بطلاق زوجة أستاذ جامعى منه على أساس ردته مما يظهر أن القضاة أخذوا على أنفسهم الفصل فى القضايا وفق الشريعة.
لقد وجدت إشارة كل الأطراف إلى الشريعة كقاعدة لصناعة القانون طريقها إلى الجدال السياسى فعلى سبيل المثال ذكر قائد الإخوان المسلمين الرئيس مبارك بأن " تطبيق شريعة الله واجب وأمانة فى أيديكم وسيحاسب كل فرد عنها أمام الله القدير " كما دافع بهاء الدين عن سياسات وزارة التعليم الجديدة باعتبارها تقع ضمن نطاق الشريعة و أكد للجمهور أنه يحترم الدستور .
أكثر من ذلك ، ثمة تأكيد متجدد على كيفية تفسير الشريعة و من يستطيع تفسيرها فكما يوضح أحمد سيف الإسلام :
" عادة عندما يسأل القاضى متخصصاً يأخذ رأى المتخصص فى الاعتبار فقط و فى مصر للأزهر سلطة تشريعية بحكم الواقع De facto و هذا - إلى جانب حقيقة أن بعض القوى السياسية تريد استخدام الأزهر لتقديم تفسيراتها إلى المحاكم - تطور خطير".
إن قضية زيادة نفوذ الأزهر تقع فى المجال السياسى بصورة اكبر من المجال القانونى نفسه ففى الشؤون القانونية كما فى المجالات الأخرى يتمتع الأزهر بمزية الجو السياسى ليتولى "دوراً عظيما" أوسع مما له قانوناً .و يتوق الأزهر بالتأكيد لرؤية امتداد تأثير الشريعة ففى موجز عن طرق إيقاف المتطرفين دعى جاد الحق القادة لقبول " رغبة الأمة بتشريع ينبثق من الشريعة الإسلامية التى تؤمن بها لأن المناعة و الكفاءة فى هذه الشريعة و اتخاذ إجراءات لتمرير التشريعات الوشيكة "
و فى يونيو 1997 حكمت محكمة مصرية ضد قرار وزارة الصحة بمنع ختان الإناث فى المستشفيات الخاصة و العامة و تأسس عمل المحكمة على النصوص الدينية الخاصة بهذه الممارسة و فى عهد الشيخ جاد الحق تقدم الزهر بقوة لصالح ختان الإناث و مثلت القضية نقطة تحول فى انسحاب الدولة و عقب هذا العام عكست الدولة اتجاهها (جزئياً بسبب الضغط الدولى ) و حظرت هذه الممارسة.
خاتمة
تثير زيادة قوة الأزهر الشكوك حول القواعد الأيديولوجية للدولة المصرية و يبرز فى محاولة تقويم الموقف مجالان حيويان أكثرهما أهمية تعيين و قيادة شيخ الأزهر فلا تزال الحكومة تحافظ على حقها فى التعيين لهذا المنصب و عندما توفى جاد الحق سنة 1996 عينت الحكومة بسرعة خلفاً أكثر اعتدالاً له محمد السيد طنطاوى فكان طنطاوى يتبع كمفتى مصر الأكبر خط الدولة و كان معداً تماما لإصدار فتاوى تختلف عن تلك التى يصدرها الأزهر و مع ذلك كان على طنطاوى باعتباره شيخ الأزهر الآن أن يضع نفسه بمهارة بين بيانات الحكومة و تلك التى أصدرها سلفه كما ناقض وجهات النظر التى كان الأزهر قد أعلنها بإدانته ختان الإناث و موافقته على التبرع بالأعضاء و لكنه منذ أصبح شيخاً للأزهر أظهر طنطاوى رغبة متزايدة للتمايز عن الحكومة فى عدد من القضايا فقد غير رؤيته عن الحجاب معلناً فرضيته حيث وصفه فى السابق بأنه اختيار و عندما طلب منه وزير الأوقاف محمد على محجوب إصدار فتوى تعلن قبول توبة المؤلف البريطانى سلمان رشدى رفض ذلك كما أعلن رأيه ضد معامل تقطير الكحول الحكومية و ضريبة التركات.
تلقى قيادة طنطاوى الضوء على ما عليه العلاقة بين الأزهر و الحكومة من حساسية و إذا ما نظر إلى طنطاوى على أنه خاضع جداً للحكومة فإن موافقاته ستنتقص الشرعية التى يريدها النظام كثيراً و على طنطاوى أيضاً أن يناضل شبكات السلطة المستقرة داخل الأزهر نفسه فعلى حين أنه بطبيعة منصبه الوجه الأكثر بروزاً فى المؤسسة فإن ثمة آخرين لهم أوزانهم ينافسونه داخل الأزهر مثل الشيخ يحى إسماعيل حلبوش أمين و محمد عبد المنعم البارى .
و بقدر ما يهم الحكومة أثبت طنطاوى أنه شخصية أكثر توافقاً و تكيفاً من جاد الحق إن حق الحكومة فى تعيين شيخ الأزهر مع ذلك ليس طريقاً مؤكداً للتحكم فى المؤسسة فإذا قام طنطاوى أو أحد خلفاؤه باتخاذ موقف ضد الحكومة لدى تعيينه فإن أية تحركات من جانب الحكومة لاستبدال هذا الشيخ ستكون مدمرة لشرعية الدولة و حتى لو برهن الشيخ على مطاوعته فإن ثمة خطر (على الدولة ) تقارب الأزهر و الإخوان المسلمين أيديولوجياً و حتى على مستوى الأفراد حيث يجرى اجتذاب الطلاب الأزهر إلى المنظمة الإسلامية المحظورة .
لقد أدان الأزهر و الإخوان المسلمون العنف و ظلا يصران على أنهما لا يسعيان للسلطة و لكن يرغبان فقط فى تشجيع تطبيق القانون الإسلامى فكما أوضح شيخ الأزهر جاد الحق فإن " الأزهر يمكنه فقط الإدلاء برأيه فدور الأزهر تعليمى فقط فهو يقدم الإرشاد و يبقى التطبيق فى أيدى الآخرين و حكومات الأقطار الإسلامية هى الجهات التى يجب مخاطبتها فى هذا الخصوص " و يشبه هذا بشكل لافت للنظر موقف الإخوان المسلمين كما تم إيجازه فى كتاب "دعاة لا قضاة " الذى ألفه المرشد السابق حسن الهضيبى و تمثلت العقبة الأيديولوجية الكبرى الوحيدة بين الإخوان و الأزهر فى هذه المرحلة فى رفض الأزهر شجب اتفاقيات كامب ديفيد .
و قد التف الإخوان حول حظر الحكومة لأنشطتهم بالعمل من خلال عدد من الواجهات بما فى ذلك الصحف كصحيفة "الشعب" و النقابات المهنية (المحامين و المهندسين) و التنظيمات الخيرية و من المتوقع تواجد الإخوان بين آلاف الطلاب و هيئات التدريس و خبراء التعليم العالى فى الأزهر و فى الحملة الجماعية على الإخوان المسلمين قبل الانتخابات العامة سنة 1995كان أحد الأربعة عشر المقبوض عليهم مدرساً فى الأزهر .
و إذا تعززت الاتجاهات الحالية فإن الأزهر سيتحكم خلال سنوات قليلة فى كل مسجد فى مصر و سيقوم بدور رئيسى فى التشريع القانونى و ستكون له الكلمة الأخيرة فى الرقابة على الإعلام و إذا ما ظهر تحالف كأمر واقع De facto بين الأزهر و الإخوان المسلمين فإنه سيصبح قوة هائلة فى المشهد السياسى المصرى .
و أيما كان ما سيحدث أو ما لن يحدث تبقى حقيقة أن الحكومة تخلت عن قدر هام له دلالته من القوة السياسية للأزهر و المسألة الآن ما إذا كانت هذه العملية ستستمر ليصبح لها زخمها الخاص إلى النقطة التى تصبح فيها المبادئ الدينية لا العلمانية عماد الحياة العامة المصرية .

Saturday, April 15, 2006

دور الشركات متعدية الجنسيات في نقل التكنولوجيا: إشارة لقطاع الدواء في مصر

مقدمة

تأتي أهمية موضوع نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية باعتباره أحد أعمدة إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة بين الدول الصناعية المتقدمة و دول الجنوب بشكل يسمح بتعبئة موارد أكبر لهذه الدول من أجل دفع عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية في هذه الدول دفعة تمكنها من تضييق الفجوة الهائلة القائمة بينها و بين الدول الصناعية المتقدمة و من ناحية أخرى فقد ترسخت الشركات متعددة الجنسية كأحد أهم معالم النظام العالمي القائم الذي يتسم بصورة متزايدة بتدويل الإنتاج و تتزايد أهمية دور هذه الشركات في مجال نقل التكنولوجيا فالطبيعية الاحتكارية لهذه الشركات حتى في دولها الأم تؤدي إلى استئثارها بأغلب أنشطة البحث و التطوير و بالتالي بالتكنولوجيا المتقدمة بما يستوجب مراجعة دور هذه الشركات في مجال نقل التكنولوجيا في ضوء ما تتسم به من سمات و خصائص متميزة و تصبح هذه المراجعة أوجب في حالة قطاع صناعي كقطاع الدواء بالنظر لأهمية هذا القطاع ليس فقط من الناحية الاقتصادية و لكن أيضاً بالنظر لحيوية المنتج الذي ينتجه الذي يتصل بحياة الإنسان فلا يخضع استهلاكه لمرونات سعرية أو دخلية كما أن صناعة الدواء من الصناعات الكيماوية المتقدمة كثيفة التكنولوجيا التي لا تنمو إلا في المجتمعات التي أصابت قدراً عالياً من التمكن العلمي و قطعت شوطاً طويلاً في التقدم التكنولوجي و بالتالي كان التعويل على نقل التكنولوجيا فيها كبيراً، بما يجعل من هذا القطاع حالة نموذجية لاختبار دور الشركات متعددة الجنسية في نقل التكنولوجيا خاصة في ظل التجربة المصرية التي استمرت على مدى عقود طويلة و من هنا تهدف هذه الورقة للتعرف بصورة استطلاعية على أبعاد دور هذه الشركات في نقل التكنولوجيا إلى قطاع الدواء في مصر سواء من حيث وسائل هذا النقل و أثره على الهيكل الإنتاجي لهذا القطاع و نفقته و رصد الأبعاد السياسية الاجتماعية لهذا الدور في محاولة للقيام بنوع من التقويم لهذه التجربة ثم محاولة استكشاف بعض اتجاهات المستقبل في ظل التطورات الدولية و تحديداً في ظل قيام منظمة التجارة العالمية التي ورثت اتفاقية الجات و تقوم على تنفيذها و أثرها على نقل التكنولوجيا

أما بالنسبة للدراسات السابقة و المصادر فبرغم الوفرة الهائلة في الكتابات سواء في مجال نقل التكنولوجيا أو الشركات متعددة الجنسية و بالأخص الدراسة الرائدة لمحمد السيد سعيد (1978) و دراسة حسام عيسى (1980) و(1987) إلا أنها في أغلبها اتسمت بالطبيعة النظرية العامة دون التطرق لدراسة حالات تطبيقية معينة مع ندرة الدراسات التي تربط بين الموضوعين و يزداد الأمر صعوبة بالنسبة لدراسي قطاع الدواء و تجدر الإشارة هنا إلى الأطروحة الهامة لعلي أحمد على عن "الآثار الاقتصادية و الاجتماعية لنقل التكنولوجيا : دراسة تحليلية لقطاع الدواء في مصر " (1989) و الدراسة التي أعدتها أكاديمية البحث العلمي "دراسة حالة قطاع الصناعات الدوائية"(1991)

أما صعوبات البحث فتمثلت في ندرة البيانات عن الشركات العاملة في هذا المجال فهي إما من مؤسسات و هيئات حكومية تشترط عدداّ من الموافقات للإطلاع عليها أو من الشركات المعنية التي تعتبرها أسراراَ لا يحق الإطلاع عليها بما أدى للاعتماد على مصادر و بيانات غير مباشرة للتغلب على هذه الصعوبات

و عليه تمت معالجة الموضوع من خلال عدد من النقاط :

أولاً : الشركات متعددة الجنسية ونقل التكنولوجيا

1ـ الشركات متعددة الجنسية (المفهوم ـ النشأة ـ التطورـ الخصائص )

2 _ نقل التكنولوجيا *مفهوم التكنولوجيا

* نقل التكنولوجيا المفهوم و الأساليب

* نقل التكنولوجيا فجوة أم تبعية تكنولوجية

* استراتيجيات ش م ج و نقل التكنولوجيا

ثانياً : حالة قطاع الدواء

1ـ نقل التكنولوجيا و قطاع الدواء

* قطاع الدواء في مصر : التطور و الخصائص

* قنوات نقل التكنولوجيا لقطاع الدواء

2 ـ الشركات متعددة الجنسية و نقل التكنولوجيا

المرحلة الأولى (عقود الترخيص)

المرحلة الثانية ( عقود التصنيع ـ المشروعات المشتركة)

المرحلة الثالثة : مجالات جديدة

* نقل التكنولوجيا المكاسب و الخسائر

تطور الهيكل الإنتاجي

نفقة نقل التكنولوجيا الممارسات التقييدية

3 ـ نقل التكنولوجيا في ظل الجات

أولاً :الشركات متعددة الجنسية و نقل التكنولوجيا

المفهوم

تتعدد التعريفات و المفاهيم المستخدمة للتعبير عن هذه الظاهرة و يعكس ذلك تعدد الجوانب و الأبعاد المتعلقة بهذه الشركات من ناحية و اختلاف وجهات النظر حول طبيعة و وظائف و دور هذه الشركات من ناحية أخرى فيطلق على هذه الشركات اسم الشركات متعددة الجنسية أو الشركات دولية النشاط أو الشركات عابرة القوميات .

