الفصام النكد في حياتنا العلمية
الفصام النكد في حياتنا العلمية
كان الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله - حاذقاً في تشخيص أمراض الأمة، ومن تشخيصاته المأثورة هذا " الفصام النكد" بين القول والعمل وبين الظاهر والباطن، وإذا كان هذا الفصام نكداً في حياتنا كلها فإنه أخطر ما يكون في حياتنا العلمية.
فأول درس يتلقاه الطالب في نظامنا التعليمي لا أن يعبر عما يعتمل في نفسه بصدق ووضوح، ولا أن يتعلم كيف يكون رأياً في قضية ما، بل كيف يزين ويزخرف ويطنطن ليقال إنه ممسك بقياد اللغة، لذلك عليه أن يحشد أقصى ما يستطيع حفظه من صياغات محفوظة رنانة من قبيل "مما زاد الطين بلة" ، وقد يكون الطالب ممن يعيشون في منازل تحيطها الشوارع المرصوفة أو يعيش في صحراء قاحلة لا تبتل شوارعها أصلاً ناهيك عن أن تغرق بالطين فيزيدها البلل سوءاً. وأذكر أن المعلمين ونحن صغار كانوا يلقوننا أن إذا سئلنا أي التعبيرين الواردين في السؤال أفصح فعلينا أن نختار ما ورد في الكتاب المدرسي ونردفه بعبارة " لأنه أدق في التعبير وأجمل في المعنى"!!!
أما في الجامعة فالأستاذ يطلب من الطالب المبتدئ الذي لم يحط بعد بعناوين الموضوعات التي يتناولها العلم الذي يتعلمه بأن يعد بحثاً طريفاً في موضوعه جديداً في نتائجه رصيناً في عبارته ، ولا ينسى أن يختم بقوله على ألا يقل عدد المراجع التي يرجع إليها الطالب عن خمسين مرجعاً نصفها على الأقل بلغة أجنبية وألا يتجاوز تاريخ إصدارها خمس سنوات. يقول الأستاذ هذا وهو يعلم تمام العلم أن مكتبة الجامعة التي يفترض أن يعود إليها الطالب لا تضم في هذا الموضوع إلا كتابين أو ثلاثة، وأن أحدث الكتابات العربية في هذا الموضوع ربما تعود إلى خمس عشرة سنة مضت، فيكون أول الدروس التي يتعلمها الطالب تدليس المراجع والأسانيد وتدبيج البحوث الملفقة.
وكنت أتساءل لماذا هذا النفاق؟ ولماذا نحقر الجهود التي وإن بدت صغيرة فهي كبيرة في ضرورتها وفي ما ترسيه من أسس لازمة لكي يقوم البناء. ظللنا نلقن طيلة أعوام دراستنا أن الحياة العلمية في العصر المملوكي كانت مجدبة، هذا لو اعتبر أنه كانت هناك حياة علمية أصلاً ! لماذا؟ لأن علماء هذا العصر انشغلوا بجهود التجميع والشرح. وغفلنا عن أن هذه الجهود هي التي حفظت تراثنا العلمي من الانقراض، وكان الواجب على الخلف أن يستثمروا ما وجدوه ليستئنفوا المسيرة.
هل وجدنا أستاذاً جامعياً كبيراً يقوم بعرض كتاب عرضاً نقدياً يفيض عليه من محصول علمه؟ هل وجدنا من يقوم بعمل قوائم بالكتب الأساسية في موضوعات كل علم وأماكن توافرها ؟ هل وجدنا من يقوم بجمع وترتيب وإعادة بناء دراسات سابقة أو ييسر الوصول لكتب أصبحت عزيزة؟ كل هذا وغيره يكون ما يعتبر البنية الأساسية للبحث العلمي.
