محمد إقبال : الباحث عن طيبة
محمد إقبال : الباحث عن طيبة
لقد انطفأت شعلة القلب في حياتك أيها السيد وفقدت شخصيتك!..
إن البشرية تريد أن تعلم كيف تتقن حياتها وكيف تخلد شخصيتها . إن بني آدم يطلبون دستوراً للحياة .. والمؤمن إذ نادى الآفاق بآذانه أشرق العالم واستيقظ الكون "
هكذا خاطب السيد محمد إقبال أحد أصدقائه العرب لائماً له وهو من أحفاد هذه الأمة التي حملت رسالة التوحيد إلى العالم: كيف تخلى عن مقومات قيادته للإنسانية وهي أحوج ما تكون لهذه الرسالة تستهدي بها للخروج من تيه المادية وتخبط المذاهب البشرية .
فقد أدى ضعف التزام المسلمين بالمنهج الإسلامي أثراً لتسلل الدخن إلى عقيدة التوحيد إلى حالة من الركود الفكري والتحلل المعنوي ففقدوا معنى الأمة وانقسموا دولاً وشيعاً متناحرة.
وفي أطراف العالم الإسلامي في شبه القارة الهندية تواترت المحن على المسلمين إذ عمتهم الفوضى نتيجة التنافس بين الممالك الإسلامية منذ القرن السابع عشر هذه الفوضى التي استغلتها القوى الأجنبية للنفاذ إلى هذه المنطقة بداية بالاحتلال البرتغالي والفرنسي ثم بسط شركة الهند الشرقية سيطرتها ممهدة الطريق أمام الاحتلال البريطاني.
ولم ينتصف القرن التاسع عشر إلا وكان معظم شبه القارة تحت السيطرة البريطانية على الرغم من حركات المقاومة المستمرة التي قادها قادة ومجاهدون عظام من أمثال أحمد وإسماعيل شهيد وقد اتضح للبريطانيين أن المسلمين هم العقبة الكبرى أمام توطيد سلطانهم في هذه البلاد وأن روح الجهاد التي يحملونها هي سر استعصاؤهم الخضوع للاحتلال فاعتبروهم عدوهم الأساسي فعملوا على القضاء على هذه الروح مستغلين الوضعية الخاصة للمسلمين في شبه القارة الهندية والحالة المتردية للعالم الإسلامي ككل .
فسعى البريطانيون لا لفرض مختلف أنواع الضغوط الاقتصادية على المسلمين وسلبهم حرياتهم فحسب بل والعمل على تيئيسهم من جدوى أية محاولة للنهوض تستلهم الأنموذج الإسلامي للحياة في شموله ويمكن الإشارة في هذا الصدد لجهود صنيعتهم السير أحمد خان الذي دعا لصورة مشوهة من التدين تكتفي من الإسلام برسومه في عبادته وشعائره.
ومن ناحية أخرى اتبع البريطانيون سياسة تمييزية ضد المسلمين لصالح الهندوس على الرغم من ادعائهم الحياد بين الأعراق في الهند وسعى الهندوس للاستفادة من هذا الوضع ببث الدعاية ضد الدين الإسلامي الذي رأوا فيه الخطر الأكبر على الهندوكية بإنكاره عقيدتها الحلولية ونظامها الطبقي المغلق ومساوته بين الناس دونما اعتبار للون أو الطبقة .
ولما كان من الصعب ترويج هذه الدعاية عمد الهندوس إلى التلبيس على أبناء القارة بالدعوة إلى حركات تزعم التقارب بين الهندوسية والإسلام لتنزع منه جوهره وتسلب إشراقة توحيده في قلوب أبنائه المسلمين .
وفي هذا المنحى ظهرت فلسفة " راما نوجا" و حركة " البهكتى" التي قامت بتأويل عفقائد الهندوسية إلى صورة تتخذ مظهر التوحيد الإسلامي فأصبح المنتمون لهذه الحركة من النابذين لتعدد الآلهة ويدعون إلى إله واحد ويعدون الوصول إلى مرتبة العشق الإلهي أعلى درجات التوحيد.
وبالفعل انتقلت أفكار حركة البهكتى إلى الحركات الصوفية في الهند بل لاتزال تأثيرات لهذه الحركة وأفكارها موجودة إلى الآن في فكر بعض الطرق والجماعات في تركيا وآسيا الوسطى.
في هذه الأوضاع التي تهددت الوجود الإسلامي في الهند من احتلال عسكري وتناحر طائفي ومحاولات تذويب عقدي ولد السيد محمد إقبال في "سيالكوت" بالبنجاب في الثالث من ذي القعدة سنة 1294 هـ الموافق التاسع من نوفمبر سنة 1877 م فعكست حياته طبيعة هذه التحديات التي لا يزال المسلمون يواجهونها بأشكال ودرجات مختلفة وكانت استجابته لها رؤية متكامله لمنهجية البعث الحضاري القائم على أساس تجديد ذاتية الأمة بنبذ عناصر الضعف والوهن فعلى الرغم من أن إقبال ينتمي لأسرة ذات أصول برهمية - وهي أعلى الطبقات الهندوكية – فقد نشأ واعياً بانتمائه الإسلامي متحققاً بأبعاده فقد نشأ في بيت إسلامي فأبوه الشيخ نور محمد المكنى بالشيخ نتهو الذي وصفه معاصروه بأنه كان " عارفاً بدقائق الطريقة وعلوم العقيدة والسنة متأدباً بآداب السلوك " وإلى هذا يشير محمد إقبال بقوله " يرجع الفضل في كل ما أنشأته إلى توجيهات أبي رحمه الله فقد عودني تلاوة القرأن وكان يسألني هل تتلو القرآن ؟ فكنت أرد بالإيجاب وكان يعاود إلقاء هذا السؤال صبيحة كل يوم وأجيبه نفس الجواب فدفعني الفضول والضجر إلى أن أقول لوالدي يوماً: يا والدي إنك تراني أتلو القرآن فلم تسألني هذا السؤال و أنت تعلم جوابي ؟ فقال رحمه الله : بل أردت أن أقول لك : " إقرأ القرآن وكأنه عليك أنزل " وبالمثل كانت أمه التي عرف إقبال لها فضلها فرثاها بقصيدة تقطر حزناً و ألماً وتعكس في الوقت ذاته نظرته ّإلى أسرار الموت والحياة حيث يقول:
فليكن مرقدك مضيئاً مثل إيوان السحر
ولتهطل السماء على لحدك حبات الندى
ولكن مرحلة الابتلاء سوف تنتهي
فإن الموت تجديد لمذاق الحياة
ومن اعتاد الطيران لا يخشى أن يطير
وهذه الأبيات مثال على شعره الذي بدأ نظمه منذ شبابه بلغة الأردو معبراً عن الرؤية الإسلامية ذات الطابع الإنساني .