ويشير تعبير الشركات متعددة الجنسية إلى أن الشركة لها أكثر من جنسية أو أن الشركة التي يملكها و يسيطر عليها مجموعة من الأفراد ذوي جنسيات متعددة فلا يؤكد على حقيقة أن فروع هذه الشركات في الدول المضيفة هي جزء من الشركة الأم و امتداد لها و تحقق نفس هدفها النهائي حيث تخضع لسيطرة الشركة الأم التي توزع عملياتها في الدول المختلفة و تديرها بصورة مركزية مما يعني أن جنسية الشركة الأم هي الأساس على خلاف ما قد يوحي به تعبير ش م ج من أن فروع هذه الشركات متساوية الأهمية و متكافئة في قدرتها على السيطرة و اتخاذ القرار كما قد يوحي بأن فروع هذه الشركات لها آثار إيجابية في كل الأحوال على الدولة المضيفة و هذا ليس صحيحاً دائماً

أما مصطلح الشركات دولية النشاط فيعني أن نشاط الشركة يمتد دولياً و قد يبدو مصطلحاً محايداً إلا أنه قد يوحي بأن الشركة لها أنشطة ذات آثار واحدة على فروعها كما يوحي بعد الاهتمام بجنسية الشركة قدر الاهتمام بطبيعة نشاطها

أما مفهوم الشركات عابرة القوميات فيستخدم للتعبير عن استغلال و سيطرة هذه الشركات على فروعها و أنها تعد وسيلة لامتداد استغلال الرأسمالية العالمية إلى بلدان الجنوب لكن الأهم أنه يبرز حقيقة أن الشركة لها جنسية محددة و خصائص مميزة فهي تعمل من خلال اقتصاد محلي و تنتشر عبر الحدود للبلاد المختلفة التي تعبر عن خصائص اقتصادية و اجتماعية و ثقافية مختلفة تتأثر بنشاط هذه الشركات و برغم دلالة المفهوم الأخير بالنسبة للموضوع المطروح إلا أنه سيتم استخدام مفهوم الشركات متعددة الجنسية بالنظر لشيوع استخدامه من قبل الاتجاهات الفكرية المختلفة بما في ذلك المنتقدين لسلبيات هذه الشركات و يمكن تحديد أبعاد دور هذه الشركات و خصائصها من خلال استعراض عدد من التعريفات المتداولة لها و منها تعريف المجلس الاقتصادي الاجتماعي للأمم المتحدة و الذي يفرق بين معنى واسع في تعريفها فهي جميع المشروعات التي تراقب الموجودات و المصانع و المناجم و مكاتب البيع ... في عدة بلدان و هو بذلك يتسع ليشمل كافة المشروعات التي تستثمر خارج بلادها الأصلية أما المعني الضيق فيتجه لاستيفاء شروط معينة في التعريف مثل نمط النشاط ( إنتاجي ) و حد أدنى من الشركات المنتسبة و المساهمة الأجنبية في النشاط و يحاول آخرون تعريف ش م ج خلال تحليل أبعادها المختلفة فاقتصادياً يجب أن يهتم التعريف بعدة عوامل أهمها حجم الشركة و التوزيع الجغرافي و نسبة المساهمة في رأس المال فيخرج من إطار ش م ج الشركات الكبرى العاملة في الدولة و تقوم ببعض الاستثمارات في الخارج

و تنظيمياً يهتم النعريف بالطبيعة الخاصة لتنظيم هذه المؤسسة و القدرة على اتخاذ القرارات و السلطة فيها فالشركة الأم هي التي تهيمن على كل أنشطة المشروع ووحداته

و سلوكياً تتعامل الشركة كوحدة مستقلة لها استراتيجيتها الخاصة حتى بالنسبة للدولة الأم

و قانونياً هي شركة قومية أي تنشأ في بلد معين و تخضع لقوانينه و تخضع فروعها نسبياً لقوانين البلد الذي توجد فيه

و إبرازاً لدور هذه الشركات في الاقتصاد العالمي و أثرها على دول الجنوب يعرف البعض ش م ج بأنها شركة محلية ذات جنسية محددة كبيرة الحجم تملك و تدير أو تدير فقط مجموعة من الفروع في عدة دول مختلفة و يمكن تحديد عناصر هذا التعريف في أنها

ـ شركة محلية ذات جنسية محددة فيهتم التعريف بإبراز الطابع المحلي لهذه الشركات ( فهي أمريكية أو ألمانية ) و هي بهذا الوصف تنتسب إلى قطاع شديد التركز في الاقتصاد المحلي الأصلي لها و تكتسب خصائص و سمات متميزة سواء من حيث أهدافها أو استراتيجياتها أو طرق تنظيمها و إدارتها

ـ و هي شركة كبيرة الحجم و لا يشترط أن تكون عملاقة مثل I.B.M. أو فورد و لكن يشترط أن تكون كبيرة الحجم و إن كان هناك اختلاف حول معيار كبر الحجم ولكن يجب مراعاة الطبيعة الاحتكارية لكثير من هذه الشركات ـ التي قد تعتبر متوسطة الحجم ـ بالنسبة للكثير من الدول الأهم أن تجمع إلى جانب كبر الحجم دولية النشاط الذي تقوم به فلا يعني كبر حجم الشركة أن يكون لها نشاط دولي بالضرورة و لكن العكس صحيح حيث تزداد درجة دولية النشاط بزيادة حجم الشركة مقاساً بحجم المبيعات ف 88% من الشركات الأمريكية التي تجاوزت مبيعاتها مليار $ لها على الأقل فرع في خارج الولايات المتحدة

ـ الشركة تملك و تدير أو تدير فقط مجموعة من الفروع فملكية الشركة الأم لعدد من الفروع الخارجية ليست شرطاً كافياً بل يجب بغض النظر عما إذا كانت ملكيتها الفروع كاملة أو جزئية أن يكون لها السيطرة شبه الكاملة على إدارة هذه الفروع و هذه هي الصفة المحددة لهذه الشركات

ـ شركة لها مجوعة من الفروع في عدة دول مختلفة و هنا ثار التساؤل حول عدد هذه الفروع فحاول البعض تحديد حد أدنى في حين رأى آخرون ضرورة الأخذ في الاعتبار أهمية النشاط الخارجي للشركة بالنسبة لإجمالي نشاطها من خلال عدة معايير منها

إجمالي عدد المنشآت في الخارج بالنسبة لإجمالي عدد منشآت الشركة

" إنتاج " " " " " إنتاج "

" العاملين " " " " " العاملين في "

و لكن تبقى مشكلة تحديد الحد الأدنى لهذه النسبة 10 % أم 25 % أم 50 % ؟

و يمكن خروجاً من هذه الإشكالات تعريف الشركات متعددة الجنسية بصورة عامة بأنها مؤسسة ذات فرع أو شركة منتسبة أو تابعة أجنبية واحدة أو أكثر تنخرط في الاستثمار في أصول إنتاجية أو مبيعات أو إنتاج أو توزيع أو تشغيل الفروع و التسهيلات الأجنبية و ليست مجرد استثمار لرؤوس الأموال مهما كان حجمها و لكنها بناء اقتصادي اجتماعي له آثاره القوية الشاملة

الشركات متعددة الجنسية التطور و الخصائص

تلقي دراسة نشأة و تطور هذه الشركات الضوء على خصائصها و طبيعة دورها الاقتصادي و السياسي فإذا كان مصطلح ش م ج حديث النشأة نسبياً فغن تطبيقاته تعود الأواخر القرن الماضي عندما بدأت الشركات الصناعية الكبرى في التوسع في الخارج مع التركز الصناعي في أوربا و الولايات المتحدة في شكل تراستات و إذا كانت هذه الشركات بدأت بصورة بطيئة في أوائل هذا القرن فقد بدأت في العشرينات موجة عارمة لخروج هذه الشركات خارج حدودها الوطنية ففي أوربا كنت شركة استاندرد أويل أكبر شركة بترولية في أوربا و كانت فورد تنتج 1/4 إنتاج السيارات في بريطانيا و برغم أن فترة ما بين الحربين لم تكن مواتية للتوسع الخارجي للشركات الكبرى نتيجة الاضطرابات النقدية و الاقتصادية التي انفجرت في أزمة 1929 فإن هذه الفترة كانت مناسبة لظهور اتفاقيات الكارتل بين الشركات الكبرى التي استهدفت تجنب المنافسة بين هذه الشركات من خلال عدة إجراءات تفاوتت تبادل المعلومات لتنسيق الأسعار وحتى التسويق المشترك و مثلت هذه الاتفاقيات أحد مظاهر تحول بنية السوق الرأسمالي إلى احتكار القلة على المستوى الدولي كما أبرزت أهمية المنظور الدولي في الاستثمار و التسويق و في نفس الوقت فقد استمر التوسع في الصناعات ذات التقنيات المتفوقة و هكذا ارتفعت ففي عام 1939 كانت 187 شركة أمريكية قد نجحت في إقامة 715 فرعاً صناعياً خارج الولايات المتحدة .

و مع نهاية الحرب العالمية الثانية و الرواج و التوسع الاقتصادي في ظل ما بدا سلاماً أمريكياً بدأت موجة جديدة لانتشار ش م ج و أخذت تنتقل هذه الموجة من ذروة لأخرى منذ منتصف الخمسينات مستفيدة من مناخ الاستثمار الخارجي المواتي و هو ما تظهره إحصاءات نمو الاستثمارات الخارجية المباشرة التي تقوم الشركات م ج بمعظمها ثم جاء عقد السبعينات ليعطي هذه الشركات دفعة قوية تظهر في نمو مبيعات هذه الشركات و الأرباح الخيالية التي حققتها في هذه الفترة فمثلا بلغت مبيعات شركة أكسون البترولية الأمريكية عام 1980 103 مليار $ و صافي ربح 5.6 مليار $و موبيل أويل 60 مليار و أرباحها 2.8 مليار $ و تسارعت وتيرة نمو هذه الشركات حتى أصبحت أحد معالم الاقتصاد العالمي.