وربما كان هذا الفصام أثراً في بعض جوانبه للرؤية النخبوية لشئون العلم والثقافة فالثقافة شأن نخبوي، لا بمعنى أن العلم مناط رفع الدرجات كما أخبر القرآن الكريم، بل هو شأن السراة المتنفذين الذين يربأون بأنفسهم عن معالجة قضايا الحياة اليومية والاهتمام بالغوغاء ومشكلات حياتهم. وهذه النظرة لم تكن حكراً على الثقافة العربية بل عرفها الغرب في مرحلة من مراحل تطوره كا يوضح كتاب نظرية الطبقة المترفة.
ومن اثر هذه النظرة أن الدراسات بعد المرحلة الجامعية أصبحت لدى قطاع كبير سبباً للوجاهة الاجتماعية، ومن ثم يجب صد قطاع عريض من الطلبة عنها، ووضع العديد من العوائق المالية وغير المالية أمامهم، في حين أن الطبعي والعادي في بلاد للغرب أن يكمل الطلاب دراستهم بعد الجامعية حتى إن عدد الحاصلين على إجازات في مرحلة الدراسات العلا من ماجستير ودكتوراة يؤلف عددهم جيوشاً .
هذا فضلاً عن الفردية بمعناها المقيت، والتي تجعل كل أستاذ جامعي يعتبر نفسه صاحب مشروع علمي يحتكره ويتعالى به مهما كانت حقيقته أو قل سخفه، وعلى المريدين أن يتلقوا درر فكره الذي لم يأت به الأوائل، في حين أنني عندما كنت أراجع الكتابات السابقة حول مشروعات التعاون في المنطقة العربية الإسلامية وجدت مشروعاً بحثياً كبيراً في هذا الموضوع، وعندما تتبعت بدايته وجدته أنه بدأ ككراس يرصد بدأب كل ما يكتب حول هذا الموضوع.
لا أريد أن استفيض فالحديث ذو شجون لكن أردت التأكيد على حاجتنا للصدق مع النفس في حياتنا وهذا الاحتياج أشد ما يكن في حياتنا العلمية، فالعلم لا يكون وما ينبغي له أن يكون إلا وسيلة العمل من أجل التغيير.
كان الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله - حاذقاً في تشخيص أمراض الأمة، ومن تشخيصاته المأثورة هذا " الفصام النكد" بين القول والعمل وبين الظاهر والباطن، وإذا كان هذا الفصام نكداً في حياتنا كلها فإنه أخطر ما يكون في حياتنا العلمية.
فأول درس يتلقاه الطالب في نظامنا التعليمي لا أن يعبر عما يعتمل في نفسه بصدق ووضوح، ولا أن يتعلم كيف يكون رأياً في قضية ما، بل كيف يزين ويزخرف ويطنطن ليقال إنه ممسك بقياد اللغة، لذلك عليه أن يحشد أقصى ما يستطيع حفظه من صياغات محفوظة رنانة من قبيل "مما زاد الطين بلة" ، وقد يكون الطالب ممن يعيشون في منازل تحيطها الشوارع المرصوفة أو يعيش في صحراء قاحلة لا تبتل شوارعها أصلاً ناهيك عن أن تغرق بالطين فيزيدها البلل سوءاً. وأذكر أن المعلمين ونحن صغار كانوا يلقوننا أن إذا سئلنا أي التعبيرين الواردين في السؤال أفصح فعلينا أن نختار ما ورد في الكتاب المدرسي ونردفه بعبارة " لأنه أدق في التعبير وأجمل في المعنى"!!!
أما في الجامعة فالأستاذ يطلب من الطالب المبتدئ الذي لم يحط بعد بعناوين الموضوعات التي يتناولها العلم الذي يتعلمه بأن يعد بحثاً طريفاً في موضوعه جديداً في نتائجه رصيناً في عبارته ، ولا ينسى أن يختم بقوله على ألا يقل عدد المراجع التي يرجع إليها الطالب عن خمسين مرجعاً نصفها على الأقل بلغة أجنبية وألا يتجاوز تاريخ إصدارها خمس سنوات. يقول الأستاذ هذا وهو يعلم تمام العلم أن مكتبة الجامعة التي يفترض أن يعود إليها الطالب لا تضم في هذا الموضوع إلا كتابين أو ثلاثة، وأن أحدث الكتابات العربية في هذا الموضوع ربما تعود إلى خمس عشرة سنة مضت، فيكون أول الدروس التي يتعلمها الطالب تدليس المراجع والأسانيد وتدبيج البحوث الملفقة.