واثرت هذه النشاة في هذا البيت القرآني على اتجاه إقبال إلى طلب العلم في سن مبكرة معتزاً بذاته متشوفاً إلى صفاء الإسلام في منابعه الأولى وسعيه إلى تخليصه من الأدران التي ألصقها به المنتسبون إليه وهو ما يظهر في رسالته الجامعية التي كانت بعنوان " تطور الغيبيات في بلاد فارس" فكانت عناية إقبال بتجديد التصوف الإسلامي واستثماره كنهج تربوي كفيل ببناء الإنسان المسلم الحق الذي ينهض بمسئولية الحياة الإسلامية ضمن مجتمع يستهدف التحقق بمعالم التوحيد في معاملاته داخلياً والدعوة إليه خارجياً.
وبهذه القناعة لم يقع إقبال تحت تأثير المستشرق توماس أرنولد برغم توثق علاقته به حتى أن " آرنولد" طلب منه إكباراً لنبوغه أن يساعده محاضراً للفلسفة في جامعة كامبردج بل كانت رحلته من الهند غلى اوربا التي طوف خلالها بأقطار العالم الإسلامي فرصة ليطلع فيها على أحوال السلمين وما آلت إليه ومقارنته بما كانت عليه حضارتهم التي عاين آثارها في بلاد الأندلس وقياسها بانموذج الجماعة المسلمة في المجتمع النبوي في طيبة المدينة المشرفة.
وعندما استقر المقام بإقبال دارساً ومحاضراً في الجامعات الأوربية استثمر فترة وجوده هناك لبيان عظمة الإسلام وعناصر القوة فيه ودحض المقولات التي تظهر المجتمعات الأوربية ككيان مفعم بالحيوية والقوة ومؤهل بكل متطلبات قيادة الإنسانية في مقابل الصورة الغائمة للشخصية الإسلامية وهو ما يتضح من تحذيره لأبناء الغرب من زيف حضارتهم قائلاً:" يا أهل الغرب إن أرض الله ليست دارتجارة فهذا الذي يبدو لكم فضة أصيلة سرعان ما يتضح أنه عيار قليل القيمة ولسوف تنتحر حضارتكم بخنجرها لأن عشاً بني على غصن ضعيف لا خلود أبدياً له"
وقد جمعت هذه المحاضرات والمقالات في كتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام الذي لقي قبولا واسعاً بين أبناء العالم الإسلامي وترجمه إلى العربية الأستاذ عباس العقاد
وبعد عودته إلى وطنه عمل إقبال أستاذاً للفلسفة ثم محامياً حراً ليتحلل من قيود العمل الوظيفي وليبدأ خطته في الإصلاح موازنا بين اهتمامه بالتجديد الفكري والعمل السياسي لإنقاذ المسلمين من الأخطار المحدقة بهم في شبه القارة الهندية فوده جهوده للحفاظ على وحدة الحركة الإسلامية في الهند إلا إنه بعد فترة قصيرة زهد العمل السياسي نظراً لعدم إيمانه بأغلب المتصدين للقيادة السياسية لما لاحظه من نقص الحنكة وقصر النظر السياسي لديهم واتجه لأنشطة الدعوة الإسلامية من خلال جمعية حماية الإسلام في لاهور التي عمل سكرتيراً لها في الفترة بين 1920 – 1929.
لقد كان هذا التنظيم متسقاً مع الرؤية الاستراتيجية لإقبال من أن غاية أية جهود للنهوض بالمسلمين هي بناء الإنسان الحر أساس قيام الجماعة المسلمة التي تتبنى نمط الحياة الإسلامي فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وهذه القوة تجد نبعها في ذات المسلم المعتقد بوحدانية الله فيتحرر من كل ما سواه .
لذلك لم يستمر حماس إقبال طويلاً لجهود إحياء الخلافة العثمانية خاصة وأنها تحولت إلى ملك دنيوي فعلى الرغم من أن إقبال يبدي وعياً حاداً بضرورة الخلافة - وهو يعبر عنها بالمسجد - كإطار لوحدة المسلمين فعمل ضمن حركة الجامعة الإسلامية و أنشد أعذب الأشعار التي تستجيش المشاعر لاستعادة الخلافة على النسق الذي كانت عليه الخلافة الراشدة فإنه لا يلبث أن يعزف عن المشاركة في هذه الأنشطة لما رأه من عدم جديتها ولعله مثل ما ذهب إليه بعض المفكرين من أن حال المسلمين في الهند أصبح كحال جماعة انقطعت عن رفقتها فعليها أن تتدبر أمورها بما يعينها على البقاء والتئام شملها ويعمل في المستقبل على جمعها ببقية وحدات الجماعة الأكبر او الأمة وراى إقبال أن استعادة الحيوية للأمة الإسلامية لا تتأتى إلا بالتربية على النهج الذي بينته الأصول المؤسسة لهذه الأمة .
ووجد إقبال في التراث التربوي للمتصوفة ما يعينه على غايته والتصوف الذي عني به إقبال هو التصوف النبوي الذي يمثل روح الإسلام فالأحكام التي جاء بها الإسلام تشتمل على العقائد وأحكام العبادات وأحكام المعاملات والأخلاق وهذه الأخيرة مجال اهتمام المتصوفة والأثر العملي للقيام باحكام الإسلام وهو ما بينه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:" " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً"
فكان التصوف عند إقبال إحياءاً لروح الجهاد الذي يستهدف إعلاء كلمة الله في مختلف مناشط الحياة ومظاهر العمران البشري فيتخلق المسلمون بأخلاق الله تعالى كما عاش النبي عليه الصلاة والسلام ويعيشون حقيقة العبودية له تعالى.
وهذا الجهاد يتنافى مع ما يدعوه إقبال التصوف العجمي الذي ينفي الإرادة ويميت الذات تأثراً بتسلل دخن العقائد الهندية إليه ويتطلب هذا الجهاد قوة في النفس تظهر في المواقف التي تتطلب البذل والتضحية فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير .
لذلك قام محمد إقبال بعملية تمحيص وتأويل واسعة للتراث الصوفي وإعادة نظمه واستلهامه لتفجير الطاقات التي أودعها الله تعالى في الإنسان وهدهدة النزعة المادية الناجمة عن غروره بعد ما اكتشفه من قوانين أودعها الله تعالى في الوجود وينطلق في هذا من شعر جلال الدين الرومي:
جدد بنفي الذات ذاتاً.. لا تهاب
اجتهد! والله يهديك الصواب
فإذا كان العديد من اتجاهات التصوف عملت على نفي الذات وصولاً لفنائها في الكلي المطلق فإن إقبال يقيم تناظراً بديعاً بين الإنسان خليفة الله تعالى في أرضه الذي نفخ فيه من روحه وهذا الإنسان هو مركز بناء الجماعة المسلمة وبين صيرورة الكون الذي سخره الله للإنسان فبهذه النفخة أصبح المسلم:
فيه عزم على القضاء دليل وهو في العالمين كالميزان .
وهكذا يعيش المسلم في اتساق مع ذاته ومع إخوانه فقد أقام إقبال توازناً محكماً بين الفرد والجماعة مستمداً من الهدي الإلهي بصورة ترفع فكرة التناقض التي سيطرت على الحضارة الأوربية وأدت إلى اتجاهات متطرفة سواء لنفي الفرد لصالح الجماعة أو اعتبار الفرد مرجعاً مستقلاً بذاته يستمد منه المجتمع هويته ومدار هذا التوازن حركة كل من الفرد والمجتمع باتجحاه تحقيق الخلافة أو النيابة الإلهية
رحمة للفرد حجر الأمة كامل جوهره في الملة
فردنا مرآته أمته كذا مرآتها صورته
قيمة الأفراد جدوى الملة ومن الأفراد نظم الأمة
كما يعي المسلم مسئوليته كسيد في هذه المنظومة الكونية دون انسياق لنزعة حلولية أو تأليه للنفس وبناء الشخصية المسلمة أو استعادة الذات من غربتها هو بداية الطريق لعودة الجماعة المسلمة إلى عزها وقيامها بمهمتها فلا تتبدد حركتها أو تحيد عن مسارها:
جاهلاً سر الحياة اجتهد وامض نشوان بسر المقصد
مقصدك الصبح في أنواره محرق كل "سوى" في ناره
مقصد يجتاز آفاق السماء يأخذ القلب بحسن وبهاء
فمفهوم الذات هو محور رؤية إقبال للبعث الحضاري ويختلف هذا المفهوم عن مفهوم الشخصية الذي يسبطن الطابع النسبي للإنسان فالشخصية تعبر عن مجموعة السمات المستقرة للإنسان الناجمة عن تفاعل ميوله ورغابته مع الضوابط والأهداف التي يضعها مجتمعه اما الذات فهي مفهوم كلي يعبرعن تناسق الجوهر الفرد (الذات الفردية) مع الجماعة (الذات الجماعية) أو "اللاذات" باعتبار أنهما ينتميان إلى الأصل الإلهي (الفطرة) الموصولة بهدي السماء.
وعليه اتجه إقبال لاستعادة الفعالية من خلال تجديد "الذات " "خودي" بعد نفي الدلالات السلبية لهذه الكلمة التي تعني "أنا" بالفارسية فكلمة خودي يستعملها بمعنى محايد للشعور بالأنا الذي يكون قاعدة الوحدة لدى كل فرد ولندعه إقبال يوضح رؤيته ل "خودي":
" من الناحية الأخلاقية تعنى خودي في استعمالي لها الاعتماد على الذات بل وتاكيد الذات عندما يكون ذلك ضرورة لمصالح الحياة والقدرة على الاستمساك بقضية الحق والعدالة والواجب ... حتى في مواجهة الموت زمثل هذا السلوك أخلاقي في نظري إذ انه يساعد في دمج قوى الذات ويضفي عليها صلابة في وجه قوى الانحلال والتفكك ومن الناحية العملية تحمل الذات حقين رئيسيين ألا وهما الحق في الحياة والحرية كما تحددهما الشريعة الإلهية"
وعندما أشجب نفي الذات فلا أعني نفي الذات بالمعنى الأخلاقي لأن نفي الذات بالمعنى الأخلاقي مصدر لقوة الذات لكنني بإدانتي لنفي الذات أدين تلك الأنماط السلوكية التي تؤدي إلى القضاء على الأنا كقوة غيبية لأن ذلك يعني نفي تحلل الأنا وعدم قدرتها على الاستمرار الأبدي الذاتي وليست المثالية في الصوفية الإسلامية حسب إدراكي في القضاء على الذات وإنما في خضوع الذات الإنسانية كلية للذات الإلهية ومثالية الصوفية الإسلامية هي مرحلة وراء مرحلة الفناء ألا وهي البقاء و التي تعد من وجهة نظري أعلى درجات تأكيد الذات" وعندما أقول كن صلباً كالماس فلا أعني ما يعنيه نتشة من الصلابة أو قسوة الفؤاد أو انعدام الرحمة وإنما أعني تكامل عناصر الذات بحيث يمكنها أن تسد قوى التدمير بوسائلها تجاه الخلود الذاتي .
إن الشخصية المتمثلة في الذات الإنسانية هي الحقيقة المركزية في تكوين الإنسان الذي يحمل في ذاته صيرورة الحياة وهو محورها
هيكل الكون من آثارها كل ما تبصر من أسرارها
نفسها قد أيقظت حتى انجلى عالم الأفكار ما بين الملأ
ألف كون مختف في ذاتها غيرها يثبت من إثباتها
خلقت أضدادها من نفسها لترى لذتها في بأسها.
فإذا كان العديد من اتجهات التصوف الإسلامي عملت على نفي الذات وصولاً للفناء في الكلي المطلق فإن إقبال رأى أن إثبات الذات هو وسيلة الوصول للكمالات افنسانية :
شيمة الذات التجلي لا الخفاء
وهي في الذرات بأس وضياء
هيكل الأكوان من آثاره
إن كل ما تبصر من أسرارها
إن ذاتاً جمعت أسر الحياة
من غدير أذخرت بحر الحياة
وينطلق إقبال في هذا من الحديث النبوي الشريف تخلقوا بأخلاق الله ففي مقابل الذات الإلهية ذات الكمال الموصوف بكل جمال وجلال تأتي الأنا أو الذات الإنسانية :
أنت خلقت النهار و أنا خلقت المصباح
أنت خلقت الطين و أنا خلقت اللأقداح
فقد كان إقبال يرى في البداية أن الطبيعة على ما هي عليه جديرة لاحب وكان يرى القدسية بجلالها وعظمتها متمثلة في معالم الطبيعة ثم عاد ليبرز الصفات الإلهية في افنسان ذاته .