خصائص الشركات متعددة الجنسية

1 ـ الطابع الاحتكاري لهذه الشركات و تزايد ثقلها النسبي في الاقتصاد العالمي

فالشركات م ج هي في الأغلب أكبر الشركات حجماً في بلدها الأم سواء من حيث حجم المبيعات السنوية أو قاعدة الأصول الإنتاجية و تظهر القوة الاقتصادية لهذه الشركات في نصيبها من التجارة السلعية لدولتها الأم و في التجارة الدولية فبالنسبة للولايات المتحدة تسيطر هذه الشركات على 92% من التجارة الخارجية الأمريكية 75 %منها كانت بين شركات أمريكية الأصل و شركات تابعة أما المملكة المتحدة فقد سيطرت ش م ج على 82 % من حجم صادرتها بل إن حجم أعمال أحد الشركات كجنرال موتورز يفوق الخل القومي لدول العالم الثالث بكاملها كما تشير الإحصاءات إلى أن هذه الشركات تحقق 30 % من التجارة الدولية و تسيطر على 20 % من الإنتاج العالمي مع ملاحظة محدودية عدد هذه الشركات نسبياً حيث يقدر ببضعة مئات منها 200 شركة تعمل في إطار استراتيجية إدارية و اقتصادية واحدة و ترتبط معاً عن طريق الملكية المشتركة

و يتميز هيكل السوق الذي تباشر فيه ش م ج نشاطها من خلاله بأنه سوق يسيطر عليه عدد قليل من البائعين و من العوامل التي ساعدت على نشوء هيكل هذا السوق و تدعيمه ما تتمتع به هذه الشركات من احتكار للتكنولوجيا الحديثة و المهارات الفنية و الإدارية ذات الكفاءات العالية و المتخصصة و ما تتميز به منتجاتها من تنوع و نظراً لتعرض سوق القلة لقدر معتبر من المخاطرة وعدم اليقين تسعى المنشآت العاملة خلاله لإقامة سلسلة متكاملة من الفروع الخارجية

2 ـ الانتماء إلى دول السوق المتقدمة صناعياً

و في مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة و هو أمر متوقع في ظل ما تتمتع به هذه الدول من وفرة نسبية في رأس المال و احتكارها للتكنولوجيا فضلاً عن سعيها المستمر لفتح مجالات خارجية لتسويق منتجاتها فتشير البيانات إلي أن تسيطر الولايات المتحدة مع المملكة المتحدة و بألمانيا و فرنسا على 75 % من فروع هذه الشركات و تسيطر الولايات المتحدة وحدها على 33% من مجموع هذه الفروع الخارجية و لا يقتصر الأمر على انتماء اغلب هذه الشركات إلى عدد محدود من الدول الصناعية المتقدمة بل و خضوع الفروع الخارجية لسيطرة عدد قليل من المنشآت في الدولة الأم فتسيطر حوالي 300 منشاة على 70 % من الفروع الخارجية التابعة للشركات الأمريكية و في المملكة المتحدة تسيطر150 منشأة على 80 % من الفروع الخارجية و من هنا تتضح حقيقة أن الشركات م ج هي في الحقيقة شركات قومية تحتل مكانتها في اقتصاد

ومجتمع الدولة الأم فإدارة الشركات التابعة و إجمالي مجموعة الشركة تحتكرها الشركة الأم و تحتفظ في يدها بكافة القرارات الأساسية وبمهمة التخطيط و الحساب و الرقابة وينعكس ذلك على شكل العلاقة بين هذه الشركات و الدول الصناعية التي تعمل على تدعيم مركز هذه الشركات بكافة الوسائل حتى تستمر مكاسبها منها

3 ـ ازدياد درجة تنوع و تكامل أنشطتها

فإذا كانت بديات نشط هذه الشركات كانت في القطاع الاستخراجي و التحويلي فإنها استطاعت لاحقاً أن تغطي بنشاطها أغلب قطاعات الإنتاج العالمي على اختلاف نسب مساهماتها فيها فقد نشطت ش م ج في مجال التصنيع فأحكمت سيطرتها بشكل كامل على الصناعات التي تستلزم فناً تكنولوجياً متقدماً مثل صناعة الحاسبات الآلية والأدوية و يلاحظ أن الاتجاه الحديث لهذه الشركات يتسم بالرغبة في السيطرة على أسواق النقد العالمية طريق إنشاء سلسلة من المصارف و فروعها في مختلف الدول الأجنبية وبحيث تقوم هذه المصارف بالسيطرة على المدخرات التي يمكن أن تتجمع في هذه الدول حتى يمكنها التحكم في الاتجاهات الاستثمارية فيها و بصفة عامة فإن المجال المفضل لهذه الشركات خالياً هو قطاع الخدمات كشركات التأمين و الخدمات المصرفية و السياحة إلى جانب الصناعات الدقيقة كالحاسبات الآلية و الصناعات الكيماوية التي يلعب فيها التجديد التكنولوجي دوراً عالياً و من ناحية أخرى يتنوع النشاط الإنتاجي للشركة الواحدة فلاحظت دراسة أجرتها جامعة هارفارد على مجموعة من ش م ج في أمريكا أن هذه الشركات تنتج في المتوسط 22 سلعة من أنواع مختلفة و قد صاحب هذا التنوع درجة عالية من التكامل الرأسي( للأمام و للخلف ) و الأفقي بين فروع هذه الشركات

4 ـ احتكارها التكنولوجيا المتقدمة

فتسيطر هذه الشركات سيطرة شبه كاملة على عملية التجديد التكنولوجي على المستوى العالمي فإذا كان القطاع الخاص في الولايات المتحدة على سبيل المثال يمول 48.8% من نفقات البحوث و التطوير فإن أنشطة البحث و التطوير تتركز في عدد محدود نسبياً من المشروعات الخاصة 700 شركة سنة 1976 في الولايات المتحدة واستأثرت 4 شركات أمريكية ب 20 % من موارد البحث و التطوير و في فرنسا يحتكر 12 مشروعاً 61 % من مواد البحث و التطوير في القطاع الخاص أخذاً في الاعتبار الهوة الضخمة بين الدول الصناعية المتقدمة و بقية دول العالم في مجال التجديد التكنولوجي سواء بمعيار الإنفاق على البحث و التطوير أو عدد العلماء و الباحثين العاملين في هذا المجال أو عدد براءات الاختراع المسجلة في تلك الدول و تعمل ش م ج على استغلال احتكارها للتجديد التكنولوجي من خلال جعله أساس المنافسة في السوق الدولي على ما سيلي تفصيله

نقل التكنولوجيا

مفهوم التكنولوجيا

بقدر ذيوع هذا المفهوم بقدر ما يشوبه من التباس و غموض و لعل ذلك سبب الوهم الشائع عن التكنولوجيا باعتبارها الدواء الناجع لكل المشكلات خاصة في ظل عمومية الكثير التعريفات لتكنولوجيا و من ذلك "أنها التطبيق المنظم للمعرف العلمية لأغراض عملية " أو الخلط بين التكنولوجيا و التقنييات أو الأساليب مثل تعريف اللجنة الاقتصادية لأوربا للتكنولوجيا على أنها " مجموعة المعلومات و القدرات والأساليب و الأدوات الضرورية لتصنيع و استخدام الأشياء النافعة "كما أن بعض هذه التعريفات ركز على ما هو محل بيع و شراء من عناصرها و على وجه الخصوص ـ براءات الاختراع و العلامات التجارية ـ المعرفة غير المسجلة و غير القابلة للتسجيل وفقاً لقوانين براءات الاختراع و العلامات التجارية ـ المهارات التي لا تنفصل عن أشخاص العاملين ـ المعرفة التكنولوجية المتجسدة في أشياء مادية و خاصة المعدات بينما يعرف آخرون التكنولوجيا بأنها مجموعة المعارف المستخدمة في إنتاج السلع و الخدمات و في خلق سلع جديدة و يركز البعض على الأبعاد المجتمعية للتكنولوجيا فيعرفها بأنها " المجموع الكلي للمعرفة المكتسبة و الخبرة المستخدمة في إنتاج السلع و الخدمات في نطاق نظام اجتماعيو اقتصادي معين من أجل إشباع حاجة المجتمع التي تحدد نوع و كم السلعة " فالنشاط التكنولوجي وفقاً لهذا التعريف عملية اجتماعية تحتوي عدة عوامل متشابكة تشكل نظاماً تكنولوجياً يعمل داخل النظام الاجتماعي الأكبر

نقل التكنولوجيا المفهوم و الأساليب

و تأتى معالجة مقولة نقل التكنولوجيا في إطار المقولات السائدة مع إرجاء تقويمها لجزء خاص بمعالجة الفجوة التكنولوجية و نقل التكنولوجيا ببساطة هو انتقال المعرفة من البلد الأم أي حيث تم التوصل إليها و اكتسابها إلى شعب آخر في بلد ثان للاستخدام هناك و يختلط هذا المفهوم بمفهوم آخر هو انتشار الابتكار إلا أنه يمكن اعتبار نقل التكنولوجيا حالة خاصة من انتشار الابتكار عندما تصبح التكنولوجيا هي الابتكار الذي يتم تبنيه

و الافتراض وراء نقل التكنولوجيا أن الفجوة بين الدول الصناعية المتقدمة و الدول النامية هي فجوة تاريخية فالدول النامية في مركز مماثل لما كانت عليه الدول المتقدمة في بدايات ثورتها الصناعية لذا

يتطلب لحاقها بالركب دفعة تنموية عالية و التكنولوجيا هي المؤهلة للقيم بهذا الدورومن ثم فإن سد الفجوة التاريخية يتطلب تنشيط التجارة الدولية بحيث تتدفق التكنولوجيا من الدول المتقدمة مقابل صادرات الدول النامية التي سترتفع نتيجة استخدام التكنولوجياوفي هذا الإطار تركز الدول النامية على تحسين شروط التبادل و ضمان انسياب التكنولوجيا إليها و تصبح المشكلة هي اختيار التكنولوجيا الملائمة لظروفها والملبية لاحتياجاتها الاقتصادية بحيث تبدأ في الاعتماد تدريجياً على الذات في إنتاج واستخدام التكنولوجيا

قنوات نقل التكنولوجيا

المقصود هنا قنوات نقل التكنولوجيا للدول النامية و أهمها تلك المرتبطة بنشاطات الاستيراد والاستثمارات الخارجية المباشرة و عقود الترخيص و براءات الاختراع والعلامات التجارية و خدمات الشركات الاستشارية و المعارض الدولية

كذلك فإن وسائل الإعلام الأجنبية تنقل أنواعاً من التكنولوجيا و بالأخص تلك التي تؤثر على أذواق المستهلكين في الدول النامية و أنماط حياتهم و ثقافاتهم بالنسبة للنشاط الاستيرادي يتم نقل التكنولوجيا من خلال الآلات و المعدات و المصانع الجاهزة التي تتجسد فيها إلى حد بعيد التكنولوجيا التي أنتجت به وبالتالي يمكن الكشف عن هذه التكنولوجيا المجسدة بطرق شتى منها دراسة أجزاءها وإعادة تركيبها مثلما فعلت اليابان في بداية نهضتها

أما القناة الثانية فتأخذ شكل الاستثمارات المباشرة التي تقوم بها في الأغلب الشركات م ج فتجلب معها عدتها التكنولوجيا بما في ذلك الحزمة التكنولوجية التي تحتاج إليها والتي تشمل دراسة الجدوى الفنية و الاقتصادية للمشروع و القيام بالأعمال الهندسية و التصاميم المطلوبة وإحضار الخبراء والفنيين والإداريين والإشراف على إنجاز المشروع وعلى مباشرته في الإنتاج و التسويق وإن كانت الكثير من الدول النامية تفضل نمط الشركات المشتركة بين القطاع المحلي و الشركة الأجنبية التي غالباً ما تحاول السيطرة على الشركة من خلال الإدارة و التكنولوجيا المقدمة

و من أهم قنوات نقل التكنولوجيا الخدمات التي تقدمها المكاتب و الشركات الاستشارية التي تقدم تكنولوجيا أخذ القرار أي أنها التي تقوم بإجراء الجدوى الاقتصادية للمشروع و يمكن القول بأن الشركات الاستشارية تشكل الملاط الذي يجمع الأجزاء المختلفة لعملية نقل التكنولوجيا مع بعضها البعض لأنها تقدم القناة و الآلية في نفس الوقت لنقل التكنولوجيا

نقل التكنولوجيا عن طريق الترخيص باستخدام المعرفة الفنية Know-How و يقصد بالمعرفة الفنية بصورة عامة مجموعة المعارف التكنولوجية النظرية و العملية الصناعية و الإدارية الجديدة و القابلة للانتقال و التي تحتفظ بها المشروعات بشكل سري و لا تشملها براءات الاختراع فيتم نقل هذه المعرفة سواء من خلال الاستثمار المباشر أو بصورة منفصلة في شكل عقود تصنيع و نظراً لأهمية المعرفة الفنية في مجال صناعة الدواء فسيتم معالجتها في نقطة خاصة

فجوة أم تبعية تكنولوجية

لا تحتاج الفجوة التكنولوجية الهائلة بين الدول النامية و الدول الصناعية المتقدمة إلى تأكيد فنظرة سريعة على إنفاق كلا المجموعتين من الدول على أنشطة البحث و التطوير أو عدد العلماء و المهندسين العاملين في هذا المجال توضح بجلاء عمق هذه الفجوة أو بالأدق الهوة التكنولوجيا