وكنت أتساءل لماذا هذا النفاق؟ ولماذا نحقر الجهود التي وإن بدت صغيرة فهي كبيرة في ضرورتها وفي ما ترسيه من أسس لازمة لكي يقوم البناء. ظللنا نلقن طيلة أعوام دراستنا أن الحياة العلمية في العصر المملوكي كانت مجدبة، هذا لو اعتبر أنه كانت هناك حياة علمية أصلاً ! لماذا؟ لأن علماء هذا العصر انشغلوا بجهود التجميع والشرح. وغفلنا عن أن هذه الجهود هي التي حفظت تراثنا العلمي من الانقراض، وكان الواجب على الخلف أن يستثمروا ما وجدوه ليستئنفوا المسيرة.
هل وجدنا أستاذاً جامعياً كبيراً يقوم بعرض كتاب عرضاً نقدياً يفيض عليه من محصول علمه؟ هل وجدنا من يقوم بعمل قوائم بالكتب الأساسية في موضوعات كل علم وأماكن توافرها ؟ هل وجدنا من يقوم بجمع وترتيب وإعادة بناء دراسات سابقة أو ييسر الوصول لكتب أصبحت عزيزة؟ كل هذا وغيره يكون ما يعتبر البنية الأساسية للبحث العلمي.
وربما كان هذا الفصام أثراً في بعض جوانبه للرؤية النخبوية لشئون العلم والثقافة فالثقافة شأن نخبوي، لا بمعنى أن العلم مناط رفع الدرجات كما أخبر القرآن الكريم، بل هو شأن السراة المتنفذين الذين يربأون بأنفسهم عن معالجة قضايا الحياة اليومية والاهتمام بالغوغاء ومشكلات حياتهم. وهذه النظرة لم تكن حكراً على الثقافة العربية بل عرفها الغرب في مرحلة من مراحل تطوره كا يوضح كتاب نظرية الطبقة المترفة.
ومن اثر هذه النظرة أن الدراسات بعد المرحلة الجامعية أصبحت لدى قطاع كبير سبباً للوجاهة الاجتماعية، ومن ثم يجب صد قطاع عريض من الطلبة عنها، ووضع العديد من العوائق المالية وغير المالية أمامهم، في حين أن الطبعي والعادي في بلاد للغرب أن يكمل الطلاب دراستهم بعد الجامعية حتى إن عدد الحاصلين على إجازات في مرحلة الدراسات العلا من ماجستير ودكتوراة يؤلف عددهم جيوشاً .
هذا فضلاً عن الفردية بمعناها المقيت، والتي تجعل كل أستاذ جامعي يعتبر نفسه صاحب مشروع علمي يحتكره ويتعالى به مهما كانت حقيقته أو قل سخفه، وعلى المريدين أن يتلقوا درر فكره الذي لم يأت به الأوائل، في حين أنني عندما كنت أراجع الكتابات السابقة حول مشروعات التعاون في المنطقة العربية الإسلامية وجدت مشروعاً بحثياً كبيراً في هذا الموضوع، وعندما تتبعت بدايته وجدته أنه بدأ ككراس يرصد بدأب كل ما يكتب حول هذا الموضوع.
لا أريد أن استفيض فالحديث ذو شجون لكن أردت التأكيد على حاجتنا للصدق مع النفس في حياتنا وهذا الاحتياج أشد ما يكن في حياتنا العلمية، فالعلم لا يكون وما ينبغي له أن يكون إلا وسيلة العمل من أجل التغيير.