فالذات التي يصفها الله تعالى بأنها ضعيف وظلوم وقتار وكفار خلقت أصلاً في أحسن تقويم وقادرة على حمل الأمانة الإلهية :
نائب الحق على الأرض سعيد حكمه في الكون خلد لا يبيد
هو بالجزء وبالكل خبير و بأمر الله في الأرض أمير
في فسيح الأرض يمشي طاوياً عزمه هذا البساط الباليا
مقصد من علما الأسما هو سر "سبحان الذي أسرى " هو
و الإنسان في حياته الأرضية لا يعيش في منفى تكفيراً عن خطية بل هو سيد مصيره و يمكنه أن يرتقي بنفسه إلى تلك الذرى التي يتساءل الله تعالى فيها عما يريده الإنسان قبل أن يتم التقدير:
إن للمؤمن العجيب الشان كل حين شأن وآن
هو في قوله السديد وفي الفعل على الله واضح البرهان
فيه قدسية إلى جبروت ومن القهر فيه والغفران
إذ تؤلف هذه العناصر مان المسلم المستعصي على الحدثان
هو ترب سما يجاور جبريل ويأبى الحلول في الأوطان
لست تدري سره فتراه قارئاً وهو صورة القرآن
فيه عزم على القضاء دليل وهو في العالمين كالميزان
لذلك عالج إقبال في " أسرار الذات " حياة الفرد المسلم المتطلع إلى أصل الوجود "الذات الإلهية " ذات الكمال ويرسم في "الرموز" طريق الحياة للمجتمع المسلم الموحد وهو في هذا مؤمن متحمس يتطلع لعالم إسلامي فاضل مركزه بيت الله الحرام الذي يتوجه إليه المسلمون خمس مرات في اليوم
و لم يكتف إقبال ببيان رؤيته في بناء الجماعة الفاضلة التي تتخذ من جماعة المسلمين في المدينة النبوية أنموذجها بل وسعى لرسم معالم السبيل لهذه الجماعة من خلال محاربة اعداء الذات من ناحية وتقويتها داخلياً من ناحية أخرى
وعلى خلاف المنحى التقليدي في التصوف فإن إقبال يحدد أعداء الذات في ثلاثة جوائح إذا تمكنت من الذات هدمتها هي الحزن والخوف واليأس.
فالحزن يتنافى مع الثقة بالله والآفاق الواسعة التي يفتحها الإيمان بعناية الله بالإنسان وبوصفه كخليفة الله في أرضه:
يا سجين الغم أبصر واسمع من رسول الله " لاتحزن" وعي
ذلك النصح سرى في قلبه فغدا الصديق صديقاً به
إنما المسلم مثل الكوكب باسم في سعيه ودابه
حرر النفس من الغم ودع إن عرفت الله أغلال الطمع
ويتسق هذا مع رؤية إقبال للزمن الذي يتجاوز الزمن الدنيوي لرحابة الوجود الذي يشمل الدنيا والاخرة فالله تعالى هو مقلب الدهر ويستوي لديه تعالى الماضي والحاضر والمستقبل فهو تعالى عالم الغيب والشهادة والمسلم ليس أسير الزمن باعتباره زمناً مكانياً يتحدد في الانتقال من موقف إلى موقف.
والخوف إذا تمكن من الذات أقعدها عن الحركة فهو من عمل الشيطان " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" أما اليأس فيفقد الذات كينونتها كفاعل مريد:
سالب الإعواز أصل العلل كل آلامك من ذا المفصل
سالب الرفعة من فكر رفيع مطفئ الشمع من الذهن البديع
على أن تقوية الذات ومناعتها الداخلية هي أساس فعاليتها و لا يتأتى هذا إلا بالمحبة
أمرها في الكون طراً يحكم حينما الذات بعشق تحكم
يدها من ثورة الحق أثر فإذا أومأ شق القمر
نظرة العشق بها شق الصخور هو عشق الحق والحق يصير
فابغ في طينك هذه الكيمياء اقبس من كامل هذا الضياء
فالعشق يدعم الذات بعتباره رغبة في التجمع والاستيعاب وأعلى صوره خلق القيم والمثل والسعي لتحقيقها.
ولا تتأتى هذه المحبة (محبة الذات العلية و الذات الإنسانية الاكامل أو المصطفى ) إلا بأداء الفرائض :
فاحمل الفرض قوياً لا تهاب وارجون عنده حسن المآب
اجهدن في طاعته يا ذا الخسار فمن الجبر سيبدو الاختيار
سخر الأفلاك في همته من ثوى القيد من شرعته
فالصلاة رمز العبودية لله تعالى وهي التي تعطي المؤمن يقظة الإيمان الدائمة والزكاة تطهير للنفس من البخل والأثرة وللمجتمع من الحقد والكراهية والصوم انطلاقة للنفس من إسارها الأرضي أما الحج فهو جماع هذه الأركان و رمز اكتمال الذات الجماعية (الأمة)
ويبسط إقبال في كتابه " برلمان إبليس " رؤيته للمذاهب والأهواء الجماعية المعادية للذات حيث يتصور إبليس مشاوراً أتتنباعه فغي أكثر الأساليب نجاعة في سلب الإنسان غنسانيته فالاشتراكية كما ابتدعها ماركس تقوم على إثارة الأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد بينما الرأسمالية تقوم على الاستغلال وكلها أفرزت مذاهب افرزت مدنية نافية لإنسانية الإنسان بخلاف الحضارة الإسلامية التي قدمت تجليات متعددة للمدينة الفاضلة وقد من إقبال بقدرة الذات المسلمة على تحقيق المجتمع الفاضل وكيف لا و قد عاين آثاره في الأندلس فألهمه عدة أشعار ضمنها ديوانه "بال جبريل"
كان حلم إقبال كما عبر عنه " أن أرى الإسلام يعود لبساطته الأصلية واود أن يعيش الهنود في شلام " وكان يعتقد أن ذلك ممكن حتى إذا احتفظ كل مجتمع بثقافته و فرديته إلا ان تواتر الأحداث جعلته يوقن بالخطار المحدقة بالمسلمين في الهند بوصفهم أقلية مضطهدة فعمل على الحفاظ على وحدتهم واستقلاليتهم وعاش مثلاً لدعوته " لنحترق مثل الشمعة في مأدبة العالم ولنحرق أنفسنا ... ولكن فلندع الآخرين يرون.."
وإلى أن أحس إقبال بدنو أجله و أن رسالته في الحياة قاربت على الانتهاء فأنشد:
إن النغمة الذاهبة قد تعود ثانية أو لا ترجع
ونسيم الحجاز قد يهب ثانية أو لا يهب
وقد وصلت أيام هذا الفقير إلى نهايتها
وقد ياتي عارف آخر بالأسرار أو لا يأتي
فقضى نحبه في مايو 1935 وكان حاله كما قال "دعني أنبئك بعلامة المؤمن .. إنه عندما يحين الموت ترتسم على شفتيه البسمة"
لقد انطفأت شعلة القلب في حياتك أيها السيد وفقدت شخصيتك!..