جدول الإنفاق على البحث و التطوير

المنطقة 1980 1990

أمريكا الشمالية 32.1 % 42.2 %

أوربا 33.9 % 23.2%

أسيا بما فيها اليابان 13.5 % 19.6 %

الاتحاد السوفيتي السابق 15.5 % 12.3 %

الأقيانوسيا 1 % 6. %

أمريكا اللاتينية و الكاريبي 1.8 % 6. %

الدول العربية 1.8 % 7. %

أفريقيا 0.04 % 2. %

UNESCO , World Sience Report 1993 المصدر

عدد العلماء و المهندسين في البحث و التطوير لكل ألف من أفراد

حسب تقدير الوقت الكامل عام 1989 قوة العمل 1989

الولايات المتحدة 949300 7.6

الاتحاد الأوربي 610229 4.2

اليابان 457522 7.3

الإنفاق الإجمالي الاستثماري على البحث و التطوير عام 1991( بالمليون إيكو )

الولايات المتحدة 124559

الاتحاد الأوربي 104184

اليابان 77700

المصدر السابق

هو ما ينعكس في ضآلة نصيب الدول النامية من براءات الاختراع الذي لا يتجاوز 6.4 % من إجمالي براءات الاختراعات و أخذاً في الاعتبار أن 85% من هذه البراءات تصدر لصالح أشخاص قانونية في الدول المتقدمة فإن نصيب الدول النامية ينخفض إلى 1% و ينعكس ذلك مرة ثانية في توزيع إنتاج السلع الرأسمالية على مستوى العالم و التي لم يتعدى نصيب الدول النامية منها 3 % من الإنتاج العالمي

لكن الأهم هل يمكن النظر إلى هذه الفجوة باعتبارها فجوة يمكن تجاوزها بشراء التكنولوجيا الحديثة في سياق عملية مبادلة عادية تجري وفق آليات السوق أم أنها فجوة بنائية ناجمة بنية الاقتصاد العالمي و بالأخص في بعده التكنولوجي بعبارة أخرى تعد الفجوة التكنولوجيا أحد أبعاد التبعية الاقتصادية و في نفس الوقت تستخدم التكنولوجيا لتكريس هذه التبعية و نقطة البداية في هذا المنظار فهم طبيعة التكنولوجيا من ناحية و طبيعة السوق الذي يتم في إطاره نقل التكنولوجيا و استراتيجيات البائعين و المشترين

فالتكنولوجيا باعتبارها مجموعة المعارف المستخدمة في إنتاج السلع و الخدمات تتحدد بتطور معارف العم من ناحية و درجة تطور النسق الإنتاجي الذي تلبي التكنولوجيا احتياجاته و الذي يتأثر بدوره بالظروف الاقتصادية و الاجتماعية فالمقصود بالتجديد التكنولوجي اتجاه العلم التطبيقي إلى مواجهة مشكلات الإنتاج المحلي وفقاً للشروط المحددة في اقتصاد و مجتمع الدولة المعنية فلابد من تكامل التكنيك مع المحيط الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي الذي يستخدم فيه و بهذا المعنى يمكن اعتبار النشاط التكنولوجي عملية اجتماعية و من ثم فإن النقل الحقيقي للتكنولوجيا هو عملية تطويع و استنبات للتكنولوجيا في البيئة المحلية

و بالتالي يؤدي نمط التنمية اذو التوجه الخارجي (زيادة الصادرات ) إلى اللجوء لتكنولوجيا محددة هي تكنولوجيا المنتجات الجديدة التي يتزايد عليه الطلب في السوق الدولي و يؤدي الاعتماد على التكنولوجي المستوردة إلى مزيد من إضعاف النسق التكنولوجية المحلي

استراتيجيات الشركات متعددة الجنسية و نقل التكنولوجيا

على الجانب الآخر يظهر مما سبق سيطرة ش م ج على عملية التجديد التكنولوجي بما يعني خضوع عملية النقل الدولي للتكنولوجيا لمنطق و مقتضيات الربح الرأسمالي الذي تستهدفه الشركات م ج وفي إطار احتكار القلة و تتم المنافسة في ظل نظام احتكار القلة عن طريق السيطرة على الأسواق من خلال أساليب تجديد و تنويع المنتجات باستخدام التكنولوجيا لذا كانت التكنولوجيا السلاح الأكثر فاعلية في يد هذه الشركات ومن ثم تعمل على إحكام سيطرتها عليها لذا لا تؤدي عمليات تسويق التكنولوجيا على المستوى الدولي لنقل حقيقي لها بل إلى تعميق سيطرة هذه الشركات أخذاً في الاعتبار ضعف المركز التفاوضي للدول

النامية التي تلجأ لاستيراد التكنولوجيا استجابة لمقتضيات نمط التنمية فيها و عدم توافر المعلومات لديها عن التكنولوجيات المتاحة لدى الدول المتقدمة و القدرة على تحليل هذه المعلومات و تقويمها إذ يتطلب ذلك نسق تكنولوجي على درجة من التقدم غير موجود أصلاً في هذه الدول فالدول النامية تدخل سوق التكنولوجيا مشترية دون أن يكون لديها معلومات كافية عما تريد شراءها يضعها في مركز ضعيف أمام الشركات م ج التي يتم نقل التكنولوجيا من خلالها

و من ناحية أخرى فإن نقل التكنولوجيا أداة في يد الشركة متعددة الجنسية لاختراق أسواق الدول النامية مع استمرار سيطرتها على التكنولوجيا

ففي حالات الاستثمار المباشر لا يمكن القول بأنه يتضمن نقلاً للتكنولوجيا بالمعنى الصحيح حيث يمكن التمييز بين النقل الداخلي للتكنولوجيا الذي يتم بين الشركة م ج وأحد شركاتها فهو و إن كان يتم عبر حدود الدول إلا أنه يتم في إطار نفس المشروع فتعتمد الشركة الوليدة على الشركة الأم فيما تحتاجه من معارف تكنولوجية يتم تطويرها في الدولة الأم حيث تتركز أنشطة البحث و التطوير و نادراً ما يتم تطويع هذه التكنولوجيا و إذا تم فغالباً ما يقتصر تطويع هامشي أو على عمليات الرقابة على الجودة كما تعمل الشركة الوليدة بمعزل عن النسق الإنتاجي المحلي فتبقى التكنولوجيا حبيسة المجال الاقتصادي الداخلي للشركة متعددة الجنسية

أما إذا تم نقل التكنولوجيا خارجيا من خلال الترخيص لأحد المشروعات المحلية باستخدام التكنولوجيا فإن ضعف المركز التفاوضي للدول النامية يتيح لمصدري التكنولوجيا وضع حدود للمعرف التكنولوجية المنقولة و فرض شروط مقيدة تهدف إلى بقاء التكنولوجيا تحت سيطرة هذه في الوقت الذي تعمد فيه هذه الشركات إلى جعل التكنولوجيا بداية تدفقات مستمرة من السلع و الخدمات الضرورية لاستخدام التكنولوجيا بما يضاعف من أرباحها و في النهاية يبقى نقل التكنولوجيا أحد أساليب تخطيط الإهلاك التكنولوجي تتخلص به من التكنولوجيات القديمة مع ربط متلقيها بأشكال لا تنتهي من التطويرات الجديدة لها

ثانياً: حالة قطاع الدواء

1 ـ هيكل قطاع الدواء في مصر و تطوره

تعر ف منظمة الصحة العالمية الدواء بأنه أي مادة كيميائية من أصل نباتي أو حيواني أو معدني طبيعية أو تخليقية تستعمل بغرض معالجة / وقاية / تشخيص أمراض الإنسان أما صناعة الدواء فهي في معناها الضيق صناعة الأدوية تامة الصنع جاهزة لاستعمال الجمهور و صناعة المواد الدوائية التي تركب منها هذه الأدوية أما في معناها الواسع فتضم إلى جانب ذلك الصناعات التكميلية اللازمة لهاتين الصناعتين و لتوفير باقي احتياجات قطاع الدواء

و على ذلك تشمل صناعة الدواء بمفهومها الخير الصناعات الدوائية المتكاملة الآتية :

صناعة الأدوية تامة الصنع و المستحضرات الصيدلية و الصحية المكملة للدواء

صناعة الماد الطبية و الصيدلية التي تعتبر مكونات الدواء

صناعة مواد التعبئة و التغليف بالمواصفات التي تتطلبها صناعة الدواء

صناعة المستلزمات و الأجهزة التي تختص بقطاع الدواء

و قد مرت صناعة الدواء المصرية بعدة مراحل متتالية لكل منها سماتها المتخصصة و يمكن تحديدها في ست مراحل

المرحلة الأولى منذ ثورة 1919 حتى بداية الحرب العالمية الثانية

و قد شهدت هذه المرحلة نشأة صناعة الدواء المصرية اعتماداً على المجهود الفردي و رؤوس الموال الوطنية المحدودة و لكن بنهاية هذه المرحلة حاولت بعض المعامل الفردية إنتاج بعض الأدوية في أشكال صيدلية متطورة كالأمبولات واللقاحات مما أثار حنق الشركات العالمية التي كانت تسيطر تماماً على سوق الدواء في مصر و دفعها إلى إجهاض المعامل الفردية الناشئة

المرحلة الثانية منذ قيام الحرب الثانية و حتى 1952

و كانت أهم سمات هذه المرحلة نزول شركات مصرية إلى الميدان إلى جانب الأفراد مع عدم مساهمة الحكومة في رأسمال هذه الشركات فأسس بنك مصر شركة مصر للمستحضرات الطبية 1940 و تلتها شركة ممفيس الكيماوية و ساعد هذه الشركات قيام الحرب العالمية و تعذر استيراد الدواء فضلاً عن الخبرة التي اكتسبتها في مجال التصنيع و التسويق بما أدى لتزايد المعامل الفردية و لم تقدم الحكومة حتى نهاية هذه المرحلة أي معونة لصناعة الدواء باستثناء تفضيلها في التوريد للقطاع الحكومي حتى لو زادت أسعارها بما لا يتجاوز 10% من سعر الدواء المستورد وبرغم جهود هذه الشركات إلا أن تأثيرها لم يكن يذكر فلم يزد إنتاجها عن 2/1 مليون جنيه ولم يغط إلا 10% من احتياجات البلاد

المرحلة الثالثة من 1952 حتى قرارات التأميم 1961

فتم تخفيض أسعار الأدوية و إنشاء الهيئة العليا للأدوية و تم قصر توزيع و استيراد الدواء على المؤسسة المصرية لتجارة و توزيع الأدوية و تولت الدولة الإشراف على 95 % من الإنتاج الدوائي و كان أهم نتائج هذه المرحلة تسعير الأدوية استيرادها بأسمائها العلمية بما أدى لانخفاض سعرها و أيضاً الانفتاح العالمي على مصانع الأدوية العالمية التي أقبلت على انتج أدويتها محلياً فأدى ذلك كله إلى النمو الريع للإنتاج

المرحلة الرابعة من 1962 ـ 1975

حيث أنشئت المؤسسة العامة للأدوية لتتولى تخطيط قطاع الدواء و تنظيم كافة عملياته و حققت هذه المرحلة خطوات رائدة في صناعة الدواء فتم إنشاء 5 شركات جديدة و أول شركات إنتاج الكيماويات الطبية و مستلزمات التعبئة و التغليف و إنشاء مركز الأبحاث و الرقابة الدوائية كما اتسمت بتركز الإنتاج و ضخامته بما أدى للاستفادة من وفورات النطاق و الدخول في عقود تصنيع لأهم الأدوية العالمية

المرحلة الخامسة 1975 ـ 1983

و تم إنشاء المجلس الأعلى لقطاع الدواء بدلاً من المؤسسة العامة للأدوية تمشياً مع سياسة الانفتاح بهدف توفير مزيد من الحرية للوحدات الإنتاجية و اصبح الإنتاج يغطي 80% من احتياجات السوق المحلي

الهيكل العام لشركات قطاع الدواء في تلك الفترة


قطاع عام قطاع مشترك (فايزر مصر _ هوكست الشرقية ـ سويس فارما ) قطاع خاص مشاركة عربية

حكومية (أكديما)

سكويب سيكم شركة العبوات الدوائية


مستحضرات دوائية كيماويات و خامات دوائية تعبئة و تغليف تجارية

مصر للمستحضرات الطبية النصر للكيماويات الدوائية شركة العبوات الدوائية المصرية لتجارة الأدوية

ممفيس الكيماوية

تنمية الصناعات الكيماوية

القاهرة للأدوية ـ الإسكندرية للأدوية ـ النيل للأدوية

و قد تحولت شركات القطاع العام إلى قطاع الأعمال العام كما التحقت فروع الشركات م ج سويس فارما و فايزر و هوكست بنظام الاستثمار سنة 1990 إضافة إلى سكويب وبروكتر أند جامبل فأصبحت كلها فروع مملوكة ملكية كاملة للشركة الأم

تطور إنتاج الدواء :

شهد إنتاج الدواء معبراً عنه بقيمة الإنتاج زيادات متتالية في الفترة من 1952 حتى الآن حيث لم تشهد أسعار الدواء ارتفاعاً يذكر حتى منتصف السبعينات .

مع بداية الانفتاح الاقتصادي استمر تزايد الإنتاج من الشركات في القطاع المشترك الذي ارتفع في الفترة من سنة 1975 حتى سنة 1986 من 11.8 مليون جنيه إلى 151 مليون جنيه بنسبة 1186.4% أما إنتاج القطاع العام في هذه الفترة فقد زاد من 46.1 إلى 370.1 مليون جنيه بنسبة 703% و تعود هذه الزيادة في جزء منها إلى زيادة الأسعار التي ارتفعت بنسبة تصل إلى 30% لبعض المستحضرات كما ارتفع سعر الدواء سنة 1983 بنحو 5% كضريبة استهلاك إلا أن هذا الارتفاع يعد محدوداً بالمقارنة بالقفزات الكبرى في قيمة الإنتاج التي تعود بالأساس لزيادة الكمية المنتجة

تطور قيمة الاستيراد من الأدوية

وقد شهدت معدلات استيراد الأدوية تغيرات متذبذبة فعلى حين انخفضت قيمة الأدوية المستوردة في الفترة 1960 _1967 من 8.7 مليون جنيه إلى 2.8 مليون جنيه فقد استمر الاتجاه العام في التصاعد برغم تذبذب قيمة الأدوية المستوردة يعود ذلك للارتفاع المستمر في أسعار الأدوية نتيجة إعادة تقويم سعر الدولار بالنسبة للجنيه إضافة لتنوع الأدوية المستوردة و إغراق الأسواق بأدوية لم تكن معروفة من قبل

تطور قيمة الاستهلاك الظاهري من الدواء

ارتفع حجم الاستهلاك بصورة مستمرة فوصل سنة 1987 887.6 مليون جنيه و تعود هذه الزيادة لتطور الوعي الصحي و التوسع في نظام التأمين الصحي إضافة إلى تنوع الإنتاج و مع تطور الاستهلاك زادت الأهمية النسبية للمستهلك من الإنتاج المحلي لتصل إلى أقصى معدل لها عام 72 /1973 فبلغت 88% من إجمال الاستهلاك و تراوح المعدل بين 75 ـ85 % من إجمالي الاستهلاك

طور نصيب الفرد من الدواء

شهد نصيب الفرد المصري من الدواء زيادة متواصلة و يتفاوت معدل هذه الزيادة لكنها بصورة عامة تدور حول نسبة 12 % سنوياً و بالغم من هذه الزيادة إلا أن معدل نصيب الفرد المصري من الدواء لا يزال أق بكثير من المستويات العالمية ففي الوقت الذي قدر فيه المستوى العالمي ب12 دولار كان في مصر 6 $ واستمر متوسط نصيب الفرد المصري ثابتاً برغم زيادة المستوى العالمي الذي وصل إلى 113 $

تطور الصادرات المصرية من الدواء

برغم تطور الصادرات المصرية من الأدوية إلا أن معدل نمو الصادرات بقى محدوداً حتى مع زيادة الإنتاج نظراً لزيادة عدد السكان و معدلات الاستهلاك فضلاً عن عدم وصول تكنولوجيا الإنتاج إلى المستويات العالمية في كل الأنواع و من ناحية أخرى لا تزال الفجوة واسعة بين الصادرات و الواردات فلم تتجاوز نسبة تغطية الصادرات للواردات 10 % و السبب في ذلك قصور الإنتاج المخلي عن تغطية الاستهلاك فلم تزد نسبة تغطية الإنتاج للاستهلاك عن 85% من الاحتياجات كما تعتمد صناعة الدواء على الاستيراد لاستيفاء أكثر من 70% من مستلزمات الإنتاج

2 ـ الشركات متعددة الجنسية ونقل التكنولوجيا

تنوعت خبرات قطاع الدواء مع الشركات متعددة الجنسية في مجال نقل التكنولوجيا باختلاف الظروف الاقتصادية و السياسية و بتنوع أساليب هذه الشركات و يمكن إجمال أساليب عمل هذه الشركات في

عقود الترخيص بإتاوة عقود التصنيع

الاستثمار المباشر و ذلك عن طريق

ـ لإقامة فروع للشركات متعددة الجنسية

إقامة الشركات المشتركة

و بالطبع عن تجمع الشركات متعددة الجنسية بين أكثر من أسلوب في وقت واحد مثل الدخول في اتفاقات تصنيع في إطار إقامة شركات مشتركة

عقود الترخيص بإتاوة

و لا تمثل هذه العقود نقلاً للتكنولوجيا في المعنى الصحيح حيث تقتصر في أغلب الأحيان على استيراد الأدوية في صورة غير معبأة Bulk و يتم إعادة تعبئتها محلياً و تسويقها و العمليات التصنيعية في هذه الحالة بسيطة و لا تستلزم أية تعقيدات أجنبية أو يتم اللجوء إلى هذه العقود في حالة عدم الاحتياج لخبرات أجنبية نتيجة اكتساب الشركة الوطنية خبرة طويلة في عملية إنتاج الدواء في شكله النهائي أو Formulation فيصبح كل ما تحتاجه هو الترخيص لها بالإنتاج و قد كان ذلك ضرورياً في هذه المرحلة سواء لصعوبات الاستعانة بالخبرة الأجنبية فقد قامت لجنة الأدوية بالمجلس القومي للخدمات بأول الدراسات الخاصة بتصنيع الأدوية سنة 1954 و قابلت صعوبات جمة في محاولة الاستعانة بالخبرة الأجنبية في تطوير صناعة الأدوية المصرية و فشلت في الحصول على أي عقد اتفاق تصنيع مع أي شركة أجنبية

و من ناحية أخرى فقد كان إنتاج الأدوية بأسماء أجنبية أحد الأهداف التي قررتها هيئة الأدوية فرأت إنتاج الأدوية ذات الأسماء العالمية التي رسخت في أذهان الأطباء حتى لا تحدث هزة من تغييرها مرة واحدة

عقود التصنيع

حيث يتم التصنيع المحلي من خلال عقود تصنيع و يتم إنتاج الدواء بصورة كاملة من خلال الاتفاق مع إحدى الشركات العالمية المتعددة الجنسية غالباً لتصنيع دواء بذاته و يتم نقل المعارف الفنية و الخبرات اللازمة لتصنيع هذا الدواء محلياً كما قد يتم استخدم العلامة التجارية أو الاسم التجاري للدواء المصنع و بالطبع يمكن أن تبرم شركة واحدة عقود متعددة مع شركات مختلفة لتصنيع أدوية متعددة ويمكن تمييز مرحلتين في خبرة اللجوء لهذه الاتفاقات

الأولي: حتى أواخر السبعينات

حيث تركزت عقود التصنيع في مجال تشكيل الدواء و لغت هذه المرحلة ذروتها بالتوصل للعق النمطي الأول و الثاني كمرشد لهذه الاتفاقات

فقد زاد الاتجاه لعقود التصنيع بعد إنشاء مؤسسة الأدوية ووقف تيار إنشاء الشركات ذات الرأسمال المشترك في هذه الفترة فتم استبدال مشروعات التصنيع المحلي بها لاكتساب الخبرة و قد تحددت أهداف اتفاقات التصنيع في

ـ إنتاج الأدوية الحيوية الهامة المستوردة التي لا يمكن الاستغناء عنها و التي عجزت الخبرات المحلية في ذلك الوقت عن إنتاجها بالخبرات الذاتية

ـ انتج المجموعات الدوائية التي لا تنتج محلياً خاصة مجموعة الهرمونات و أدوية القلب و الضادات الحيوية الحديثة فقد كان الإنتاج المحلي يغطي 35 مجموعة من إجمالي 44 مجموعة دوائية

ـ اكتساب الخبرة الفنية في تصنيع الأدوية للكفاءات الناشئة في الشركات الوطنية و بخاصة في المجالات الجديدة في إنتاج الدواء (المحاليل المعوضة للدم - قطرات العين الهرمونات )

ـ الانفتاح على العالم الخارجي عن طريق تبادل الخبرات مع شركات اتفاقات التصنيع على أساس ما تتيحه هذه الاتفاقات من بعثات للصيادلة و الفنيين إلى المصانع الأجنبية مما يخلق فرص الاحتكاك الدولي للتعرف على الاتجاهات العلمية الحديثة

ـ تحقيق الوفر في النقد الأجنبي المستخدم في استيراد الأدوية تامة الصنع

ـ نقل التكنولوجيا في صناعة الأشكال الصيدلية من خلال اتفاقات تصنيع أقل تكلفة و أكثر فائدة كما سيتضح لاحقاً من الشركات المشتركة أو إقامة فروع للشركات الأجنبية

و قد وصلت هذه المرحلة أوجها بالتوصل للعقد النمطي الأول لاتفاقات التصنيع 1972 و تلاه العقد النمطي الثاني ويمكن تقويم العقود النمطية في ضوء الأهداف السابقة التي وضعت من أجلها

* وبداية فقد كان وضع نماذج لعقود نمطية خطوة كبيرة نحو سياسة واضحة لنقل التكنولوجيا في قطاع الدواء فقد نجح قطاع الدواء فيما لم تنجح فيه اللجنة التي شكلت لوضع مشروع قانون لتنظيم تدفق التكنولوجيا الأجنبية لمصر بما يحمي مصالح المتلقي و بالفعل استرشد العديد من الشركات بهذا العقد و تكونت خبرات و معلومات لدى هذه الشركات مكنتها من الحصول على أفضل الشروط من عقود التصنيع و أفادت هذه الخبرات في تعديل العقد الأول ووضع العقد النمطي الثاني

* و قد عالج العقد النمطي الثاني كثيراً من مواطن ضعف العقد الأول فأكد على الكثير من النقاط الهامة في مجال التفاوض مثل التأكيد على أن التكنولوجيا المنقولة بغرض التصنيع و ليس بغرض التعبئة أو خلافه فاشترطت بنود العقد ضرورة تحديد المستحضرات المتفق على صناعتها و كيفية تركيبها و تحليلها

*كما تلافى العقد العيد من الشروط المقيدة التي يفرضها مورد التكنولوجيا فنص على

ـ عدم التزام المصنع المصري بشراء المواد الخام من مورد التكنولوجيا الذي غالباً ما كان يفرض مواد لا مبرر لها كما وحد العقد جهة شراء المواد الخام بما وفر رؤية أوسع و درجة أكبر حرية الحركة

حق المصنع المصري في تصنيع المستحضرات بعد مدة العقد التي تدخل في تركيبها مواد أساسية تدخل في مستحضرات الشركات الأخرى و كانت هذه إحدى الشروط المقيدة التي تفرضها الشركات م ج ليظل المتلقي المحلي تحت سيطرة هذه الشركات مدى الحياة

ـ حاول العقد معالجة مصاريف المكاتب العلمية التي كانت تشكل نسبة يعتد بها من مبيعات الشركات المحلية و إن لم يقض على هذه الظاهرة بصورة كاملة

*و قد حققت هذه العقود أهدافها فقد زاد حجم الإنتاج زيادة حقيقية و تبدو هذه الزيادة عدد المجموعات الدوائية المنتجة و تنوعها و تنوع الأشكال الصيدلية إضافة لتخفيض الاعتماد على الاستيراد إلى 20 % من احتياجات البلاد كما يلاحظ زيادة درجة التعقيد التكنولوجي و الاتجاه نحو عمليات تصنيعية أعلى فقد انخفضت نسبة أصناف إعادة التعبئة إلى 1.2 من إجمال الإنتاج بعد أن كانت سنة 1980 17.5 % من الإنتاج و ارتفعت نسبة الأدوية المنتجة بالاعتماد على الذات إلى 65.1% سنة 85/1986