إن البشرية تريد أن تعلم كيف تتقن حياتها وكيف تخلد شخصيتها . إن بني آدم يطلبون دستوراً للحياة .. والمؤمن إذ نادى الآفاق بآذانه أشرق العالم واستيقظ الكون "
هكذا خاطب السيد محمد إقبال أحد أصدقائه العرب لائماً له وهو من أحفاد هذه الأمة التي حملت رسالة التوحيد إلى العالم: كيف تخلى عن مقومات قيادته للإنسانية وهي أحوج ما تكون لهذه الرسالة تستهدي بها للخروج من تيه المادية وتخبط المذاهب البشرية .
فقد أدى ضعف التزام المسلمين بالمنهج الإسلامي أثراً لتسلل الدخن إلى عقيدة التوحيد إلى حالة من الركود الفكري والتحلل المعنوي ففقدوا معنى الأمة وانقسموا دولاً وشيعاً متناحرة.
وفي أطراف العالم الإسلامي في شبه القارة الهندية تواترت المحن على المسلمين إذ عمتهم الفوضى نتيجة التنافس بين الممالك الإسلامية منذ القرن السابع عشر هذه الفوضى التي استغلتها القوى الأجنبية للنفاذ إلى هذه المنطقة بداية بالاحتلال البرتغالي والفرنسي ثم بسط شركة الهند الشرقية سيطرتها ممهدة الطريق أمام الاحتلال البريطاني.
ولم ينتصف القرن التاسع عشر إلا وكان معظم شبه القارة تحت السيطرة البريطانية على الرغم من حركات المقاومة المستمرة التي قادها قادة ومجاهدون عظام من أمثال أحمد وإسماعيل شهيد وقد اتضح للبريطانيين أن المسلمين هم العقبة الكبرى أمام توطيد سلطانهم في هذه البلاد وأن روح الجهاد التي يحملونها هي سر استعصاؤهم الخضوع للاحتلال فاعتبروهم عدوهم الأساسي فعملوا على القضاء على هذه الروح مستغلين الوضعية الخاصة للمسلمين في شبه القارة الهندية والحالة المتردية للعالم الإسلامي ككل .
فسعى البريطانيون لا لفرض مختلف أنواع الضغوط الاقتصادية على المسلمين وسلبهم حرياتهم فحسب بل والعمل على تيئيسهم من جدوى أية محاولة للنهوض تستلهم الأنموذج الإسلامي للحياة في شموله ويمكن الإشارة في هذا الصدد لجهود صنيعتهم السير أحمد خان الذي دعا لصورة مشوهة من التدين تكتفي من الإسلام برسومه في عبادته وشعائره.
ومن ناحية أخرى اتبع البريطانيون سياسة تمييزية ضد المسلمين لصالح الهندوس على الرغم من ادعائهم الحياد بين الأعراق في الهند وسعى الهندوس للاستفادة من هذا الوضع ببث الدعاية ضد الدين الإسلامي الذي رأوا فيه الخطر الأكبر على الهندوكية بإنكاره عقيدتها الحلولية ونظامها الطبقي المغلق ومساوته بين الناس دونما اعتبار للون أو الطبقة .
ولما كان من الصعب ترويج هذه الدعاية عمد الهندوس إلى التلبيس على أبناء القارة بالدعوة إلى حركات تزعم التقارب بين الهندوسية والإسلام لتنزع منه جوهره وتسلب إشراقة توحيده في قلوب أبنائه المسلمين .
وفي هذا المنحى ظهرت فلسفة " راما نوجا" و حركة " البهكتى" التي قامت بتأويل عفقائد الهندوسية إلى صورة تتخذ مظهر التوحيد الإسلامي فأصبح المنتمون لهذه الحركة من النابذين لتعدد الآلهة ويدعون إلى إله واحد ويعدون الوصول إلى مرتبة العشق الإلهي أعلى درجات التوحيد.
وبالفعل انتقلت أفكار حركة البهكتى إلى الحركات الصوفية في الهند بل لاتزال تأثيرات لهذه الحركة وأفكارها موجودة إلى الآن في فكر بعض الطرق والجماعات في تركيا وآسيا الوسطى.
في هذه الأوضاع التي تهددت الوجود الإسلامي في الهند من احتلال عسكري وتناحر طائفي ومحاولات تذويب عقدي ولد السيد محمد إقبال في "سيالكوت" بالبنجاب في الثالث من ذي القعدة سنة 1294 هـ الموافق التاسع من نوفمبر سنة 1877 م فعكست حياته طبيعة هذه التحديات التي لا يزال المسلمون يواجهونها بأشكال ودرجات مختلفة وكانت استجابته لها رؤية متكامله لمنهجية البعث الحضاري القائم على أساس تجديد ذاتية الأمة بنبذ عناصر الضعف والوهن فعلى الرغم من أن إقبال ينتمي لأسرة ذات أصول برهمية - وهي أعلى الطبقات الهندوكية – فقد نشأ واعياً بانتمائه الإسلامي متحققاً بأبعاده فقد نشأ في بيت إسلامي فأبوه الشيخ نور محمد المكنى بالشيخ نتهو الذي وصفه معاصروه بأنه كان " عارفاً بدقائق الطريقة وعلوم العقيدة والسنة متأدباً بآداب السلوك " وإلى هذا يشير محمد إقبال بقوله " يرجع الفضل في كل ما أنشأته إلى توجيهات أبي رحمه الله فقد عودني تلاوة القرأن وكان يسألني هل تتلو القرآن ؟ فكنت أرد بالإيجاب وكان يعاود إلقاء هذا السؤال صبيحة كل يوم وأجيبه نفس الجواب فدفعني الفضول والضجر إلى أن أقول لوالدي يوماً: يا والدي إنك تراني أتلو القرآن فلم تسألني هذا السؤال و أنت تعلم جوابي ؟ فقال رحمه الله : بل أردت أن أقول لك : " إقرأ القرآن وكأنه عليك أنزل " وبالمثل كانت أمه التي عرف إقبال لها فضلها فرثاها بقصيدة تقطر حزناً و ألماً وتعكس في الوقت ذاته نظرته ّإلى أسرار الموت والحياة حيث يقول:
فليكن مرقدك مضيئاً مثل إيوان السحر
ولتهطل السماء على لحدك حبات الندى
ولكن مرحلة الابتلاء سوف تنتهي
فإن الموت تجديد لمذاق الحياة
ومن اعتاد الطيران لا يخشى أن يطير
وهذه الأبيات مثال على شعره الذي بدأ نظمه منذ شبابه بلغة الأردو معبراً عن الرؤية الإسلامية ذات الطابع الإنساني .