لكن موطن الضعف في هذين العقدين يكمن في التركيز على صناعة تشكيل الدواء و يعكس ذلك قصور التخطيط حيث لم يتم نقل التكنولوجيا بأسلوب متواز للقطاعات الخلفية أي صناعة الخامات الدوائية و الصناعات المغذية الأمر الذي أدى لحدوث اختناقات في الصناعة نتيجة نمو قطاع تشكيل الدواء و زيادة احتياجاته من المواد الخام التي زادت كمياتها و أسعار استيرادها من الخارج بما أدى لزيادة العجز في ميدان المدفوعات فيلاحظ أن العقد النمطي سلم بشراء المواد الخام من الخارج دون إشارة إلى إمكانية تصنيعها أو تضمين العقد أي نص يشير لاحتمال هذا التصنيع أو ما يعني ضرورة تفهم الإدارة لأهمية تصنيع المواد الخام محلياً ووضع ضوابط و محددات لهذه الصناعة

أما المرحلة الثانية في ظل قوانين الاستثمار فقد اتسمت ببداية دخول شركات الدواء مجال التكنولوجيا المتقدمة في تشكيل الدواء و المستلزمات الطبية و صناعة الخامات الدوائية لذلك تمت عقود الصنيع في هذه المرحل في إطار شركات مشتركة تساهم الشركات م ج في رأسمالها خاصة بالنسبة للشركات المنتجة للمواد الخام لارتفاع درجة التعقيد التكنولوجي في هذه الصناعة و صعوبة تخلي الشركات الناقلة عن التكنولوجيا الخاصة بها في مجرد ترخيص بتصنيع أو نقل معرفة فنية دون رقابة عليها على ما سيتضح من دراسة هذه الشركات

نقل التكنولوجيا عن طريق الاستثمار المباشر

فروع الشركات المتعددة الجنسية

لا تتضمن إقامة فروع للشركات الأجنبية المتعددة الجنسية نقلا للتكنولوجيا بصورة حقيقية حيث لا تختلف التدفقات التكنولوجية هنا في طبيعتها عن غيرها من التدفقات المالية و السلعية التي تتم داخل المشروع م ج فهي تدفقات داخلية تتم داخل المحيط الاقتصادي له و وفقاً للاستراتيجية العامة الكلية لهو التي تتحدد على نطاق عالمي أما الفرع فهو جزء من كل متكامل يعمل لتحقيق الهدف الاستراتيجي للمشروع تحت سيطرة مركزية موحدة و يظهر ذلك من أنشطة البحث و التطوير التي تتركز في الشركة الأم التي تمد الفرع بالحزمة التكنولوجية متكاملة العناصر بما يعزل الفرع عن النسق التكنولوجي المحلي في الدولة المضيفة و من ثم حرمانه من الاستفادة من الإمكانات العلمية و التكنولوجية للشركات م ج نفس الأمر بالنسبة لعملية التدريب و ما يحيط بها من قيود بما يحد من ذيوع التكنولوجيا و انتشارها

تمثلت بداية فروع الشركات م ج في فرع شركة سكويب الذي نشأ في ظل قانون الاستثمار رقم 43 و تمت الموافقة عليه في 15/12/1974 و بدأ العمل سنة 1979 و يعمل في مجال المستحضرات الدوائية وتلاه شركة سويس فارما التي أتت نتيجة مشاركة سيبا جايجي مع ساندوز بتكلفة استثمارية 151 مليون جنيه، و هوكست الشرقية ، و فايزر مصر و التحقت هذه الشركات سنة 1990 بنظام الاستثمار وتمثل هذه الشركات إضافة إلى بروكتر آند جامبل 13% من الشركات م ج العاملة في مصر و تعد الشركات الأم لهذه الفروع من أكبر 300 شركة م ج في العالم حسب تقدير مجلة فورشن

فبالنسبة لأول هذه الفروع إنشاءً سكويب مصر فيلاحظ أن إنتاجها لم يشهد تطوراً ملحوظاً حيث زاد عدد المجموعات الدوائية التي تساهم الشركة في إنتاجها من 7 مجموعات سنة 1980 إلى 8 مجموعات مع تخليها عن مجموعة دوائية كانت تنتجها سنة 1980 و هي مجموعة أدوية الأنف و الأذن و الحنجرة مع إضافة مجموعتين دوائيتين مجموعة الفيتامينات والفيتامينات والمعادن المركبة كما لم يحدث تطور يذكر في عدد الأصناف منذ سنة 1980 فلم يتعد عددها 48 صنفاً و يمكن من ذلك استنتاج أن سياسة الإنتاج في الشركة تحكمها اعتبارات تختلف عن تلك التي تحكم شركات الدواء الأخرى و هو ما يبدو واضحاً في تحديد عدد الأصناف المنتجة و تحديد المجموعات الدوائية التي تتم المساهمة فيها و تتضح ذلك أيضاً من تحليل السياسة التكنولوجية للشركة

فقد كان للشركة فضل إدخال تكنولوجيا بيئة تصنيع الدواء في مصر و إن أصبحت الآن من التكنولوجيات القديمة و من خلال هذه التكنولوجيا يتم تهيئة كل قسم من أقسام تصنيع الدواء ليصبح بيئة صالحة تماماً لعملية التصنيع من حيث درجة الحرارة و الرطوبة و العقيم إلا أن ارتباط الشركة بالسياسة التكنولوجية للدولة الأم يظهر بوضوح في نشاط البحث و التطوير فلا يوجد بالفرع مستقل للبحث و التطوير بهدف ربط الإنتاج بمتطلبات الصحة العامة و الظروف الصحية و العلاجية في مصر

و يعتمد إنتاج شركة سكويب على ما يجري في الشركة الأم الذي تحكه اعتبارات إمكانات التسويق عالمياً و تطور الأمراض في أمريكا أولا ( السوق الرئيسي لمنتجات الشركة )فترى الشركة أن تخصيص بحث و تطوير لاستنباط أدوية تعالج الأمراض المتوطنة يعني عدم إمكانية تسويق إلا في السوق المصرية الذي يعني عدم إمكانية تغطية نفقات البحث و التطوير و من ثم عدم جدواه و لا يغني عن هذه السياسة ما تدعيه الشركة من أنها تعتبر نافذة مفتوحة لمصر على صناعة الدواء العالمية فمصر في حاجة أيضاً لأدوية التي تعالج الأمراض المتوطنة فيها و التي قد تكون سبباً في ظهور أمراض جديدة

الشركات المشتركة

و قد مثلت هذه الشركات بداية الخبرة المصرية في التعالم مع الشركات م ج في مجال قطاع الدواء ففي ظل الصعوبات التي واجهت تطوير صناعة الدواء تمت الموافقة على طلب بعض الشركات م ج لإنشاء فروع لمصانعها في مصر برأسمال مشترك 60 % أجنبي 40 % مصري فتمت الموافقة على 3 شركات عام 1958 هي فايزر و هوكست و سويس فارما و التي بدأت إنتاجها عامي 1962 و 1965 على التوالي

و يلاحظ أن هذه الشركات اقتصرت على مجال تصنيع الدواء النهائي أو التشكيل و تمثل نقل التكنولوجيا من خلالها في اتفاقات التصنيع التي تضمنت تقديم المعرفة الفنية و في المرحلة الثانية في ظل قوانين الاستثمار تطرقت لصناعة الخامات الدوائية و صناعة المستلزمات الطبية و لتعبئة و التغليف وانعكس ذلك في تنوع الشروط المقيدة التي فرضتها الشركات م ج على هذه الصناعة

المرحلة الأولى

و يمكن ملاحظة أثر التكنولوجيا المنقولة من خلال استعراض عدد المجموعات الدوائية التي تشارك فيها هذه الشركات و الأصناف المنتجة التي توضح أن:

شركة سويس فارما هي أكبر الشركات المنتجة 22 مجموعة دوائية 103 صنف سنة 1987 تليها هوكست الشرقية 16مجموعة دوائية 61 صنفا تليها فايزر/مصر 13 مجموعة دوائية و 38 صنفاً

و قد ارتبط ذلك بتطور قيمة إنتاج هذه الشركات ففي عام 1987 بلغ إنتاج سويس فارما 67.9 مليون جنيه و هوكست الشرقية 36.7 مليون و فايزر مصر

كما انخفض عدد المجموعات الدوائية التي لا تسهم فيها هذه الشركات إلى 14 مجموعة دوائية سنة 1984 منها أدوية التخدير و أدوية التشخيص و أدوية المضادات الكيماوية و أدوية الفم و الأسنان و أدوية حماية الكبد و الشيخوخة و تسهم هذه الشركات بصورة ضعيفة في مجموعة بديلات الدم و البلازما التي تسهم فيها فايزر /مصر بصنف واحد و أدوية مضادات الدرن و الجذام التي تسهم فيها سويس فارما بصنفين فقط كما توقفت هذه الشركات عن إنتاج أدوية السلفا و يلاحظ أن هذه المجموعات من الأدوية التي تنتج بكميات قليلة في قطاع الدواء و يتم استيرادها نظراً لأن بعضها يحتاج تكنولوجيا متقدمة تضع الشركات المحتكرة لها شروطاً مقيدة لنقلها أما الأدوية التي تنتج بأنواع وكميات متوسطة فقد غابت هذه الشركات عن إنتاج بعضها مثل أدوية الفم و الأسنان أو ظل إنتاجها منها ثابتاً مثل أدوية الرمد التي يتم استيراد الكثير منه للأسباب السابقة عدم توافر مواد التعبئة بمواصفاتها الخاصة

يتضح من ذلك أن المجموعات التي تساهم فيها هذه الشركات من المجموعات التي تنتج بكثرة في قطاع الدواء المصري مثل أدوية المسكنات التي بلغ إنتاج هذه الشركات منها 22.1% من إجمالي الإنتاج سنة 1987 و كذلك المضادات الحيوية 14% و أحد أسباب ذلك ارتفاع أراح هذه الأدوية و عدم تطلبها لتكنولوجيا ذات درجة عالية من التقدم فمثلاً أدوية المضادات الحيوية حققت صافي ربح 5.8 مليون جنيه بنسبة 13 % من تكلفة الإنتاج و لا تتطلب صناعة هذه المجموعة تكنولوجيا متقدمة لأنها تقوم أساساً على التخمير بما يفسر توسع هذه الشركات في إنتاجها

المرحلة الثانية

بدأت هذه المرحلة مع قوانين الاستثمار و اتسمت بالاتجاه لصناعة الأدوية التي تحتاج لتكنولوجيا متقدمة و تطرق قطاع الدواء إلى مجال صناعة الخامات الطبية و المستلزمات الطبية و وصناعات التعبئة و التغليف بما أدى لغلبة الشركات المشتركة بين الشركات م ج و الشركات المحلية تعددت الشروط التي فرضتها الشركات م ج لضمان سيطرتها على التكنولوجيا المنقولة و قد تنوعت هذه الشروط المقيدة حسب مجال الإنتاج فكانت أكثر تشدداً في مجال الصناعات المغذية عنها في صناعة تشكيل الدواء

*شركات المستحضرات الطبية

و مثالها أكتوبر فارما و العامرية للصناعات الدوائية و تمثلت التكنولوجيا المنقولة لهذه الشركات في حق المعرفة و المعونة الفنية و العلامات التجارية و التدريب

و فيشير عقد شركة اكتوبر فارما مع شركة هنريش باك ناسف إلى:

التزام الشركة الموردة بإمداد الشركة المصرية بمواصفات المنتجات و أساليب تحليلها و تركيبها بما يمكنها من إنتاجها وفقاً للمواصفات الإنتاج الجيد

إمداد الشركة المصرية بأية تحسينات أو تطوير على العملية الإنتاجية أو المنتجات محل التعاقد و أن تتولى الشركة الموردة تقديم الهندسة الأساسية للشركة المصرية التي تتولى الهندسة التفصيلية حتى لا تصبح العملية مجرد عملية تسليم مفتاح

التزام الشركة بعدم بيع المواد الفعالة لأطراف أخرى حتى لا تخلق مجالا للمضاربة و المنافسة بين هذه الأطراف لصالح الشركة الموردة

و في المقابل فقد تحملت الشركة نفقة عالية للتكنولوجيا المنقولة من خلال الإتاوة التي تدفعها بنسبة 5 % من المبيعات إضافة لالتزام الشركة بشراء المادة الخام من الشركة الموردة

و عملت الشركة الموردة على ضمان سيطرتها على التكنولوجيا المنقولة من خلال النص على إيقاف التصنيع ورد كل ما يتعلق بالتكنولوجيا المنقولة من مستندات و غيرها بعد انتهاء سريان العقد

أما في حالة شركة العامرية للصناعات الدوائية فقد حرصت شركة رون بلانك على السيطرة على المشروع المشترك ليس فقط من خلال إسهامها في راس المال 34 % بل الأهم سيطرتها على الإدارة من خلال شكل الأسهم و أسلوب توزيعها و طريقة اتخاذ القرار أما التكنولوجيا المنقول فكانت عبارة عن

حقوق الترخيص

باستعمال العمليات التصنيعية التحسينات التي تطورها رون بلانك و استخدام علامتها التجارية

المعرفة الفنية حيث تعهدت الشركة بتقديم كل البيانات المتاحة والمواصفات والمعرفة التي تتعلق بتصنيع المنتجات الدوائية كما تعهدت بتعيين مستشار فني لمساعدة صيادلة الشركة و تدريب موظفيها

التطوير و المعلومات العلمية :فشركة رولان بلانك مسئولة عن التطوير و المعلومات العلمية التي تتعلق بمنتجاتها في مصر من خلال مكتبها العلمي أما نفقة نقل التكنولوجيا فتمثلت في

دفع إتاوة 5 %على البيعات دون تحديد فترة معينة فتستمر الإتاوة طالما استمرت الشركة و تمتد هذه الإتاوة إلى المنتجات الجديدة

و يتم تسويق المنتجات من خلال المكتب العلمي لرولان بلانك في مصر مقابل 5 % من المبيعات

وبرغم النص على إمكانية شراء المواد الخام من أي مصدر إلي أن اشتراط موافقة الشركة الواردة على مستوى جودتها افرغ هذا النص من مضمونه

و ضماناً لسيطرة الشركة الأم على الشركة الجدبة تعيين محاسب من الشركة الأم لمراجعة حسابات الشركة المشتركة و أن يتم الفصل في أي نزاع بين الشركة الأم و الشركة المشتركة من خلال التحكيم التجاري

*شركات الصناعات المغذية

من هذه الشركات شركة شيرر مصر التي تخصصت في صناعة الكبسولات والمستلزمات الطبية بين شركة

RP شيرر و الشركة الإسلامية للأدوية و قد أدى ارتفاع درجة التقدم التكنولوجي في هذه الصناعة إلى اشتراط الشركة الأجنبية المساهمة بنسبة 60 % من راس المال حتى تضمن سيطرتها عليها كما ربطت بين مدة الاتفاق المشترك و اتفاقية الترخيص بالتكنولوجيا و نص الاتفاق على عدم قيام المشروع بأي تطوير أو تحسين على المنتج إلا بموافقة الشركة الأجنبية بما يعني تقييد حركة الشركة المشتركة في البحث و التطوير و نصت في حالة الموافقة على حق الشركة الأمريكية في الحصول على هذه التحسينات دون مقابل بخلاف التطويرات التي تجريها الشركة الأم كما قصرت الاتفاقية حصول الشركة على المواد الخام من إحدى الشركات الألمانية التابعة للشركة الأم أما الإتاوة فقد بلغت نسبتها 5 % من المبيعات بصفة ربع سنوية دون تحديد مدة الإتاوة و حددت الاتفاقية القانون السويسري باعتباره القانون الواجب التطبيق

و يتضح من نراجعة عقود نقل التكنولوجيا في هذه المرحلة أن :ـ

* هناك تنوع في النشاط الإنتاجي حيث دخلت ثلاثة شركات لمجال إنتاج المواد الخام و ثلاثة أخرى في الأنشطة الكملة من إجمالي عشر عقود لنقل التكنولجيا

*حظيت الشركات الأمريكية بأكبر نصيب من العقود 5 عقود لنقل التكنولوجيا و إن تنوعت جنسية بقية بما يعني عدم الاعتماد على مصدر وحيد لنقل التكنولوجيا

*تمثلت التكنولوجيا المنقولة في حق المعرفة و المعونة الفنية و الترخيص بالتصنيع (خاصة لشركات تشكيل الدواء ) و الهندسة الأساسية و العلامات التجارية و التدريب

*فيما يتعلق بلآتاوة مقابل التصنيع فقد اختلفت من عقد لآخر لكنها جميعها جاءت بعيدة عما قررته العقود النمطية من أحكام

* كما اختلفت الشروط المقيدة حسب نوع النشاط فكانت أكثر تشدداً في مجال الصناعات المغذية عنها في مجال صناعة تشكيل الدواء و يرجع ذلك لارتفاع درجة التعقيد التكنولجي في مجال الصناعات المغذيمن ناحية و عدم وجود خبرة طويلة فيها من ناحية أخرى و لكن بصورة عامة نصت نعظم هذه الاتفاقات على شرط شراء المواد الخام والآلات و المعدات من مورد التكنولوجيا

دور الشركات م ج في نقل التكنولوجيا لقطاع الدواء

الإمكانات و الحدود

يمكن تقويم تجربة نقل التكنولوجيا من خلال مقارنة أثرها في تطوير الهيكل الإنتاجي للقطا من ناحية و نفقة نقل التكنولوجيا من ناحية أخرى فبالنسبة لأثر التكنولوجيا المنقولة على هيكل الإنتاج في قطاع الدواء فيمكن تقديره من خلال تطور الإنتاج سواء من حيث الكم و عدد المجموعات الدوائية و عدد الأصناف التي تم تطويرها من خلال نقل التكنولوجيا و إذا كان النقل الحقيقي للتكنولوجيا يعني توافقها مع النسق الإنتاجي المحلي فيجب دراسة أثر التكنولوجيا المنقولة على تكامل العلاقات الأمامية و الخلفية لصناعة الدواء و بالنسبة لنفقة نقل التكنولوجيا فيمكن تقديرها ليس فقط من خلال ما يتم دفعه من إتاوات عن التكنولوجيا المنقولة بل و الشروط المقيدة الأخرى التي تلجأ إليها الشركات الناقلة للتكنولوجيا لرفع كلفة هذا النقل سواء من خلال سياساتها أو الشروط المقيدة التي تجعل من عملية نقل التكنولوجيا بداية تدفق لا ينتهي من السلع و مواد الخام التي تحتكرها و تفرض عليها أسعاراً مبالغ فيها إضافة لإبقاء التكنولوجيا المنقولة تحت سيطرتها

1 ـ أثر التكنولوجيا المنقولة على تطور هيكل الإنتاج

ـ لقد شهد قطاع الدواء نمواً مطرداً يعود في جانب كبير منه لعملية نقل التكنولوجيا من سواء من خلال عقود التصنيع و تقديم المعرفة الفنية و التدريب .. أو من خلال شركات مشتركة يتم في إطارها نقل التكنولوجيا حيث قفز حجم الإنتاج من 134 مليون عبوة في بداية الستينات إلى 380 مليون عبوة في بداية السبعينات إلى 860 مليون في بداية التسعينات إلى 1046 مليون عبوة في العام 1993 / 1994 و كانت نسبة الزيادة بالنسبة لشركات القطاع العام 703 % بينما في الشركات المشتركة 1186.4% و ارتفعت نسبة إسهام الشركات المشتركة إلى 29.1 % من إجمالي الإنتاج

و وصلت نسبة الأدوية المصنعة محلياً بالاعتماد عي الذات بالخبرة الوطنية مع الاستعانة بالتكنولوجيا المنقولة 65.1% و أدى ذلك إلى تقليص حجم الأدوية المستوردة ليصبح 20 % فقط من الأدوية تامة الصنع

ـ كما تزايد مجموع الأدوية المنتجة من خلال المجموعات الدوائية في 1966 نوعاً بعد أن كان 1419 سنة 1980 و يمكن تقسيم المجموعات الدوائية من حيث كمياتها و إنتاجها إلى

مجموعات دوائية تنتج بكميات و أنواع كثيرة مثل المضادات الحيوية و المسكنات و أدوية المقويات وترتفع نسبة إنتاج الشركات المشتركة سويس فارما و هوكست الشرقية و فايزر مصر من هذه المجموعة فمثلاً أدوية المسكنات تسهم فيها هذه الشركات ب23 صنفاً بنسبة 22%

مجموعات دوائية تنتج بكميات و أنواع متوسطة و يتم استيراد بعضها نظرً المواصفات خاصة في التعبئة و التغليف مثل أدوية الرمد و يلاحظ غياب شركات سويس فارما و هوكست الشرقية و فايزر مصر عن إنتاج بعض هذه المجموعات مثل مجموعة أدوية الفم و الأسنان أو أن نسبة إنتاجها من هذه المجموعات بقى ثابتاً مثل أدوية الرمد التي تنتج منها 8 أصناف من إجمالي 50 صنفاً تتوزع بين هوكست الشرقية 3 أصناف و سويس فارما و فايزر مصر 3 لكل منهما

ـ مجموعات دوائية تنتج بأنواع و كميات قليلة و تحتاج لزيادة إنتاجها مثل أدوية التخدير حيث يعاني الإنتاج من مشكلة مواد التعبئة اللازمة و ارتفاع مستوى الجودة لمستوى المستورد و لا تسهم الشركات المشتركة و لا فروع الشركات م ج في إنتاج هذه المجموعة و بديلات الدم و البلازما ويتم استيراد كميات كبيرة منها و لا تسهم فيها من الشركات المشتركة و فروع ش م ج إلا شركة سويس فارما بصنف واحد من إجمالي 38 صنفاًً أما أدوية التشخيص و أدوية النزيف فلا ينتج منها سوى نوع واحد و يرجع ذلك أن هذه النوعية من الأدوية تتطلب تكنولوجيات متقدمة

مجموعات دوائية لا ينتج منها شئ و هي مجموعة ألبان و أغذية الأطفال و الأدوية المشعة و مجموعة الأدوية المضادة للسرطان و تتميز بارتفاع درجة التعقيد التكنولوجي المطلوب لتصنيعها فأمراض الأورام الخبيثة و فقد المناعة أمراض حديثة يتطلب اكتشاف أدوية لمعالجتها بحثاً و تطويراً مكثفاً و ما زال في طور الاكتشاف و زيادة الفعالية بما يعني ارتفاع تكلفته إضافة إلى أن الشركة المكتشفة تحرص كمبدأ عام على عدم التخلي عن ناتج معاملها التي تتمتع ببراءة الاختراع أما ألبان الأطفال فقد تعثر إنتاجها دون سبب واضح أما من حيث التطوير التكنولوجي في المجموعات الدوائية فيظهر من الجدول التالي

التطور في المجموعات الدوائية في شركات هوكست و فيزر و سويس فارما من المنظور التكنولوجي


المجموعات الدوائية مرتفع متوسط ضعيف

أدوية التخدير ـ ـ X

مضادات الطفيليات X

" الدوسنتاريا X

" الحيوية *

" الملاريا X

" مضادات التجلط X

" الحساسية X

أدوية الضغط و القلب *

الملينات المسهلات *

مضادات كيماوية X

مضادات الدرن *

أدوية الجلد *

أدوية الهضم X

أدوية الكبد و المرارة X

أدوية الغدد الصماء *

أدوية السلفا X

تطور ضعيف* تطور سالب X

و يظهر الجدول محدودية التطوير التكنولوجي في الأصناف الدوائية في هذه الشركات

أما أثر التكنولوجيا على تكامل علاقات صناعة الدواء فمن المعروف أن قطاع الدواء يشتمل على عدد من الصناعات المتكاملة التي تشتجر بينها العلاقات التبادلية التي تعمل في ظل نظام متكامل و يتضح اثر نقل التكنولوجيا على العلاقة بين صناعة الدواء في شكله النهائي و الصناعات المغذية من مواد خام و صناعات تعبئة و تغليف وقد أدى التوسع في نق التكنولوجيا لصناعة المنتج النهائي دون توسع مماثل في صناعة الخامات الدوائية و التعبئة و التغليف لتطلبها لتكنولوجيا عالية مكلفة للغاية إضافة إلى الممارسات المقيدة التي تنتهجها الشركات م ج المحتكرة لهذه التكنولوجيا للدول النامية بما أدى لاعتماد صناعة الدواء على الاستيراد من الخارج لتلبية حاجاتها من الخامات الدوائية و المواد الفعالة بنسبة 70 % بما يعنيه ذلك من ارتفاع أسعارها و حدوث اختناقات في الصناعة نتيجة تأخر مواعيد التوريد والأسعار الاحتكارية التي تفرضها هذه الشركات و بنفس الطريقة تطورت قاعدة إنتاجية ضخمة لإنتاج أدوية في أشكال صيدلية متنوعة دون أن يواكب ذلك صناعة تعبئة و تغليف متطورة بما أدى لعدم توفر العبوة المناسبة فعلى حين كانت شركات الأدوية تحتاج 2000طن من مواد التعبئة و التغليف كان مجمل الإنتاج المحلي 665 طن و بالتالي اللجوء للاستيراد بما بما يعنيه من آثار ضارة على ميزان المدفوعات أخذاً في الاعتبار أن تكلفة التعبئة و التغليف تمثل من 22ـ25 % من إجمالي تكلفة المنتج بسعر المصنع