واثرت هذه النشاة في هذا البيت القرآني على اتجاه إقبال إلى طلب العلم في سن مبكرة معتزاً بذاته متشوفاً إلى صفاء الإسلام في منابعه الأولى وسعيه إلى تخليصه من الأدران التي ألصقها به المنتسبون إليه وهو ما يظهر في رسالته الجامعية التي كانت بعنوان " تطور الغيبيات في بلاد فارس" فكانت عناية إقبال بتجديد التصوف الإسلامي واستثماره كنهج تربوي كفيل ببناء الإنسان المسلم الحق الذي ينهض بمسئولية الحياة الإسلامية ضمن مجتمع يستهدف التحقق بمعالم التوحيد في معاملاته داخلياً والدعوة إليه خارجياً.
وبهذه القناعة لم يقع إقبال تحت تأثير المستشرق توماس أرنولد برغم توثق علاقته به حتى أن " آرنولد" طلب منه إكباراً لنبوغه أن يساعده محاضراً للفلسفة في جامعة كامبردج بل كانت رحلته من الهند غلى اوربا التي طوف خلالها بأقطار العالم الإسلامي فرصة ليطلع فيها على أحوال السلمين وما آلت إليه ومقارنته بما كانت عليه حضارتهم التي عاين آثارها في بلاد الأندلس وقياسها بانموذج الجماعة المسلمة في المجتمع النبوي في طيبة المدينة المشرفة.
وعندما استقر المقام بإقبال دارساً ومحاضراً في الجامعات الأوربية استثمر فترة وجوده هناك لبيان عظمة الإسلام وعناصر القوة فيه ودحض المقولات التي تظهر المجتمعات الأوربية ككيان مفعم بالحيوية والقوة ومؤهل بكل متطلبات قيادة الإنسانية في مقابل الصورة الغائمة للشخصية الإسلامية وهو ما يتضح من تحذيره لأبناء الغرب من زيف حضارتهم قائلاً:" يا أهل الغرب إن أرض الله ليست دارتجارة فهذا الذي يبدو لكم فضة أصيلة سرعان ما يتضح أنه عيار قليل القيمة ولسوف تنتحر حضارتكم بخنجرها لأن عشاً بني على غصن ضعيف لا خلود أبدياً له"
وقد جمعت هذه المحاضرات والمقالات في كتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام الذي لقي قبولا واسعاً بين أبناء العالم الإسلامي وترجمه إلى العربية الأستاذ عباس العقاد
وبعد عودته إلى وطنه عمل إقبال أستاذاً للفلسفة ثم محامياً حراً ليتحلل من قيود العمل الوظيفي وليبدأ خطته في الإصلاح موازنا بين اهتمامه بالتجديد الفكري والعمل السياسي لإنقاذ المسلمين من الأخطار المحدقة بهم في شبه القارة الهندية فوده جهوده للحفاظ على وحدة الحركة الإسلامية في الهند إلا إنه بعد فترة قصيرة زهد العمل السياسي نظراً لعدم إيمانه بأغلب المتصدين للقيادة السياسية لما لاحظه من نقص الحنكة وقصر النظر السياسي لديهم واتجه لأنشطة الدعوة الإسلامية من خلال جمعية حماية الإسلام في لاهور التي عمل سكرتيراً لها في الفترة بين 1920 – 1929.
لقد كان هذا التنظيم متسقاً مع الرؤية الاستراتيجية لإقبال من أن غاية أية جهود للنهوض بالمسلمين هي بناء الإنسان الحر أساس قيام الجماعة المسلمة التي تتبنى نمط الحياة الإسلامي فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وهذه القوة تجد نبعها في ذات المسلم المعتقد بوحدانية الله فيتحرر من كل ما سواه .
لذلك لم يستمر حماس إقبال طويلاً لجهود إحياء الخلافة العثمانية خاصة وأنها تحولت إلى ملك دنيوي فعلى الرغم من أن إقبال يبدي وعياً حاداً بضرورة الخلافة - وهو يعبر عنها بالمسجد - كإطار لوحدة المسلمين فعمل ضمن حركة الجامعة الإسلامية و أنشد أعذب الأشعار التي تستجيش المشاعر لاستعادة الخلافة على النسق الذي كانت عليه الخلافة الراشدة فإنه لا يلبث أن يعزف عن المشاركة في هذه الأنشطة لما رأه من عدم جديتها ولعله مثل ما ذهب إليه بعض المفكرين من أن حال المسلمين في الهند أصبح كحال جماعة انقطعت عن رفقتها فعليها أن تتدبر أمورها بما يعينها على البقاء والتئام شملها ويعمل في المستقبل على جمعها ببقية وحدات الجماعة الأكبر او الأمة وراى إقبال أن استعادة الحيوية للأمة الإسلامية لا تتأتى إلا بالتربية على النهج الذي بينته الأصول المؤسسة لهذه الأمة .
ووجد إقبال في التراث التربوي للمتصوفة ما يعينه على غايته والتصوف الذي عني به إقبال هو التصوف النبوي الذي يمثل روح الإسلام فالأحكام التي جاء بها الإسلام تشتمل على العقائد وأحكام العبادات وأحكام المعاملات والأخلاق وهذه الأخيرة مجال اهتمام المتصوفة والأثر العملي للقيام باحكام الإسلام وهو ما بينه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:" " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً"
فكان التصوف عند إقبال إحياءاً لروح الجهاد الذي يستهدف إعلاء كلمة الله في مختلف مناشط الحياة ومظاهر العمران البشري فيتخلق المسلمون بأخلاق الله تعالى كما عاش النبي عليه الصلاة والسلام ويعيشون حقيقة العبودية له تعالى.
وهذا الجهاد يتنافى مع ما يدعوه إقبال التصوف العجمي الذي ينفي الإرادة ويميت الذات تأثراً بتسلل دخن العقائد الهندية إليه ويتطلب هذا الجهاد قوة في النفس تظهر في المواقف التي تتطلب البذل والتضحية فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير .
لذلك قام محمد إقبال بعملية تمحيص وتأويل واسعة للتراث الصوفي وإعادة نظمه واستلهامه لتفجير الطاقات التي أودعها الله تعالى في الإنسان وهدهدة النزعة المادية الناجمة عن غروره بعد ما اكتشفه من قوانين أودعها الله تعالى في الوجود وينطلق في هذا من شعر جلال الدين الرومي:
جدد بنفي الذات ذاتاً.. لا تهاب
اجتهد! والله يهديك الصواب
فإذا كان العديد من اتجاهات التصوف عملت على نفي الذات وصولاً لفنائها في الكلي المطلق فإن إقبال يقيم تناظراً بديعاً بين الإنسان خليفة الله تعالى في أرضه الذي نفخ فيه من روحه وهذا الإنسان هو مركز بناء الجماعة المسلمة وبين صيرورة الكون الذي سخره الله للإنسان فبهذه النفخة أصبح المسلم:
فيه عزم على القضاء دليل وهو في العالمين كالميزان .