نفقة نقل التكنولوجية

إضافة للمشاكل السابقة كانت نفقة نقل التكنولوجيا نفقة عالية فالإتاوات المفروض من الشركات م ج تراوحت في المتوسط بين 5 ـ 10 % من الأرباح هي نسبة عالية فضلاً عن اقترانها بشروط مجحفة أحيانا مثل عدم تحديد فترة زمنية لها فتستمر طالما استمر الإنتاج و إلزام معظم الشركات المتلقية بشراء المواد الخام من الشركة م ج كما فرضت هذه الشركات شروطاً تضمن بها سيطرتها على التكنولوجيا المنقولة مثل اشتراط تسليمها كل مستندات المعرفة الفنية بعد انتهاء العقد أو عدم إجراء تحسينات إلا برأيها و عدم ترخيص الفرعي لشركة أخرى أو سيطر الشركة م ج على إدارة الشركات المشتركة أما فروع الشركات م ج فلم تقم بنقل حقيقي للتكنولوجيا التي بقيت حبيسة الفرع و تحت السيطرة المباشرة للشركة م ج وفي كل الأحوال فقد كانت هناك حدود للتكنولوجيا المنقولة التي استخدمتها الشركات م ج لفتح السوق لها أمام المزيد من المواد الخام و السلع الرأسمالية و لكن يمكن إرجاع ذلك من ناحية أخرى لقصور التخطيط و النظرة الضيقة في التعامل مع هذه الشركات دون استفادة من خبرات الدول السابقة في التعامل مع هذه الشركات مثل البرازيل و الهند أو تطوير صيغة للتعاون الإقليمي في صناعة الدواء توفر فرصاً أفضل لها في التفاوض و الإنتاج و التسويق و هو ما يعالجه الجزء التالي

نقل التكنولوجيا في قطاع الدواء و اتفاقية الجات

يتمثل الهدف الأساسي لاتفاقية الجات في تمكين الدول العضو من النفاذ لأسواق بقية الدول الأعضاء خلال خفض القيود على التجارة الدولية بما يحقق التوازن بين رعاية الإنتاج المحلي و بين تدفقه و استقرار التجارة الدولية و قد تحولت الاتفاقية بعد التوقيع على إعلان مراكش في إبريل 1994 إلى إطار شامل للتجارة الدولية من خلال منظمة التجارة العالمية التي تم إنشاؤها سنة 1995 و إقامة نظام قانوني لتسوية منازعات التجارة الدولية و الأهم امتداد الاتفاقية لتشمل حقوق الملكية الفكرية و التي تشمل

حق المؤلف ـ حق العلامة التجارية التصميمات الصناعية

براءة الاختراع الدوائر المتكاملة أسرار المعلومات

و تتضمن الاتفاقية

ـ الأحكام العامة و تشمل شروط الدولة الأولى بالرعاية

ـحماية حقوق الملكية الفكرية من خلال وسائل محددة بهدف تشجيع الابتكار التكنولوجي و بما سيؤثر على وضع الدول النامية التي تمثل المستهلك الصافي براءات الاختراع و غيرها من المصنفات الفكري فتضمنت الاتفاقية بعض الاستثناءات و المزايا للدول النامية

ـ منح الدول النامية فترة انتقالية تتراوح من 5 ـ 10 سنوات قبل التزامها بتوفير الحماية لبراءات الاختراع الخاصة بالأغذية و العقاقير الطبية و المواد الصيدلية

_يمكن للدول النامية أن تستمر في إنتاج الأدوية و الكيماويات التي انتهت فترة حمايتها عند تطبيق الاتفاقية دون قيود

ـ تكفل الاتفاقية للدول النامية حق وضع نظام لضبط الأسعار بها حماية للصحة العامة

كما أن من حق الدول النامية في فرض نظام الترخيص الإجباري إزاء تعسف صاحب براءة الاختراع في استلام حقوقه أو ممارسته إجراءات غير تنافسية

ـ تتيح الاتفاقية للدول النامية الحق في حماية إنتاجها المحلي سواء بأسلوب حفز الصادرات أو حماية الأسواق المحلية من الإغراق

و يجب لتقويم اثر اتفاقية الجات على قطاع الدواء أخذ الحقائق التالية في الاعتبار

‍ ـ أن صناعة الدواء من الصناعات كثيفة التكنولوجيا التي تكتنفها الأسرار الإنتاجية و حقوق الملكية الصناعية و كثير من الأدوية لا تزال في إطار المدة الزمنية التي حددتها الاتفاقية لحماية براءة الاختراع سواء كمنتج نهائي أو طرق تصنيع أو معرفة فنية

ـ حداثة صناعة الدواء في مصر حيث لم تتطور بصورة جدية إلا منذ أوائل الستينات فهي بالنسبة للصناعات

الأمريكية و الأوربية لا تزال صناعة ناشئة لا تقوى على المنافسة الكاملة

ـ برغم خبرة مصر الطويلة في مجال نقل التكنولوجيا إلا أنها لا تزال تخضع لكثير من الشروط المقيدة مثل منع الانتشار الأفقي للتكنولوجيا و اشتراط الكيماويات الدوائية من الشركة المانحة للترخيص و المغالاة في ثمنها بما يعني أن تطور هذه الصناعة سيبقى مشروطاً إلى حد كبير بالحدود المفروضة على نقل التكنولوجيا

الآثار الإيجابية على صناعة الدواء

و تتمثل أهم هذه الآثار في خفض القيود على استيراد الأدوية المصرية للدول العربية و الأوربية حيث تصدر مصر الأدوية تامة الصنع إلى بعض الدول العربية (سوريا دول الخليج السعودية السودان ليبيا ) وبعض الدول الأفريقية و رومانيا أما الخامات و الخلاصات فتصدر لبعض الدول الأوربية فيمكن لصناعة الدواء في مصر أن تستفيد من تحسين ظروف النفاد إلى أسواق البلاد الصناعية بالاستفادة من تخفيض التعريفات الجمركية التي تطبقها البلدان الصناعية علة السلع الصناعية

و من ناحية أخرى فقد أسفرت جولة أوروجواي عن التوصل لاتفاق لمكافحة الإغراق تضمن تفسيراً لأحكام اتفاق طوكيو لمكافحة الإغراق من حيث تحديد المنتج المؤدي لإغراق الأسواق و معايير تحديد الصرر الذي يسببه و كذلك سياسات الدعم و يمكن أن تستفيد صناعة الدواء المصرية من هذه الإجراءات لحمايتها من الإغراق

الآثار السلبية لاتفاقية الجات

لإضافة لما سبق ذره عن أثر اتفاقية الملكية الفكرية لبراءات الاختراع و المعرفة الفنية على التجديد التكنولوجي في صناعة الدواء فإن فتح الباب أمام الاستيراد يؤدي إلى انهمار الأدوية الأجنبية على السوق المصرية بما يتضاءل معه أثر نمو الصادرات و هو ما حدث منذ عام 1991 فبعد إلغاء القرار 505 القاضي بحظر استيراد الكيماويات الدوائية عن غير طريق الشركة العامة للأدوية تم إغراق السوق المحلي بمنتجات مثيلة من الخامات الدوائية و المضادات الحيوية من الهند و الصين بأسعار رخيصة بما أدى لتكدس المنتجات المحلية التي بلغت قيمته 50 مليون جنيه في شركة الجمهورية للأدوية وخسارة 16.5 مليون جنيه بالإضافة إلى تقلص حجم الإنتاج بنسبة 40 % و توقف إنتاج 70 % من خطوط إنتاج شركة النصر للأدوية كما توقف بنك الاستثمار القومي عن تمويل استثمارات الشركة

و يتضح مما سبق ضرورة دراسة الاتفاقية بجوانبها السلبية و الإيجابية لتطوير استراتيجية متكاملة للتعيش مع الاتفاقية و الاستفادة من الاستثناءات و المساعدات الفنية التي تتيحها الاتفاقية و التنسيق مع الدول العربية للتعاون في مجالات صناعة الدواء و دفع اتحاد منتجي الدواء العربي خاصة في ظل خبرة عربية سابقة ناجحة للتعاون متمثلة في الشركة العربية للمنتجات الدوائية أكديما

حجم الانتاج المحلي

(بالمليون عبوة )

العام المرجعي حجم الانتاج

بداية الخمسينات 1950 23

بداية الستينات 1960 134

بداية السبعينات 1970/1971 380

بداية الثمانينات 1980 /1981 587.2

بداية التسعينات 1990/1991 860

1993/1994 1046

حجم الأسواق الخارجية

العام المرجعي قيمة التصدير

(بالمليون جنيه )

بداية الستينات 1960 117,

بداية السبعينات 1970/1971 1.1

بداية الثمانينات 1980 /1981 3.5

بداية التسعينات 1990/1991 43.5

1993/1994 93

حجم اأسواق الدوائية

العام المرجعي قيمة الاستهلاك السنوي

(المليون جنيه )

بداية الستينات 1960 14

بداية السبعينات 1970/1971 55

بداية الثمانينات 1980 /1981 293

بداية التسعينات 1990/1991 1776

1993/1994 2770

خاتمة

حاولت السطور السابقة استطلاع دور الشركات منعددو الجنسية في نقل التكنولوجيا في قطاع الدواء و يمكن في ضوء ذلك استنتاج 3 نتائج هامة:ـ

أن الشركات متعددة الجنسية تستخدم التكنولوجيا كسلاح في مواجهة الدول النامية للسيطرة على اقتصادياتها و إذا لجأت لنقل التكنولوجيا فإنها تستخدم هذا النقل لتعزيز سيطرتها على أسواق هذه الدول و تعمل في نفس الوقت على إبقاء هذه التكنولوجيا تحت سيطرتها في القطاعات المنقولة إليها فلا يمتد تأثيرها إلى مجمل النسق الإنتاجي المحلي مستغلة ما تتمتع به من مركز احتكاري في هذا المجال لتفرض العديد من الشروط المقيدة على التكنولوجيا المنقولة تضمن بقاء التكنولوجيا المنقولة ضمن حدود نوعية معينة لا تتعداها

ـ ومن ثم فلا مناص من تطوير القدرات التكنولوجية المحلية فلا يعقل أن يستمر الإنفاق على البحث و التطوير لا يتجاوز 1% من إجمالي الناتج القومي ففي غياب نسق تكنولوجي على قدر من التطور على الأقل لبناء نظام معلومات تكنولوجي لا يمكن الحديث عن نقل حقيقي للتكنولوجيا أو اختيار تكنولوجيا ملائمة فالنقل الحقيقي للتكنولوجيا هو تطويع التكنولوجيا لمقتضيات هيكل الإنتاج المحلي

ـ أن دور هذه الشركات في نقل التكنولوجيا نتاج تفاعل سياسات هذه الشركات من ناحية وسياسة الدولة المضيفة من ناحية أخرى ففي ظل غياب سياسة تكنولوجية شاملة بأولويات واضحة يصبح مركز الدولة التفاوضي ـ من خلال الشركات المحلية ـ ضعيفاً بما ينعكس على عملية نقل التكنولوجيا في شكل شروط مقيدة تجعل التكنولوجيا المنقولة تكريساً لتبعية القطاع الإنتاجي المحلي الخارج

و في ظل التطورات التي فرضتها اتفاقية الجات يصبح من الضروري الدراسة المستفيضة لهذه الاتفاقية والتفاوض مع منظمة التجارة العالمية للاستفادة من الاستثناءات و المزايا المتاحة و العمل في نفس الوقت العمل على تبني استراتيجية عربية لنقل التكنولوجيا بحيث يمكن التفاوض بشكل جماعي مع الشركات متعددة الجنسية