وهكذا يعيش المسلم في اتساق مع ذاته ومع إخوانه فقد أقام إقبال توازناً محكماً بين الفرد والجماعة مستمداً من الهدي الإلهي بصورة ترفع فكرة التناقض التي سيطرت على الحضارة الأوربية وأدت إلى اتجاهات متطرفة سواء لنفي الفرد لصالح الجماعة أو اعتبار الفرد مرجعاً مستقلاً بذاته يستمد منه المجتمع هويته ومدار هذا التوازن حركة كل من الفرد والمجتمع باتجحاه تحقيق الخلافة أو النيابة الإلهية
رحمة للفرد حجر الأمة كامل جوهره في الملة
فردنا مرآته أمته كذا مرآتها صورته
قيمة الأفراد جدوى الملة ومن الأفراد نظم الأمة
كما يعي المسلم مسئوليته كسيد في هذه المنظومة الكونية دون انسياق لنزعة حلولية أو تأليه للنفس وبناء الشخصية المسلمة أو استعادة الذات من غربتها هو بداية الطريق لعودة الجماعة المسلمة إلى عزها وقيامها بمهمتها فلا تتبدد حركتها أو تحيد عن مسارها:
جاهلاً سر الحياة اجتهد وامض نشوان بسر المقصد
مقصدك الصبح في أنواره محرق كل "سوى" في ناره
مقصد يجتاز آفاق السماء يأخذ القلب بحسن وبهاء
فمفهوم الذات هو محور رؤية إقبال للبعث الحضاري ويختلف هذا المفهوم عن مفهوم الشخصية الذي يسبطن الطابع النسبي للإنسان فالشخصية تعبر عن مجموعة السمات المستقرة للإنسان الناجمة عن تفاعل ميوله ورغابته مع الضوابط والأهداف التي يضعها مجتمعه اما الذات فهي مفهوم كلي يعبرعن تناسق الجوهر الفرد (الذات الفردية) مع الجماعة (الذات الجماعية) أو "اللاذات" باعتبار أنهما ينتميان إلى الأصل الإلهي (الفطرة) الموصولة بهدي السماء.
وعليه اتجه إقبال لاستعادة الفعالية من خلال تجديد "الذات " "خودي" بعد نفي الدلالات السلبية لهذه الكلمة التي تعني "أنا" بالفارسية فكلمة خودي يستعملها بمعنى محايد للشعور بالأنا الذي يكون قاعدة الوحدة لدى كل فرد ولندعه إقبال يوضح رؤيته ل "خودي":
" من الناحية الأخلاقية تعنى خودي في استعمالي لها الاعتماد على الذات بل وتاكيد الذات عندما يكون ذلك ضرورة لمصالح الحياة والقدرة على الاستمساك بقضية الحق والعدالة والواجب ... حتى في مواجهة الموت زمثل هذا السلوك أخلاقي في نظري إذ انه يساعد في دمج قوى الذات ويضفي عليها صلابة في وجه قوى الانحلال والتفكك ومن الناحية العملية تحمل الذات حقين رئيسيين ألا وهما الحق في الحياة والحرية كما تحددهما الشريعة الإلهية"
وعندما أشجب نفي الذات فلا أعني نفي الذات بالمعنى الأخلاقي لأن نفي الذات بالمعنى الأخلاقي مصدر لقوة الذات لكنني بإدانتي لنفي الذات أدين تلك الأنماط السلوكية التي تؤدي إلى القضاء على الأنا كقوة غيبية لأن ذلك يعني نفي تحلل الأنا وعدم قدرتها على الاستمرار الأبدي الذاتي وليست المثالية في الصوفية الإسلامية حسب إدراكي في القضاء على الذات وإنما في خضوع الذات الإنسانية كلية للذات الإلهية ومثالية الصوفية الإسلامية هي مرحلة وراء مرحلة الفناء ألا وهي البقاء و التي تعد من وجهة نظري أعلى درجات تأكيد الذات" وعندما أقول كن صلباً كالماس فلا أعني ما يعنيه نتشة من الصلابة أو قسوة الفؤاد أو انعدام الرحمة وإنما أعني تكامل عناصر الذات بحيث يمكنها أن تسد قوى التدمير بوسائلها تجاه الخلود الذاتي .
إن الشخصية المتمثلة في الذات الإنسانية هي الحقيقة المركزية في تكوين الإنسان الذي يحمل في ذاته صيرورة الحياة وهو محورها
هيكل الكون من آثارها كل ما تبصر من أسرارها
نفسها قد أيقظت حتى انجلى عالم الأفكار ما بين الملأ
ألف كون مختف في ذاتها غيرها يثبت من إثباتها
خلقت أضدادها من نفسها لترى لذتها في بأسها.
فإذا كان العديد من اتجهات التصوف الإسلامي عملت على نفي الذات وصولاً للفناء في الكلي المطلق فإن إقبال رأى أن إثبات الذات هو وسيلة الوصول للكمالات افنسانية :
شيمة الذات التجلي لا الخفاء
وهي في الذرات بأس وضياء
هيكل الأكوان من آثاره
إن كل ما تبصر من أسرارها
إن ذاتاً جمعت أسر الحياة
من غدير أذخرت بحر الحياة
وينطلق إقبال في هذا من الحديث النبوي الشريف تخلقوا بأخلاق الله ففي مقابل الذات الإلهية ذات الكمال الموصوف بكل جمال وجلال تأتي الأنا أو الذات الإنسانية :
أنت خلقت النهار و أنا خلقت المصباح
أنت خلقت الطين و أنا خلقت اللأقداح
فقد كان إقبال يرى في البداية أن الطبيعة على ما هي عليه جديرة لاحب وكان يرى القدسية بجلالها وعظمتها متمثلة في معالم الطبيعة ثم عاد ليبرز الصفات الإلهية في افنسان ذاته .
فالذات التي يصفها الله تعالى بأنها ضعيف وظلوم وقتار وكفار خلقت أصلاً في أحسن تقويم وقادرة على حمل الأمانة الإلهية :
نائب الحق على الأرض سعيد حكمه في الكون خلد لا يبيد
هو بالجزء وبالكل خبير و بأمر الله في الأرض أمير
في فسيح الأرض يمشي طاوياً عزمه هذا البساط الباليا
مقصد من علما الأسما هو سر "سبحان الذي أسرى " هو
و الإنسان في حياته الأرضية لا يعيش في منفى تكفيراً عن خطية بل هو سيد مصيره و يمكنه أن يرتقي بنفسه إلى تلك الذرى التي يتساءل الله تعالى فيها عما يريده الإنسان قبل أن يتم التقدير:
إن للمؤمن العجيب الشان كل حين شأن وآن
هو في قوله السديد وفي الفعل على الله واضح البرهان
فيه قدسية إلى جبروت ومن القهر فيه والغفران
إذ تؤلف هذه العناصر مان المسلم المستعصي على الحدثان
هو ترب سما يجاور جبريل ويأبى الحلول في الأوطان
لست تدري سره فتراه قارئاً وهو صورة القرآن
فيه عزم على القضاء دليل وهو في العالمين كالميزان
لذلك عالج إقبال في " أسرار الذات " حياة الفرد المسلم المتطلع إلى أصل الوجود "الذات الإلهية " ذات الكمال ويرسم في "الرموز" طريق الحياة للمجتمع المسلم الموحد وهو في هذا مؤمن متحمس يتطلع لعالم إسلامي فاضل مركزه بيت الله الحرام الذي يتوجه إليه المسلمون خمس مرات في اليوم
و لم يكتف إقبال ببيان رؤيته في بناء الجماعة الفاضلة التي تتخذ من جماعة المسلمين في المدينة النبوية أنموذجها بل وسعى لرسم معالم السبيل لهذه الجماعة من خلال محاربة اعداء الذات من ناحية وتقويتها داخلياً من ناحية أخرى
وعلى خلاف المنحى التقليدي في التصوف فإن إقبال يحدد أعداء الذات في ثلاثة جوائح إذا تمكنت من الذات هدمتها هي الحزن والخوف واليأس.
فالحزن يتنافى مع الثقة بالله والآفاق الواسعة التي يفتحها الإيمان بعناية الله بالإنسان وبوصفه كخليفة الله في أرضه:
يا سجين الغم أبصر واسمع من رسول الله " لاتحزن" وعي
ذلك النصح سرى في قلبه فغدا الصديق صديقاً به
إنما المسلم مثل الكوكب باسم في سعيه ودابه
حرر النفس من الغم ودع إن عرفت الله أغلال الطمع
ويتسق هذا مع رؤية إقبال للزمن الذي يتجاوز الزمن الدنيوي لرحابة الوجود الذي يشمل الدنيا والاخرة فالله تعالى هو مقلب الدهر ويستوي لديه تعالى الماضي والحاضر والمستقبل فهو تعالى عالم الغيب والشهادة والمسلم ليس أسير الزمن باعتباره زمناً مكانياً يتحدد في الانتقال من موقف إلى موقف.
والخوف إذا تمكن من الذات أقعدها عن الحركة فهو من عمل الشيطان " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" أما اليأس فيفقد الذات كينونتها كفاعل مريد:
سالب الإعواز أصل العلل كل آلامك من ذا المفصل
سالب الرفعة من فكر رفيع مطفئ الشمع من الذهن البديع
على أن تقوية الذات ومناعتها الداخلية هي أساس فعاليتها و لا يتأتى هذا إلا بالمحبة
أمرها في الكون طراً يحكم حينما الذات بعشق تحكم
يدها من ثورة الحق أثر فإذا أومأ شق القمر
نظرة العشق بها شق الصخور هو عشق الحق والحق يصير
فابغ في طينك هذه الكيمياء اقبس من كامل هذا الضياء
فالعشق يدعم الذات بعتباره رغبة في التجمع والاستيعاب وأعلى صوره خلق القيم والمثل والسعي لتحقيقها.
ولا تتأتى هذه المحبة (محبة الذات العلية و الذات الإنسانية الاكامل أو المصطفى ) إلا بأداء الفرائض :
فاحمل الفرض قوياً لا تهاب وارجون عنده حسن المآب
اجهدن في طاعته يا ذا الخسار فمن الجبر سيبدو الاختيار
سخر الأفلاك في همته من ثوى القيد من شرعته
فالصلاة رمز العبودية لله تعالى وهي التي تعطي المؤمن يقظة الإيمان الدائمة والزكاة تطهير للنفس من البخل والأثرة وللمجتمع من الحقد والكراهية والصوم انطلاقة للنفس من إسارها الأرضي أما الحج فهو جماع هذه الأركان و رمز اكتمال الذات الجماعية (الأمة)
ويبسط إقبال في كتابه " برلمان إبليس " رؤيته للمذاهب والأهواء الجماعية المعادية للذات حيث يتصور إبليس مشاوراً أتتنباعه فغي أكثر الأساليب نجاعة في سلب الإنسان غنسانيته فالاشتراكية كما ابتدعها ماركس تقوم على إثارة الأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد بينما الرأسمالية تقوم على الاستغلال وكلها أفرزت مذاهب افرزت مدنية نافية لإنسانية الإنسان بخلاف الحضارة الإسلامية التي قدمت تجليات متعددة للمدينة الفاضلة وقد من إقبال بقدرة الذات المسلمة على تحقيق المجتمع الفاضل وكيف لا و قد عاين آثاره في الأندلس فألهمه عدة أشعار ضمنها ديوانه "بال جبريل"
كان حلم إقبال كما عبر عنه " أن أرى الإسلام يعود لبساطته الأصلية واود أن يعيش الهنود في شلام " وكان يعتقد أن ذلك ممكن حتى إذا احتفظ كل مجتمع بثقافته و فرديته إلا ان تواتر الأحداث جعلته يوقن بالخطار المحدقة بالمسلمين في الهند بوصفهم أقلية مضطهدة فعمل على الحفاظ على وحدتهم واستقلاليتهم وعاش مثلاً لدعوته " لنحترق مثل الشمعة في مأدبة العالم ولنحرق أنفسنا ... ولكن فلندع الآخرين يرون.."
وإلى أن أحس إقبال بدنو أجله و أن رسالته في الحياة قاربت على الانتهاء فأنشد:
إن النغمة الذاهبة قد تعود ثانية أو لا ترجع
ونسيم الحجاز قد يهب ثانية أو لا يهب
وقد وصلت أيام هذا الفقير إلى نهايتها
وقد ياتي عارف آخر بالأسرار أو لا يأتي
فقضى نحبه في مايو 1935 وكان حاله كما قال "دعني أنبئك بعلامة المؤمن .. إنه عندما يحين الموت ترتسم على شفتيه البسمة"